قارئ الأفكار

الأحد 2021/08/01
لوحة: عمار الشوا

الرجل الذي يقف هناك على الطوار الآخر يرمي بنظراته نحوك يحدق في عينيك في قوة، يحاصرك ويسدد رماح حدقتيه في اتجاه حدقتيك يجبرك على مبادلته التحديق، يغادر عينيك فجأة وبلا سابق إنذار، ملقياً بنظراته إلى العربات المارة، يدقق في حديدها بألوانه المتباينة، متنقلاً بنظراته ما بين الداخل والخارج مدققاً وفاحصا، بعدها يرميها عنه متجهاً إلى البنايات حوله، مبحراً في فضاء الشرفات العالية والنوافذ تارة، وتارة أخرى يعود اليك بنظرات متعبة ملقياً على حدقتيك أنين نظراته، تعاود تركيز الانتباه معه، ترى حركة يديه الدؤوبتين وهو يفركهما بقوة، ساقه اليمنى وهي تهتز بحركات ترددية لا تهدأ، وشفتاه وهما تلوكان حروفاً لا تسمعها من مكانك لبعد المسافة بينكما.

تركز تفكيرك فيه، سريعاً تقرأ أفكاره، تعرف أنه ينتظر صديقاً وعده أن يقرضه مبلغاً من المال يفك به ضائقته، أمه في المستشفى الآن، أعطاهم كل ما معه البارحة ووعدهم بإحضار مبلغ آخر اليوم، صديقه تأخر، كل عربات الكون مرت دون أن تتوقف أحدها أمامه، الأبواب كلها فتحت لكل من سعى اليها دون أن تلتفت له، الأعين جميعها تلاقت، تعارفت وتحادثت الا عيناه لم تتعرف أو تتحدث مع إنسان قط، الوقت يمر والمال لا يجيء وأمه هناك لا تمتلك الا سيلاً من الدعاء ينهمر عليه.

تعرف كل هذا فينتفض في قلبك العزم وتتأجج الشفقة، تقترب منه عابراً الطريق المحشوة بالعربات المارقة، ترفع صراخها معترضة على عبورك العشوائي هذا، لا تأبه لها، تقترب أكثر منه، تقف قبالته، تمد يدك بالنقود اليه في صمت مكتفياً بحوار الحدقات. تتسع عيناه لموجة دهشة كبيرة تهز جنبات روحه، يتردد في بسط يده اليك وإن كان عمق نظراته يشى أنك الكائن الوحيد الذي أحس بما يعانيه، وتجاوز كل ما في الكون من جحود وبخل وأنانية وجاء يمنحه فيضاً من فرح مع المال الذي أعطاه.

– اذهب إلى أمك وكن بجوارها.

يلتهمك بنظراته محاولاً استيعاب اللحظة، تحمد المأزق الذي هو فيه الذي لولاه لفتح لك ديوان أسئلة كامل ليعرف من أنت وكيف عرفت ولماذا تدفع له، وهل هو هبة منك أم دين عليه أن يقضيه وما إلى هذا من أسئلة.

أخيراً تراه يكتفي ببسط يده، وأخذ المبلغ، والبكاء، واحتضانك، وتركك، والاستدارة الى الخلف، كل هذا في وقت واحد، بينما أنت بذات الابتسامة على شفتيك تتابع أفكاره وهو يقول محدثاً نفسه عنك.. حتى لو كان مجنوناً فهو جنون جميل لا يضر!

تستدير عنه مكملاً السير وسط المارة والعربات، تتذكر أنك وببساطة مذهلة قد تنازلت عن كل ما معك من مال وبدأت تواجه نفسك اللوامة وهي تلقى اليك بالتعنيف على ما بدر منك، فأنت في كل مرة تتورط في حالة سخاء مفاجئة تحل بك وبعدها تفيق لنفسك متسائلاً كيف فعلت ولم أتدبر الأمر.

تهز رأسك هامساً أن الأمر هذه المرة كان يستحق، وتيمم وجهك ناحية البحر هرباً من مأزق قد تحتاج فيه إلى المال، ترى البحر سابحاً في هدوؤه الممزوج بحبات الضوء المنثورة على سطحه، مبدياً وقاراً يليق بعجوز عاصر دهوراً من شطحات بنى البشر.

 تقف أمام السور الحجرى بعيداً عن الرمال ولمسات الماء المشاغبة وهمساته المجنونة التى لا تعرف انتهاء.

 على صدر الرمل ترى شبح امرأة شابة تقف على ما يبدو حافية القدمين، تعطى ظهرها للطريق، مكتفية بالغوص بنظراتها في عمق المدى ونقطة الأفق البعيدة حيث تلتقى السماء بالبحر في عناق أبدى للناظرين.

 يلتقط رأسك إشارات خواطرها وأفكارها ودموعها التي تخشى أن تستدير وتطلع عليها المارة، كأنما تأتمن الموج والماء والأفق على سرها وتخشى أعين المتربصين، تسمع خواطرها المغسولة بماء الدموع والمنداه برذاذ الموج وهي تعاتب الزوج الذي ركب البحر ولم يعد، تسأل النسائم القادمة عنه، وهل لامست وجنتيه، وتقسم على الموج المتدفق أن يأتيها بخبر عنه.

من أفكارها تحدس أنها شابة ماتزال، تتمنى لها الراحة بعد العذاب.

 وتمضى إلى طريق الترام قاصداً التوجه الى معهد الأفكار الذي تدرس به.

ترصد عيناك عجوزاً شاب الدهر على تغضنات وجهها وهي تتخذ من أحد الأرائك الرخامية الطويلة في أحد المحطات مرقداً، تتغطى بغطاء ممزق الحواف يكاد لونه يصبح أثراً وهي تنظر إلى لا شىء، تتجمد روحك في صدرك ويرتعد عقلك وأنت تتابع خواطرها عن ولدها الذي تركها هنا في المحطة ومضى عنها، العجوز تسأل الصمت الراكد والعتمة المقبضة هل هو بخير، تقسم أن هناك ضرراً ما أصابه وإلا ما تأخر عنها، تحادث السكون والليل حولها متسائلة كيف تبحث عنه وأين، وحيدها المتزوج حديثاً والذي رافقها إلى هنا أين أخذه الليل وكيف طواه المجهول ولماذا لم يعد إلى الأن؟

المرأة العجوز يرتجف جسدها النحيل وهي تحدق في لا شيء، تقترب منها باكياً رغما عنك، تسألها متناسيا ً حالتك المالية الحالية:

– تريدين نقوداً؟

تحدق في وجهك طويلاً، تقول في هدوء شارد:

 – لا

تعاود سؤالها:

– تريدين طعاماً؟

 تغمض عينيها:

 – لا

 – هل أنت عطشى؟

 تغطي وجهها بما تبقى من الغطاء:

– لا

قاصدة ألا ترهقها بالسؤال من جديد، وخواطرها تشكو منك ومن أسئلتك التى تشغلها عن انتظار ولدها الذي لا بد سيجيء.

تواجه عيناك الليل والظلمة شاعراً بوحشة تجتاح صدرك وتتغلغل في أعماق روحك، تتجه الى معهد الأفكار وقد قررت أمراً، هذا المعهد فتح أبوابه لتعليم المقدرة على التخاطب وقراءة الأفكار عن بعد، ونشر هذه الموهبة لتخدم المجتمع، خاصة في الجرائم الغامضة واكتشاف الجناة وعقابهم، وكذلك المشاكل الاجتماعية المختلفة، وتقريب وجهات النظر التي ربما يخجل البعض من إعلانها، وتحدث بسبب هذا كثير من المشاكل وأمور اخرى كثيرة.

تتجه مباشرة الى مدير المعهد هامساً لنفسك أن الجنون بعينه أن تكمل التعلم والتدريب، مؤكدا أن الجهل في بعض الأحيان تكون له فوائده التي لا يشعر بها الا الجهلاء، مقدماً في ذات الوقت استقالتك من استكمال الدرس، لكنه يواجهك ببسمة واثقة بعد أن قرأ أفكارك، يتحدث اليك عن شروق العلماء في ظلمة هذا الكون!

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.