مقامات الحرف العربي

التكوين الشعري والموسيقى والمعماري للحرف العربي
الجمعة 2022/04/01
لوحة: خالد الساعي

يقول أبوحيان التوحيدي في رسالته “إن للخط الجميل وشياً وتلويناً كالتصوير وله التماع كحركة الراقصين وله حلاوة كحلاوة الكتل المعمارية” ويقول أبوسليمان المنطقي في رسالة التوحيدي “لكأنما اشتق هذا الوصف من الموسيقار لأنه يزن الحركات المختلفة في الموسيقى فتارةً يخلط الثقيلة بالخفيفة وتارةً يجرد الخفيفة من الثقيلة وتارةً يرفع إحداها على صاحبتها بزيادة نقرة أو نقصان نقرة ويمرُ في أثناء الصناعة بألطف ما يجد من الحس في الحس ولطيف الحس متصلٌ بالنفس اللطيفة كما أن كثيف النفس متصلٌ بلطيف الحس”. لذا يعد الحرف العربي أشبه بعجينة ضوئية تتقمص كل المتاح من المناخات والأجواء التي تجوبها وتكون صدى لأي محيط تتموضع فيه، وخير مثال على ذلك  الخط الكوفي الذي يعد أقدم أنواع الخط العربي ومن أكثرها تنوعاً وتلوناً فهذا النوع الذي ولد في الكوفة وتنوع وتبرعم نجده على غير شكل في مصر (الدولة الفاطمية وما بعد) ويختلف عن أنواعه الأخرى في المغرب العربي والأندلس  كالفاسي والغرناطي والقرطبي، علاوة على تنوع أدائه الوظيفي فيكون على الورق ليس كالذي على الأدوات الخدمية من مفاتيح وملابس وسيوف وأوان عنه في الأفاريز والقناطر والساحات حتى لنكاد نشير الى كل فترة زمنية في منطقة معينة ما من العالم الإسلامي من ذلك النوع من الخط.

لكن هذه العجينة الضوئية (الحرف) أخذت شرارة تكوينها الأولى من عدة مرجعيات، من الصوت واهتزازاته وتعبيره (فالحرف ارتسام للصوت) ومن التعبير بالصوت وميكانيك اللغة ومدى تطابقه مع الحرف كمنجز بصري لغوي، ومن هنا فإن جملة من المؤثرات ساهمت في إثراء بنيته ولعل التعالق الكبير مع الصوت والشعر وبالتالي الشعر وبحوره ومن طرف آخر مع المقامات الموسيقية كنتيجة حتمية لتحقيق اللفظ وإلى بناء شكل الكلمة (الشعر/الصوت) بصرياً . والذي كاد يقع في فلك وناظم كوني هو الإيقاع، الإيقاع الجوهري (النسبة الذهبية) الناظم الأساس لانسجام الأشكال والأصوات والأبعاد ضمن المفهوم التقليدي لعلم الجمال. والذي يعد بدوره المنطلق نحو الحداثة وما بعدها كأساس ولبنة تحرك أولى فكل ما في الكون من أشكال وموجودات وحركات وأصوات بشتى احتمالاتها تخضع لهذا الميزان وما القيم المشتقة والتوليدات والتجديدات إلا براعم لتلك الجذور أو تأويلات مبنية على تلك النسبة أو مستوحاة منها.

حتى لتكاد (اللغة والحرف) متوالية متجددة متناغمة وثرائها ميداناً للتأمل والتأويل وفي الوقت نفسه تتطوع هذه الحروف حسب خيالات الشعراء والخطاطون الفنانون والموسيقيون لتكون ميدان إبداعهم وجزءا من مادته. كما يقول ابن عربي “إن الحروف أمة من الأمم”.

            • عندما شرع أبوالأسود الدؤلي بتمييز الحرف عن الشكل اعتمد الوحدة الزمنية “زمن نطق الحرف/لفظه” كوحدة قياس “وحدة زمنية = نقطة” وموضع نطقها يحدد موقعها فوق أو تحت أو بين يدي الحرف – أليس هذا بدليل قاطع على أن الحرف العربي هو ارتسام لنطق وزمن وحركة الحرف المنطوق وبالتالي هي لغة سمعية بصرية حتى إن أوانها (قلم القصب) هو آلة ثنائية الغدر – (الناي/القصب) (الناي = الصوت) (القصب – الصورة/الحرف) وحسب التوحيدي يقول علي بن عبيد القلم اصم لكنه يسن النجوى وأبكم ولكنه يفصح عن الفحوى.. فالقصب آلة سمعية بصرية وما يدعم قولنا هو كتاب الصبي للخليل بن أحمد الفراهيدي الذي نسق الكلمات حسب مخارج الحروف فأصبحت كالتالي (ع ح هـ خ غ ق ك ج ش ض ص س ز ط د ت ظ ت ن ل ف ب م ء ي).

لوحة: خالد الساعي
لوحة: خالد الساعي

ولعل الفرنسي الباحث إيتان سوريو عندما أراد تحويل الموتيف الخطي الأندلس المأخوذ من التصاميم في قصر الحمراء لم يأت بالجديد. فقد حول العمل الخطي الزخرفي إلى عمل موسيقى. فمسألة مقابلة الفنون ليست بالجديدة وأيضاً مسألة تحويل الصورة الفنية من حفل إلى آخر واردة حسب رؤية الفنان وخياله. لكن أن تقع الفنون ضمن منظومة واحدة كاحتمالات لجوهر الفن. وكأن الفن (كجوهر) لا يرى دفعة واحدة بل إن له هالة موشورية تقرأه من خلالها ومن المرآة أو السطح المتاح. فإن كان زخرفياً رأيته كذلك وإن كان موسيقياً. يتجلى بهيئة وإن كان عمارة أو رقصاً أو لوناً. لكن في مستوى معين تتقابل الصور والأصوات والأشكال والهيئات والحركات فتشتق وتتداخل في وحدة (جوهر).

أوليس خط “الديواني الجلي” بزخرفيته وتفاصيله الموسيقية بل احتمالات أشكاله السيفي والخنجري والزورقي هو بصرياً كاستعارة لسلم موسيقي أعيدت صياغة أشكاله وهو بدوره شعرياً يقابل البحر الطويل – والذي أيضاً يقابل صوتياً مقام النهاوند (الذي هو مقام تطريبي زخرفي) وتنويعات هذا المقام تحتمل التنميق والزركشة وهو مقام متحول عاطفي فيه التغيرات والصعود والنزول بما يماثل هذا الفرع من الخط باختلافات سماكات قلمه وتحولات رسوم حروفه من السميك إلى النحيل ومن الصاعد إلى النازل فخط التعليق “الفارسي” الذي يعتبر الخط الطائر أو الأثيري الذي يسبح في الفراغ ولا يستند في بنائه على السطر وبالتالي إلى أرض وركيزة يماثل مقام الحجاز ذا المسافات الصوتية المتباعدة المتسقة التأملية ويأتي البحر الوافر ليكرس هذه الثلاثية.

ومقام الراست العاطفي بما يمتلكه من تغيرات وقوة وجراءة وجدية يماثل بصرياً خط الثلث (العربي الأصيل) ذا الحركات والاهتزازات والتحولات القوية المتينة وهذا ما على حالة بحر “الرجز” وهكذا تتولى التقابلات في الفنون لتطال فن الزخرفة (الهلكار) والزخارف الهندسية والفسيفساء التي تقابل صوتياً الآلات النقرية كالقانون أما الزخارف النباتية اللينة اللانهائية الحركة والانسياب والالتفافات فهي كالآلات الوترية ومن هنا أنطلق إيتان سوريو بتحليله للموتيف الأندلسي وتحويله إلى قطفة موسيقية.

            • يقول فيكتور هوغو “الخط عمارة تسكن فينا” ويقول الشاعر الفرنسي المعاصر برنارد نويل “عندما رأى أعمال الخط العربي. التقليدية منها والمعاصرة”. ما من لغة تمتلك خطاً تشكيلياً يرتبط فيه الشكل بالمعنى كاللغة العربية.

فالكلمة ما أن تكتب حتى تصبح كياناً. شكلاً وكل شكل هو عمارة ذات بعدين أو ثلاثة أبعاد حسب مادتها ولكل عمارة مناخها ونظامها ووظيفتيها وتصميمها الداخل والخارجي ونمط الخط المناسب لها والناظر للخطوط الكوفية في قصر الحمراء بغرناطة سيجد التماهي العجيب بين العمارة والزخارف والخطوط.

            • على الأفاريز وبكل مناحي المرافق فيها إن كانت داخلية أو خارجية ما حدا بأحد الباحثين على القول “إن عظمة العمارة والبنيان – على روعتها. لتكاد تذوب في الخطوط والزخارف المشغولة عليها”. أي أنه على الرغم من حضور العمارة وتميزها، فما أن تتأملها وتدخل في مداها وتأخذك تفاصيلها. حتى تختفي العمارة وتنهض الحروف والزخارف والأشكال فالخطوط الموجودة في عبارة “لا غالب إلا الله” من حواشيها ومن زخارف نباتية. وأنه لتكاد تكون وحدة واحدة أو أنها تفرعت عن شيء واحد لرهافتها وانسجامها وتساوقها ومن طرف آخر فالخطوط على جهة القبلة من المسجد الكبير بقرطبة لتبدو كأنها سبكت خصيصاً لتلك الفراغات وتشكلت لتتناسب حصراً مع ذلك الجو الذي من مقرنصات وأقواس وذهب وزخرفة وفسيفساء.. فالكل يبدو واحدا. والواحد بدوره متمايز ومختلف.

            • إن جمالية الفن الإسلامي ككل تتأتى من وحدته “هذه الوحدة المتكاثرة”.

لوحة: خالد الساعي
لوحة: خالد الساعي

            • يقول ابن عربي “وفي كثرتي شاهدت وحدتي التي تعالت وجلت أن نقاس بوحدة” فهذه الوحدة تتأتى من الفلسفة والفكر الإسلامي. وهو أن للوجود خالقا واحدا فردا وما الخلق إلا فيض منه.. ومردها إليه وإلا لماذا نتشبه بالخالق ونستعير أسماءه كالكريم والحليم والودود إلا تقرباً نتقرب إليه بصفاته وهذه الصفات إحدى صور خلقه التي كلها تؤول إلى واحد أحد.

وهذا الفكر العرفاني أضاف بعداً آخر على اللغة والخط على حد سواء وحملها قيماً وإسقاطات ومقاربات لا حصر لها فصار الحرف ككيان مادة بصرية تستقبل أحاسيس واقتراحات خيالي الشاعر والمفكر فقدا كل حروف تحمل معاني على كل صعيد فعلى المستوى العرفاني يحمل حرف الألف الدلالة على المطلق (الله) وعلى اللانهائية وعلى الفردانية. وعلى حساب الجمل يدل على الرقم واحد (1) على الذات الإلهية المنزهة عن الصفات وهو أعلى رقم وأول رقم (هو الأول والآخر) حيث تؤول إليه الأعداد وهو الصوفي الذي بلغ مرحلة الفناء. كما أن كل الخلق مردهم إلى الله فكل الحروف تؤول إلى حرف الألف. ومثلاً حرف الميم الذي يرمز للرسول (ص) وهو الدائرة المغلقة (لأنه ختام الأنبياء) وهو مدينة العلم ورقمه (40) على حساب الجمل وهو سن النبوة… وهكذا  تستمر التأويلات حتى نهاية الأحرف.

على أن الشعراء أيضاً قالوا في ذلك. وهاموا بالحرف واعتبروه فضاء للاكتشاف والبعض عده سر الوجود كالحروفيين (عماد الدين السنيمي البغدادي) وأتباعه الذين عدوا الحرف سر أسرار الخلائق بما ينطوي عليه من دلالات ومعرفة باطنة ولا تنسى فضل الله بن محمد التبريزي (الحروفي) الذي ضمن الحرف الدلالات العرفانية واعتبره بوابة المعرفة.

ولو نظرنا إلى الجانب الشعري في ابن عربي والحلاج وابن الفارض، فنراهم أثروا الحرف بأبعاد جديدة وألبسوه أثواب وهيئات لا حصر لها فقد صنفه ابن عربي حسب العناصر الأربعة. فيحتمل الحرف البرودة أو الحرارة أواليبوسة أو الرطوبة وقد يكون الحرف بين عالمين مظلم رطب – حار هوائي.

وأخضعه أيضاً إلى ترتيب آخر فقد عده مرآة درجات الوجود وطبقاته فصارت الحروف لها منازل أربع “المنزلة العلية للفرد الصمد والمنزلة التي تلي الأنبياء وثم الصالحين فالعامة.

قد يبدو هذا حملا ثقيلا على الحرف تم إسقاطه لكن بنظري إنها سيرورة حتمية نظراً إلى عمق وثراء اللغة ويقابلها تعدد أنواع الخط العربي بشكل كبير يساير غنى اللغة ويخلق معها حالة من الإبداع المتبادل فترى البعض الشعراء يتغزل بالحرف كموجود ونرى الخطاط يجود النص المكتوب ليرقى المستوى إلى المعنى.

كما يقول الرومي “الحرف معنى ومبنى” شكل وروح – ماء وطين – الشكل هو ما نعرفه ونلمسه والروح – الماء – هي المعنى”.

يقول ابن الغارفي “إذا ما التقينا للوداع حسبتنا لدى الضم والتعنيق حرفاً مشدداً”.

فأصبح الحرف كائنا حسيا يعيض عن الإنسان وكل محله ويحمل شجونه ومكابداته وهواه ومن طرف آخر يقول ابن المعتز:

وكأن السقاة بين الندامى               ألفات على السطور قيام

فأصبح عنده الناس يمشون على السطر والمتيقظ المستقيم منهم هو كالألف. فالسقاة يجب أن يكونوا كالألفات لأن (الميل السقام فلا تمل) كما يقول النفري أما بقية الثمالى فهم حروف كما درجات من النشوة والهيام وحتى لتسبغ أشكال الحروف على البشر فيوصفون كما لو أنهم حروف أو أن الحروف لها على أحوالهم:

أرى من صدغك المعوج دالاً     لكن نقطت من مسك خالك

فأصبح دالها بالنقط ذالاً           فها أنا هالك من أجل ذلك

وقد تصبح للحرف أو الاسم قوة فيبرئ مصاباً ويشفيه بقوة الحب وإرادة الله، ثم أوليست الأسماء إشارت للموجودات وللأفعال والطاقة

لوحة: خالد الساعي
لوحة: خالد الساعي

وهنا يتول ابن الفارض:

ولو خضبت من كأسها كف لامس  لما ضل في ليل وفي يده نجم

ولو رسم الراقي حروف اسمها  على جبين مصاب جن أبراه الرسم

والحروف قد تكون ملاذ من الدينا واستبدال العشق الدنيوي الزائل بالأبدي والسرمد.

فيقول الرومي “إذا لم يجد طائر عشقك متسعاً في هذا العالم فلتطر نحو كاف القرب”.

حيث القاف (رمز للقرآن) “ق والقرآن المجيد” والقاف هي القرب والقلب وعين العقل فعندما يقترب القلب من الكاف يتحقق الوصال الأبدي.

ويعود الرومي فيقول “فتحت عيني مثل هاء وجلست مثل الشين في العشق”.

ومن طرف آخر يطل الحلاج بقصيدة لطيفة سلسة تتبادل الحروف والكلمات فيها أداءها الوظيفي. وتكرس بعضها البعض ليتجلى المعنى:

 كتبت إليه بفهم الإشارة       وفي الأنس فتشت نطق العبارة

كتاباً له منه عنه إليه      يترجم عن غيب علم الستارة

بواو الوصال ودال الدلال     وحاء الحياء وطاء الطهارة

وواو الوفاء وصاد الصفاء    ولام وهاء لعمر مداره

على سر مكنون وجد الفؤاد    وخاء الخفاء وشين الإشارة

لكن الحلاج بدوره يذهب عميقاً فيوغل في الإشارة والتأويل فيقول في التوحيد :

ثلاثة أحرف لا عجم فيها    ومعجومان وانقطع الكلام

فمعجوم يشاكل واجديه       ومتروك يصدقه الأنام

وباقي الحرف مرموز معمى     فلا سفر هناك ولا مقام

إذن في فنوننا المرتكزة على الوحدة “كمفهوم” وعملياً على النسبة (1) إلى (1،618) في السطوح والأحجام والحركات، وقد عد الرقم الذهبي نتيجة نسبة الضلع الصغير على الضلع الكبير، المساوية لنسبة الضلع الكبير على مجموع الضلعين وفي ذلك تعبير عن نظرية أو مبدأ الانسجام الحد الأقصى للوحدة (المربع) مع الحد الأقصى للتباين (المتناعم) “المستطيل” وهذا ما طبق على بناء قصور بني الأحمر بغرناطة كفن ثلاثي الأبعاد وعلى الخط العربي والزخرفي كثنائيي البعد وعلى الموسيقى الشرقية في نسبة القرار للجواب – والفراغ للامتلاء وحتى في النغمات المفردة – وأيضاً في الحرف المخطوط في نسبة الطول للعرض ونسبة الطول للزاوية. فغاية ما يكون الشكل في أعلى انسجامه هي عندما تنطبق عليه تلك النسبة ولا يفوتنا أن القول ينطبق أيضاً على الشعر وموازينه ووحداته الاساسية “تفعيلاته”.

على أن كل ذلك لم يكن في مجالات الفن محصوراً على الخط والزخرفة والعمارة والموسيقى والشعر بل تعداه إلى الرقص والحركات في الفرا، إلى الأشكال الفنية التطبيقية والخدمية من ناحية أخرى. حتى ليمكننا في مستوى ما من الصفاء والتأمل أن نرى صوت الأشكال وأن نسمع الخطوط والزخارف أعني أن تنفتح الحواس على بعضها البعض وترتفع بنا الى التجلي.

لوحة: خالد الساعي

 

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.