أسلمة الراديكالية

الجمعة 2016/01/01

في رأي بعض المحللين العارفين بشؤون الإسلام والمسلمين مثل أوليفي روا وجيل كيبل وبيار جان لويزار فإن التفسيرات الأكثر رواجاً لما جرى في فرنسا تصطدم بالسؤال التالي: إذا كانت أسباب الراديكالية بنيوية فلماذا لا تمس إلا شريحة ضئيلة ممن نسميهم مسلمي فرنسا؟ أي الذين ينعتون اليوم بالشباب المتطرف.

قلة قليلة توقفت عند هذا الشباب المتطرف، الذي يوصف مرة بالطابور الخامس، ومرة أخرى بالعدو الداخلي، لتحلل كنهَه والعوامل التي أدت إلى تطرفه ثم جنوحه إلى العنف ضدّ بلد يفترض أنه واحد من مواطنيه. هذا الشباب من يكون؟ وما هي دوافعه؟ وما هي المراحل التي مرّ بها كي يصبح متطرفا، لأن الإنسان لا يولد إرهابيا بل يغدو كذلك؟

ينتمي السواد الأعظم من المتطرفين في فرنسا إلى شريحة عمرية واحدة، تتراوح بين مرحلة ما قبل المراهقة (15 سنة) وما بعدها بقليل (25 سنة) ومن النادر أن تتجاوز أعمار بعضهم الثلاثين عاما. هذه السن هي مرحلة تحوّل تمس أكثر جوانب الوجود حساسية، فجميع مثُل الطفولة، التي لها صلة بإدراك الطفل للحياة والعالم والخير بشكل ساذج، تسقط في طور المراهقة، ويكتشف المراهق أن المجتمع تغلب عليه المظاهر، وأن رؤية العالم كما يقترحها الآباء كاذبة، عندئذ يشرع في استبدال مثله الضائعة بمثل جديدة، وقد يقوده السعي إلى البحث عن النقاء والعدل. هذا التحول، كما يقول فتحي بن سلامة أستاذ علم النفس المرضي بجامعة ديدرو بباريس، يصعب تحقيقه لدى الشبان الذين يعانون من اضطرابات هووية هامة، إمّا لأنهم تعرضوا لحوادث في حياتهم، وإما بسبب قصور وسطهم العائلي أو الاجتماعي.

فهم عادة ما يكونون في انتظار حلّ للخروج من الفراغ وحتى الضياع. وفي رأيه أن الخطاب الراديكالي ينفذ من هذه الثغرة، وأن الأيديولوجيا الراديكالية القصوى تمنح هؤلاء الشبان الذين يعيشون مشاكل عويصة حلا شافيا من سبل أخرى، وبذلك يفقدون ما يسميه تفردهم، أي ما يكون به الإنسان إنسانا، ليصبحوا مشابهين لكل المجموعة أو الفرقة أو النِّحلة التي ينتمون إليها، وينعدم تعاطفهم مع بقية البشر، فيقتلون ويذبحون ويفجّرون دون أيّ إحساس بالذنب.

ينطبق هذا على الشباب ذي الأصول العربية مثلما ينطبق على الشبان الفرنسيين الذين اعتنقوا الإسلام، فهم أيضا ينطلقون من تيه ومن وضع مأزوم لا مخرج منه، فيجدون في هذه الأيديولوجيا ما يشبه الديانة، ليس من جهة اليقين بالسلوى فحسب، بل من جهة انتسابهم إلى مجموعة فيها من يزر وزرهم ويفكر بدلا عنهم ويخرجهم من عزلتهم وينوب عن عجزهم على التكيف مع عالم اليوم.

فالتطرّف، كما يقول جيرالد بونر، أستاذ علم الاجتماع بالجامعة نفسها، لا يكون إلاّ نتيجة اعتقاد جازم في صحّة فكرة وجدارتها، أي أنّه التزام راديكالي بفكرة راديكاليّة، ولو أن بونر يقسّم الأفكار المتطرّفة إلى ثلاثة أنواع: أفكار ضعيفة الانتقال بين الذوات، أي لا تنتشر إلاّ في صفوف عدد محدود من الناس، لأنّهم يرونها إما غير مقنعة وإما غير مناسبة للواقع. وأفكار معتلّة اجتماعيّا، وهي قيم ومعتقدات ذات شحنة صراعيّة، تؤدّي إذا ما تمّ الالتزام بها كليا إلى عجز فئة ما عن العيش مع الآخرين، لكونها لا تقبل رؤية للعالم تخالف رؤيتها. والثالثة، وهي أكثر أشكال التطرف خطورة، تلك التي تجمع بين كلا النوعين السابقين.

والشائع أن بؤر التطرف موجودة في المساجد، أو في بعضها على الأقل، تلك التي يتزعّمها إمام كما يتزعم المنحرف عصابة، ولكن جيل كيبل، أستاذ العلوم السياسية المتخصص في الإسلام والعالم العربي المعاصر، يعتقد أن دور المساجد في استقطاب الجهاديين ضعيف، برغم وجود أئمة سلفيين متعصبين على رأسها أحيانا، أولا لأن أغلب شبان الجالية العربية المتشددين لا يرتادونها، فهم منحرفون وأصحاب سوابق ولا علاقة لهم بالدين، ولأن أغلب معتنقي الإسلام من الفرنسيين، وإن كانوا لا يعانون على المستوين الاجتماعي والاقتصادي، يعيشون في فضاءات جغرافية لا هي بالضواحي ولا بالأرياف ولا بالمدن، فضاءات خارج الزمنِ والتسميةِ يسود سكانها السأم والملل. ومن ثَمّة، وهذا هو التفسير الثاني، فإن كليهما يبحث عن ضالته في الإنترنت. وكما لعبت المطبعة إبان “حركة الإصلاح المسيحية” دورا هاما في نشر النزوعات الأخروية وتغذية الحروب بين الكاثوليك والبروتستانت، يقول كيبل، تمثل الثورة الرقمية، وخاصة تطور المواقع الاجتماعية الذي يعطي البروباغندا الجهادية، سلطةَ إبهار قوية. وإذا شبان تائهون أمام فوضى العالم، لا يملكون معالم يهتدون بها، تغويهم فكرة البحث في ماضٍ مؤسطر -ماضي إسلامِ الأصول كما أعاد صنعه وتزويره وتسويقه سلفيون راديكاليون- عن نظام سوف يقدم لهم المعايير والقيم الواجب التمسك بها.

وفي رأي كيبل أن الحلم بالجهاد معناه أن يرى المتطرف نفسَه في حياة ملحمية، رجولية، بطولية ؛ ومعناه أيضا أن الانخراط في مشروع جماعي -أي بناء الخلافة، الذي يقدّم كطوباوية أرضية خالية من الفقر والبطالة- هو توطئة لعالم فردوسي في الآخرة.

أما أوليفيي روا فيعتقد أن مشكلة فرنسا ليست خلافة البوادي السورية، التي ستتبخر طال الزمان أم قصر مثل سراب تحول إلى كابوس، بل ثورة هؤلاء الشبان، التي بدأت في الواقع منذ 1996، وفي رأيه أنها ليست ثورة إسلام أو مسلمين بل هي مشكلة محددة تخص فئتين من الشباب، الجيل الثاني من أبناء العرب المهاجرين المغاربيين تحديدا، ومعتنقي الإسلام من شباب أهل البلاد. والجامع بينهما ثورة جيل: كلاهما يقطع مع أهله، أو ما يمثله الأهل من جهة الدين والثقافة، ويمارس الطقوس الثقافية الشبابية نفسها. فالجيل الثاني المغاربي لا ينخرط في إسلام الآباء، لأنهم في تصوره يمثلون تقاليد لا يعرفها، فقد نشأ هذا الجيل في الغرب وحذق لغته، وعاش عيشة أبنائه، من حيث المأكل والمشرب وارتياد الملاهي والخمارات وتعاطي الحشيش ومراودة الفتيات. وما سهل انجذاب هذا الجيل إلى الإسلام السلفي، أي إسلام معياري دغمائي ينبذ مفهوم الثقافة، رفضُه ثقافة الآباء والثقافة الغربية اللتين صارتا بمثابة رمز كرهه لنفسه، وعجزُ الآباء عن نقل ديانة متجذرة ثقافيا إلى أبنائهم لأسباب ذاتية وموضوعية. أما معتنقو الإسلام من الشباب الفرنسي، فثورتهم ناجمة عن قطع مع كل ما يمثل المؤسسة: الأسرة والدولة والثقافة، والإسلام المعتدل لا يلبّي أسباب تلك الثورة، لأن الراديكالية هي التي تجذبهم. وبالتالي فإن فرنسا لا تشهد راديكالية إسلامية بقدر ما تعيش أسلمة الراديكالية.

هذا الشباب بوجهيه العربي والفرنسي لا يلوذ بالتقية على غرار الإخوان، بل يعلن انتماءه صراحة، على صفحات التواصل الاجتماعي، ويستعرض قناعاته وأناه الجديدة التي تمنحه إياها رغبة الثأر من حرمان مكبوت، ورغبة القتل والانبهار بموته نفسه. والعنف الذي يمارسه هو عنف حديث، يقتل كما يقتل غيره في أميركا أو النرويج بدم بارد، دون تمييز ضحاياه، في نوع من النيهيلية الساحقة.

ويفسر فتحي بن سلامة هذا القتل الجماعي في برودة دم بأن مقترفيه يحقدون على العالم الذي يعتبرونه صنوا للفساد والرذيلة، أي أنهم اختاروا العالم الآخر، واختيار العالم الآخر معناه المرور إليه عبر الموت. بالنسبة إلى أناس يائسين من الحياة ومن أنفسهم، يغدو الموت وسيلة للخروج من عالم يعتبرونه لا يحتمل. وإذا كانت هذه الأيديولوجيا تجتذب المنحرفين في الغالب، فلأنها تضفي على جرائمهم نوعا من “النبل”، إذ يصبحون باسم قانون أسمى خارجين عن القانون.

والنزعة الذاتية التي يتحدث عنها بن سلامة تجد جذورها في عزلة هؤلاء الشبان المتطرفين عن الجاليات المسلمة، فقليل منهم يرتاد المساجد، وأئمتهم هم في العادة نصبوا أنفسهم بأنفسهم، وراديكاليتهم تتم حول مخيال عن البطل والعنف والموت، وليس حول الشريعة والطوباوية. وإذا كان بعضهم قد مر بجماعة التبليغ أو خالط الإخوان في اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا، فما من أحد منهم تابع دروسا دينية أو اهتم بالفقه الإسلامي أو حاول فهم طبيعة الجهاد وحتى نشأة الدولة الإسلامية داعش، وما من أحد منهم ناضل ضمن حركة سياسية بدءا بالحركات الداعمة للقضية الفلسطينية. فراديكاليتهم تتم حول مجموعة صغيرة من الأصحاب، ومن الإخوة أيضا، في مكان محدد قد يكون الحي أو ناديا رياضيا أو السجن، ليخلقوا فيما بينهم عائلة. أي أن الإرهابيين ليسوا تعبيرا عن راديكالية الجالية المسلمة بقدر ما هم تعبير عن ثورة جيلية تمس فئة محددة من الشباب.

وليس أمام هؤلاء غير خيارين: راديكالية اليسار المتطرف، وتتطلب مرجعية فكرية لا يملكونها، وراديكالية متأسلمة هي المتوافرة في السوق الآن، واعتناقها لا يكلف فائض جهد ولا معرفة، والمعلوم أن علاقة الإنسان مع العالم لا تتم إلاّ بطريقتين: المعرفة أو الاعتقاد، كما يقول جيرالد برونر في كتابه “الفكر المتطرّف. كيف يصبح الناس العاديّون متعصّبين”. فاتتهم المعرفة إذن فسعوا إلى الاعتقاد، ولو في أيديولوجيا توتاليتارية متسترة بالدين.

والخلاصة كما يقول أوليفيي روا أن داعش تنهل من خزان شباب فرنسيين راديكاليين أعلنوا انشقاقهم، وراحوا يبحثون عن سردية كبرى يضعون عليها بصماتهم الملتاثة بالدم. وسحق داعش لن يغير من ذلك شيئا.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.