المجموعة البشرية والكوفيد والبيوسياسي

السبت 2021/05/01
لوحة: فؤاد حمدي

منذ تطور التلقيح في القرن التاسع عشر ما انفكت التصورات السياسية والعسكرية تغذّي الأدبيات الطبية بصور حربية، ولكن صار القاموس الطبي (فايروس، فايروس متحول، حجر صحي، اختبار بي سي آر، تباعد اجتماعي، مناعة عامّة، تلقيح…) هو الذي يفرض نفسه على السياسي اليوم، وناب التهديد البيولوجي عن الحرب الباردة والخطر النووي.

إن التقاء السياسي والبيولوجي الذي تنبه إليه ميشيل فوكو منذ سبعينات القرن الماضي، وصاغه في مصطلحي “بيوسياسي” و”بيوسلطة”، ليس مجرد نظرية وضعها مفكر، بل هو توصيف للواقع يتحول مع الفيلسوف الإيطالي روبرتو إسبوزيتو إلى بنية لفهم سياسة اليوم، فعندما يتركز شغل الدولة الشاغل على الصحة العامة، وإدارة الحيّ والأجساد، قبل الاقتصاد أو البيئة، تغدو الحياة، بكل معانيها، مسألة حكم، مثلما تغدو الحكومة مسيّرة بالحياة.

لم ينتظر إسبوزيتو جائحة الكوفيد كي يلاحظ إلى أيّ حدّ صارت مسألة المناعة هي القطب الذي تدور عليه تجربتنا الفردية، فقد قام بنوع من جينيالوجيا مفهوم المناعة منذ القانون الروماني إلى البيوسياسي المعاصر، بل حتى السايبورغ، وبيّن ازدواجية المناعة التي تحمي وتهدد في الوقت نفسه، حيث يضطر الفرد إلى تجرّع جزء من المرض، أي جسد غريب، كي يحمي نفسه من مرض أخطر. غير أن مشروع تأمله الفكري يتركز على المجموعة التي لا تقوم على المماثل ولا على حرب الكل على الكل، لأن أيّ نظام مناعة يدمر نفسه بنفسه إذا بالغ في الخوف من الشرّ أو المرض.

روبرتو إسبوزيتو – المناعة تحمي وتهددها في الوقت ذاته
روبرتو إسبوزيتو – المناعة تحمي وتهددها في الوقت ذاته

منذ مطلع الألفية تساءل الفيلسوف الإيطالي كيف يمكن للبيوسياسي، أي مجمل المعايير التي تحمل الحياة، أن تضع في حسبانها إمكانية الموت، ونحت مصطلح “تاتانو سياسي” لوصف هذا المرور على حافة الموت، وحتى إنتاجه كما كان الأطباء النازيون يفعلون، فلئن سعت الشيوعية إلى تحقيق فكرة الديمقراطية ولكن بمصادرة الحريات والاستهانة بحياة البشر، فإن النازية أظهرت الأبعاد النيهيلية لسياسات الحياة، ما دفع إلى إعادة النظر في المجموعة البشرية في إطار بيوسياسية جديدة.

وقد أوضح إسبوزيتو، بالعودة إلى الفلسفات السياسية القديمة، أن المجموعة تمّ النظر إليها من زاوية حمايتها من عدوّ خارجي، عبر استعارة المناعة كصلة بين الذات والغير، بين الأنا والآخر، بين جسد مخصوص ومحيط خطير، وهي الاستعارة التي استعادتها البيولوجيا الحديثة. بيد أن التطورات العلمية الطبيعية والاجتماعية أظهرت أن الجسد لا يدافع إلا عن نفسه، فمنظومة المناعة تسبق الالتقاء بما يسبب الأمراض، ويمكن أن يرتدّ على الذات في حركة “مناعة ذاتية”. وقد صار تَحوُّل المناعة هذا جليّا منذ بداية الحرب على الإرهاب، حيث اختلط البيولوجي بالعسكري تحت أشكال مختلفة.

في “إيمّونيتاس” أو المناعة كبراديغم للسياسي، كتاب نشر عام 2002، وصدرت مؤخرا ترجمته الفرنسية بالعنوان الأصلي، مع عنوان فرعي هو “حماية الحياة ونفيها”، تنبأ إسبوزيتو بما يحدث الآن، والعالم بأسره يخوض حربا بلا هوادة ضدّ عدوّ لا مرئي، لا يبدو الخلاص فيها إلا بالتلقيح. والكتاب في الواقع هو جزء ثان من ثلاثية بدأها بكتاب “المجموعة البشرية”، وأنهاها بـ”بيوس” التي تعني في اليونانية نمط الحياة، أيّ حياة، وشكلها.

المناعة، هذه الكلمة التي تدنّت إلى تعبيرها الأدنى بسبب خصوصيات جديدة، وجهات منغلقة تعتكف داخل أسوارها وترفض الأجنبي، تعارض وتعادي كل من لا ينتمي إليها وكل من ليس له صلة بالرباط المهووس والقاتل للانتماء والهوية. وبين النسيان والانحراف، قد تتحول المجموعة إلى قلعة أو صحراء، بل قد تختفي من أفق التأمل. ولتجنب ذلك، ظهر تأمل جديد حول المجموعة في فرنسا مع جورج باطاي وموريس بلانشو وجان لوك نانسي، وفي إيطاليا مع توني نيغري وجورجو أغامبين وخاصة روبرتو إسبوزيتو الذي توخى طريقا جديدا في تناول هذه المسألة من خلال ربطها بالمجموعة، وهو تيار يحمل شكًّا آليّا تجاه طبيعة المجتمعات الليبرالية والديمقراطية دون أن يعتبر الديمقراطية الحديثة شكلا من أشكال التوتاليتارية.

ميشيل فوكو – البيوسياسي هو تدخل السياسي في البيولوجي
ميشيل فوكو – البيوسياسي هو تدخل السياسي في البيولوجي

والمفكر الإيطالي يهدف إلى إعادة النظر في المجموعة في إطار هذا التعريف الجديد للمناعة. وفي رأيه أن المجموعة لا تتأسّس على تقاسم شيء خاص بها ينبغي الدفاع عنه، ويؤكد، سيرا على خطى هايدغر وجورج باطاي وحنا أرندت وسارتر، أنها تتأسس على نقص مبدئي، مذكّرا بأن الجذر اللاتيني للمجموعة communauté  والمناعة immunité هو مونوس munus ويعني الهبة والواجب. وإذا كانت الدولة السيادية ترى في ذلك النقص شرّا ينبغي أن تعمل على وقاية المجموعة من مخاطره وتبعاته، فإن عمل الفيلسوف هو جعل الإمكانات النقدية لذلك النقص جذرية، بالتفكير في المجموعة ضد المناعة من خلال رفض البيوسياسي وبراديغم المناعة اللذين تعتبرهما الدولة مجرد وسيلتين من وسائل التصرف.

ويخلص إلى أن التحام المناعة والمجموعة قد ترافقه، وربما تشرّعه، أنماط الانطواء أو نبذ الآخر المختلف، حالما يتخذ شكل فايروس قاتل، وكأن الغريب لا يمكن أن ينظر إليه إلا في شكل تحلُّله المسبق، تماما مثل جرعة مرض تُحقن في لقاح، لا تُحتمل إلا إذا كانت للدفاع عن الجسد وإلغاء ذلك المرض. ولهذا يقترح إسبوزيتو استبدال ذلك النمط برمزية الحمل، حيث يقول “ضد استعارة الصراع حتى الموت، في بطن الأم، ثمة صراع حتى الحياة”. إن كان ثمة صراع مناعي، فإن التغاير الجيني بين الأم وطفلها هو الذي يسمح بقبوله من طرف النظام المناعي للأم، لأن مهمته ليست نبذ ما هو غريب عنه، بل القيام مقام الحجاب الحاجز الذي يجتاحنا الاختلافُ عبره ويَخرقنا بوصفه ذاك.

ولكن ما هي السمة المشتركة بين الصراع ضد جائحة وقمع مظاهرة وإقامة جدران على الحدود ضدّ المهاجرين والحرب على الإرهاب، أو إبطال مفعول فايروس معلوماتي؟ يقول إسبوزيتو إن كل تلك الظواهر تصاغ وتعاش على نمط علم المناعة. ولئن كانت المجموعة ترتبط بقانون العطاء والدَّيْن، وكل ما ينجم عن التشارك من مخاطر، فإن المناعة تخص الأعضاء المنضوين داخلها، أو الذين يُستثنَوْن من المشاركة، فهي كل ما يعارض المشروع الجماعي المشترك، وما يضمن وجوده أيضا، فلا وجود لمجموعة بشرية خالية من أيّ نوع من أنواع المناعة.

حنا أرندت – المجموعة تتأسس على نقص مبدئي
حنا أرندت – المجموعة تتأسس على نقص مبدئي

حسب المنظومة القضائية والسياسية، يمثل القانون جملة أنظمة الدفاع المناعي عن المجموعة ضد العنف، سواء صدر عن أعداء أجانب، أو كان بفعل أفرادها في الداخل. ولكنّ القانون حين يفرض بالقوة، يمارس جانبا من العنف الذي يزعم تطويقه. ذلك هو مبدأ المناعة، فهو ليس مجرّد قوة مضادة، بل هو شرّ بسيط لتوقّي شرّ كبير. ما يطرح، من وجهة نظر فلسفية، قضية السّالب. فالمناعة تذكرنا بأننا لا نقاوم شرّا راديكاليا بخير مطلق، فالسّالب، بهذا المعنى، لا يمكن تجاوزه، بل إبطال مفعوله، شرط استيعاب جزء منه مسبقا. وقد انتقل هذا المفهوم من الحقل القضائي والسياسي إلى الطب بداية من القرن الثامن عشر، ليشهد أوجه في القرن التاسع عشر مع اكتشاف لقاح ضدّ الجدريّ، ثم ظهور علم البكتيريا مع الفرنسي لويس باستور والألماني روبرت كوش، فلم تعد المسألة محصورة في مقاومة الجسد للمرض، بل تعدتها إلى مقاومته إياه بفضل جانب منه. وإن استوحت البيولوجيا من المجال السياسي رؤية عسكرية وقتالية في مجال الدفاعات المناعية، فإن السياسيين استعملوا بدورهم النموذج الطبي في حربهم على الإرهاب ثم على الجائحة، كما صرّح الرئيس ماكرون.

جورجو أغامبني – السلطة تبتكر قوانينها بدعوى مناعة المجتمع
جورجو أغامبني – السلطة تبتكر قوانينها بدعوى مناعة المجتمع

وإسبوزيتو يستحضر عن فوكو مبدأ البيوسياسي ليلاحظ أن السياسية تدخل في البراديغم المناعي حين ترى في الحياة محتوى فوريا لعملها. من ذلك مثلا أن النزاع الذي بدأ منذ مطلع الألفية نتج في نظره عن الضغط المتعارض بين هوسي مناعتين: الأصولية الإسلامية التي تزعم حماية نقاء ديني وإثني وثقافي من عدوى العلمانية الغربية؛ والغرب الذي يجهد في إقصاء بقية العالم عن مشاركته خيراته المتفاقمة.

وعندما تشابكت هاتان القوّتان المتعارضتان بشكل لا يمكن حلّه، انتابت العالَمَ انتفاضات هي من خصائص أمراض المناعة الذاتية الأشدّ فتكا: فالإفراط في الدّفاع عن الذات وإقصاء العناصر الغريبة عن الجسم يعودان على هذا الجسد بآثار مدمّرة. وفي رأيه أنّ ما انفجر في برجي مانهاتن هو منظومة المناعة المضاعفة التي ساندت العالم. فجهاز المناعة الذاتية، لا يدمر ذاته، بل يمكن أن يدمر الجسد الذي يفترض أنه يدافع عنه.

إذا كانت فكرة المجموعة تعبر عن ضياع ونقص ومصادرة، وتحيل على الفراغ والتشوّه، فإنها لا تُحَسُّ كإمكانية قصوى فقط، بل كخطر وتهديد للكيان الفردي للذات، لأنها تقطع الروابط التي تحمي الهوية البيولوجية والاقتصادية والاجتماعية، وتعرّض كل فرد إلى عدوى تحمل في طيّاتها خطرا على الذات والآخر. وهنا يكمن الخطر في نظر إسبوزيتو، فالمناعة، التي تتخذ حجابا واقيا ضد الخارج، تحدد تخوم الذات وتعزله عن قوانين المونوس، أي الهبة المتبادلة، ما يؤدي إلى مصادرة الذات نفسها بنفسها. لقد اختار إسبوزيتو تناول جدلية المجموعة والمناعة ليبين أنهما مترابطتان، فلا وجود لمجموعة بشرية تحصّنها مناعة ولكن الإفراط فيها يهدد بتدمير معنى وجودنا نفسه.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.