هل مازال الشعر ديوان العرب؟

المسافة المشوشة بين شاعر الأمس وشاعر اليوم
الأحد 2020/11/01
لوحة: حسين جمعان

“لم يعد هناك شعر”، “انتهى زمن الشعر مع رحيل (الشعراء الكبار)”، و”ما يكتب اليوم هو عبث لغوي يسمّونه الشعر”. بمثل هذه الإعلانات وكثير غيرها يشبهها تخرج علينا من حين إلى آخر أصوات تقيم على الشعر صلاة الغائب وتنصب له سرادق العزاء، متحسرةً على الغائبين من أساطينه، فهم شوقي وبدوي الجبل وسعيد عقل ونزار قباني. تتلكأ الذاكرة، قبل أن تضيف السياب ومحمود درويش. وبعد ذلك لا أسماء أخرى يمكن الاعتداد بها في حاضر الشعر العربي.

إنها نظرة عين غاربة، تنتمي إلى ثقافة “الشاعر الفحل” نظير “الزعيم الفحل”، الدكتاتور بوجهيه وقد ملأ، بحضوره الملهم، كل ثغرات الحياة في المجتمع، وتكون لصوته في القصيدة، كما لصوته في الخطاب السياسي، رنة ورجة وتهدج سلطة مطلقة تغزو الأذن وتأسر الوجدان، ولها في نبرة الكلام صلف طاووسي. شيء فكاهي حقاً، لكنه لا يزال يفعل فعله في وجدانات لم تبرح ترى في الشاعر صوت الناس، وقصيدته المتنزلة عليهم من قدسية القضية المشتركة بين الشاعر والجمهور هي الأثر الذي لا يجوز تعريضه لشمس الذائقة، أو المساس بقيمته المطلقة .

***

الطريف في الأمر، أن جل البكّائين على الشعر، وبعضهم ينتمي، نظريا على الأقل، إلى ما يسمى بـ”حركة الحداثة”، لا علم لهم بتطورات الشعر في جغرافياته العربية، ولو امتحنت حجم معرفتهم بالأصوات والتجارب الشعرية الجديدة المنتشرة على خارطة الشعر العربي، خلال ربع القرن الأخير، لكانت النتيجة مؤسفة. ومع ذلك فإن لهؤلاء آراء في مستقبل الشعر!

***

ليس من الإنصاف أن نضع كل ما يُكتب ويريد أن يكون شعراً في سلة كبيرة نسمّيها “المشهد الشعري”، فلم يكن هناك زمن شعري أو أدبي كل ما فيه مثير للإعجاب، إنما أستطيع القول، بكل ثقة، إنني أقيم اعتباراً لكل جديد لا يقطع صلته بالإرث الثقافي، ولا يتعالى على المرجعيات التي تحدّر منها، ولا يغلق، بالمقابل، النوافذ التي تهب منها هواءات التجديد الأدبي من كل لغة وثقافة في الأرض. وأظن أن بعض الشعر العربي يرقى اليوم إلى أفضل الشعر في العالم، وإن كانت لي ملاحظات ترى، من جملة ما تراه من مثالب، أن الأفق الفلسفي يكاد يغيب عن القصيدة العربية الحديثة، ويختفي الميتافيزيق من لغة الشعر وميول الشعراء وتطلعاتهم، وهذا من شأنه أن يلحق ضرراً كبيراً بقيمة الشعر.

وكذلك ألاحظُ أن لغة الشعر وتراكيبه باتت تميل أكثر فأكثر إلى التشبع بلغة الشعر المترجم وتراكيبه اليسيرة، غالباً، وهي عملياً ثمرة اجتهادات مترجمين بعضهم مترجمون متأنون، لكونهم شعراء، وكثرتهم أدركتهم العجلة. ومن ثم فإن لغة الشعر المترجم وتراكيبه التي نادراً ما كانت ملهمةً ومجنّحةً، تسللت إلى لغة الشعر العربي، وباتت دليل الشاعر العربي الجديد إلى لغة القصيدة، وهي غالبا تلك التي يسمونها “قصيدة النثر”. وهذه معضلة حقيقية مسكوت عنها في الحياة الشعرية العربية.

***

كلما قرأت حواراً مع شاعر، إلى أيّ تيار، أو لغة شعرية انتمى، وجدت السائل في ميل والشاعر في ميل، ووجدت الجواب يراوغ السؤال، أو يناقضه، أو يتعالى عليه، أو يبتعد عنه، حتى لكأن الأول جاء من عالم، والثاني من عالم آخر، وها هما يلتقيان في برزخ من الاحتمالات والالتباسات، لا دافع لها ولا عاصم منها. هذه مسألة صعبة، ومزعجة غالباً، لكنها حقيقية. والواقع أننا نادراً ما يواجهنا سؤال ذكي في الشعر. هذه أيضاً حقيقة عربية للأسف. العمل الصحفي في ما يتعلق بالشعر يبدو لي على درجة فاقعة من الجهالة والبؤس. هناك أسباب وأسباب. إنما لا بد من الاعتراف أن هذه العلاقة البائسة إنما تعكس، على نحو ما، طبيعة تلقي الشعر اليوم، وتشير إلى تدني المستوى العام للقراءة، والتخبط في فهم الأشياء. من المؤكد أن ثمة سوء فهم كبير بين الكتابة الشعرية الجديدة والناس.

***

الشعر، بداهةً، ليس عِلماً محروساً بقواعد صارمة. الشعر مغامرة في اللغة، وشطح في الخيال، وهو حمّال أوجهٍ وبئر غوامض. لا الشاعر ولا القارئ، مهما قُيّض للأول من موهبة وللثاني من معرفة، بقادرين على تفكيك لغة الشعر، وهتك أستار تجلياته وصولاً إلى كنهه العميق، وكنوز أسراره.

***

لا يقين في الشعر، ليمكن لفصاحة في لغة نقدية ملهمة أن تحيط بغوامضه، ولا توجد، في حوزتنا، أداة منظورة يمكن أن نتوصل من خلالها إلى مطابقة جلية بين حياة القصيدة وحياة شاعرها، وليس بلا عواقب ما رأيناه من أعمال الناقد العربي بروكريست بسريره المخيف، ومنشاره الحاذق وهو يشدّ ويمطّ، أو ينشر بالمنشار ليطابق بين قامة القصيدة وطول السرير. لا بد أن نعترف بأن الشعر ليس بعلم، ولا هو وثيقة نلزمها بأن تنطق بحقيقة صاحبها، بل حلم وخيالات وظلال وشطح رؤى حرة وحواس ملغزة. ومن ثم فإن مغامرة من هذا النوع يليق بها بالمقابل، في حيز القراءة، مغامرات متعددة السبل أساسها البحث عن المتعة قبل البحث عن المعنى أو المغزى أو الخلاصة.

ما من خلاصة في الشعر، فالشعر خلاصة ذاته، مغامرة جمالية متعددة الأوجه والاحتمالات. علينا إذن أن نؤمن لا بالقراءة، بل بتعدد القراءات.

***

ما من مرَّة عدت إلى الحديث عن قصيدة لي أو لغيري، أو طرقت فكرةً حول الشعر، سبق وتطرقت إليها، إلا وذهبت من طريق مختلف، ولربما خالفت كثيراً أو قليلاً قراءتي السابقة، ليأتي كلامي مختلفاً، بصورة مدهشة، عمّا سبق ورأيتُ وما سبق وقلت في الأثر نفسه.

قراءة الشاعر لشعره هي أيضاً قراءات متعددة، لا قراءة واحدة، ويمكن أن تكون قراءات متعارضة.

لوحة: حسين جمعان
لوحة: حسين جمعان

***

يفضل أن نسأل الشاعر لماذا تكتب؟ بدل أن نسأله لمن يكتب، فالشاعر لا يشتغل عند أحد، ولا حتى عند نفسه، وهو إذ يكتب إنما يكتب خروجه عليها.

ربما كنت أكتب لأكتشف نفسي، كما يقول البعض، لست متأكداً من ذلك. لكنني متأكد من حقيقة أعرفها وهي أنني أكتب لفرط حبي للكلمات، ولعلّي بعد رحلة شيقة مع الكتابة أجد في اللغة كياناً موازياً لكياني، وأختبر في الكتابة أشياء جديدةً، ألج عوالم لا قبل لي بها، ولا وجود لصورة لها عندي قبل أن أغامر في تشكيل الكلمات على نحو وغيره.

هل يعني هذا أنني أكتب لنفسي؟ ربما، لكنني أشعر، أحياناً، أنني أكتب لأعثر على شيء ما ضائع منذ زمن بعيد، ومرات أشعر أنني أكتب لأسمِع صوتي لأحد ما، لكائن أشعر به يتجول في عالمي، كيان غائم الملامح. أحياناً أفكر بأنني أكتب لأخرجه من ذلك الضباب، ليمكنني، من ثم، أن أتعرف على ملامحه.

وفي مرات أشعر بأنني أراوغ نفسي إذ أحاول أن أصل إليه، وأساله أن ينزع القناع عن وجهه، فما وراء ذلك الضباب ليس سوى وجهي يوم كنت صبياً في دمشق.

هل كنت أكتب لنفسي طوال الوقت؟

ليس في همي أن أرضي قرّاء. وإنني في دخيلة نفسي لأشفق على الشعراء الذين يكتبون لينالوا رضى القراء، فيضطرون في مراحل من حياتهم إلى مداهنة قراء مفترضين، فيزرون بالشعر ويزرون بأنفسهم.

الشاعر ليس خطيباً يُسمع جمهوره ما يحب أن يسمع ليضاعف من عدد أنصاره، وليس نائباً في برلمان يداهن جمهوره بوعود مغرية. والشاعر ليس نجماً في فلك ومن حوله الكواكب، وليس طاغيةً يلعب بالألفاظ، ويغزو الغرائز ليخضع ضحاياه ويتحصن بالمسبّحين باسمه، ولا هو صاحب طريقة يجمع من حوله المريدين الهائمين بهالته.

الشاعر فرد متمرد، سارق نار من محفل الآلهة، وباعث جمال في كينونة الإنسان وكينونة الوجود، صوت العوالم الخفية في النفس الإنسانية، وصوت الوجود العميق، وهو باعث حياة جديدة في الكلمات، خالق لغة. هل يشتغل خالق عند مخلوقاته؟

***

ليس خليقاً بالشاعر أن يتسول القرّاء كما يتسول السياسي الجمهور الذي سيرفعه على الأكتاف ويوصله إلى غايته. وعندما يتطلبُ شاعر ما يتطلبه سياسي، إنما يمتهن كرامة القصيدة، ويهين الكلمات، يحوّل القصيدة إلى خادم لأغراضه اللاشعرية، ويتحول إلى أيديولوجي مراوغ وجلاد في اللغة. إذّاك، مهما بلغ الشاعر من الموهبة والبراعة في صنعة الشعر، ستصيب قصيدته السويداء، وتذبل براعم أزهارها من قبل أن تتفتح. فاللغة في الشعر كائن حي، ينصت ويرى ويزهو ويتألم. خيانة الشعراء للشعر أعظم الخيانات. والشاعر الخائن للشعر قصيدته مثله ملفقة ومراوغة تخفي وراء أزيائها العصرية شيخوخة الزمن.

ولعل مأساة الشاعر الخائن الكلمات تصبح أكبر عندما تصطدم كائنات المستقبل بأشباح الماضي ممثلةً بطغاة المجتمعات. وإذ يهرب الشاعر من شوارع الحرية إلى عتمة الذات، فهو يخون توقعات من رأوا فيه شاعر وجدانهم العميق، من اعتبروه يوماً صوت المستقبل، ورأوا في قصيدته عروس الحرية.

***

خلاصة القول، وبالعودة إلى مبتدأ الكلام، هل يمكن لمن أسروا أنفسهم في زنازين الماضي أن يصفوا للذاهبين إلى المستقبل شعر المستقبل؟

لندن 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2020

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.