جدل الشاي والقهوة

الفلسفة تجلس على الكافي شوب!
الخميس 2021/07/01
لوحة: سعد يكن

المشروبات الساخنة تلعب دوراً مهماً في حياة الإنسان، خاصة في فصل الشتاء ولياليه الباردة. كما لا يمكن لأحد أن ينكر الفائدة الصحية للمشروبات الساخنة مثل الينسون والحلبة والشاي الأخضر. لكن تظل للشاي والقهوة مكانة خاصة في قلوب الناس، لأنهما المشروبان الأكثر طلباً على مدار اليوم الواحد، وإن ارتبط الشاي بالأكل، والأعمال اليدوية، وارتبطت القهوة بالتدخين والأعمال الذهنية.

ولأن الماء هو العنصر المشترك بين الشاي والقهوة، فينبغي أن نتساءل عن مدى أهمية الماء الساخن. وفى هذا السياق، نجد للماء الساخن أهمية كبيرة في الثقافة الصينية. فنادراً ما تجد الماء البارد في المطاعم، كما أنه من الصعب أن تعثر على مواطن صيني لا يحمل ترمسا في يديه. وقد أصبح شرب الماء الساخن تفضيلاً واسع النطاق بين الصينيين على اختلاف انتماءاتهم الحزبية، فقد روّج القوميون لها في كتابهم الإرشادي عام 1934 “أساسيات حركة الحياة الجديدة”، وأطلقت الحكومة الشيوعية حملتها عام 1952 للصحة الوطنية، من خلال ملصقات معلقة في المدارس تعلن أن “الأطفال يجب أن يزرعوا عادة شرب الماء المغلي ثلاث مرات في اليوم”.

غير أن المسألة الأكثر أهمية هي أن وراء عادة شرب الماء الساخن لدى الصينيين، فلسفة كبرى تنتمى للطب الصيني التقليدي. ووفقاً لهذه الفلسفة يتكون جسم الإنسان من عناصر “يين” وعناصر “يانج”، ويبقى الشخص سليماً طالما هناك توازن بين اليين واليانج. فإذا أصبح اليانج قوياً ارتفعت درجة الحرارة الداخلية، ويصبح هذا الشخص عرضة للأمراض، ولكى يتحقق التوازن ويستعيد صحته، فعليه بتناول الأطعمة والمشروبات من عناصر اليين، وعلى رأسها الماء الساخن.

وإذا انتقلنا إلى الشاي، على مستوى التنظير، فربما كان كتاب الإنجليزى توني جيبيلي “فلسفة الشاي” هو الأكثر ذيوعاً، لكنه في الحقيقة لم يكن كتاباً في الفلسفة بقدر ما كان كتاباً في تاريخ الشاي، وأنواعه وطرق تحضيره. يتضح ذلك من الفقرة التعريفية بالكتاب التي تشير إلى أنه مقدمة مضيئة لتاريخ الشاي وثقافته، من أصولها في الشرق الأقصى إلى نكهات الأصناف المختلفة وخصائصها، وطقوس تحضير الشاي وشربه حول العالم. فهذا المشروب الساخن البسيط مليء بإيحاءات فنية ودينية. وقد أعطى Ch’a Ching الصيني إرشادات دقيقة للغاية لإعداد الشاي واحتسائه، وحوّل حفل الشاي الياباني إلى شكل فني.

ويرتبط الشاي بالتفكير في اليابان، فتقرأ على موقع kintea فقرة معبّرة من قبيل “إن شرب الشاي هو التفكير والتفكير أن تكون ساكنًا وأن تستمتع باللحظة. الشاي هو جوهر اليابان، وهو أكثر من مجرد مشروب”.

وبنفس المعنى، يمكنك أن تقرأ على إحدى اللوحات الصينية فقرة من قبيل “إذا شربت كوبًا واحدًا من الشاي الصيني، فسوف تشعر بالراحة والاسترخاء. بعد أن تشرب الكوب الثاني، ستشعر بالسعادة وسيشعر عقلك وكأنه يطير. وعندما تشرب كوبك الثالث، ستختفي كل مشاكلك وهمومك”.

وإذا عقدنا مقارنة بين الماء والشاي في مجتمعاتنا العربية، فسنجد أن كوب الماء لا يتمتع بنفس شعبية كوب الشاي رغم اهميته الشديدة التي تفوق أهمية كوب الشاي، لأنه يلبى حاجة بيولوجية أكثر مما يلبى حاجة إنسانية. فلا توجد خبرات إنسانية خاصة ترتبط بشرب الماء، ولا ذكريات يمكن أن نستعيدها مثلما يحدث في حالة شرب الشاي.

فلا أذكر من وقائع شرب الماء سوى خبرتي الإفطار والسحور في شهر رمضان الكريم، وما كتبه مصطفى أمين في مذكراته “سنة أولى سجن” التي كتبها في المعتقل، وما شرحه لنا أستاذ الاقتصاد في كلية الحقوق من أن كوب الماء قد لا يساوى شيئاً بالنسبة إلى الذين يعيشون في المدن، لكنه يساوى ملايين الجنيهات بالنسبة إلى التائه في الصحراء.

وعلى العكس من ذلك، نجد أن لكوب الشاي خبرات فينومينولوجية عديدة يمكن استعادتها ووصفها بدقة. فالشاي عند المصريين هو المشروب المفضل الذي “نحبس” به بعد الأكل، وليس القهوة أو العصير أو المياه الغازية. وهو المشروب الأكثر رواجاً في المقاهي بالرغم من أن “المقهى” أو “الكافيه” يستمد اسمه من القهوة وليس من الشاي. وهو المشروب الذي يعشقه  العمال و”الصنايعية”، ويتناولونه باستمرار أثناء عملهم لأنه يلعب دوراً نفسياً كبيراً في دفع المشقة عنهم ومنحهم القدرة على مواصلة العمل البدني المرهق، فهو وسيلة للراحة وللتسرية. وكوب الشاي هو المشروب الذي تقدمه الأم لأولادها أثناء المذاكرة، ولزوجها المتعب القادم من العمل، ولضيوفها المقربين الذين يزورونها في الأعياد والمناسبات. وهو مادة للضحك في المسرح كما في “المتزوجون” لجورج سيدهم، وهو إيماءة جنسية في السينما كما في “غاوى مشاكل” لعادل إمام. وهو المشروب الاقتصادي الذي يمكنك أن تطلبه في أي مكان وتعزم عليه أي أحد، دون أن تخشى الوقوع في الحرج.

Thumbnail

وبرغم ذلك، يمكن للإنسان أن يحيا دون شاي ولا يمكنه أن يحيا دون ماء. كما أن كوب الماء يمكن أن يتوفر في غياب الشاي، بينما لا يمكن إعداد كوب الشاي في غير وجود الماء! وإذا كان الشاي يرتبط بالطقوس الاجتماعية والمهنية، فإن القهوة ترتبط أكثر بالخبرات الفردية والأعمال الذهنية، لما تحتوى عليه من مادة الكافيين المنبّه. وبالرغم من أن نسبة الكافيين في حبة القهوة لا تجاوز 0.5 في المئة، إلا أنها تسهم في إضفاء نكهة خاصة على المذاق. كما أن رائحة البن المميزة تعزى إليها تلك الجاذبية التي لا تُقاوم من قبل عشاق القهوة. وبهذا المعنى تشترك حاسة الشم مع حاسة التذوق في خبرة الشرب، خلافاً للكثير من المشروبات الساخنة الأخرى. ويرى دافيد بيرمان مؤلف كتاب “فلسفة تذوق القهوة” أن هناك فلسفتين مختلفتين تقفان وراء النكهة المميزة لكلّ من الشاي والقهوة. فنكهة الشاي تأتى كمحصلة لمجموعة من النكهات المختلفة الداخلة في تكوينه، ما يتسق مع الفلسفة الشرقية التي ترى جميع الكائنات مترابطة، في حين أن نكهة القهوة تأتى من عنصر واحد هو الكافيين، الذي يمارس تأثيره على شارب القهوة بمعزل عن النكهات الأخرى، وهو ما يتسق مع الفلسفة الغربية التي تفصل بين الروح والجسد.

وبنفس المعنى، يرى بيرمان أن الشاي لا جوهر له، لأنه يتكون من مجموعة من المركبات، ولا يوجد عنصر واحد ضروري يمكن أن يمثل الشاي. وعلى العكس من ذلك، تعتبر مادة الكافيين هي العنصر الذي لا تصبح القهوة قهوة دونه.

والحقيقة أن هذه التفرقة بين الشاي والقهوة غير دقيقة، فلا شك أن للشاي نكهته وهويته المميزة مثل القهوة تماماً. فالهوية الحقيقية، في المشروبات، لا تأتي من المشروب في ذاته، لكن من الخبرة الإنسانية للشرب، التي تضفي علي التذوق أبعاداً أخرى تجاوز المكونات النباتية للمشروب. ومع ذلك لا ننكر أن في ثقافتنا المحلية الشعبية ما يشبه أفكار بيرمان حول عملية تركيب العناصر في تحضير الشاي، خلافاً للقهوة، فيما يُعرف بـ”الشاي الكشري”، في إشارة إلى تعدد مكوناته.

كما يُلاحظ، على مستوى التذوق، خلافاً لمستوى التكوين، أن درجات تحلية الشاي محدودة، لا تجاوز الثلاث، فهو إما سادة أو “مظبوط” أو زيادة. لكنك في القهوة تجد درجات متعددة وفروقا طفيفة بين كل نوع وآخر، لعل أشهرها، السادة، وعلى الريحة، و”المظبوطة”، والمانو، والزيادة. وهذه الفروق الدقيقة في تحلية البن هي ما يميز القهوة، بالإضافة إلى الكافيين، باعتبارها مشروباً مزاجياً، يرتبط بالتفضيلات ذات الطبيعة الخاصة لكل شارب.

أضف إلى ذلك أنواع القهوة الناتجة عن إضافة الحليب والشكولاتة إلى مسحوق البن، وهي عديدة جداً، و أبرزها الإسبريسو، والكابتشينو، والأمريكانو، والتركي، والفرنساوي. وتكتسب القهوة جاذبيتها، وفقاً لهذه الأنواع، من رائحة البن ورغوة اللبن أو الشكولاتة المضافة. وإذا لم تكن هناك طقوس اجتماعية بارزة لشرب القهوة، إلا أن هناك طقوساً كثيرة تأتى في سياق تحضيرها، وربما كان الشكل التقليدي، الذي ارتبط “بالكنكة” و”السبرتاية”، هو الأكثر جاذبية وحميمية عن الماكينات الحديثة التي تقدم القهوة سريعة التحضير. فكلما كانت الصناعة يدوية أكثر تجلى البعد الإنساني بنحو أكبر.

وإذا رجعنا إلى خبرة الشرب، كفعل إنساني متعدد الأبعاد، فسنجد أن للشاي أبعاداً اجتماعية، وللقهوة أبعاداً ذهنية تأملية، فيمكنك أن تسمع عبارة “حفلة شاي”، لكن لا يمكن أن تسمع العبارة نفسها حول شرب القهوة التي يغلب عليها البعد الفردي في الأداء والتذوق. ولعل ارتباط القهوة بالمزاج، ما يؤكد هذه الفردية. وربما كان تقديم القهوة السادة في سرادقات العزاء، هو الحالة الوحيدة ذات البعد الاجتماعي للقهوة، ولعل في لونها الأسود ومذاقها المر، ما يبرر تقديمها في مناسبات يكللها الحزن.

وترتبط القهوة بالخرافة والميتافيزيقا، لأنها تعد واحدة من وسائل قراءة الطالع ومعرفة الغيب، لا لكونها تنطوي على سر يمكّنها من جلاء صورة المستقبل، وإنما بسبب قوامها السميك، و طبيعتها التي تشبه الرمال، ما يجعلها صالحة للنقش العشوائي المفتوح على كل الاحتمالات. وهو السبب نفسه الذي جعل بعض المصورين يرسمون لوحاتهم بحبيبات البن أو بقايا البن، في نوع من التماهي الفريد بين الفن والواقع.

وغالباً ما تظهر القهوة في اللوحات الفنية، في صورة فنجان بجواره كتاب مفتوح ونظارة، في إشارة إلى الرمزية الثقافية للقهوة، ودورها في الأعمال الذهنية والإبداعية. كما يظهر كوب الشاي خارجاً منه بخار ماء كثيف وبجواره وردة، كناية عن جو الصباح الباكر، الموحى بالأمل، وبداية يوم جديد.

Thumbnail

ويعتز شاربو القهوة بأنفسهم، كونهم من أصحاب هذا المزاج ذي الطبيعة الخاصة، وبهذه المثابة يجعلون من الطقوس الكثيرة المحيطة بصنع القهوة، سبباً لخلق أساطيرهم الخاصة التي تضفي على شخصياتهم شيئاً من الأهمية والغموض المصطنع. يساعد على ذلك معرفتهم بثقافة القهوة المعقدة والمتشعبة، خلافاً للشاي الذي يبدو أكثر بساطة، ويعتبر شاربوه أنفسهم كذلك، ليس من باب التواضع، لكن لعدم معرفتهم بالعالم السحري الغامض للقهوة!

ويعتبر ارتباط القهوة بالتدخين، خاصة في الصباح، واحداً من العادات ذات الدلالة التي يمارسها شاربو القهوة من المدخنين، اعتقاداً منهم أن الجمع بين الكافيين والنيكوتين في بداية اليوم من شأنه أن يؤدى إلى درجة عالية من الإفاقة والتركيز تستمر على مدار اليوم، وهو اعتقاد ثبت خطؤه علمياً. غير أن المسألة لها بعد آخر يرتبط بالوجاهة الاجتماعية، فمشهد المدخن الذي يضع السيجارة بين إصبعيه أو في فمه، وفنجان القهوة أمامه، يوحى بالرزانة والتفكير العميق. والدليل على ذلك أن الكثير من المثقفين يحرص على أن يظهر في الصور على هذه الهيئة.

والحقيقة أن علاقة القهوة بالثقافة والفكر والأدب ليست ببعيدة، فكاتبوا السير الذاتية يذكرون أن فولتير كان يشرب في اليوم الواحد ما بين 40 و50 فنجان قهوة بالشكولاته، وأن إيمانويل كانط ارتبط بالقهوة في أيامه الأخيرة، وكانت مشروبه المفضل الذي لا يمكن أن يستغنى عنه كل مساء، كما أن سورين كيركجارد كانت له طقوس خاصة في تحضير القهوة تعتمد على مزجها بهرم كبير من السكر فيما يشبه لعب الأطفال.

وفى كل الأحوال، قد يكون للقهوة دور في اعتدال المزاج، لكن من المؤكد أن هذا الدور ليس بالأهمية أو الخطورة الكبيرة، بحيث تجعلنا نعزي إليه إبداعات هؤلاء العباقرة.

وفى هذا السياق، لا يفوتنا أن نشير إلى القهوة كمكان يجتمع فيه المثقفون مثل “قهوة ريش” بالقاهرة، وكملتقي للفعاليات الثقافية، مثل “المقهى الثقافي” بمعرض القاهرة الدولي للكتاب، “َمقهي الفلسفة” في الجزائر. والمكتبات التي تحمل اسم “كافي بوك”، وهى تعرض الكتب وتقدم المشروبات. ودلالة هذه الظاهرة تكمن في تلك الصلة الوثيقة بين القهوة والثقافة، حقيقة ورمزاً. فالقهوة كمشروب ترتبط بخبرة الكاتب وإبداعاته، والقهوة كمكان ترتبط بالجمهور والمناقشات الثقافية، لأن المقهى، على الحقيقة، تتميز بالاجتماع والسمر، والدفء الإنساني.

ولعلك تشعر تجاه هذه الظاهرة وكأن القهوة، النخبوية بطبيعتها، تكافح من أجل أن تكون اجتماعية، في محاولة لكسب أرض جديدة في تنافسها الشريف مع الشاي. في حين أن هذا الأخير لا يشغل نفسه كثيراً بعد أن تربع على عرش قلوب البسطاء، وارتضي لنفسه أن يشاركهم همومهم وأفراحهم، وأن يكون واحداً من السلع الأساسية المدعومة في بطاقاتهم التموينية.

وبالرغم من هذه الاختلافات المتعددة بين المشروبين الأكثر شعبية ورواجاً بين الناس، يظل السر الذي يجمعهما كونهما ينتميان إلى المشروبات الساخنة، التي ترتبط في الوعى بتلك الصورة السحرية الجاذبة، حول الأبخرة المتصاعدة من كوب ساخن موضوع في طقس شتوي بارد.. إنها الرغبة العارمة في استعادة شيء من الدفء الإنساني المفتقد، من خلال سماع أغنية أو قراءة كتاب أو الالتفاف حول الأسرة، لاستدعاء ذكريات منسية بينما نرتشف كوباً من الشاي أو فنجاناً من القهوة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.