عبور النهر مرتين

الخميس 2022/12/01
لوحة: بهرام حاجو

بعيداً عن تصور هرقليدس العجوز، فإن الإنسان يعبر ذات النهر مرتين وثلاثا، تحت طائلة الموت. والموت يصيّر أنوفنا جسوراً ليعبر عليها ما يطيب له من عديد المرات، دون أن يسأله أحد عن هويته أو يفتش حقائبه. نحن نولد رغم أنوفنا ونموت رغم أنوفنا. ورغم ما يكتنف فرضية أن (من يستطيع تجنب الولادة، فهو بالتأكيد يستطيع تجنب الموت) من سذاجة وتبسيط، إلا أنها تبقى فرضية جدل على جدول الفلسفة. أنت تبدأ (تولد) بمكافأة الحياة ويحكمك تصور أنها مكافأة كبيرة، وتداوم على المحافظة عليها وحمايتها، بحكم غريزة البقاء، إلى آخر لحظة تسبق الموت، ولكنك في لحظة الموت تشعر أنك مضحوك عليك، وأن الحياة لا تصلح أن تكون مكافأة، ليس لأنها مليئة بالشرور والعذابات والمرض، بل لأنها لا شكل حقيقيا لها تستقر عليه أولاً وتعرفها من خلاله، وأيضاً لأنها تنتهي نهاية شنيعة، تصفي حياتك وتنفيك إلى مكان ضيق يحيلك إلى طعام لأسخف أنواع الحشرات التافهة ثانياً.

دعوني أجنح إلى لغة الأدب لأقول متخيلاً أن المرء يذهب إلى “دالاس” أو “نيويورك” الأميركيتين، ليعيش حياته أو لينهيها، وأنا لا أعني تحديد هذين المكانين بذاتهما، إنما فقط لأنهما مكانان مشهوران؛ وبالتالي فنحن في هذا المكان (الأرض) لنبدأ الحياة، وبدأناها بالفعل منذ ملايين السنين وبذلنا جهداً عظيماً لتطويرها وتحسين ظروفها وتجميلها، ولكننا لم نوفق، إلى الآن، في عملية تدميرها أو إيقاف عنصر تدميرها، الموت. وربما نحن لم نوفق في إيقاف عجلة الموت الهدامة لذواتنا، ليس بسبب العجز في البحث، إنما لأننا نبحث في “مكان آخر”، المكان الآخر الإشكالي الذي يدير لعبة مقولة “الحياة في مكان آخر” ومقولة أو فكرة “الأشياء تحدث في حياتنا ونحن غائبون”، وهذا طرف وأحد من أوجه الإشكالية التي نعيشها ونعانيها في فهم الحياة وجمع كل أطرافها في قوس نظرنا وتحت يد كل ذات منا، باعتبار أن كل ذات منا ترى أنها جزء من محور الكون وهي مكافئة وموازية لباقي الذوات، أو على الأقل، أن من حقها أن تكون كذلك.

وبتدقيق النظر نجد أن هذه الإشكالية هي محور مشكلتنا مع الموت، فلو ألغي الموت سيبدو الأمر بصورة أخرى، ليس بسبب توفر الوقت الكافي لزيارة الأماكن التي تكون فيها الحياة، أو لتحدث الأشياء ونحن حاضرون، بل بسبب توفر فعل السيطرة والزمن على سد الفراغات في لوحة الحياة، وبالتالي لوحة أفكارنا عن الأمر ككل، كما في حالة الواقف على جبل يطل على قرية صغيره ويتمكن من رؤية جميع أطرافها، دون مضايقات قدرية مفاجئة.

وربما، وبلغة الأدب أيضاً، يمكنني أن ألخص الحالة، حالة وضعنا أمام سلطة الموت وعدم تقديمه التبريرات المقنعة لمواصلة فعله، بحالة من تجبره الظروف على الوقوف في حضرة ملك أو مسؤول كبير في الدولة، ممن لا يمكن أن تشعر بالراحة في حضوره، فتبقى كالمعلق من ياقة معطفه، رغم ملامسة قدميه للأرض، إلا أنه يستمر بتحويل ثقل جسده من قدم إلى أخرى بلا سبب أو هدف حقيقي، تحت ضغط الشعور بعدم الراحة، لأنه في المكان الخطأ في تلك اللحظة، وأنّ لا شيء يستحق أن يكون من أجله في ذلك الوضع أو الموقف غير المريح. فلست هنا (في الحياة) لأبقى أحوّل ثقل جسدي من ساق إلى ساق، بسبب شعور عدم الراحة، بل أنا هنا المالك ومن حقي أن أقف على كلا قدميّ وأنا بمنتهى الارتياح. ولكن الصورة في حقيقتها هي أني عندما أكون في الخارج (خارج تفكيري بذاتي) أكون في حضرة الملك، وعندما أكون داخلها يتربص بي فعل الموت خلف الباب.. أي باب؟ لا أعرف.. ولكن مع ذلك، فالباب موجود، رغم عدم رؤيتي له في أغلب الأحيان، والعدوّ رابض خلفه بالقطع.. لماذا وإلى متى؟

هل هذه هي الإشكالية في أبسط تصور عنها؟ الوجه الأوضح للإشكالية يتمظهر في سلوك وتراتبية التاريخي الذي أقحم، كمعيار قياس صلاحية وتوافقية للواقعية أو تناسبية الأفكار وأرجحيتها، في السلوك العام (الحياة) أو نظامها الأخلاقي (هل عليّ أن أقول الثقافي؟) العام، الذي بني على فكرة قدرية الموت المحتومة والتي لم يعد هناك ما يقال بشأنها، بعد الملايين من السنين الطويلة لتأريخ فعله، والذي مازال سارياً وعاملاً، بنفس حدته وعشوائيته التي بدأ بها. والمشكلة لا أحد يمتلك في رقبته حبل نيكوس كازانتزاكي (حبل الحرية الذي يطرحه في رواية زوربا اليوناني) الأطول في الحياة، أي إننا إلى الآن لم نمتلك أيّ شكل من أشكال المناورة مع الموت، وكلنا نموت بنفس الطريقة التي مات بها آباؤنا وأجدادنا… إلى زمن حياة الكهوف.

ورغم أن الإنسان لم يستسلم، في حقيقة الأمر في داخله، يوماً لشرعية الموت وأحقيته، إلا أنه وقع وما يزال يقع تحت غواية النصوص، وسلطة نرجسية هذه النصوص، وهذه المشكلة هي التي كرّست غواية الاستسلام لفكرة الموت، وثبطت من عزيمة الإنسان في التمرد عليها، كسلطة نصوص. وطبعاً فإن هذه المشكلة هي وليدة سلطة التاريخي، بشكليها المعنوي (النصي) والسلطوي، الذي استمد ويستمد وجاهته من قوة المؤسسة التي تفرض النصوص (الإكليروس)، والسلطة التي تحميها، بصفتها اعتبارا معنويا، السلطة السياسية أو سلطة القانون.

الموت لا سلطة له غير سلطة حدوثه المفاجئة، أي إنه، كفعل وبحد ذاته، لا يملك مبررات فعله وحدوثه. وهو في معادلة حسابات الربح والخسارة، قوة هدر وتبديد لجهد الإنسان الذي بذله في إدامة حياته وإنمائها. يولد الإنسان ويشقى أبواه في إدامة حياته وتربيته، ومن ثم هو يشقى ويتعب من أجل تعليم نفسه وإغنائها، وثم يبدأ بتأسيس مشروعه الحياتي الذي حلم به، وفجأة يأتي الموت ليطوح به وبكل جهد أبويه وجهده ويحوله إلى هباء… وينسى من قبل حتى ذويه. والسؤال هنا، ليس لماذا بقدر ما هو كيف يحدث هذا وتحقيقاً لأيّ هدف أو غاية؟

هل يبني الإنسان، أو مؤسسة ما، صرحاً خدمياً أو مؤسسة أو برج كبير وفخم، ومن ثم يأتي بالجرافات ليهدمه دون سبب موجب وحقيقي وكبير؟ بالقطع لا.. لماذا يفعل الموت هذا بالإنسان إذاً؟ هل غاية وجود الإنسان وقيام حياته الموت؟ هل يشتري أيّ إنسان طباخاً جديداً أو غسالة ملابس أو براداً لحفظ الأطعمة، من أجل أن يأتي بها إلى البيت ليحطمها بمطرقة ويحيلها إلى نثار وخردة حديد لا نفع منها، ومن ثم يتحمل عبء حملها إلى حاوية النفايات؟

على مستوى التفسير، تتحمل ضلالات الفلسفة وغوايتها بفتنة النصوص وتشكيلها لمعمارات هياكلها، الجزء الأعظم من المشكلة، فقد سرحت بعيداً خلف ضلالاتها وتركت شاخص الموت قائماً دون تفسير، حتى تحول إلى مسلّمة، بمباركة وتشجيع سطوة الإكليروس.

الموت عملية نفي لثابت الثبات وتهويمه، وفعله لا يحرّر سوى بقعة المكان التي يشغلها الإنسان من الأرض وهو واقف على قدميه، وليس يحرّر عقل الإنسان أو يطلق قدراته، كما ظن أفلاطون، ليعود ويشغلها وهو نائم على ظهره، بلا أيّ قدرة على الحركة أو التفاعل، فما بالك بالتفكير أو قدرته وفعله، التي يملكهما العقل. إذاً ثابت الثبات هو وجود الإنسان الحي الفاعل القادر على التفكير ومطاردة الحقيقة، وليس رفاة الجثة التي يصنعها الموت، وهي تمثل قمة العجز، في الحركة والفعل والتفاعل والوجود العيني والملموس، وهذا وهذه الرؤية هي الأكثر انسجاماً مع رؤية الفلسفة، في أن الحياة خدعة، والجهد العقلي يجب أن ينصبّ على تفكيك أسبابها ومراميها وردها إلى أصلها، لأن فضحها وحده لا يكفي، لأنها تضع الإنسان في أزمة سخيفة… لا بد من الخروج منها. وطبعاً فإن الموت ليس هو سبيل الخروج الموائم، بل يجب أن يكون هذا الخروج باتجاه الحقيقة أو الحياة الحقيقية، ولكن داخل الوجود القائم، والذي تم خداعنا فيه، لكي نشعر برد الاعتبار لأنفسنا عما خدعنا به.

الحياة شاقة، ولحظات صفائها قليلة وتافهة جداً، قياساً لحجم مراراتها، ولهذا يجب أن يكون الخروج من هذا الشقاء إلى متّسع لا إلى ضيق وبلا ألم، لأن الإنسان صاحب قرار ويتوفر على نزعة التطلع والسموّ بذاته بالفطرة، ولهذا فإنه دائم البحث عن عناصر الامتلاء الذاتي، وأولها الحرية.

الحياة، كما يقول جوزيف كونراد، في روايته “قلب الظلام”: “إنها مسابقة غير مثيرة على الإطلاق، تجري حوادثها في كآبة غير مستحبة، ولا شيء حولها أو في قاعدتها.. تجري في جوّ باهت ومريض من الشك، بلا إيمان في حقك، أو حتى في حق خصمك. كنت أود التصريح في آخر فرصة، ووجدت أنّ لا شيء عندي لأقوله”، والحقيقة، حتى لو كان عندك ما تقوله في آخر لحظة، فمن سيسمعه ويملك القدرة على تغيير الأمر؟ كيف يكون تغيير الأمر؟ بإيقاف كل شيء، إيقاف الموت والجلوس، ليس للسماع، بل لتغيير الأمر كله، دون نقاش، لأن حياة الملايين من السنين العشوائية واللاهادفة كانت هي النقاش المشبع، بحد ذاتها… ولكن المُخرج (المسؤول عن إخراج هذه المسرحية) غائب، بحسب تصور سورين كيرغارد في روايته “مراجعة”، ولا أحد ينوب عنه طبعاً، بل ويقول رجال الإكليروس أن ليس من حقنا نقاشه في الأمر من الأساس، بل وعلينا تقبل قراره في الموت بخضوع وحب، وليس دون نقاش فقط.

لماذا بذلنا كل هذا الجهد في الحياة إذاً؟ لماذا صحونا من النوم في السابعة صباحاً ولبسنا بدلاتنا… أوه وبحثنا عن جوارب نظيفة، في أدراج الخزانة المهملة ولبسناها… ثم لبسنا أحذيتنا… يا للجحيم! إن ربط شريط الحذاء لوحده، في الصباحات الباردة، يحتاج إلى معجزة حقيقية! هل بذلت كل ذلك الجهد مع شريط حذائي لأكافئ بالموت؟ لماذا؟ أيّ ذنب اقترفت لأربط شريط حذائي وأذهب إلى عمل لا أحبه، من أجل أن أحصل على المال الذي يديم حياتي، لأعيش يوماً آخر من أجل أن أعيد ربط شريط حذائي مرة أخرى؟

وكما يتساءل صموئيل بكيت: لماذا أفعل أي شيء؟ يجيب المجموع الاجتماعي، مؤسسات وأفراد، رجال دين، رجال قانون، رجال يصفون أنفسهم بالتعقل والحكمة، أكاديميون، أطباء، مؤسسات حقوق إنسان…و… و…، الكل يجب لكي تعيش وتبني حياة شخصية وتقدم خيراً للبشرية، أبني بيتاً وأشتري سيارة، من عمل ثابت لا أطرد منه، ثم أتزوج وأنجب أطفالاً.. ثم… يأتي الموت ويخطفني إلى جهة لا أعرفها.. بل أعرفها… إلى القبر لأتحول إلى جيفة… مجرد جيفة! لماذا بذلت كل ذلك الجهد إذاً؟ لأتحول إلى جيفة في نهاية الأمر؟ يقول رجال الدين هذه حكمة يعلمها الله، وأقول أن من حقي أن أعلمها أنا أيضاً، ليس تمادياً منّي أو تجبراً، بل لأن هذا حقي الطبيعي! كما هو من حق أيّ من طرفي علاقة زواج، أن يعرف الطرف الثاني، أين يذهب شريكه، بعد عودته من العمل، بعد أن يلبس أجمل ما لديه ويتأنق ويتعطر ويسأله شريكه: إلى أين أنت ذاهب؟ وكلكم يعرف هول الإجابة، فيما لو جاءت: هذا أمر لا يعنيك… أو لشأن خاص يهمني وحدي! على مثل هذه الإجابة، تقام الدنيا ولا تقعد، في علاقة بين شخصين، فكيف إذا ما اقتيد أحدنا إلى موت يبدده ويصادر ذاته ووجوده الكامل ويحيله إلى مجرد جيفة تدفن تحت التراب؟

ماذا كنت أفعل هنا أيضاً؟ أبني قصر الرمال لتأتي الموجة وتطوح به في لحظة؟

****  *****  ******

في قصة قصيرة لهمنغواي “تاريخ طبيعي للميت” يقول: “لا أعرف كيف، ولكن معظم الناس يموتون كالحيوانات لا كالرجال، ويموت الإنسانيون والمثاليون كأي شخص آخر”، وهذا يعني أن مشكلتنا مع الموت وليست مع القيم. فنحن نموت لأننا لا نعرف إيقاف عجلة الموت، وليس لأننا بلا قيم. وهذا يعني أننا أمام وحش لا يهمه غير تنفيذ رغبته في المصادرة والمحق، سواء كانت لنا قيم أو لا، سواء كنا نجد في العمل وبناء الحياة أو لا، وسواء كنا نشيطين أو نربط أشرطة أحذيتنا دون تضجر أو شعور بالتفاهة أو اللاهدفية أو لا.

الإنسانيون والأخلاقيون والمثاليون والمتسكعون واللامبالون يموتون؛ الجميع يموتون، وإلى غير رجعة، كالحيوانات، لا “كالرجال”! الجميع يتحللون في التراب، بصيغة مصادرة عاتية، تحت شاهدة حجرية، لا تذكر غير الاسم وتاريخ الولادة وتاريخ الموت، وهذا لا يخلف في نفوسنا غير شعور الظلم بالمصادرة العمياء، في حقيقة مشاعرنا وتحليلنا العقلي، وأيضاً شعور المرارة لعجزنا عن إيقاف هذه المصادرة الجائرة.

ونحن، كلنا، نعيش حالة انفصام إزاء هذه القضية، التي يختصرها كولن ولسون بالمثال التالي: “جهد الحياة يشبه محاولة ربط حصان جامح إلى عربة تغوص في الوحل”؛ وها نحن تمكنا أخيراً من ربط ذلك الحصان الشرس (بنينا ناطحات سحاب، صنعنا طائرات وقاطرات وسيارات ومصانع وكومبيوترات وأنترنت وأقمار صناعية…و…و…) وأخرجنا العربة من الوحل، أليس المفروض أن نستقلها إذاً ونعيش حياة السلام والأمان والاستقرار الدائم، الذي لا ينغصه منغص ولا ينتهي بضربة الموت الماحقة التي تصادر الذات الإنسانية من كل شيء أنجزته وتعبت من أجله؟ لماذا بذلنا كل ذلك الجهد المضني في ربط الحصان وأخرجنا العربة من الوحل؟ أيعقل من أجل أن يبتلعنا ذات الوحل، نحن بكياناتنا، ويطمرنا إلى غير عودة؟

***** **** *****

الموت يضعنا أمام سؤال التتفيه الممض. يضربنا ويحيلنا إلى مجرد جثث… فهل نحن تافهون إلى حد إحالتنا إلى مجرد جثث تتعفن وتخرج منها روائح تعافها النفس، ويجب أن تقبر في باطن الأرض لتلافي بشاعة منظرها وضررها؟ لماذا نحن تافهون إلى هذا الحد ومن قرر هذا؟ المنجز الإنسان، ومنذ بداية اختراعه للغة، بالتدرج من الأصوات الإشارية البهيمية، واختراعه للكتابة، من خطوات الرسم البدائية على جدران الكهوف، وإلى ما وصل إليه الآن من تطور ثقافي وعلمي وتكنلوجي، تقول لا بالقطع، ولكن مع ذلك فإن الموت بسلطته الغامضة، مازال يمارس تطويحه بنا بكل سخرية ووحشية، لسبب لا نراه، لأنه مناقض لفعل الحياة الذي نولد من أجله، وهو يراه وحده. وهنا الأمر لا يتعلق بجانب غيبي ولا بجانب منطق الضعف والتآكل، في الصحة والقوة، الذي يتعرض له الإنسان بسبب تقدمه في العمر، بل يتعلق بمنطق الفعل والغاية من وجود الإنسان.. فهل نحن لعبة؟ بيد من؟ وإذا لم نكن كذلك، إذاً نحن بصدد والبحث عن حل لهذه الإشكالية وفي حاجة إلى ذلك، والقضية هنا ليست ذاتية، بل هي قضية تتعلق بإيمان الإنسان بذاته المكدة والخلاقة، التي أبدعت الكثير والكثير مما لا يمكن إنكاره، وهو يرى أن الموت بصيغته الحالية لا يليق بذاته، التي تميزت عن ذات الحيوانات تميزاً هائلاً، فلم أستمر بالموت بطريقة الحيوانات المذلة والمهينة؟

يرى هنري ميلر المشكلة، في أحد جوانبها، تقوم في عارض الحرب بين الجماعية والفردية، وبالمعنى الأصح، الحرب التي تقودها الجماعية على الفردية، وهذه مشكلة متأصلة ويزيد ويكرّس تأصّلها دافع الخوف من المجهول، ومجهول ما بعد الموت على وجه التخصيص. فالمجموع يرى الموت ويسلّم بأنه نهاية طبيعية لحياة عارضة، في حين أن الفردية ترى أن الموت هو العارض في حياة لا نملك غيرها، وفيها، ومهما كان سوأها، يجب أن نثبت كل شيء ونتمّمه. وهذا يوضح لنا أن المشكلة، في أهم أبعادها هي ثقافية، وتقوم على خلافية ثقافة الخوف لدى المجموع من الطارئ الجديد، فكيف إذا ما كان هذا الطارئ الجديد يقول للمجموع إنكم، بمجموع الأنظمة والقوانين خائبون، لأن كل ما أنجزتموه وحميتموه بالأنظمة والقوانين، هو نوع من الهروب المؤقت، لأن الموت الذي تفرون منه مازال قائماً ويخطف أرواحكم التي تعتزون بها ولا تملكون غيرها، وكل ما في الأمر هو أنكم في ظل ما أنجزتموه، هو إنكم صرتم تموتون على أسرّة نظيفة في مستشفيات تعبق بروائح المطهرات والأدوية، بدل موت الإنسان البدائي الذي كان يموت في كهف أو تحت شجرة أو على ضفة نهر، أي في عراء الطبيعة الخالد.

والناحية الأصعب هنا تتمثل في كون كل المنجز الحضاري (العلمي والتكنولوجي) لم يقم على رؤية فلسفية محددة الهدف، بل قام على الجانب المائع من رؤية كارل بوبر، وهي الإشكالية الأعم والأخطر التي واجهتها الفلسفة (تبرير سبل الإله نحو الإنسان)، وهو ما كرسه الإكليروس، رجال دين وكتب ومواعظ، وأحاطوه بهالة التقديس، في حين إنه مازال موضع الجدل الأكبر في العقل والوعي الإنساني، لأن الإنسان مازال يراه غير مبرر، بل وعصي على التبرير، لأنه كظاهرة طبيعية، صادفت الإنسان في وجوده، مازالت موضع الجدل، كما أسلفنا، وتقع، بلغة علم الظواهر الطبيعية، تحت طائلة الوصف المنظور – الإيماني (أي الذي يحكمه الإيمان الديني المسبق، في حين أن قاعدة علم الظواهر الطبيعية (الفلسفة الظاهراتية) تقول “لا تقل لي ما هو”، بل عطل إيمانك بما يظهر لك و”قل لي فقط ما ترى”. ووفق هذا الفرض والفهم معا، فإن ما يراه أيّ منا في الموت، بعيداً عن التسويغات الدينية، هو فعل مصادرة جائر وغير مبرر، وكل ما في الأمر هو أن عجزنا عن حل آلية اشتغاله وأهدافها أو فهمها، هو ما أتاح للإكليروس استخدامها، كفاصل زمني بين حياتين، ومن ثمة، من تمريرها إلى قناعات العوام، بتغليفها بهالة من الورائية، التي تحولت بمرور الزمن إلى نوع من القداسة، وخاصة إنها مشبعة برهبة الفقد والغياب الأبدي.

والطريف، ورغم أن إشكالية الموت (برهبته)، تمثل حجر الزاوية في معظم العقائد والتفسيرات الدينية (لأن وصفها بالفلسفات سيكون أكبر وأوسع مما تحتمل)، لم تشغل نفسها بغير أن “تقول ما هو” الموت، في حين أن ما يشغلنا وتهمنا معرفته هو أن تقول لنا التفسيرات “ما تراه: كيف ولماذا يحدث” بشكل تفسيري قاطع، باعتبارها تتكلم أو تنقل وحياً إلهياً.

وفي إطار الظاهراتية المحض، وإذا ما عطل المؤمنون إيمانهم بأحقية فعل الموت القائم، وأردنا أن نقول ما هو الموت فقط، فإننا سنقول إنه عملية وقوع الكينونة الفردية تحت سطوة فعل قهري يصادر الذات من فعل وجودها، دون تقديم مبرر منطقي، وهكذا نقول ما نراه، لأننا لسنا مجموعة من الهيئات اللونية على قماشة لوحة الحياة، بل نحن صورة الوجود ورموزه الفاعلة.

وعلى هذا الأساس فإن الموت يصادر الوجود الأصيل للإنسان، دون غاية ظاهرة وملموسة، ودون القدرة على التعبير عن حالة هذه المصادرة، في لحظة حدوثها، كي يتمكن من التعبير عنها ويصف كيفية وقوعها أو سريانها في كيانه الذاتي المتمظهر في الجسد ومراحلها. وهذا يعني، وهو الأكثر أهمية، أن الموت يسلب الإنسان من ذاته بقصدية واضحة وليس من العالم، أي يصادر الذات من وجودها الكياني الفاعل، وليس من وجودها الرخو في العالم المحيط الذي يحيطها، والذي سرعان ما يتجاوز ذكراها وينساها، ويستمر الوجود الرخو من دونها.

بهرام حاجو
لوحة: بهرام حاجو

 

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.