هل قرأت هذا الكتاب؟

عن خيارات الأفراد في مجتمعات الأخ الأكبر
الاثنين 2021/03/01
القارئ الشغوف بالكتب في حرب ضروس مع الزمن

في حياتي عدد من المكتبات التي اقتنيت كتبها واعتنيت بكل منها على نحو ارتبط بالأمكنة التي عشت فيها. وعبّرت كل منها عن مرحلة من مراحل حياتي القرائية واهتماماتي ودراساتي في الأدب. ولطالما كنت الطالب والمعلّم معاً، ولم يكن لي من المعلمين من هم أفضل من الكتب. الكتب، باختيار شخصي ومزاج قرائي خاص، وغالبا ما كانت قراءاتي بعيدة، كل البعد، عن الموضات الدارجة في القراءة، وأعني بها تلك التي تعبّر عن نفسها في دعوات محمومة يوجهها أصدقاء لأصدقائهم لقراءة كتب بعينها.

***

في أواخر السبعينات سرت حمّى في دمشق اسمها “مائة عام من العزلة”، ظهرت عوارضها الشديدة على جلّ مَن عرفت، فكنت كلما التقيت صديقاً، وقبل أن أسأله عن حاله، كان يهاجمني بالسؤال: “هل قرأت مائة عام من العزلة؟”. وكنت أجيب بالجملة نفسها: لا لم أقرأ، لديّ برنامج قراءات، عندما أفرغ منه سأقتني الرواية وأقرأها. إذّاك كنت أرى في وجه سائلي التعبير المشفق نفسه: كم فاتك إذن!

استمرّت تلك الحمّى سنتين، وربما أكثر. وفي عيد ميلادي الحادي والعشرون وصلتني هدية، فإذا بها رائعة غابرييل غارسيا ماركيز بترجمة سامي الجندي. إجلالا للصديق وضعتها في مكان بارز من مكتبتي، والواقع أنني لم أقرأ تلك الرواية لا في دمشق ولا في بيروت، رغم ما كان من ارتباطي بعلاقة صداقة حميمة مع سامي الجندي خلال سنوات إقامتي البيروتية، ولم أفعل في قبرص حيث أقمت لبضع سنوات وفي حوزتي نسخة موقّعة من المترجم. بعد مرور عقدين من الزمن جاء الموعد مع تلك الرواية الرائعة. ولا أذكر إن كنت شعرت بالأسف لكوني لم أقرأ هذا العمل في سنوات العشرينات.

في محاولتي لتحليل سلوكي اكتشفت، أن وراء إعراضي عن قراءة تلك الرواية ودعوات أخرى، قبلها وبعدها، لقراءة كتب بعينها، كان نفوري من الموضات ومما تلهث المجموعات وراءه، واعتدادي المبكّر بخياراتي المستقلة في القراءة، وعشقي للمصادفات الشخصية في اللقاء مع الكتاب، بعيدا عن الإشارات الفظة ذات الطابع الحماسي الصادرة عن أفراد يتبعون الحشد، حتى وإن كانت موفقة أحياناً.

أدرك الآن، أن طبيعة استجابتي لخيارات الآخرين في القراءة، وتطرّفي الشديد في النأي عن الدعوات الصادرة عن أصحابها وإشاراتهم إلى كتب بعينها، إنّما حرمني، على الأرجح، من قراءات ممتعة ومفيدة، لكن سلوكي المتطرف ساعدني في الوقت نفسه على بلورة علاقتي مع الكتب بحيث تستجيب لسعادتي الشخصية في القراءة ولمزاجي الخاص وحاجاتي المعرفية كشاعر.

***

الأرجح، أيضاً، أن نفوري من الموضة في القراءة، كان يغذّيه نفور من تلك الهيمنة التي فرضت على المجتمع السوري (حدث الشيء نفسه في مجتمعات عربية أخرى) من قبل النخب الانقلابية الحاكمة في السبعينات، عسكرية ومدنية، والتي صادرت الخيارات الفردية للأشخاص لصالح فرض ثقافي جماعي مزعوم يجيّش كل مظهر من مظاهر الحياة الخاصة بالأفراد ويؤطره في إطار أيديولوجي مزيّف وظيفته مسح وجوه الأفراد والهيمنة على أفكارهم ومخيلاتهم وإحالتهم إلى قطيع خاضع يسمّونه الجماهير. وقد جرت عسكرتهم بدءاً من ملابس الطلبة في المدارس الثانوية ذات اللون الموحد الكاكي، مرورا بكتاب القومية ذي النصوص الفاشية وهو الكتاب الفكري لجميع الشباب، وفق صيغة لا تعترف بالاختلاف ولا تتيحه، ولا تترك لذات أنا مفردة تعتدّ بخياراتها أو اختلافها. بل إن سبل النجاح للأفراد المنضوين في القطيع إنما كانت تمر من خلال النجاح في الإجابة عن جميع الأسئلة المتعلقة بخطابات “القائد الخالد” ونظرية الحزب و.. و… إلخ مما سطرته العصبة الحاكمة في حب “الأب القائد” و”الحزب الطليعي”.

***

على خلفية هذه اللوحة، لم تكن مدارسنا في السبعينات تحتوي مكتباتها على روايات أو مسرحيات أو مجموعات شعرية، كما هو الحال، مثلاً، في المدارس البريطانية حيث أمكن لابني أن يقرأ “ماكبث” و”عطيل” و”حلم ليلة صيف” ومسرحيات أخرى لشكسبير، ويحلل مقاطع من هذه المسرحيات، بوعي وطريقة خاصين.

لم تكن قاعة الدرس في نشأتي المبكرة تحتوي على كتب من خارج المنهاج المدرسي، لا في الأدب ولا في الفكر ناهيك عن النظريات الأدبية وعلم الجمال وغيرها من كتب المعرفة، فلا قديم ولا حديث في الفكر مثلاً إلا “فكر الجماهير” الذي هو في حقيقة الأمر خطاب “الوصايا الخالدة” لقائد الانقلاب الذي احتل “الراديو” و”التلفزيون” و”الصحيفة اليومية” وخصص صفحاتها الأولى لخطاباته وأقواله وللقبه المبتذل (الأب القائد) المستلهم من التجربة الخرافية لكوريا الشمالية”.

هذه الصورة البائسة للتربية الفكرية والجمالية في ظلال “دولة الأبد” لم تترك سوى هامش ضيق، ومساحة ملتبسة لصمت مراوغ تعتصم به الذوات اليافعة الحالمة بالحرية في نيل المعرفة، واكتشاف العالم بعيداً عن “نهر الجنون”.

باتت المكتبات البعيدة عن آلة النظام، المشتغلة ليل نهار في حشو رؤوس الشباب بـ”الأفكار الخالدة”، هي الملجأ والملاذ للندرة من الشباب الذي أفلت من حظيرة القطيع”، وأخذ يكتشف، بوسائله الخاصة وقدراته الذاتية، العالم الفسيح الممتد وراء الأسوار.

***

والنتيجة، أنني عرفت شباناً زاملتهم في سنوات الدراسة لم يفتح واحدهم كتابا سوى المقرر من كتب الدرس و”كتاب القومية” الإلزامي، ولطالما كان ذلك صادماً لي، ومدعاة للأسف، أن بعض من عرفت كانوا شباناً أذكياء وموهوبين، ولكنهم ذهبوا ضحية تلك “الشبكة الجهنمية” التي امتصت أدمغتهم، أو هي أتلفتها تماماً، وجعلتهم معرضين عن خزانة المعرفة، وغرباء عن دنيا الكتاب.

على خلفية هذه اللوحة الكئيبة، تشكلت مبكراً دوافعي في البحث عن كتب أخرى، غير تلك المقررة رسمياً. وتولد لديّ نفور مبالغ فيه من أيّ صيغة للوصول إلى الكتاب لا تأتي عبر بحث شخصي.

***

كانت الكتب بالنسبة إليّ عالماً موازيا للعالم الواقعي، نقيض واقع بائس ومخرجاً منه إلى عوالم لا تشبه عالمي الواقعي. فكانت مرة علامات ملهمة على طريق، ومرة مدنا غريبة مدهشة، ومرة أحلام يقظة مبهمة، ومرة أفكارا مضيئة، ومرة نماذج هندسية لخيال أصحابها عن الكون. ثمرة مغامرات عقلية وروحية، ولغات داخل اللغة، توسّع من شرايين القارئ قبل أن تطلق خياله. هكذا كانت الكتب بالنسبة إليّ.

والواقع أن تجربتي الشخصية أملت عليّ الإيمان بأننا لا يمكننا أن ننصح أحداً كيف يقرأ، بل من الجرم أن نفعل، إذا كنا نؤمن أن من حق كل منا أن تكون له طريقته في استقبال الأشياء، والإقبال عليها. ومن البديهي، والطبيعي، أن البعض يوفق بطريقته والبعض الآخر يخفق في العثور على ما يوافقه أو يصبو إليه، ولكن من حقه أن يخوض التجربة بحريّة.

شخصيا، كنت وما أزال موفقا، غالباً، في طريقتي في اختيار الكتب. فالكتاب غالبا ما لا يأخذ طريقه إلى مكتبتي إلا بعد فحص وتمحيص شديدين، حتى تلك التي تهدى إليّ من مؤلفيها. وليسامحني أصحاب الكتب التي أُهديت إليّ، ولم تصل إلى مكتبتي، فأنا مثلي مثل آخرين أخجل من رفض الهدية. ولأعترف بأنني، لم أكن صريحاً دائماً، لذلك أحياناً ما كنت أجد نفسي مضطرا لنزع ورقة من كتاب أهدي إليّ ليمكنني أن أعرضه على شخص ما موظف في فندق أو نادل مقهى. على أنني، غالباً ما أتجنب ذلك، مع بعض المؤلفين، فأوهمهم بأنني حصلت على الكتاب، وأن من الأفضل الاحتفاظ بالنسخة لقارئ آخر. المسألة ليست شخصية أبداً، فبعض أصحاب تلك الكتب من أحبّ الناس إليَّ.

***

العلاقة بالكتب وبالقراءة تحيط بها لدى الكتاب طائفة لا تنتهي من الأسئلة، عن موضوعات القراءة، هوية القارئ وسبل القراءة، زمن القراءة، أمكنة القراءة، فضلا عن صيغ القراءة، وحالاتها، ومراميها، ومآلاتها، جملة كبيرة من الأسباب والعناصر التي تتشكل من خلالها شبكة مغرية من الموضوعات المؤسسة لعلاقة القارئ بالكتاب.

بالنسبة إليّ هناك دائماً برنامج القراءة، بوجهيه الثابت والمتغير، ولطالما كان لعنصر الوقت دور في المسألة. وكم من الكتب تقبع في رفوف مكتبتي وعناوينها المغرية تتقافز أمام عينيّ، منتظرة تفرّغي لها. القارئ الشغوف بالكتب في حرب ضروس مع الزمن.

***

ختاماً، تحضرني، الآن، ذكرى قديمة عن حادثة طريفة وقعت لي ولها دلالتها المتعلقة ببؤس ثقافة المدرسة. عندما واجهني شاب من كلية الطب كان زميلا لي في المراحل الدراسية المبكرة، وكان في حيرة من أمره، بسؤال مفاده: كيف تكتب الشعر؟

قلت لم أفهم السؤال. قال أقصد من أين تستخرج الكلمات؟ وأضاف: هل تجمع أبياتا من شعراء مختلفين وتصوغ قصيدة جديدة؟

لم أستنكر سؤاله. وكان جوابي: تماما، وأضفت: آخذ بيتا من المتنبي غير مشهور، ومثله من البحتري، وربما من بدوي الجبل، أو عمر أبوريشة، وأدوّن هذه الأبيات كل في قصاصة، ثم أغمض عيني وأخلط القصاصات، وأرتبها على تسلسل ما، ثم أفتح عينيّ وأنظر في ما فعلت، فإذا به قصيدة جديدة.

إذّاك ارتسمت على وجه صديقي علائم الراحة، وقال. الآن فهمت!

حادثة تضج بالدلالات، تدمير الانقلابيين للذات المبدعة من خلال سحق الأنا، وسوق الفرد إلى حظيرة القطيع في مجتمع الأخ الأكبر.

لندن في 1 آذار/مارس 2021

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.