أصنع شخصية الرجل في رواياتي حسب مزاجي

السبت 2021/05/01
لوحة: أسامة دياب

هل تعبر شخصيات الرجال في رواياتي عن ذاتها أم أنها انعكاس لموقفي الخاص من الرجل وتصوراتي عنه؟ لا أملك إلا أن أبتسم، وأعترف بأنني امرأة محظوظة برجالها الحقيقيين، أبي رحمه الله وزوجي العزيز.  كما أن كوني الابنة البكر، ألغى صلاحية الأخ الأكبر من حياتي. كان والدي رجلاً شجاعاً علّمني الشجاعة. كان يقول لي دائماً “يا ابنتي الخوف لحظة. تجاوزيها تتجاوزين مخاوفك”. وكان في طفولتي يغضب إن رآني باكيةً لأني لم أحسن الدفاع عن نفسي أو حقي. كبرت على مفاهيمه التي لم تفرق بيننا نحن بناته الأربع وابنه الوحيد. لم يحابيه يوماً بل أظنه قسا عليه أكثر من قسوته علينا. كان يريد لنا أن نتعلم ويصر على أن تكون دراستنا الإعدادية في الفرع العلمي لنتعلم “شيئاً من فيزياء الدنيا”، كما كان يقول. لا أنكر أنني اختلفت معه في أمور كثيرة، أغضبته وأغضبني، وشكوت ظلمه إلى أمي مراراً، لكنه لم يمنعني يوماً من تحقيق حلم أو اختيار ما أريد.  يوم جئت أخبره أن هناك من يريد أن يتقدم إليّ، مصباح زوجي، قابله وتحدث معه وبارك ارتباطنا. تزوجت رجلاً هادئ الطبع، مثقفا يؤمن بحق المرأة بكل ما يليق بها، وتعاونّا على الحياة وحققنا معاً الكثير لأسرتنا.

أنا كروائية أبحث عن شخصيات تملأ عقلي وتصبح جزءاً من تفكيري، وكثيراً ما تتلبّسني وتملي علي رغباتها، فأنصاع لها وأمنحها ما تريد.  فتراها تكبر وتتطور خارج الإطار الأصلي الذي رسمته لها.  أرضى بذلك لأن نسائي كلهن قويات مثل نساء هنريك إبسن المسرحي النرويجي، يعرفن ما يردن ويفعلن ما يقتنعن بجدوى فعله. ومثل هذه النساء يحسن الحب ويخترن رجالهن بعقولهن، ولا تغريهن المظاهر. بعضهن قد لا يحسن الاختيار.

الروائية تعاملت مع الرجل صاحب الفكر السياسي

فكما يقال “غلطة الشاطر بمئة غلطة”، فيبحثن عمّا لم يجدنه. هل عرفن قسوة الرجل؟  الجواب نعم ولكن ليس من باب النمطية. فبطلة أولى رواياتي “الفصل الخامس” عايدة وهران تتزوج حبيبها الذي وقعت في حبه في أيام الدراسة في الجامعية، لتكتشف بعد الزواج بشهور قليلة، أنه يحسن الضرب ثم البكاء والاسترحام. تغفر له مرة. وحين يكررها تتركه وترفضه وتطلب الطلاق، فيعاقبها بجعلها ناشزاً لسبع سنين وترتضي نشازها وتعيد تشكيل حياتها ومستقبلها. أما أقسى الرجال في رواياتي، فهو عبدالمنعم صبري، في روايتي الثالثة “أرق على أرق”، متسلّق يبحث عن المال، يختار فتاة تبهرها أضواؤه، يغمرها بالعطايا ثم يجعلها عطية لتاجر تربطه به المصالح. أعترف أنني أحب هذه الشخصية الجدلية القاسية، أحبها كما يحب الفنان تمثالاً أو لوحة لوحش من صنع يديه.

في روايتين، “صورة في ماء ساكن” و”أبواب ضيقة”، تعاملت مع الرجل صاحب الفكر السياسي. في الأولى يهرب ويهمل حبيبته ثم ينقلب على فكره، ويتحوّل من شيوعي هارب من الظلم والعسف إلى رجل أعمال ناجح يعود إلى العراق بعد الاحتلال. هذه الشخصية أثارت حفيظة البعض من أصدقائي الشيوعيين واليساريين، الذين رفعوا شعار أن المناضل لا يتغير، في حين أقر البعض الآخر أنها حدثت في السنين الأخيرة من واقع متغيرات سياسية.

الشخصية السياسية الأخرى من رواية “أبواب ضيقة” الرجل الذي هربت بطلة الرواية من العراق دون علم أهلها من أجله، تجده يرفض أن يعترف أن فكره السياسي وصل به حدّ الدوغمائية، وأصبحت الحياة معه صعبة أبوابها مغلقة. بقية رجالي في رواياتي السبع، يحاربون كل بطريقته، يغضبون ويرفضون وينصاعون، لكنهم محبون يحبون أوطانهم، فحب الوطن هو المقياس الحقيقي للقدرة على الحب. ويحبون نساءهم القويات صاحبات الفكر والرؤية، ويشجعونهن على تحقيق ما يحلمن به. رواياتي ليس فيها أشرار يسيئون للنساء والأطفال.

الرجل في رواياتي لا يشبه أبي ولا زوجي، ولا أيّا من الرجال الذين التقيتهم من أصدقاء ومعارف وزملاء. هو رجل أصنعه حسب مزاجي، ليناسب بطلتي، التي عادة ما أبدأ بها. أصنعه لها، ليحرك فيها كامناً وضعته أنا فيها. هو رجل أمنحه ما أشاء وآخذ منه ما لا يعجبني وكثيراً ما يجعلني أعطيه أكثر مما كنت أخطط له. أما الرجل الحقيقي في حياة المرأة، فمصنوع جاهز، صنعته أسرته التي جاء منها وبيئته التي عاش فيها والأفكار التي نضجت في عقله. والمرأة القوية الحكيمة ترضى بكل ما فيه، تحب ما يعجبها وتتغاضى عمّا لا يرضيها، هذا إن أحبته وسعدت بالعيش معه.

الرجل الذي يقسو على المرأة هو في نظري رجل لا يفهم المرأة، لم يعرف حبها، ربما لم تحنو عليه أمه، أو هجرته أول حبيبة، أو خانته أخرى. هو رجل نما في روحه غرور مصطنع وعجرفة فارغة وغيرة من كل ما هو أجمل وأفضل منه، حتى من المرأة التي تشاركه حياته. عرفت رجالاً من هذا النوع، كانوا كأصدقاء عبئاً ثقيلاً، وكزملاء كالشوكة في الجنب. ربما مررت على أحدهم في إحدى رواياتي لكنني لم أجدهم يستحقون مني أدوار البطولة. الرجال الذين منحتهم هذه الأدوار، هم الذين أحسن التعامل معهم وكبح جماح شرورهم.

في روايتي السابعة التي صدرت أواخر العام الماضي، حكايات يرويها رجل وتكملها امرأة أسميتها “حين تتشابك الحكايا” فيها من الحب بين الرجال والنساء ما ينسينا كل ما نقرأ عن خلافاتهم وظلمهم لبعض. فلا ننسى أن المرأة يمكن أن تظلم، وهي حين تفعل، تجيد صنعتها فتظلم الرجل وتظلم نفسها وقد تظلم النساء الأخريات، وليس هناك أقسى من ظلم المرأة حين تريد أن تظلم.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.