تحريض الذاكرة

كأس ماء في بيت شاعر منسيٍّ في أم درمان
الاثنين 2021/02/01
لوحة: حسين جمعان

“كنا نحدق في فراغات الزمان

وتأكل الصحراء أوجهنا

وتذرونا الرمال“.

قبل سنوات عديدة حققت حلما طالما راودني، زيارة السودان. فهذا بلد عظيم الشأن شعباً، جغرافية وثقافة وتاريخاً ومكوّنات. قضيت أسبوعاً في الخرطوم ومشيت مساء على ضفة النيل، فرأيت نيلاً آخر غير ذاك الذي رأيت في القاهرة، أنقى وأعرض، أما أعجب لحظة لي مع النيل فكانت بحد ذاتها أمنية عظيمة حققتها أيضاً وهي أن أطل على ملتقى النيلين الأزرق والأبيض. يا لها من لحظة، تدفقت معها إلى ذاكرتي تلك الصور التي رسمها الرحّالة العرب والأوروبيون لهذا النيل العظيم الذي وصفته برديات الفراعنة في صلاة مقدسة بأنه ينزل من السماء.

استغرقت رحلتي في السودان أسبوعاً واحداً، قضيت معظمه في الخرطوم ضيفاً على حركتها العلمية والأدبية، ولم أزر من مدنها إلا مدينة شندي إلى الشمال، ومَرَوي المدينة الدارسة في جوارها وفيها آثار عظيمة الشأن، معابد وأهرامات لملوك وملكات سودانيين. لن أتحدث في هذه الصفحات عن أيّ من هذا لكنّني سأكتب عن قامة سودانية هي الشاعر محيي الدين فارس (1936 – 2008) الذي ألزمت نفسي بألاّ أبرح الخرطوم دون زيارته في بيته بأم درمان.

استغرقت الرحلة من النزل المطل على نهر النيل الذي أقمت فيه بالخرطوم بحري إلى بيت محيي الدين فارس بأم درمان نحو ساعة. بيت متواضع في حارة متربة المدخل، اضطررت مع رفقاء الرحلة المتوكل وصُهيب والفنان التشكيلي ناصر بخيت أن نسأل عن موقع البيت عدداً من المارة وأصحاب المحال. أعطانا بائع عطور جالس تحت يافطة “العطر السوري” عنواناً في جهة معاكسة قبل أن يردّنا شخص عابر في الطريق إلى موقع آخر في جوار “نادي الأحرار”. وصلنا إلى جدار أبيض له باب حديدي طرقناه مراراً قبل أن نسمع من الداخل صوتاً بعيداً يقول: ادخل.

دفعنا الباب ودخلنا، فإذا بي أمام شخص يجاهد على كرسي متحرك. كان وحده، في غرفة فيها بضع مقاعد وفي صدرها صندوق، وصوت التلفزيون يصدح بأخبار كان الرجل يتابعها. إنه محيي الدين فارس وقد نهش داء السكري ساقيه واستأصلتهما مشارط الحكماء في جراحة لم يكن منها بدّ. لم يبدْ مبتئساً رغم الكدّ البادي على محياه.

تفضلوا، قال، مرحِّباً، ورأساً: ماذا تشربون؟ الماء. قلت عن نفسي، نعم الماء، قال رفقاء الزيارة وجلسنا، ولم يبد مقتنعاً بالجواب، فنادى على بنيَّة دون العشرين، وسأل ثانية: ماذا تشربون؟ فكررتُ الطلب. ولم يجد بداً من قبول الفكرة.

قلت لمحيي الدين فارس: جئتُ أم درمان لأزورك وأعود إلى الخرطوم، ومن هناك أسافر، لم أتخيّل أن أغادر السودان قبل أن أتمشّى في شوارع أم درمان وأطرق بابك فأشرب عندك كأس ماء. أشكرك من القلب، قال، وأضاف بشغف: أم درمان هي السودان. فهمت من ظلال كلامه أن أم درمان توجز الحضور السوداني بأسره لما فيها من امتزاج بين مختلف القبائل والثقافات والإثنيات التي يتأسس منها السودان، فضلاً عن كونها المدينة التي احتضنت الثقافة الشعبية وأعلام الغناء السوداني، وكذلك الحركات السياسية، وفيها تبلورت التجارب والأفكار الجديدة.

***

برز محيي الدين فارس في الحياة الشعرية العربية منذ أن كان طالبا في دار العلوم بالقاهرة، هناك ارتبط بعلاقات واسعة مع العديد من الشعراء والنقاد والمبدعين العرب، بل إنه ظهر شاعراً منذ أن كان طالبا في الثانوية بالإسكندرية بفعل هجرة أسرته إلى مصر من بلده في أقصى شمال السودان.

أهم أعماله الشعرية “الطين ‏‏والأظافر” عام 1956، “نقوش على وجه المغارة” عام 1978، “صهيل النهر والقنديل ‏ المكسور” عام 1997، “تسابيح عاشق” عام 2000، وله مؤلفات أخرى غير شعرية وكتابات في سيرته الذاتية نشرت في ثماني حلقات في إحدى المجلات العربية في النصف الثاني من التسعينات.

يعتبر محيي الدين فارس، المولود في جزيرة أرقو الواقعة في دنقلا أقصى شمال السودان، من بين أكثر الشعراء السودانيين الذين اهتم النقاد العرب بشعرهم في الستينات خصوصاً، وقد وضعت حول تجربته دراسات وبحوث ومقالات شتى. وهو بحق من أوائل المجددين في الشعر العربي الحديث، فقد انتقل من كتابة القصيدة العمودية إلى كتابة قصيدة التفعيلة مستجيباً للدعوة إلى تجديد الشعر التي انطلقت أول ما انطلقت من العراق، مع نازك الملائكة وبدر شاكر السياب. كانت القاهرة في تلك السنوات مركزاً مهماً تجاوب بقوة مع حركات تجديد الأدب وساهم فيها بصورة أساسية، ولا يبدو غريباً أن يبتعد اسم محيي الدين فارس عن الذاكرة العربية الراهنة، ليبدو لنا كما لو أنه غاب تماماً، أو هو توقف عن الكتابة، بينما واقع الأمر أنه كان حياً ومنتجاً للشعر. ومرد هذا الغياب هو عودته إلى السودان واستقراره هناك في ما يشبه حالة من الزهد أو الاكتفاء الذاتي بجمهور الشعر السوداني. ولعل ما ساعد على تكريس هذا الغياب ظهور اتحادات الأدب الرسمية واستحواذها على النشاطات والمنابر والمناسبات، مقابل اختفاء المنابر الأدبية العربية الحرة الجامعة والجادة التي كان الشاعر يؤثرها. ولعل من بين الأسباب التي دفعت ببعض الأصوات المهمة التي برزت في عقدي الخمسينات والستينات إلى التقوقع داخل الجغرافيا الوطنية، هو انكسار المشروع الفكري الذي احتضنها ممثلاً بالتيارات الاشتراكية والقومية، فقد بدأت هذه الأصوات بالتواري مع تراجع هذه التيارات وأفول نجمها.

***

جاءت التطورات الجديدة التي طرأت على القصيدة العربية في الثمانينات والتسعينات خصوصاً لتطرح أسماء وتجارب جديدة حملت معها أسئلة وهموماً ومشاغل جمالية وتعبيرية مختلفة. لكن المفارقة أن هذا المستجد في القصيدة العربية، والسودانية ضمناً، لم يبدل في وضع الشعر، فالأصوات الجديدة في الشعر السوداني اليوم، شأنها شأن نظيرها في جغرافيات عربية أخرى، ظل التهميش يطالها فلم تتمكن للأسباب التي أشرنا إليها من الوصول إلى دوائر الضوء خارج بلادها، رغم اشتراكها في الرؤى والمشاغل والمواقف مع شعراء عرب ينتمون إلى جغرافيات “العواصم المراكز”، ويمكن اعتبار هذه الصورة قاعدة لا تجد استثناءها في شعراء سودانيين مهاجرين إلى بيئات شعرية عربية في القاهرة وبيروت ودمشق كما كان الحال بالأمس بالنسبة إلى فارس والفيتوري اللذين ظهرا أصلاً من خارج السودان.

***

عاد فارس إلى السودان ليعمل في سلك التعليم في مدارسها الثانوية، ولعب دوراً مؤثراً في إثارة الأسئلة حول الشعر الجديد، وحض الأجيال الجديدة من الشعراء على مواصلة التجريب. لكن ظروف المرض الذي ألمّ به وحمل الأطباء على بتر ساقيه، وقعوده في البيت، فاقم من سوء وضعه.

خلال لقائي به في منزله في الحارة السادسة بمدينة أم درمان كان ما يزال مبتهجاً برحلة إلى الأندلس كرم خلالها بجائزة شعرية تسلمها من يد الملك خوان كارلوس. خلال تلك الرحلة بدا سعيداً باكتشافه الفرق بين الإنجليز الذين استعمروا بلاده والإسبان الذين بدوا له يشبهون العرب. وقد حظي محيي الدين فارس بالجائزة لكونه كما جاء في بيانها “صوتاً شعرياً يختلف عن الأصوات الأخرى ويضيف إلى فسيفساء اللوحة العربية لوناً ونمنمة مختلفين”.

***

جلسنا على أريكة متواضعة شابها شيء من الإهمال، فالرعاية لم تبد لي غامرة، وباستثناء الفتاة التي أطلت علينا بالماء، لم يكن هناك أحد يخدم الشاعر في مرضه. تأملت وجهه الذي كان على درجة من القوة والوسامة في شبابه، بدا مرهقاً، ولم تفارقه تلك الملامح الدالة على ما كانت العينان تشعان به من حضور للبديهة وتلك الأريحية التي رافقت حضوره.

طلبة الجامعة العرب اليساريون والقوميون الذي كانوا ما بين منتصف الخمسينات وأواخر الستينات يتحلقون من حول مجلة “الآداب”، كان المانفستو الشاغل لهم ما يزال قصيدة نزار قباني “خبز وحشيش وقمر”، وظل أثر هذه القصيدة حتى أواسط الستينات، قبل وقوع الهزيمة، ومن ثم ظهرت قصيدة محيي الدين فارس “يوميات برجوازي صغير” وكانت قد نشرت في “الآداب” وقدم لها الشاعر بكلمة أشار فيها إلى أن القصيدة جاءت على بحر جديد غير معروف في عروض الشعر العربي، وفي عدد لاحق نشرت نازك الملائكة نقداً اعترضت فيه على رأي محيي الدين فارس معتبرة أن للبحر الذي كتبت عليه قصيدته أصولاً في الشعر العربي.

يومها دار سجال في الصحافة ما بين الشاعرين نزار قباني ومحيي الدين فارس، ومع إعجاب النخب يومها بالشاعرين، فإن مجموعة من الشعراء والأدباء من ذوي الاتجاه الاشتراكي كانوا يقفون إلى جانب محيي الدين فارس وذلك خلال المناقشات الأدبية التي كانت تدور في المنتديات الجامعية في دمشق وبيروت وبغداد.

كانت لمحيي الدين فارس مكانة كبيرة تفوق تلك التي كانت لمحمد الفيتوري، فقد بدا للمثقفين العرب آنذاك بمثابة شاعر مجدّد ينتهج خطاً مغايراً للسائد في الشعر والأدب، إلى جانب كونه اشتراكيّ النزعة، تميّزت عبارته الشعرية بنكهة خاصة عكست تلك الحرارة الإفريقية ووهج التمازج بين ثقافتين عربية وإفريقية.

وإذا كان الفيتوري قد اختطف فكرة إفريقيا في ديوانه “عاشق من إفريقيا” فإن الشاعر المعجون بالشمس والمطر والتربة الإفريقية حقاً كان محيي الدين فارس، من دون أن ينزع إلى عناوين صارخة، فلم تكن تهمُّه المنابر أو تشغله عن فكرة التجديد. كان شاعراً ذا بوح هادئ وجملة شعرية ندية ومبتكرة:

“انتظرني.. لحظة

ألقي على الشاطئ أعباء سنيني

أنا ظل مثل هذا الظل

يُطوى بعد حين“.

ولعل آخر المجموعات الشعرية لمحيي الدين فارس كان تحت عنوان “إفريقيا لنا” وضمت بين جلدتيها عشرين قصيدة وهي قصائد ترتبط بفكرة إفريقيا ونهضتها، فهذا البعد في شعره استمر طالعاً من جذوره المبكرة، إلى جانب شعراء آخرين أقلّ حظاً من الشهرة، كجيلي عبدالرحمن وتاج السر الحسن، وقد برزت في أشعارهم فكرة التعبير عن أحلام القارة السمراء في التحرر من أشباح الماضي والخلاص من موروثات الاستعمار، وقد تجسد وبرز هذا البعد الفكري في موضوعات شعرهم خصوصاً على مدار عقد ما بين أواسط الخمسينات وأواسط الستينات.

***

لم يدم اللقاء بمحيي الدين فارس طويلاً، كما ذكرت. تحدثنا خلال ساعة من الزمن عن صحته وأخباره، عن نتاجه الشعري، وعن ذكريات له في عواصم عربية؛ صداقاته الشعرية والأدبية. وعندما تطرق الحديث إلى بيروت ودمشق، قال: الله على بلاد الشام. وطافت على وجهه ابتسامة مشوبة بحزن خفيّ، لعل صوراً مرت في ذاكرته. سألته: عشت في مصر، وزرت العراق ودمشق وبيروت. من هم الشعراء العرب الذين شُغلت بشعرهم؟ قال: أولهم بدوي الجبل، وكذلك عمر أبوريشة، هذان شاعران من طراز خاص. وسألني إن كان شعر بدوي الجبل ما يزال حاضراً في الذائقة؟

شعرت بشيء من الأسى، فالشاعر الذي كانت له صولات وجولات، وحياته سجل بالغ الغنى عن النشاط الشعري والأدبي والنقدي في العالم العربي، لم يعد يتمتع بتلك الذاكرة الحية والمركَّبة، فلم يُبق المرض والشيخوخة والإرهاق فيها إلا القليل من المعالم، القليل من الأسماء، القليل مما يمكن استعادته بيسر. لكنه ردد اسم نزار قباني. وأضاف: كان شاعراً كبيراً، وأنا أقدّر شعره عالياً، وكذلك سيرته كشاعر. ظل الشعر له كل شيء. طوال حياته. ومع ذكر مجلة “شعر” قال “أنا أتحفظ على هذه الحركة، أظن أنها لم تكن بريئة. وكان لي باستمرار موقفي المعلن منها، كنت ممن يرفضون النشر في “شعر” ولم أهتم بشعر الخال، ولا بشعر أدونيس. قرأت لهما بطبيعة الحال، لكن الثقافة العربية، والحياة الشعرية الجديدة في الخمسينات والستينات كانت تتمحور حول مجلة “الآداب” أساساً، ثم دخلت مجلة “شعر” على الخط، وكنت ممن يجدون أنفسهم في فضاء مجلة “الآداب”. وأبدى أسفه لغياب جيله من الشعراء أمثال صلاح عبدالصبور، وعبدالرحمن الخميسي، ونجيب سرور، وفوزي العنتيل وأمل دنقل الذي وصفه بأنه “توفي صغيراً… كان شاعراً حقيقياً”.

قلت إنك تبدو لنا نحن العرب غائباً عن الحياة الشعرية؟ فقال باندهاش: لست غائباً، نشرت في السنوات الأخيرة ثلاث مجموعات شعرية. لعلها صدرت في السودان. وأشار بيده إلى صندوق مقفل، وقال: انظر هذا الصندوق، إنه مليء بالقصائد، ومن المنتظر أن تنشر مع نهاية هذا العام. صمت قليلاً، ثم أضاف: أرجو أن أبقى حياً حتى ذلك الوقت. غيّرت الحديث، وسألته إن كان ما يزال يحفظ شعره، وقبل أن يجيب بنعم تمتم بصوت هشّ:

“دعيني

فللبحر.. رائحة منعشة

وقد حمحمت سفني للرحيل

وصفقت الريح في الأشرعة

فهذي المدينة تأكل أبناءها

ثم تنسَلُّ..

تقبع في الظلمة الموحشة“.

وهذا المقطع من قصيدته “الجواد والريح”. سألته عن علاقته بالفيتوري، وعن المشترك بينهما، وهما معاً أشهر شاعرين حديثين أخرجهما السودان عربياً. فقال إن هناك مشتركات كثيرة بينهما، أهمها بالنسبة إليه، أنهما ظهرا معاً في الوقت نفسه تقريباً، وأن أهل الفيتوري وأهله كانوا يسكنون في الإسكندرية وصداقتهما ممتدة منذ ذلك العهد. وذكر في جيلهما من السودانيين شاعراً آخر درس أيضاً في القاهرة هو تاج السر حسن.

انقضى الوقت، وآن أوان المغادرة والعودة إلى الخرطوم. في الطريق رحت أستعيد تفاصيل اللقاء، وفي رأسي تتردد سطور من قصيدة له عن المنفى:

“كنا نحدق في فراغات الزمان

وتأكل الصحراء أوجهنا

وتذرونا الرمال..”.

كان مؤسفاً أن التقي محيي الدين فارس وهو في الحال التي وجدته عليها. صحيح أن محبيه من الشعراء العرب ما زالوا كثراً، وبينهم الفيتوري الذي لا يتوقف عن الاطمئنان عليه كما قال، وعلي الجندي الذي يقدر دوره في التأسيس للقصيدة الجديدة في السودان، فضلاً عن دوره في حركة الشعر العربي الجديد، لكن آلام محيي الدين فارس في المرض أكبر من كلّ عزاء، إنما شدة بأسه، تجعله يرفض أيّ مساعدة في دفع عجلة كرسيه المتحرك.

أربع سنوات أخرى سيقضيها محيي الدين فارس على كرسيّ متحرك، ثم يغادر عالمنا، في عزلته السودانية تاركاً إرثاً شعرياً أظن أن على الثقافة النقدية العربية أن تستدركه، وتعيد النظر فيه بوصفه علامة من علامات حركة التجديد العربية في الشعر.

لندن في فبراير/شباط 2021

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.