الآخر مرآة الأنا

الجمعة 2016/01/01
لوحة: عمران يونس

سنة أولى مرت على صدور “الجديد”، وها نحن في مطلع سنة جديدة من حياة المجلة. أحد عشر عدداً انصرمت، وها نحن في العدد الثاني عشر، والأول من سنة ثانية. كل عدد مضى كان له محور وكانت له قصة. وفي كل عدد عرفت “الجديد” مخاضاً ومغامرة، لأجل أن تكون، كما أرادت لنفسها أن تكون؛ المجلة العربية الجامعة، والمنبر الذي يجتمع على صفحاته أهل الأدب والفكر والفن، بأريحية وانفتاح.

حاولت “الجديد” بسعي جاد أن تكون الفضاء الذي تتحرر فيه الثقافة العربية من قيودها، وتستعيد الكتابة جرأتها الفكرية وألقها الإبداعي، والكاتب كرامته كصاحب فكر حرّ وخيال طليق.

رهاننا على تجاور الأقلام العربية، مكرسةً وطالعةً، على صفحات “الجديد” أثبت جدواه. والتزامنا بما أعلنا عنه من احترام حرية القلم وجرأته، مادام يبشر بقيم الجمال والحق والحرية، والانفتاح على الآخر، أثمر حوارً فكرياً استقطب خيرة الأقلام العربية، وبعض الأقلام الأجنبية، وهو ما عبرت عنه تلك السجالات الحية التي دارت على صفحات “الجديد” على مدار العام المنصرم.

عام مضى على الشروع في المغامرة، وها نحن في عام ثانٍ، والذين احتفوا بالجديد وأقبلوا عليها بشغف من كل قطر عربي، وكذلك في المهاجر والمنافي العربية، يتزايدون عددا بعد آخر. ليكون لـ”الجديد” أسرتها من القراء، الذين ستظل تطالبهم بأن يبدوا ملاحظاتهم واقتراحاتهم وأفكارهم حول منبرهم الثقافي، حتى يمكنه أن يفي بوعوده، ويلعب الدور المنتظر منه، ليقدم لهم مع أول كل شهر ما يتوقعونه من منه إلى جانب ما ستفاجئهم المجلة من ثمرات العقول والأرواح في ثقافتنا العربية المعاصرة.

***

لفتتني هذا الشهر إشارة من المفكر جاد الكريم الجباعي إلى أدوار الشعراء في تجديد اللغة، ودور الخيال الطليق في إثرائها بصياغات جديدة. السياق الذي تحدث فيه المفكر لا يتمحور حول دور الشعر في تجديد اللغات، ولكنه يتركز حول قدرة اللغة على المضي أبعد من الحكي والقول والخطابة والرسالة والكتابة والقراءة والتأويل وغيرها من العناصر التي تختص بها اللغة، لتنفتح باللسان والذات على الكينونة الإنسانية والوجودية كلها. والأهم أنها تتجاوز الهوية الصادرة عنها لتخترق الهويات الأخرى، فهي كما يذهب الجباعي في وصف اللغة، في إطار ملف تنشره “الجديد” في هذا العدد “الشكل الأعلى من أشكال تملّك الإنسان لعالمه” معتبراً أن “التملُّك فعل إرادة، لا تكون إلا حرة. وتهتم، من ثمة، بتبيُّن وحدة المعرفة واللغة والحرية، مقابل وحدة المعرفة واللغة والسلطة”.

***

آثرت أن أدخل من هذا “التحديد” إلى ما سأذهب إليه من تصورات عن انفتاح الشعر والشاعر على الأسطورة، بوصفها المنظومة الجمالية الأوسع لعمل الخيال، إن في اللغة العربية أو لغات أخرى. انطلاقا من ثلاث حقائق.

أولا: أن اللغة كلما ترقت في انفتاحها على الآخر ووقفت في مراياه كلما اقتربت من ذاتها العميقة وأغنتها.

وثانيا: أن الأسطورة هي المهاد الرموزي اللغوي للاوعي البشري، وقد تفجّر بالصور.

وثالثا: أن الأسطورة من طبيعتها أنها تذيب الهوية في أصل أسبق عليها، وأعمق منها غوراً، وأبعد انفتاحا على الكينونة البشرية، وأعني به الخيال البشري العابر للهوية والزمن معاً.

من هنا يصبح السؤال مثلا: لماذا تكتب في زمنك الحديث من وراء أقنعة أسطورية وأدبية؟ سؤالا قد يبدو نافلاً، رغم عمق الإشكالية التي يصدر عنها. ولأعترف هنا أنني كثيراً ما ووجهت من قبل محبي الشعر بهذا السؤال. وهو ما ظل يحرضني على الكتابة عن هذا الأمر، محاولاً تلمس المسألة، ليس بحثا عن أسباب، ولكن بحثاً في طبيعة علاقة الشعر بالأسطورة، وعلاقة الشعراء بالأقنعة الأسطورية. وبالتالي ليس بحثاً عن جواب لسؤال، لا سبيل في النهاية لإعطاء جواب عنه يشفي غليل السائل، مادام الشعر نفسه ضرباً من الغوص عميقا في الذات بحثاً في ما وراء الأشياء المنظورة، وربما هو ضرب من التهويم والتيه ما وراء كل الأسباب.

***

لطالما وقفت حائراً أمام هذا السؤال. ولكن مرات يخيل إليّ أن الشاعر يخطو جهة الأقنعة ليقترب من نفسه أكثر. يبتعد قليلاً أو كثيراً عن صورته، ليتحرر منها، فإذا بالصور والأقنعة تنادينه؛ أقنعةً بابلية وفرعونية وهيلينية وآرامية.. ومعها القناع الشيكسبيري، ومن ثمة تتحدر من أعالي اللغة مع الكلمات أسماء: مثل جلجامش، سيبتيموس سيفيروس، أوزيريس، تيريسياس، ديدالوس، يوسف، تيلماخوس، إيكاروس، نرسيس، بينيلوبي، آخيل، أورفيوس، مريم، يوحنا المعمدان، هاملت، أليعازر، وغيرهم آخرون، بما لكلٍ منهم من إحالة ورمز وتاريخ ميثولوجي ودلالي. التراث الأسطوري، سواء أكان عراقياً أو سورياً أو فرعونياً أو إغريقياً، أو إسلامياً أو مسيحياً وغيره هو تراث شخصي للشاعر. مادام من أبناء المتوسط، قلب العالم القديم، وفي القلب منه المركز الحضاري المحترق اليوم سوريا القلب الخافق للعالم القديم، وعليه، فإن كل ما أبدعته قرائح ناس المتوسط، لا سيما على الضفة الشرقية هي إرثٌ شخصي للشاعر، وهو ما يجعله، بالضرورة، ورغم أفانين الانغلاق وجنون التعصب الأعمى للذات الجريحة، يتحدّر من صلب هذه اللوحة البشرية الرائعة بخيالاتها الميتافيزيقية وهيامها بالجمال.

ولعل انفتاحاً كهذا على الآخر أساسه الوعي بالفضاء الحضاري الفسيح للذات المنتمية إلى حوض المتوسط هو ما أورثني، شخصيا، ولعا منذ طفولتي بالأساطير والحكايات والملاحم التي أبدعتها حضارات هذه البحيرة العظيمة، وللجغرافيا السورية القديمة نصيب كبير في هذا الإبداع.

***

لكن الأساطير لا يمكن أن تكون معطيات كلاسيكية بالنسبة إلى الشاعر الحديث، وهو لا يجدر به أن يتعامل مع تلك النصوص وشخصياتها الأسطورية كمعطيات نهائية، بل كعوالم وأرواح متحركة ومتبدلة وقابلة للولادة مجدداً في صياغات شعرية خاصة عابرة للزمن وعابرة للهوية معا. وإلا وجب علينا أن نستغرب احتفاء شاعر عربي بالأسطورة الإغريقية، ونستغرب احتفاء شاعر إنكليزي بأساطير الهند، أو شاعر فرنسي بأساطير البطولة في التراث الألماني.

إن نظرة على شظايا التراث الحكائي العربي القديم تفيدنا بأن العرب استلهموا تراثات لغوية جاورت لغتهم تعود إلى فارس وحوض الرافدين وبيزنطة ومصر القديمة.

ونظرة على شعر ونثر أدباء القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في أوروبا، لا سيما رومانسيي فرنسا وألمانيا وبريطانيا تجعلنا نقف على ذلك التأثير الهائل للشرق وحكاياته وأساطيره في الأدب الأوروبي.

وعلى رغم ملامح لافتة للنزوع الاستعلائي أو ما جرى الاصطلاح عليه بالنزعة المركزية الأوروبية في الأدب المذكور، إلا أن هذا لم يمنعنا أبدا من التمتع بكتابات غوتة، وشاتوبريان، وفلوبير، وميلفل، وكيبلنغ، ورامبو وغيرهم ممن انعكس في أدبهم سحر الشرق وبرزت تلك التمثلات الحكائية الأسطورية والعجائبية الشرقية في كتاباتهم. وهو ما لا يجب أن يمنعنا من نقد قراءتهم لنا، ونقد تمثلاتنا لهم.

***

ولو، نحن ذهبنا أبعد، فإن الكتابة الشعرية، كما تتراءى لي، فكرة وممارسة وعملا مع اللغة وأخيلتها، بينما هي تتمثل الإرث الأسطوري وأيقوناته، إنما ترى في أيقونات هذا الإرث أنها تحمل قابليات وإمكانات أوسع بكثير من المعطي الناجز للصورة القديمة أو الأيقونة في زمنها. وهذا يجعل الشاعر في بحث دائم في تلك الملامح الأسطورية عمّا يتمتع بالطاقة المشعة، ذلك اللغز الإنساني المنعكس في حيرة الشاعر وحيرة الفنان وهما يعيدان في عصرهما الحديث صياغة الواقعة الإنسانية، ومعها الهوية الخاصة، في احتمالات وميول ونزوعات تتوارى كلها وراء الصورة الكلاسيكية المنظورة للأيقونة، فيخرجانها من كونها مرآة أشباح وظلالا ملغزة، لتشع مجدداً، وقد تفجرت عن احتمالات كانت مكبوتة في مكان ما، وكان لا بد من تواريخ تمرّ، حتى تكتشفها عين جديدة، عين شاعر قادم من زمن آخر يتلمس بأصابعه كنحات ويكتشف بحواسه تلك الندبة السرية في الجمال القديم والتي ما إن يلمسها حتى تضيء الأيقونة بنور جديد، حتى تولد ثانية ومعها روح جديدة هي روح عصر جديد.

***

قد يبدو هذا حديثا صرفا في الجمال الفني، ولكنه في الحقيقة بحث في جمال العلاقة بين الذات والآخر، وبين ثقافتنا وثقافته، ليس بوصفه غريبا نتقرّب منه ولكن بوصفه شريكا في كوكب، وما يملكه ونملكه إرث مشترك لنا معا، كما أن حياتنا المعاصرة هي مشترك كبير.

***

بعد ذلك، ما من فضل لنا أبداً، كشعراء، لو نحن اكتفينا بنسج أجنحة إيكاروس بلغة عصرنا، مهما كنّا بارعين في إعادة تصوير الواقعة. لا بد من شيء آخر، شيء أبعد وأقوى وأعمق وأكثر إبداعية، لا بد أن نتصرف، كشعراء، على نحو يمكننا من أن نجعل هذا الإيكاروس يولد من جديد هو وأجنحته وحلمه بالحرية، ويحمل، في الوقت نفسه، ملامحنا الشخصية.

لندن في 18ديسمبر/كانون الأول 2015

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.