تطور الفكر السياسي عند أفلاطون

الأحد 2023/01/01

تهدف هذه المقالة إلى تقديم بحث مفصل حول موضوع “تطور الفكر السياسي عند أفلاطون”. وعاش أفلاطون بين الفترة من 428 إلى 347 قبل الميلاد. وهذه الفترة بالذات عرفت نشوب حروب متتالية (حرب البيلوبونيز) بين أثينا وإسبرطة آلت في النهاية لصالح الإسبرطيين. فبعدما عرفت أثينا كأحد النماذج الديمقراطية في اليونان رغم أن ديمقراطيتها كانت جزئية إذ لا تشمل كل الأفراد بينما اقتصرت على الأسياد والنبلاء وأرباب الأسر أما ما سواهم من النساء والأبناء والعبيد والعمال فقد كانوا في صنف الممتلكات الشخصية. ومن جهة أخرى تمحورت في أثينا أشكال الحضارة في بلاد الإغريق خلال هذه الفترة من التاريخ. ويكمن أحد أهم أسباب تطورها في أنها أسست لنمط حياة ديمقراطية. ومع ذلك، فهذا لم يكن بالشيء اليسير تحققه. فلقد مرّت أثينا بعديد التحولات منها السياسية والاقتصادية والفلاحية والتجارية حتى تمكنت في النهاية من الإرساء على نظام ديمقراطي يرعى جميع فئات الدولة المدينة. لكن السؤال الذي قد يراودنا هو ما من شأنه أن يجعل التطورات التي حصلت في أثينا تقود إلى نظام ديمقراطي؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه بالتفصيل في معرض هذا البحث. وأيضا نضيف تساؤلا آخر، وهو لماذا النظام الديمقراطي وليس نظاما آخر؟ ومن خلال كتاب “نماذج الديمقراطية” لديفيد هيلد نستطيع أن نعطي جوابا وتفسيرا لتساؤلاتنا ولاسيما من خلال الفصل الأول المعنون بـ”الديمقراطية الكلاسيكية: أثينا”.

أما القسم الثاني من بحثنا فسيتمحور حول الفكر السياسي الأفلاطوني. وذلك من خلال محاولة تحليلية للنظم الاجتماعية والسياسية التي أسس لها أفلاطون، بالاعتماد على مؤلفاته وخاصة كتاب الجمهورية ومحاورة البوليتيكوس أو رجل السياسة. بالتالي سنسلط الضوء من خلال هذا البحث على أهم مؤلفات أفلاطون في الدولة والسياسة. ونرى أن أفلاطون لا يقيم تمييزا كبيرا بين الأخلاق والسياسة. ذلك لأن الأخلاق موجهة إلى رعاية فضائل النفس لدى الأفراد في حين أن السياسة تعمل على رعاية وتدبير مصالح الأفراد أو الجماعة في إطار الدولة. فالقسم المشترك بينهما يكون الخير الذي تنجم عنه في النهاية السعادة. كما حاول أفلاطون دراسة الفضائل من جهة ما هي تحفيز للقيام بالفعل الأخلاقي. وسنرى من خلال هذه الورقة الأسس التي تقوم عليها الأفكار السياسية عند أفلاطون (نظريته عن الجمهورية). وكذلك المؤسسات التي تشكّل جمهورية أفلاطون، فباعتباره الأخلاق طريق إلى السعادة وضرورة لا بد منها. أيضا يربط أفلاطون الفضيلة بالمعرفة، وذلك ما كان أحد الدوافع “في إنشاء معهده الأكاديمي لتنمية روح المعرفة الحقة كأساس لفكرة فلسفة صناعة الحكم” [1]، لأنه يرى أن رجل الفضيلة والمعرفة هو القادر على تولّي الحكم والذي يجب عليه أن يكون في مركز القرار. كما تعرض أفلاطون كذلك لمسألة تبادل الحاجات وتقسيم العمل. أما السؤال الذي يتبادر إلى ذهننا فهو على أيّ أساس قام أفلاطون بتقسيم العمل وكذلك الطبقات؟ ويعد جورج ساباين مرجعا ذا أهمية باعتباره دارسا للأفكار السياسية مما سيساعدنا لكي نفهم نظرية أفلاطون في السياسة وذلك من خلال الكتاب الأول من مجلده الذي بعنوان “تطور الفكر السياسي”.

الديمقراطية الكلاسيكية

عُرفت أثينا بأنها “دولة المدينة” باعتبارها النموذج الأكثر ابتكارا من غيرها من التجمعات البشرية في الجزر اليونانية. فبداية من القرن الثامن قبل الميلاد وحتى حلول القرن الخامس قبل الميلاد شهدت بلاد الإغريق تبلور أشكال التحضر عبر تجمعاتها الصغيرة التي كانت حاضرة البحر، أي المدن الساحلية منها. أما نظام الحكم الشائع آنذاك في هذه الدول المدن المكونة من تجمعات صغيرة فهو نظام ملكي، قبل أن تخضع في الفترة ذاتها إلى سيطرة الهرمية القبلية وسيادتها عليها. أما عن الأنشطة المزاولة فيها فكان النشاط الزراعي والفلاحي هو السائد، إلى حد القول إنها كانت ذات نظام إقطاعي للانتشار الواسع لملاّك الأراضي فيها. لكن الدول المدن الساحلية من اليونان ستشهد طفرة في النمو والازدهار بسبب تنامي تجارة ما وراء البحار. أما بشأن النظام السياسي القائم أو الدائم فدول المدن كانت اضطرابات في الحكم وفي سياساتها في هذه الفترة، “جراء صعود “الطغاة” أو الحكام الفرديين (نحو 650 – 510 ق.م)، الذين كانوا يمثلون مصالح أولئك الذين غدوا أثرياء حديثا إما عبر ملكية الأرض أو من خلال ممارسة الأعمال التجارية”[2]، ما سمح بظهور أنظمة أكثر استبدادا من الأنظمة العشائرية أو القبلية. وأيضا هناك سمة أخرى لتقلبات الحكم في دول المدن وهي “التحالفات المتغيرة”. أما وأن الطبقات الفقيرة فلم يكن لها حظ لا في الحكم ولا في الغنى، ولاسيما أصحاب الحيازات الضئيلة وأصحاب الفلاحة المعيشية ذوي المزارع الصغيرة. لتعقب هذا فترة من الصراعات وعدم الاستقرار، والذي صاحبته أيضا صراعات اجتماعية شديدة. ولعل “تعزيز الاستقلال الاقتصادي لمزارعين صغار ومتوسطين إضافة إلى بعض فئات الفلاحين […] وازدادت مكانة هذه الجماعات ارتقاء جراء تغييرات في التنظيم العسكري […] كان هذا التغيير، ربما أكثر من أيّ تغيير آخر، هو الذي أثر في البنية السياسية المستقبلية لدول المدن” [3]. كما أن تنامي عدد المواطنين المستقلين سيوسّع من دائرة العبودية مع اتساع مجال نشاطات هؤلاء المواطنين المستقلين. حيث إن خلق نظام اقتصاد عبودي في مجالات: الزراعة، ومناجم الفضة، وتوسع الصناعات الحرفية سيكون الباعث الرئيسي لـ”السماح بالازدهار المفاجئ للمدينة الحضرية الإغريقية… حيث برز المواطنون الأحرار بقاماتهم الكاملة، مستندين إلى نتاج عمل الكادحين العبيد”[4]. فالتوسع الذي عرفته الدول المدن جاء على حساب (باستغلال) قوة عمل العبيد، ومع تزايد العبيد و”المواطنين الأحرار” سيؤدي هذا إلى تشكيل الشعور بالهوية في أوساط المدن الإغريقية. “وهذه الهوية ترسّخت جراء النمو الحاصل في التعليم الذي ساهم أيضا في تيسير عمليات إدارة الناس والموارد المادية والتحكم بهم وبها [5]. وما فتئت أن وضعت تمييزات بين أفراد الدول المدن، فصاروا فئتين: فئة داخلية وفئة خارجية. أما الفئة الداخلية فيمثلها “المواطنون الأحرار”، وملاك الأراضي، والتجار الكبار. أما الفئة الخارجية فهي مكونة من العبيد، وسائر الفئات الهامشية، وأيضا تندرج ضمنها الجماعات التي ليست من أصل يوناني.

لكن الجدير بالذكر والمعرفة أن قوانين ودساتير دول المدن ظلت تتجدد على الدوام، مما أحدث جملة من التغييرات في القوانين والحقوق سواء المكتوبة منها أو الشفهية التي توارثتها الأجيال. “يبدو أن الكيان ‘الديمقراطي’ الأول انبثق أولا أواسط القرن السادس قبل الميلاد في خيوس Chios اليونانية الحديثة” [6]. ومع ذلك فأثينا هي التي برزت كنموذج ديمقراطي، حيث فيها بلغت الديمقراطية قمتها (أي في حدود ما كان ممكنا ومعقولا وإن كانت الديمقراطية مختلفة كثيرا عما وصلت إليه اليوم)، ما أدى إلى انتشارها على نطاق واسع باعتبارها ثقافة سياسية جديدة. وأتاحت لمجموعة “المواطنين الأحرار” الاستفادة من كل حقوقهم. ويجب الإشارة أن سلسلة التطورات التي مرت منها الديمقراطية والأشواط التي قطعتها حتى ذاك الوقت، قد عرفت عبرها الديمقراطية تحولات جمة على مدى تعاقب أجيال كثيرة. لكن يبقى السؤال الذي يشغل بالنا وهو، لماذا أرسيت أثينا على النظام الديمقراطي وليس غيره؟ يقول ديفيد هيلد “ربما كان احتمال انبثاق كتلة مواطنين مستقلة على الصعيدين السياسي والعسكري في إطار جماعات صغيرة ومتماسكة نسبيا هو الذي وفر الرعاية لنمط الحياة الديمقراطي” [7]. ويجادل ديفيد هيلد على أن في تلك الجماعات الصغيرة كان التواصل متاحا بشكل مرن، ناهيك عن تنقل الأخبار بوتيرة سريعة. أما العامل الجغرافي فهو الذي لعب الدور الحاسم في نجاح هذه المهام التواصلية والتنسيقية بين الجماعات الصغيرة ما أتاح أرضا خصبة لنشوء الديمقراطية. وأيضا ساعدت العوامل الاجتماعية والاقتصادية لتبني هذا النمط من الأنماط السياسية التي عرفت استحضار الوعي بالمسؤولية السياسية والمحاسبة. ويعتبر ديفيد هيلد أن لـ”التعقيد ومدى التنوع السياسي أهمية كبيرة في النظرية السياسية”[8]. فرغم تلاشي هذا النظام الديمقراطي والذي لم تشهده إلا لحظات قليلة من التاريخ القديم، ذلك لا يعني خسارة واحدة من الحقب التاريخية التي عرفت مشاركة سياسية واسعة في تدبير الشؤون العامة لأن النموذج السياسي الأثيني ظل محط اهتمام واستئثار الفكر السياسي الحديث، فكل المثل السياسية الأثينية (المساواة، الحرية، العدالة)، تركت تأثيرا كبيرا في مركزية الفكر الغربي وبالخصوص السياسي منه. كالمفهوم الليبرالي الذي يحدد “الفرد” كشخص ذي “حقوق”. ومن جهة أخرى فإن التراث السياسي الأثيني لم يسلم من أصابع النقد التي وجهت له ولاسيما من فلاسفة اليونان أنفسهم، بمن فيهم أفلاطون وأرسطو. فكتابات هذين الفيلسوفين تحوي عيوب ونقاط ضعف الديمقراطية الكلاسيكية الأثينية، لا من حيث نظريتها ولا تطبيقها. كما أنه حسب ديفيد هيلد لا يوجد مؤرخ يوناني أو منظر سياسي يوناني قديم قد ترك كتابات حول النظرية الديمقراطية الأثينية يمكن الرجوع إليها من أجل النظر في تفاصيل النظام الديمقراطي الكلاسيكي. ويرى ديفيد هيلد أن ما يمكن صناعته مع الديمقراطية الأثينية هو تجميع المعلومات من مصادر متنوعة، كالانتقادات التي طالت النظام الديمقراطي الكلاسيكي. وكذا ما توصل إليه المؤرخون حديثا وعلماء الآثار. ومن أجل ذلك يعرض ديفيد هيلد فقرات من الخطاب التأبيني الذي يعود إلى بريكليس (Pericles) كان مواطنا أثينيا وسياسيا مرموقا وقائدا عسكريا. ففي هذا الخطاب أشاد بريكليس بسياسة أثينا ودافع عن نظامها الديمقراطي. وهذه فقرات من الخطاب التأبيني:

لوحة

“اسمحوا لي أن أقول إن نظام حكمنا ليس نسخة عن مؤسسات جيراننا. لعلنا أميل إلى أن نشكل نموذجا ونموذجا للآخرين. بدلا من أن نقلد أحدا آخر. ودستورنا يحمل اسم الديمقراطية لأن السلطة هي بأيدي الشعب كله لا بين أيدي أقلية ما. حين تكون المسألة متعلقة بتسوية نزاعات خاصة معينة يكون الجميع متساوين أمام القانون، وحين تكون المسألة مسألة تفضيل شخص على آخر في مواقع المسؤولية العامة فإن ما يؤخذ في الحسبان ليس الانتماء إلى طبقة معينة، بل القابلية الفعلية التي يمتلكها المعني” [9].

” نحن لا نرى أيّ رجل عازف عن الاهتمام بالسياسة رجلا مهتما بشأنه الخاص، بل نرى أن ليس له أي عمل بالمطلق هنا. نحن الأثينيين نبادر، بأنفسنا بالذات، إلى اتخاذ قراراتنا حول التخطيط أو السياسة أو إلى إخضاعها لما هو مناسب من الحوارات: فنحن لا نؤمن بوجود أيّ تضارب بين الأقوال والأفعال، لعل أسوأ الأمور هو الاندفاع قبل إشباع العواقب والنتائج بحثا ونقاشا” [10].

في الفقرة الأولى من الخطاب التأبيني أعلاه، يوضح “بريكلس” أن النظام الأثيني متميز عن غيره من أنظمة الحكم في الدول المدن المجاورة لأثينا، كما أنه قدم النظام الأثيني بوصفه نموذجا يجب الاقتداء به، والشيء اللافت للانتباه هو كيف وصف الدستور الأثيني على أنه يحمل اسم “الديمقراطية”؛ أي أن الشعب يختار لنفسه ويقرر مصيره بنفسه ويضع دستوره بنفسه كذلك. ولم يكن الأمر مقتصرا على طبقة معينة من الشعب أو أقلية متجبرة، لذلك حسب قول “بريكلس” فإن الجميع متساوون أمام القانون إذا ما وقعت نزاعات فيما بين مواطني دولة المدينة. أما اختيار المسؤولين من الشعب الأثيني فهو لا يخضع للتمييز الطبقي، بل يتم الانتقاء حسب الكفاءة المطلوبة، وهذا ما يضمن شفافية في تولي المسؤوليات، إذن فهذه الفقرة هي تلخيص لمجوعة المزايا التي تحفل بها الديمقراطية الأثينية، أما الفقرة الثانية التي نستدل بها فهي تحدد لنا قيمة الفرد داخل التنظيم الأثيني باعتباره فاعلا أساسيا في السياسة الأثينية، ولعل هذا الاعتبار الذي يوليه الأثينيون للشخص هو من أسباب تبني دولة مدينة كأثينا للنظام الديمقراطي، ويضيف بيركلس عنصرا آخر من عناصر الديمقراطية الأثينية وهو الحوار ومناقشة كل القضايا والمسائل قبل إصدار قرار بشأنها، وبالتالي فديمقراطية أثينا كانت ديمقراطية مباشرة تسمح بمداولة قراراتها ومناقشة خططها بشكل جماعي وفي مجال عام.

الفكر السياسي الأفلاطوني

            •          تحليل أفكار من محاورات أفلاطون: الجمهورية والبوليتكوس

أول ما يناقشه أفلاطون في كتاب “الجمهورية” هو العدالة، ولعل هذا يوحي لنا بأن أيّ تنظيم ناجح ومستقر وذي حكم متميز يجب أن يقوم على مبدأ العدالة؛ فأفلاطون يصوغ تعريفا للعدالة وللرجل العادل والصالح وما يكون الفرق بينه وبين الفرد غير الصالح، من خلال المحاورات التي نقلها عن أستاذه سقراط، فالمحاورة الأولى حول موضوع العدالة كان أطراف الحوار الرئيسيون هم: “سقراط” و”ثراسيماخس” و”بوليسارخس”، وقام سقراط ببحث وفحص دالة الفضيلة وتقصي معناها الإجمالي وحدها القطعي، فكان بداية أن اعتبر “بوليمارخس” أن العدالة هي أن يرد إلى كل ذي حق حقه وماله، كما “جعل العدالة نفع الأصحاب ومضرة الأعداء [11].

 لكن اعتراض سقراط كان على ماهية الأصحاب من يكونون؟ إلا أن تعريفهم هم أيضا قد حمل في طياته أحكاما خاطئة. واستمر بينهما الجدال إلى أن وقف “بوليمارخس” عند حد أن “العدالة هي مساعدة الأصحاب الأمناء ومضرة الأعداء الأشرار” [12]، لكن حتى هذا التعريف لم يقبل به سقراط، فحتى لو كان الإنسان شريرا فإن الإضرار به لا يجعله إلا أقل عدالة. وانتقل الحوار من مستوى الأفراد إلى مستوى نظام الحكم وتشريع القوانين. وبهذا الشأن جادل “ثراسيماخس” أن العدالة هي منفعة الأقوى، ودعم حجته كالتالي: “انتهاك حرمة الشريعة يحسب تعديا على العدالة عند كل حكومة. تُسنّ الشرائع لمصلحة الحكومة. الحكومة أقوى من الرعية. والنتيجة أن العدالة هي مصلحة الأقوى” [13]. فكما يبدو أن “تراسيماخس” يعتبر أن العدالة هي احترام الشرائع والانصياع لما تحدده القوانين. كما أن الشرائع هي في مصلحة الحكومات من جهة أنها الداعم لبقائها، وبالتالي وجب أن تكون الرعية أو المواطنون تحت قوة الحكومة، ومرة أخرى لا يرضى سقراط بهذا التعريف لأنه اعتبر أن وضع القوانين قد يحمل في طياته مضرة بمصلحة الحكومة نفسها، أما نهاية هذه المحاورة الأفلاطونية عن العدالة فسقراط يضع نهايتها بعدم الانتهاء إلى جواب قطعي حول تعريف العدالة لأن سقراط لم يتوصل إلى حكم عن قيمة العدالة أهي فضيلة أم رذيلة، “ولذلك كانت نتيجة بحثنا الحالي أني لم أعرف شيئا” [14].

أما الكتاب من الجمهورية الذي نجده ذا أهمية مماثلة لأهمية العدالة في فلسفة أفلاطون السياسية فهو عن المدينة السعيدة؛ فبعد أن تستقر المدن على العدالة يأتي الدور على البحث في أي نظام من الحكم والعلاقات الاجتماعية سيحقق السعادة التي يطلبها الأشخاص والمواطنون. فهذه المحاورة التي قام فيها سقراط باستئناف حواره عن العدالة مع “أديمنتس” و”غلوكون” بعدما غادر “تراسيماخس” الحوار سيطرح فيها سقراط مجموعة من الأسئلة التي تبحث جانب العلاقات المجتمعية وعلاقات الأفراد فيما بينهم من جميع أنواع الحرف والمهن والفنون التي يمكن أن يحفل بها مجتمع مدني معين، حيث يجادل سقراط بالعلاقات القائمة بين أفراد المجتمع حيث “إن المرء لا يستغني عن إخوانه، هذا هو منشأ الهيئة المجتمعية والدولة” [15]. وهنا إشارة إلى أن أساس المجتمع والدولة هو اجتماع البشر في مجموعات على مبدأ الأخوة أو أقرب من الأخوة حيث تكون العلاقات التي تربطهم متينة (إلى حد ما). حيث يناقش أفلاطون في هذه المحاورة بالذات توزيع الأعمال بين أفراد الدولة، ويسلط الضوء على بداية نشأة والطبقة التي تبدأ معها النشأة وهي الطبقة الزراعية، ويأتي في مرحلة ثانية أصحاب الحرف والتجار. كما أن انفتاح الدولة على الخارج من خلال التجارة الخارجية وزيادة المنتوجات والمبادلات يفضي إلى ظهور طبقة ثالثة مكونة من أصحاب المخازن والصرافين، “وإذا نشأت الأمة على هذا النسق حصلت على حاجاتها” [16]، وترتقي هذه المحاورة إلى الجدال حول الطبقة الحاكمة وأوصافها التي يجب أن تتصف بها أي طبقة حكام عادلة وفاضلة، والأهم أن يكون لديها ميل إلى الفلسفة، وناقش سقراط في هذه المحاورة الصفات الجسدية والعقلية التي لزم أن تتوفر في الحاكم، حين ينتهي بقوله – أي سقراط – : “أوَ يخفى عليك شأن الحماسة التي لا تُقهر، وبما تبثه في نفس صاحبها يكون كل مخلوق غير هيّاب في اقتحام الأخطار؟ [17]. أما “غلوكون” فقد وافقه الرأي واستمر معه في فحص الصفات والمزايا التي يجب أن يتصف بها الحاكم، حتى قال سقراط: “فمن الضروري أن يكونوا وُدعاء مع أصحابهم، شِداد الشكائم مع الأعداء فقط، ولا ينتظروا هلاك العدو بيد غيرهم، بل يكونوا السابقين إلى القضاء عليه بأيديهم” [18]، فوضح سقراط كيف ينبغي للحاكم معاملة شعبه والتصرف معهم بلطف ورفق وحكمة، ومن جهة ثانية استعمال الغلظة مع الأعداء والتنكيل بهم.

أما في محاورة البوليتكوس (أو رجل الدولة)، يقف أفلاطون على تحديد وصف رجل الدولة، في الحوار الذي دار بين سقراط وثيودوروس والغريب الإيلي. وأول الأوصاف التي جاءت في المحاورة حددت البوليتكوس بأنه “هو الملك، السيد، أو رب البيت، اسم لمسمّى واحد، ونطلق على علمه اسم العلم الملكي أو العلم السياسي أو الاقتصادي، ويتم فعله بذكائه وقوة عقله وليس بيديه، ولذلك فإن له صلة بالمعرفة أكثر من صلته بالفنون اليدوية وبالحياة العملية بشكل عام” [19].

قوة الحاكم، أو من يجب أن يحكم ويأمر الآخرين تكون بذكائه ومستنبطة من العقل وحب الوصف ذاته؛ فالحاكم قريب من المعرفة وواصل إليها في حين أنه لا يهتم بالحياة العملية والتجريبية. بصفة عامة، الفرد الذي يملك معرفة بالسياسة هو من يستطيع أن يحكم، أما غيره أو دونه ممن لا يمتلكون هذه المعرفة إذا حكموا وأسندت إليهم مثل هذه المهام فالأكيد أن الحكومات التي سيكونون مسؤولين فيها ستؤول إلى الاضمحلال والتلاشي. “إن ما يحل بها من الهلاك هو من خلال فساد قياديي دفتها وملاحيها الذين يمتلكون أسوأ أنواع الجهل بالحقائق الأسمى” [20]، فهؤلاء القواد الفاسدون لم تكن أفعالهم وأحكامهم صادرة عن معرفة، بل إنهم ببساطة لم يتلقوا تربية على العلوم السياسية ولم يكتشفوا هذا المجال بشكل تام. أما في ختام هذا النقاش المطول بين سقراط الفتي والرجل الغريب الإيلي الذي أتى بالأوصاف المثالية لرجل السياسة، أو ما يجب أن يتصف به الملك أو الحاكم، يبدو أن سقراط الفتي يوافقه الرأي على تلك الأوصاف التي ذكرنا بعضا منها بإيجاز ولم نستعرضها بالتفصيل؛ فسقراط ترك الحوار منذ بدايته واستمر سقراط الفتي حتى نهاية الحوار، فقد اقتنع بتلك التوصيفات التي سمع من الغريب الإيلي حيث اختتم سقراط الفتي الحوار بقوله: “إن صورتك، أيها الغريب، للملك ورجل الدولة، ليست بأقل كمالاً من تلك التي للسوفسطائي، وإنها لتامة جداً” [21].

            •          تبادل الحاجات وتقسيم العمل

حيث نهج أفلاطون مسارا إلى تحديد مفهوم الدولة المثالية في عملية انتقاده لديمقراطية أثينا، أخذ بتحليل الدولة النموذجية. ويعزى ظهور التجمعات البشرية إلى الحاجات البشرية التي لا يمكن إشباعها إلا بالتبادل الذي يقوم بين الأفراد، والذي يتيح للأفراد أن يكملوا بعضهم البعض. “فالتبادل في نظر أفلاطون مجال لعمل تحليل عام لكل صور اتصال للناس في المجتمع” [22]. فوجود جماعة من البشر معناه وجود شبكة من المبادلات التي تروم إشباع الحاجات. وتحليل أفلاطون للمجتمعات وإدراجه في نظرية حول الدولة النموذجية (المثالية) هو ما سلّط الضوء على جانب بالغ الأهمية لأيّ نظرية اجتماعية. فالجماعة كما تصورها أفلاطون هي تركيبة من الخدمات يساهم فيها الأفراد بقسط من الأخذ والعطاء. أما دور الدولة في هذه الحالة فهو إيجاد أشكال تنظيمية توافق إشباع هذه الحاجات. “وتختلف هذه النظرية عن تلك التي تصور العلاقات الاجتماعية في صورة عقد أو اتفاق. وتختصر وظيفة الدولة بالتالي وبصفة أولية على كفالة حرية الاختيار”[23]. ويثير أفلاطون مسألة تقسيم العمل، وهذا ليس كل شيء، وإنما أن يكون هذا التقسيم على مبدأ التخصص “لأن الحاجات إذا ما أشبعت بطريقة التبادل، فإن كل فرد لا أن يتوافر لديه فائض من الحاجات التي يؤديها. وأن يتحقق لديه نقص كذلك في الحاجات التي يأخذها” [24]. ويأتي أساس تقسيم العمل على حسب ما يتقنه كل فرد لأن البشر مختلفون في المواهب أما المهارة فتكتسب عن طريق تأدية الأفراد لعمل يتناسب مع استعداداتهم الطبيعية. “يجب أن نخلص من ذلك أن جميع الأشياء يزداد إنتاجها وفرة ويسرا وجودة إذا ما تولى الفرد أداء الشيء الذي جعلته الطبيعة صالحا له، وكان هذا الأداء في الوقت المناسب ودون مزاولة شيء آخر من الأعمال”[25].

من خلال تحليل أفلاطون للطبيعة البشرية استخلص جل المبادئ التي تقوم عليها الدولة. ويقسم أفلاطون طبقات المجتمع إلى ثلاث طبقات بحيث تؤدي ثلاث وظائف لا بد منها للحياة. يجب أولا إشباع الحاجات الطبيعية، والذود عن الدولة، وأخيرا الحكم. وأفلاطون “سيستنتج ظهور ثلاث طبقات تشمل العمال الذين ينتجون، والحراس الذين ينقسمون بدورهم انقساما غير حاسم إلى جنود وحكام، أو إن كان الحاكم فردا فهو الملك الفيلسوف”[26] .تقسيم الطبقات يستند إلى الاستعدادات الطبيعية للأفراد بالتالي نجد ثلاثة أصناف من الناس. أولا، فئة لها استعداد طبيعي للعمل اليدوي والكد. ثانيا، فئة تصلح للحكم، لكن لا تترك من دون توجيه ورقابة. ثالثا، وهي فئة أعدتها الطبيعة لأسمى أعباء الحكم، مثل تحديد الأهداف.

 

 بيبلوغرافية البحث:

• أفلاطون، الجمهورية، ترجمة شوقي داود تمراز، بيروت، الأهلية للنشر والتوزيع، 1994.

• أفلاطون، محاورة البوليتيكوس، (المحاورات الكاملة لأفلاطون، المجلد الثالث)، ترجمة شوقي داود تمراز، بيروت، الأهلية للنشر والتوزيع، 1994.

• هيلد، ديفيد،( نماذج الديمقراطية (I، ترجمة فاضل جتكر، بغداد، معهد الدراسات الاستراتيجية، الطبعة الأولى 2006.

• ساباين، جورج، تطور الفكر السياسي الكتاب الأول، ترجمة حسن جلال العروسي، مصر، دار المعارف، 1954.

• أفلاطون، جمهورية أفلاطون، ترجمة حنا خباز، القاهرة، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، الطبعة الأولى 2017.

الهوامش:

[1] جورج ساباين، تطور الفكر السياسي الكتاب الأول، ترجمة حسن جلال العروسي، (مصر، دار المعار، 1954)، 86.

[2] هيلد، ديفيد،( نماذج الديمقراطية (I، ترجمة فاضل جتكر، (بغداد، معهد الدراسات الاستراتيجية، الطبعة الأولى 2006)، 28.

[3] نفس المصدر، 29.

[4] نفس المصدر، 29.

[5] نفس المصدر، 29.

[6] نفس المصدر، 30.

[7] نفس المصدر، 30.

[8] نفس المصدر، 31.

[9] نفس المصدر، 33.

[10] نفس المصدر، 34.

[11] أفلاطون، الجمهورية، ترجمة شوقي داود تمراز، (بيروت، الأهلية للنشر والتوزيع، 1994)، 48.

[12] نفس المصدر، 49.

[13] نفس المصدر، 59.

[14] نفس المصدر، 84.

[15] أفلاطون، جمهورية أفلاطون، ترجمة حنا خباز، (القاهرة، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، الطبعة الأولى 2017)، 49.

[16] نفس المصدر، 50.

[17] نفس المصدر، 69.

[18] نفس المصدر، 69.

[19] أفلاطون، محاورة البوليتيكوس، (المحاورات الكاملة لأفلاطون، المجلد الثالث)، ترجمة شوقي داود تمراز، (بيروت، الأهلية للنشر والتوزيع، 1994)، 100.

[20] نفس المصدر، 105.

[21] نفس المصدر، 194.

[22] جورج ساباين، تطور الفكر السياسي الكتاب الأول، ترجمة حسن جلال العروسي، (مصر، دار المعار، 1954)، 95.

[23] نفس المصدر، 96.

[24] نفس المصدر، 96.

[25] نفس المصدر، 97.

[26] نفس المصدر، 99.

 

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.