شاعر متوسطي يكتب بالعربية

لماذا يستفقر الشاعر العربي نفسه من غناها الحضاري؟ (نظرة للتفكر)
الثلاثاء 2020/09/01
ابنة اكينور ملك صور، عروبا (أوروبا) وقد خطفها زيوس بعدما تجلى لها على هيئة ثور

أربعون عاما، وأنا، ابن المتوسط، وسليل حضاراته، خارج المكان، في زمن معلّق، الأرض لا تني تهربُ من تحت قدميّ، فأطأ درجات المخيلة، وأصعد بأيقوناتي التي زوّدني بها الأسلاف، لأعيد كتابة الأرض في جغرافيا الحواس؛ أقنعة الميثولوجيا وأنفاس الزمن القديم، ضوء الطريق. أتصرف كمحاربٍ سالف، منشد أعمى في ملحمة تتهاوى فيها القلاع، وتنهض الأسماء علامات مشتعلة وغاربة في عباب الحرائق.

ها قد تشقّقت الخارطة عن أزرق يتدافع، وهجم البحر على اليابسة، فلم يبق لي، أنا السوري سوى عراء العالم في أربع جهات الأرض، وهذه الصفحة الدامية في الملحمة.

أما وقد وصلت سفني إلى مضيق السايكلوب في بحر الأمم، فلأصعد، إذن، إلى مغارة عينه حارسة الظلام، ولأفقأ تلك العين الوحيدة، ليتدفّق النور في الأرض.

***

قبل فترة من الزمن، قبل “أقنعة كوفيد”، وقبل تحول البشر إلى شظايا في وجود يتشظى ويملأ العالم بالأشلاء. عند حافة ما جرى في المابعد الذي نحن فيه، وعلى إثر أمسية شعرية استثنائية في حميميتها ونوعية حضورها، وكرم منظّميها أقيمت لي في تطوان، دار حوار مع عشاق الشعر في مدينة الحمامة وتطرق إلى اللغة والمكان وهوية الشاعر، لاسيما في وضعية الشاعر المنفيّ المعلق بين عالمين، عالم لغته الأولى في صقع، وعالم الأرض التي لجأ إليها في صقع آخر، كما عُلق بروميثيوس عند شق الأخدود عقاباً له على سرقة النار من الآلهة، وعلق المسيح السوري على صليب عقاباً له على مناوأته لصيارفة روما وسدنة العبودية، ليكون فداء لفكرة المحبة بوصفها الحرية.

وانطلاقا من كوني ضيفاً على مدينة الحمامة، المطلة على المتوسط، ينتمي إلى جهة من المتوسط هي الأبعد عن سوريا، أمّ جميع المعذبين في المتوسط، كان لا بد لخيالي المتوسطي أن يتجلى في الكلام على ما يجمعنا إلى جانب انتمائنا إلى اللغة العربية، حقائق الجغرافيا، من أرض وبحر وسماء زرقاء زرقة الأبد، ووقائع المغامرة الإنسانية، وفي ركابها رحلات لتجار وفلاسفة ومغامرين، وتواصل بين طرفين أقصيين من بحيرة المتوسط أقواماً ولغات وتجارب وكيانات. في هذا السياق قلت “أنا شاعر متوسطي يكتب بالعربية”.

السايكلوب ذو أعين الواحدة يهاجم أوديسيوس ورفاقه
السايكلوب ذو أعين الواحدة يهاجم أوديسيوس ورفاقه

أثارت تلك الجملة بعضاً من الشعراء العرب المقيمين في المنافي وبينهم من هو مقيم إقامة الغريب في وطنه. وجلّهم أصدقاء وأعزاء. الجملة استُلّت من سياقها لتكون بلا سياق، ولتكون، من ثم، علم إدانة لي، ربّما بدت، لمن بدت لهم، مناسبة لتلبيس الشاعر تهمة التنصل من الانتماء إلى العروبة، وذلك كان، على الأرجح، لأن أول من استفزه المعنى في تلك الجملة لم يكترث كثيراً أو يتأمل أكثر، لا في السياق الذي وردت فيه، ولا في الدلالة، أو المعنى العميق للكلمة.

جئت إليكم من شمال شرق المتوسط الذي ننتمي إليه جميعنا، ومعنا أمم عظيمة تبادلنا معها وتبادلت في ما بينها، عبر عصور وعصور، ضربات السيوف والمصافحات والعناق والقبل والأزهار، وتبادلت الكتان والحرير والشمع وجرار الخمر والعسل وزيت الزيتون. الشيء المبهج في المسألة هو ذلك اليقين في أن أمم المتوسط هي في الطليعة بين خالقي الأساطير والفلسفات والسرديات الكبرى التي أخرجتها البشرية القديمة إلى النور. على أنني أصل، اليوم، إلى هذه الجهة من وطني المتوسطي الكبير بقارب محطم للاجئين غرقوا في لجج هذا البحر وهم يفرّون من الموت في بلاد تحترق، إنما أصل إلى نفسي وقد تلامحت لي في مرآة كبيرة تركها الأمازيغ عند أعمدة هرقل التي مر بها الملك الفينيقي حنون القرطاجي، لتكون العلامة على لقاء قارتين. هناك حيث تترى الحكايات بين أهل الشمال الأفريقي عن مغامرات الاسلاف الأمازيغ.

أن يكون الشاعر متوسّطيا، فهو يمكن أن يكون يونانياً وإيطالياً وإسبانيا ومالطياً وعربياً وأمازيغياً. لم أسمع جملة استنكار من شاعر يوناني لشاعر يوناني آخر أو من شاعر إيطالي لشاعر إيطالي تَفَكَّرَ في جمال انتمائه إلى المتوسط، فنحن، بداهة، أبناء هذا الفضاء العبقري. وتلك هويتنا الثرية ثراء لا مثيل له يمنحها امتيازاً بين الأمم. فهل ينتقص من يونانية اليوناني أن يكون متوسطياً أو من إسبانية الأندلسي، أو عربية العربي أن يكون ابن المتوسط؟

***

لطالما اعتبرت نفسي شاعراً متوسطياً يكتب بالعربية. ليس فقط انطلاقا من وعي بهذا الانتماء يستند، بعد حقائق الجغرافيا، إلى الكتب والقراءات الأدبية والتاريخية وغيرها المتصلة بالمتوسط والأقوام الموجودة على ضفافه، والثقافات التي تفاعلت في ما بينها لمئات القرون، وتوجت بالعصرين الهيليني والهيلينيستي، ولكن أيضاً انطلاقا من معرفة انبنت على تجربة السفر والتواصل.

منذ مطلع الثمانينيات طرقت قدماي أرض اليونان، وجزرها بالشغف ربّما نفسه الذي طرقته قدما الأمير قدموس الذي حمل الأبجدية السورية إلى تلك الأرض. أقتطف هنا بتصرف ما أشار إليه الناقد خلدون الشمعة في مقدمته البارعة للمختارات التي أنجزها لشعري مؤخرا تحت عنوان “رسائل أوديسيوس” من أن هوميروس في الأوديسة “يروي عن المهاجرين السوريين الأوائل إلى اليونان (رائدهم قدموس وإخوته) ويصفهم بأنهم عمال عموميون” ويقصد بهم الحرفيين المهرة (craftsmen) الذين يصفهم والتر بركرت (Burkert) أستاذ الحضارة في جامعة زيورخ، بحَمَلَةِ ثورة التشريق (Orientalization Revolution) هذه الثورة، يقول، دشَّنت دوراً مركزياً في صناعة الثقافة اليونانية في عصرها الهيلينيستي. هوميروس يكشف لنا أن صناع الحضارة في تلك الفترة يجمعون بين “العراف” والطبيب مضمد الجراح، وبين النجار، والمغني الإلهي. ويقصد به هوميروس “الشاعر الرائي”، قطب علاقة الاتصال، المدّ والجزر، التأثر والتأثير للحضارات الشرقية في إطار العلاقة الهيلينيستية. وهذا يعني “بداية التدوين الإغريقي بحلول الكتابة محل التقاليد الشفوية”. بركرت يقدم خلاصة ترى أن “الجسر الذي يمثل الصلة المباشرة بين اليونان والشرق يتمثل في الحضارة الأدبية لسوريا القديمة”. هذا ليس المستند الوحيد الذي يجعلني أعتبر الثقافة الهيلينية قديمها خصوصا، جزءاً أساسيا من التكوين الثقافي لأسلافي من الوثنيين والمسيحيين وكذلك المسلمين، والأخيرين اعتبروا أرسطو “المعلم الأكبر”، فليس ثمة ما يدعوني للتنازل لليونانيين مثلا عن الأديب السوري لوقيانوس السميساطي المولود في سميساط على الفرات الأعلى لمجرد أنه كتب باليونانية، هل يقبل الجزائري والشمال أفريقي اليوم أن يتنازل للفرنسيين عن محمد ديب ومالك حداد وكاتب ياسين وكوكبة عظيمة من الكتاب الشمال أفريقيين الذين كتبوا بالفرنسية؟ وما دمت لا أستطيع أن أتخلى أو أن أفتكّ نفسي من تلك الحقبة من التاريخ التي أسهم أسلافي في جعلها حقائق تاريخية وأدبية وعمرانية وأسهمت لثلاثة قرون وربما أكثر في تشكيل المزاج السوري والمزاج المتوسطي معا، بما قدّمته في حقول الأدب والفكر النقدي والفلسفة والحقوق والجغرافيا والتاريخ والعلوم الأخرى المختلفة، كالعمارة وصولا إلى المرحلة الرومانية التي تأسست على سابقتها الإغريقية وأخرجت من سوريا في العمارة مثلا عطية الله أبولدوروس الدمشقي الذي بنى لتراجانوس عددا كبيرا من روائع العمارة، أحدها الكوليسيوم الذي يرمز به إلى روما اليوم.

الأمير السوري قدموس حامل الكتابة وفنون العمارة إلى اليونان
الأمير السوري قدموس حامل الكتابة وفنون العمارة إلى اليونان

ما دمت لا أستطيع أن أتنكّر لكل هذا الذي يؤسّس لكياني الثقافي فكيف لي أن أستفقر نفسي إذ أعتبرها وليدة ساعات محددة من ساعات التحول التاريخي من دين على دين قهراً أو قناعة في سياق تحوّلات تاريخية كانت بالضرورة ثمرة لحروب الإخضاع بين إمبراطوريات هرمة وأخرى وليدة؟ هناك شيء في التاريخ اسمه الثقافات الغالبة والثقافات المغلوبة. وهذا ينطبق على تحول السوريين من آراميين إلى عرب. ولا ضير في هذا فهي سيرورة التاريخ، وبأس البشر في قدرتهم على التكيف لحفظ النوع والحفاظ على الوجود. لكنّ دورات دم الشعوب والأقنية السرية في الجسد الجماعي للبشر يحتفظ بتلك الجينات التي اكتسبها في رحلة وجوده. في طبقات اللاوعي الجمعي وفي الجينات التاريخية. لا أعرف إن كان مثل هذا الكلام يمكن أن يقرّه العلم أو يصادق عليه. لكنني أشعر أنه مقيم في اللاوعي الجمعي كما الواقعية في إقامتها الأكيدة في السجل التاريخي.

ما أبأس أن يستفقر العربي ذاته الحضاريّة من غناها الحضاري المقيم في طبقات وجودها التاريخي.

***

إن اعتبار السوريين وأهل بلاد الشام عموماً، وكذلك العراقيين، أن انتماءهم إلى الحضارة والثقافة (وهو ما شكّل هويتهم) إنما يتحدد مع لغتهم وحسب أو عرقهم المفترض إنما يتنافى تماما مع حقيقة أن هذه الشعوب المقيمة في ميتزوبوتاميا إنما هي خلاصة تفاعل أعراق لا عرق واحد، فالسوري مثلا هو سوري وكذلك هو عربي، وهو متوسطي جغرافياً، وفي طبقات وجوده الثقافي عبر القرون طبقة اسمها الهيلينيستية لم تكن حقبة عابرة وثمارها لا تزال قائمة إلى اليوم. ولا يمكن التغاضي عنها، فضلا عن التنازل عنها ممّن يعتبرها (كما هو الحال بالنسبة إليّ) ملكا شخصياً، وجماعيا للسوريين.

***

علاقتي بالثقافة الإغريقية مرتبطة أيضاً برحلاتي في الجغرافيا اليونانية وجزء من الجغرافيا التركية، حيث تقوم أطلال طروادة. ولطالما كانت هذه الرحلات مشفوعة بشغف لا حدود له لتجديد العبور على هذا الجسر القديم قِدم التاريخ، وقِدم الأسطورة. كنت زائراً، ولم أكن مهاجراً، أحجّ إلى الأرض التي غزت مخيلتي الطفولية بصور الآلهة القديمة والأبطال الأسطوريين الذين تمرّدوا على الآلهة، والملوك التراجيديين الذين حاولوا معاكسة أقدارهم، والفلاسفة الشجعان بأمثولاتهم الكبرى. فهذا يسرق النار ليهديها إلى البشر (بروميثيوس)، وذاك يبتكر أجنحة لينال الحرية (إيكاروس) وثالث يعاكس القدر ليصنع التراجيديا (أوديبوس)، ورابع يرفع الصخرة معاندا ومكافحا عبث الوجود (سيزيف)، وخامس يتغلب شوقه لرؤية وجه حبيبته على أوامر الآلهة فيتلفّت ليراها، فيفقدها إلى الأبد (أورفيوس). وفي شخوص المدينة والحضارة هناك من يتجرّع السم لتنتصر الفلسفة (سقراط). وغير هؤلاء مئات الصور والأقنعة والأمثولات الملهمة.

***

في تينوس وماكونيس وكريت وجزر أخرى هبطت في موانئها خلال عقود ثلاثة سوف أزور أطلال المعابد القديمة باحثاً عن أثر حجري يدلني على نفسي، ولأمسك بالخيط الرهيف الذي يُتوئم الحضارتين السورية واليونانية في فضاء هيلينيستي، فأهتدي إلى معابد بوصيدون الإله السوري (حامي صيدا) وإلى كأس باخوس إله الخمرة السوري.

في أولى زياراتي إلى قبرص بوصفها جزيرة من جزر إلاّدا، كان أثمن ما عدت به إلى بيروت، حيث كنت أقيم، نسخة قديمة باللغة اليونانية من أوديسة هوميروس. وكنت قد حللت في بيروت ضيفا على لاجئين فلسطينيين، فكانت خيمتي الأولى بعد بيتي في دمشق، خيمة فلسطينية، لأضيف إلى عذابات الهارب من الاستبداد السياسي في بلادي، خبرة العذاب الفلسطيني. مجرد وجود هذا الكتاب الملحمي (الأوديسة) في مكتبتي في بيروت كان يمنحني سعادة خاصة مفعمة بالشغف.

رسم يمثل العمال السورين يقومون باعمال بناء المدن والمستوطنات في اليونان تحت إشراف قدموس
رسم يمثل العمال السوريين يقومون بأعمال بناء المدن والمستوطنات في اليونان تحت إشراف قدموس

وبينما كنت أحمل معي هذا الكتاب الجليل، استعدت خلال رحلة نصف الساعة من مطار لارنكا إلى مطار بيروت ذكرى اللقاء الأول لي مع أقدم ترجمة عربية لأشعار هوميروس، ممثلة في الإلياذة وقد حملها لي صديق راجع إلى دمشق من رحلة إلى بيروت. قلبت الكتاب بقلب خافق، كانت الإلياذة في ألف صفحة وقد أنجز ترجمتها عن اليونانية مباشرة مستعينا بالفرنسية والإيطالية والإنكليزية، وصبّها في قالب شعري كلاسيكي عربي في نهايات القرن التاسع عشر، سليمان البستاني، وهو شاعر ومترجم من جبل لبنان (كان تابعاً لإيالة سوريا في الحقبة العثمانية). كان العمل مذهلا وقد حفظت أبياتاً كثيرة من تلك الملحمة، ولم أكن تجاوزت السادسة عشرة من العمر. ومازلت إلى اليوم أتغنّى بمطلعها الذي يخاطب ربة الشعر، ويسألها عن أخيليوس:

“ربة الشعر عن آخيل بن فيلا

حدثينا واروي احتداماً وبيلا.”

تلك الترجمة الرائعة المزوّدة بمقدمة عظيمة وشروحات كثيرة فاق عدد صفحاتها الـ150 صفحة، كانت بوابتي العالية إلى ملحمة الإغريق ومن ثم إلى مجمل أدبهم القديم.

***

فيما بعد سوف يقيّض لي أن أقيم في الشطر اليوناني من جزيرة قبرص، وسوف يولد لي ابن في تلك الجزيرة، ويصبح لديّ جيران وأصدقاء، أحدهم سيحمل اسم أوديسيوس وكان سائق تاكسي. لن تزيد إقامتي القبرصية عن سنتين، لكنها ستترك أثرا لا يمكن العبور عنه في حواسي وأفكاري وصولا إلى أشعاري التي كتبتها في نيقوسيا ولارنكا وليمسوس، وكذلك في بافوس حيث ولدت من زبد أمواج بحرها جميلة الجميلات أفروديت. هناك غطّستُ قدميّ في ماء حمّامها، وجلست بين سياح شغوفين بفكرة الحب.

***

الطريف في الأمر أنني عندما حللت في شمال لندن للإقامة هناك كانت أولى العائلات التي سكنت عندها هي أسرة يونانية مهاجرة، فكان قدري المتوسطي يلاحقني في أرض الله إلى ما وراء بحر الظلمات، ويحملني على الدوام إلى أساطيري الأثيرة.

قدموس يصارع التنين
قدموس يصارع التنين

هناك في شمال لندن سوف أكتب قصيدتي “رسائل أوديسيوس” وقد توطّن لدي شعور بأنني الشخص نفسه الذي سأله ملك جزيرة كورفو: من أنت؟ فكان جوابه “أنا لا أحد”. كنت أنا أيضاً لا أحد في لندن، حتى أن أوديسيوس قصيدتي سوف لن يصل إلى دمشق أبداً. سيرسل الرسائل إلى نفسه الأولى في مملكته البعيدة.. لكنه سيموت في الباخرة ولن يرى إيثاكا مرة أخرى، فهو المنفيّ الأبدي جغرافياً ووجودياً، والذي لن يقيّض له أن يعود إلى مسقط الرأس.

وعلى الرغم من أن هذه القصيدة كتبت أواخر الثمانينات فهي تترجم قدر السوري الهائم اليوم على وجهه في بحار العالم، أما وقد جاز المتوسط إلى بحر الظلمات. فهو المتوسطي السوري الفلسطيني بقدر معاصر ربما هو أقسى من قدره اليوناني في ملحمة هوميروس.

***

من البدهي القول إن شعر الشاعر إنّما يعبّر عن نزوع شخصي، هو طريقة في الشعور والتفكير والانتماء والتعبير عن الذات ومكنوناتها العميقة، وعبر انفعالها بعالمها، من خلال لغة الشعر.

ما أراه، وإن يكن من زاوية شخصية، أنّ ثمة لدى شعراء المتوسط مزاجا متوسطيا يمكن أن يشكّل، في ميوله وتطلعاته، دعوة أو اقتراحاً جماليا يمكن أن يشكل فضاء لنوع متجدد من التلاقي والتفاعل العابر للغات.

المتوسط حقيقة جغرافية وثقافية وإنسانية كبرى. وشعراء المتوسط يمكنهم أن يتفاعلوا في ما بينهم بالانفتاح على ميزات وعناصر مشتركة بين الثقافات التي يتحدّرون منها، يمكن أن يتبادلوها في ما بينهم ويبتكروا من خلال هذا التفاعل عبر الترجمة واللقاءات موضوعات وأفكارا ورؤى جديدة (كونية بالضرورة) من دون التخلّي عن المرجعيات والخيارات الأثيرة لكل فرد أو فئة منهم، كما هو الحال بالنسبة إليّ. فالمسألة في شعري لا تتوقف على ولعي بما هو إغريقي، أو هلينيستي، ففي شعري تجليات ومؤثرات تنتمي إلى مصادر عديدة. فيه ما يتحدر من مرجعيات وآثار ميثولوجية وأدبية ميزوبوتامية قديمة، ما هو آرامي قديم، وما هو بابلي، وآشوري وفرعوني. وهناك أيضاً المصادر الدينية في العهدين القديم والجديد، والرموز المسيحية الأوسع، وكذلك الإسلامية، وأعمال المتصوفة، خصوصاً ابن عربي المتصوّف الأكبر وهو الأندلسي المدفون بدمشق، وأعتبره واحدا من أعظم مفكري العصور الوسطى برؤى كونية شاسعة يقول:

رأى البرق شرقياً فحن إلى الشرق

ولو رآه غربيا لحن إلى الغرب

فإن غرامي بالبروق ولمحها

وليس غرامي بالأماكن والترب.

***

كيف لي أن أفسّر ولعي بكل ما هو متوسّطي. لعله صورة أخرى لهذا الولع هو شعوري أنني أسكن قلب العالم القديم، وهو ما يجعلني منتبهاً إلى القيمة الاستثنائية لهويّتي المتشكلة من حقب ثقافية متعاقبة. من هنا أقدّر كثيراً أعمال لوقيانوس الفراتيّ، والذي قرأته مبكرا بفضل أستاذي إلياس سعد غالي وكان أوّل من ترجمه إلى العربية بطلب من اليونسكو، لوقيانوس حملني في “لا حرب في طروادة” على تعقب أثر مغامرته التي خاضها في “مسامرات الأموات” في مغامرة الشاعر والفيلسوف السوري أبي العلاء المعري في “رسالة الغفران”، وتلمّس أثرهما معاً في رائعة الشاعر والفيلسوف اللاتيني دانتي أليغيري “الكوميديا الإلهية”. الأعمال الثلاثة لهؤلاء الثلاثة في رحلاتهم المتعاقبة هي أفضل مثال للتناظر والتقابل وتبادل التأثير في ضفاف المتوسط، سوري متوسطي (يكتب باليونانية)، وسوري متوسطي (يكتب بالعربية)، وإيطالي متوسطي يكتب باللاتينية (الفلورنسية).

لوقيانوس السميساطي
لوقيانوس السميساطي

وبالعودة إلى المساهمة السورية في الثقافية الإغريقية، من الضروري أن أذكر هنا كوكبة من الشعراء السوريين القدامى الذين كتبوا باليونانية، وعلى رأسهم الشاعر العظيم ميليا غروس. من المفيد هنا، على الأقل، أن أذكر أسماءهم، بالعربية واليونانية: ميليا غروس، أنتيباتروس الصيداوي، فيلوديموس فاليريوس بابريوس، بيون الإزميرلي، آرخياس الأنطاكي آراتوس، إيرينا، بوسيدونيوس الآفامي، أوبيان، أو أوبيانوس.

***

حصتي، كسليل سوري، من المدار الهيلينيستي تجعلني أستعيد مغامرة الأمير السوري قدموس الذي ترك في صور وراءه أباه الملك أجنور حزيناً ومضى صحبة أمه وأخوين له هما فينيق وقيليق للبحث عن اختهم الضائعة عروبة (أوروباً) التي اختطفها زيوس بخدعة. لكن تلك الرحلة، واقعةً ودلالةً، كانت أكثر من ذلك بكثير، فقد تحولت المهمة العائلية إلى مغامرة معرفية كبرى، وأمثولة حضارية مذهلة من أمثولات المتوسط. وهكذا كلما وقفت أمام قطعة من رخام التاريخ خلال جولاتي في حوض المتوسط، تحولت تلك القطعة السورية من الألواح الإغريقية إلى مرآة، ورأيت نفسي هناك بملابس قديمة ووجه لوّحته شمس ذلك الزمان.

***

الأسكندر الأكبر
الأسكندر الأكبر

لطالما تساءلت، والآن أيضاً أتساءل، هل إن هذا السلوك من قبل شاعر معاصر، يغامر في استلهام الأساطير، هو ضرب من الهروب إلى الماضي، للعثور على ذات ضيّع الزمن الاستهلاكي الحاضر شغفها بكينونتها العميقة وبما تملك من جوهر إنساني كوني وفرحها بكينونتها وفرحها الوجود؟ بمعنى آخر هل هذا النزوع نحو الأسطورة والملحمة والأقنعة القديمة في الشعر هو ضرب من نزع الاعتراف بالحاضر المؤلم في عدوانه الوحشي على الإنسان، ووجوه طغاته الأشبه بالمسوخ؟ أم هو مغامرة جمالية في البعد الكوني للجغرافيا والإنسان، عبر الأسطورة والتاريخ معاً، وميل إلى الاغتناء بإمكاناتهما متعددة الأوجه والدلالات والمعاني، والانفتاح، بالتالي، على شساعة الكوني في عناصرهما، وانعكاس أخيراً لانفتاح الزمن الشعري على الزمن كله. فالزمان الماضي والزمان الحاضر والزمان الآتي، كما رأى ت. إس إليوت، وكما هو الحال حقاً، هذه الأبعاد الثلاثة للزمن لا يمكن فصلها عن بعضها أبداً، فهي زمن الوجود الكلي، وهذا هو زمن الشعر بالضرورة؟ والشعر، من هذا المنظور، لا يخلق اللغة ليغني بها الوجود وحسب، وإنما، أيضاً، ليعيد إلى الزمن وحدته، وليمكنه (الشعر)، أخيراً، أن يكون عابرا للأزمنة والذائقات.

***

شاعر متوسطي، إنما لا كما يذهب بعض الأيديولوجيين وأصحاب المشاريع الثقافية المتهافتة بطبعاتها الأوروبية ذات الأهداف قصيرة النظر. ولكن انطلاقا من وعي كونيّ يرى، بعيداً عن كل شوفينية جغرافية، أن المتوسط هو سُرَّةُ العالم بالضرورة، وهو مُنْتِج، وأحيانا موئِلُ السرديات الكبرى التي أنتجتها الإنسانية. وتقع الفنون البصرية، والملاحم والأشعار في القلب منها، فضلا عن الفلسفات والديانات والعلوم. بهذا المعنى المتوسطية أفق كوني، وإنني أدعو أصدقائي الشعراء العرب، وشعراء المتوسط، إلى أيّ لغة انتموا، أن يتفكروا بجمال ذلك المزاج الذي فطروا عليه كشعراء، وصنع الملامح الأبرز في ذواتهم المتوسطية، في فلسفاتهم وتطلعاتهم التي تفصح عنها أشعارهم.

غلاف الطبعة الثانية من المختارات الشعرية التي اختار قصائدها وقدم لها الناقد د. خلدون الشمعة. تصدر قريبا
غلاف الطبعة الثانية من المختارات الشعرية التي اختار قصائدها وقدم لها الناقد د. خلدون الشمعة. تصدر قريبا

لندن في 30 آب - أغسطس 2020

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.