الشاعر في المنفى: سارق النار المعلق بين شقي الأخدود

الخميس 2020/10/01
لوحة: عدنان معيتيق

ما من وجود مستقل عن وجود الشاعر اسمه المنفى ولا شيء عابراً، أيضاً اسمه الوطن. يولد الشاعر في جهة من الكوكب. وقد ينتقل ليقيم في مكان آخر ينتسب إليه اختياراً أو قسراً. وفي كلتا الحالتين، وحتى في غيرها من حالات الولادة والسكنى فإن وطن الشاعر، هو الكوكب كله، ومواطنوه هم جميع البشر. بهذا المعنى، الشاعر مواطن كوني.

استنادا إلى هذا التصور، فالشاعر، حتى لو لم يغادر مكان ولادته، ولم يعرف السفر في الجغرافيا بعيداً عن مسقط الرأس، فهو على سفر دائم، قصيدته بُراقه القدسي. الخيال بالنسبة إلى الشاعر أقدر من جميع المواصلات على اجتياز المسافات وبلوغ الأقاصي. الكلمات وطن الشاعر، والقصيدة بيته الشخصي. أما المصير الإنساني فهو جوهر المسألة بالنسبة إلى الشاعر.

***

عندما تختل العلاقات بين الإنسان وعالمه، وعندما تتغلّب قوى الشر في الأرض على قوى الخير. وعندما يشرع الطغيان في استعباد البشر وسلبهم حرياتهم وإيذاء حياتهم في أيما بقعة من الكوكب، فإن القضية الكبرى للشاعر، إذّاك، هي أن يكون في مقدمة المدافعين عن الإنسان وحريته وكرامته. وعندما يتخلّف الشاعر عن أن يكون صوت الضحية التي سرق الطاغية صوتها، عندما يتلعثم الشاعر، عندما يرتدي ملابسه الرمادية، ويتكلم كما يتكلم السياسيون، إذّاك تهرب القصيدة من كتاب الشاعر، ويهجر الشعر دمه وحواسه العميقة، ويتحول إلى كاتب يكتب بدم أبيض وحبر ميت.

***

الشاعر في المنفى حكاية لا يمكن أن تؤسر في لغة واحدة. إنها حكاية وجودية كتبت لتروى وقائعها المروّعة بكل اللغات.

في المنفى، عندما تتجلى القصائد للشعراء في خيالات أقرب إلى الكوابيس والهواجس منها إلى بستان الألوان الضاحكة في وجود ضاحك. إذّاك نحن ننفذ مع الشعر من قشرة الوجود إلى لبّه، نحو الأعمق من الكينونة.

وفي المنفى، الشعر الذي يطلع من الأعمق هو شعر جارح ويائس وحزين بالضرورة. وما قصائد الشعراء المنفيين، التي يمكن للمستقبل أن يعتدّ بها، إلا نداءات يائسة، صرخات أناس في عالم يغرق. والشعر، إذّاك، هو صوت الحقيقة الذي اغتيل في الإنسان. وفي عالم المنفى تزور الأمكنة الأولى شعراءَها المبرحين شوقا إلى شمس طفولاتهم، المرهقين من ألم النفي والخيانة والجريمة، فهل بقي له إلا أن يُضاء بالكوابيس؟

ما من شهود على عذابات الشعراء، التي هي خلاصة عذابات العالم، أبلغ من قصائدهم الضائعة في أوراقهم الغائمة.

***

يختلف تعريف المنفى باختلاف الأنا المنفية، فالشاعر، من دون الأنوات الأخرى، في العالم يملك شعور المنفي من قبل أن يبتعد عن مسقط الرأس. إنه الابن الطبيعي للمنفى الوجودي. فهو منفي من العالم ومقيم في اللغة. لغته وطنه المجازي. والشاعر في رحلة منفاه سارق نار معلّق أبداً بين شقي عالمين هما شقا أخدود.

كم هو مروِّع لشاعر معلق على صليب في فراغ العالم أن يختزن شعره كل تناقضات وجوده في أرض أخرى، من دون أن تتاح لشعره الفرصة اللغوية القادرة على التقاط خصوصيات هذا الشعر، أعني من دون أن تكون هناك إمكانية لقراءة في لغته تستدرك الخبرات الدفينة في النصوص، وهي خبرات الآفاق البعيدة التي تنهض على أساس من تواريها في السطور وما بينها؛ جماليات شعر لشاعر عربي في مكان أوروبي.

لوحة: فؤاد حمدي
لوحة: فؤاد حمدي

ها نحن إذن في المنفى المزدوج. أنت منفيّ في لغتك ولغتك منفية من قاموسها وجغرافيتها الأولى، إلى جغرافية لها قاموسها ولغتها، ولا تقرأ لغتك.

جحيمان على أرض واحدة وفي نص واحد. والشاعر سارق النار المعلق في اغتراب أبدي متعدد الأوجه، لا تسع فيضه لغة واحدة ولا تأسره كلمات، فهو فيض في نص كوني الملامح متعدد اللغات.

***

ولسنا أيضاً بإزاء ميزات معيارية، للتفريق بين صورتي الشاعر المنفيّ في مسقط رأسه، والشاعر المنفيّ أبعد من مسقط الرأس، بمقدار ما نحن بإزاء شقاء خاص. فالشاعر العربي الذي صرف ردحاً طويلاً من الزمن في أوروبا، ليس مثله مثل الشاعر العربي الغريب في دياره. الأخير أقدر في شعره على توليد عناصر الانسجام بين تجربته الذاتية ومحيطه المكاني، بما في ذلك علاقته بالفضاء الإنساني، بينما الأول هو ذاك الذي لم يعد من كان قبل أن يقتلع من أرض طفولته، من شرقه، من فضائه المكاني وكيانه الروحي، ليكون له مدار آخر في عالم آخر، مختلف كلياً هو الغرب.

من الصعب عليّ، هنا، اجتراح معجزة توصيف جامع لوضع الشاعر المنفيّ. لكنه تداعي خواطر، وإلحاح أفكار.

***

في شعر كتبته وأكتبه على مدار عقود من الإقامة في ما أسماه الجغرافيون العرب القدامى “ما وراء بحر الظلمات” لا مناص من الوقوف على الحس العميق بالاغتراب، لكن النوستالجيا نحو مكان أوّل لا أثر لها هنا في الشعر، لا ميوعة نوستالجية في القصيدة. تحتلّ الغربة الوجودية مساحة الغربة المكانية، أو تدفنها في خبراتها دفناً يجعلها كتيمة الصوت في ظلال الكلمات، يتحول الانتماء إلى المكان الأول المتروك إلى انتماء للإنساني الشاسع في مواجهة القدر الوجودي للإنسان.

هنا تولد الرغبات العميقة في حب العالم، حب الاختلاف، من دون أن ينزع هذا الحب العصب الأول، جاذبية المكان الأول، بل يجعل هذا العصب يتوهج، إنما بصفته جذوة في كينونة تتفوق، هذه المرة، بإنسانيتها الشاسعة على العصبيات والألوان والأعراق. وهو ما يضاعف من قوة الانتماء إلى الحرية وشراسته، مرّة بصفتها اليتم الكامل ومرة بصفتها أرض الاختيار.

هو ذا ما يجعل الشاعر الكائن الأكثر تمرداً في الأرض، والأكثر دفاعاً عن الجمال. تتحول البلدة الصغيرة التي ولد فيها الشاعر في قصيٍّ من العالم إلى عاصمة للعالم، ويتحول العالم إلى ناحية صغيرة في أرض الحواس.

***

تركت دمشق وكان بردى صبيا شاحبا يتسول حياته قطرات قطرات، والمدينة تترنح تحت سيف الدكتاتورية، والموت كان يتسرب في المسام، وجوه مخطوفة، وهيام موتى. والمقتلة الصامتة تحصد القامات والأرواح.

قلت له:

ما دمت لن تمضي معي،

خذني معك

ما دمت مدفوعا على حمالة الموتى

ونعشك ضاحك منك

معك

صخرة هاوية

في قلعةٍ هاوية.

ما من شاعر، اليوم، في العالم، أكان منفيا أو مقيما في أرض طفولته، إلا وهو غريب، ولا يملك أن يكون مبتهجاً في ظل فداحة التهدم، وشراسة اللحظة الكونية ومخالفتها الكاسرة للسجية الإنسانية.

الشاعر إنسان كوني في رؤيته للعالم والوجود، وما يحدث لكون الإنسان أنه مهدد بقوى جشعة، أكولة، أسطورية، يعوزنا في توصيفها ما لم يعد القاموس يملك من كلمات.

وحده الشاعر، برؤاه المغامرة، بغضبه، بانحيازه المطلق إلى جانب الحرية والمقاتلين لأجلها، قادر على اجتراح معجزة العثور على كلمات جديدة. ولكنه، في حالة الشاعر الذي كتب قصيدته بلغة عربية جعلتها مفردات المنفى مبهمة لقارئ عربي، ولغة عربية لا قاموس يفسّرها لأصحاب المنفى، سيبقى أبداً سارق النار المنفيّ مرتين، والمعلق الخالد على أخدود العالم ونسر الاغتراب يأكل قلبه وكبده وعينه الرائيتين.

لندن في الـ30 من سبتمبر - أيلول 2020

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.