العرب‭ ‬والتاريخ‭ ‬الإسلامي‭ ‬ومعضلة‭ ‬الحداثة

الاثنين 2016/02/01
لوحة: فادي يازجي

في العام 2015، تطلع حكماء جائزة نوبل للسلام نحو تونس الخضراء وقرروا تكريم تجربتها الغنية والفريدة ومجتمعها المدني الحيوي والمسؤول، من خلال الرباعي المؤلف من اتحاد نقابات العمال وأصحاب العمل، ورابطة حقوق الإنسان ونقابة المحامين، مما أظهر من دون شك الدور الريادي للمجتمع المدني التونسي في منع انحراف الربيع التونسي عن أهدافه ومساره‭.‬ بالفعل كانت الثورة التونسية الناعمة في صيف عام 2013 من صنع الناس العاديين والمعارضة الليبرالية‭..‬ لكن القيادة كانت عمليا للرباعي الذي كان طليعة المجتمع المدني في قيادة الحوار الوطني بين الأحزاب والمجموعات، مما فرض تصحيح مشروع الدستور وتحسينه، والذي أعاد التمسك بمفهوم الدولة الوطنية وأسس عصر التنوير والانفتاح والاعتراف بالآخر‭.‬

تحمّل نخب المجتمع المدني لمسؤولياتها في لحظة فاصلة من التاريخ التونسي يعد نموذجا للتجارب الأخرى حيث سقطت المراحل الانتقالية ضحية تجار الدين والانتهازية السياسية وقوى الثورة المضادة من دول خارجية أو أنظمة سابقة‭.‬ في التكريم إشادة بالاستثناء التونسي وبدور طليعة المجتمع المدني‭.‬ منذ القرن التاسع عشر كانت تونس مميزة في سعيها لبلورة دولة القانون، لكن التجربة البورقيبية وطابعها المدني العلماني كان لهما الأثر الكبير على تطور المجتمع بفضل مكاسب تطوير التعليم، انعتاق وتحرر المرأة بالإضافة إلى التبشير بقيم الانفتاح والتسامح‭.‬ بيد أن هذا الإنجاز لا يحجب استمرار غول الإرهاب أو مشاكل النخب السياسية والتنبه لوضع الشباب وللتنمية المتوازنة وإنهاء الشرخ بين الساحل والداخل‭.‬ وفي العام 2015 أيضاً، وقع اختيار المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت على هشام جعيط ليكون “شخصية العام الثقافية لسنة2015″‭.‬

هكذا عودتنا تونس عبر تاريخها، تونس أرض ابن خلدون والطاهر الحداد وخير الدين التونسي (مؤسس المدرسة الصادقية التي درس فيها المفكر هشام جعيط اللغة العربية)، أن تكون مختبر العصف الفكري الدستوري والسياسي والتاريخي الذي أثّر كثيرا في مسارات تطور العالم العربي‭.‬ درس هشام جعيط في باريس وعاش صدام وتفاعل الثقافات بين ضفتي المتوسط، ومما لا شك فيه أن ولعه بالفلسفة والتاريخ أتاح له تعميق معارفه وتقويتها، واكتشاف الخصوصيات الثقافية في العالم العربي وإعادة كتابته للتاريخ بشكل أكثر أصالة وصدقاً‭.‬

أبرز جعيط في مشواره بين التعليم الجامعي والكتابة وإدارة بيت الحكمة في تونس، أهمية الفضول الاجتماعي والتمحيص التاريخي في فهم أو استيعاب تاريخ الإسلام وحاضر العرب‭.‬ وبالطبع، استطاع المؤرخ التونسي تلمس سمات وخصوصيات ما سمّي مدارس الاستشراق سواء منها «المدرسة» الاستشراقية الفرنسية الجديدة (ماكسيم رودنسون، جاك بيرك وهنري كوربان وغيرهم) والمدرسة الاستشراقية الأنغلوسكسونية، لكنه سعى لترك بصماته وصياغة مقاربة جديدة للتاريخ الإسلامي والعربي تسمح بمواجهة تحديات الحاضر والأزمة العميقة التي تعصف بعوالم الإسلام وفرقه وانشقاقاته، مستخلصا ضرورة إعطاء أجوبة حيال معضلة إيجاد نماذج حداثة عربية متأقلمة مع العصر من دون القطع مع الجذور والأصالة‭.‬

في دراساته التاريخية الموسوعية ، يعتمد جعيط على الدراسات الفقهية القرآنية والتاريخية بشكل مختلف ويعوّل في دراسة الظواهر الإسلامية المعاصرة وتحليلها على الخلفية التاريخية وفهم الوقائع الميدانية‭.‬ لم يعتبر جعيط أن تعلّم ودراسة القرآن والتخصص في مجال التاريخ الإسلامي هو المفتاح العلمي الذي يؤهّله لمقاربة المعاصرة والمأزق الراهن في المشهدين السياسي والفكري‭.‬ ومن متابعة أعمال المؤرخ يتضح لنا أنه، وخلافا للمستشرقين الكلاسيكيين وبعض المؤرخين العرب، فقد أسهم جعيط في القطيعة مع النظرات الأحادية ولم يتردد في السعي وراء تحديث أدوات البحث العلمي، عبر تغليب مناهج العلوم الإنسانية العصرية على الدراسات الإسلامية الكلاسيكية ذات الطابع الفقهي‭.‬ فالظواهر الإسلامية ليست تجارب دينية صرفة، بل هي متشبعة أيضا بتأثيرات بيئتها الاجتماعية وظروفها السياسية‭.‬

وصف العديد من الباحثين الحضارة الإسلامية بأنها حضارة النص، وذلك بسبب نص القرآن الكريم الذي كان له تأثير كبير في بناء الحضارة الإسلامية وهو ما لم يحدث عند الآخرين، وكان هذا هو السبب في أن القرآن ما زال يتمتع بالنفوذ لدى المجتمعات المسلمة‭.‬ بينما في العالم المسيحي كان هناك بعد عصر التنوير شكل مختلف من التفسير للكتاب المقدس، وبعدها فصل ما بين الكنيسة والدولة، مما أتاح للحداثة أن تمر‭.‬ وبالإضافة إلى مشكلة القراءة الحرفية غير المحتملة للتفسير والتنوع، هناك مشكلة أخرى متصلة باعتقاد المسلمين أن هويتهم معرضة للتهديد في عالم اليوم، ولذا يستمر الإسلام في تشكيل أهم روافد الهوية بالنسبة الى المسلمين‭.‬

في السياق التاريخي من بدايات الخلافة الأموية والعباسية حتى السلطنة المملوكية والامبراطورية العثمانية، كان السؤال المركزي عن مسألة بناء الدولة في المجتمعات الإسلامية التقليدية وكانت إحدى المشاكل الكبرى في العالم العربي هي الحقيقة القائلة بأنه قبل الإسلام كانت هناك مجتمعات قبلية في غاية القوة‭.‬ والمشكلة الكبرى كانت تكمن دائماً في إيجاد قوة سياسية خارج المجتمع القبلي، فالقبائل لم تكن ترغب بأن تُنظّم، ولا أن تتبع نظاماً معيناً، ولا تعمل مع بعضها البعض لفترة طويلة، ولذلك فإن الصراع الكبير كان دائماً خلق نظام سياسي يتجاوز القبليّة‭.‬ وبطريقة ما، يبدو أن الإسلام في وقت مبكر كان العقيدة التي حاولت فعل ذلك، لأنه كان بوضوح ضد الولاءات القبلية لمصلحة الأمة الأكبر من المؤمنين‭.‬

بخصوص الإسلام والديموقراطية ، هناك توجس لأن البعض يرى أن الشورى تكفي وأن القيم الأخرى مستوردة‭.‬ وهذا يتطابق مع رؤية محمد أركون عن نقد النظرية التي تريد تقديم الإسلام بأنه دين ودولة ودنيا في آن معاً، أي قابل للتأقلم والتطبيق في كل زمان ومكان‭..‬ هذا الأمر هو تفسير للإسلام ليس علينا أن نقبله بالضرورة، ففي الإسلام في القرون الوسطى كان هناك فصل وظيفي واقعي بين الخليفة والسلطان، إذ لكلّ منهما مسؤوليات مختلفة‭.‬ وأعتقد أن هذا الدمج -هذه الفكرة القائلة إن الإسلام يستلزم دمج هذين الدورين السياسي والاجتماعي- لم يكن بالضرورة صحيحاً‭.‬ وبرز الإسلام السياسي منذ انتكاس القومية العربية ونجاح الثورة الإيرانية، وذلك لأسباب تتعلق بالسياسة أساساً‭.‬ هناك الكثير من الصراعات في تلك المنطقة، وهناك إحساس بالتهديد الثقافي والسياسي من خارج العالم الإسلامي، وأدى ذلك إلى الانكفاء للانسحاب والعودة إلى الإسلام كهوية‭.‬ وفي هذا الإطار يمكن اعتبار هيمنة الفكر الديني مرتبطة بتراجع الأيديولوجيات العلمانية الأخرى ولكن لو كانت منذ جيلين سابقين، لكانت أخذت شكل القومية العلمانية أو المتعلمنة (في فترة قوة الأحزاب البعثية في سوريا والعراق، أو مرحلة الناصرية) وفيما يتعدى هذا الجدل هناك رغبة في المشاركة السياسية وبناء دولة القانون فيما لا يتناقض مع القيم الإسلامية، ويبقى جوهر الديمقراطية الذي يقول بأن القادة يجب أن يكونوا مسؤولين أمام مواطنيهم، فكرة تصلح لكل البيئات والحاضنات الدينية‭.‬

ومن التفسيرات المهمة لغضب جيل الشباب الذي يشكل الأكثرية الساحقة من المجتمعات العربية إنما هو نوع من رد الفعل على فشل التحديث الأوسع في المنطقة، ومن ثم فشل النظام السياسي، لأن الناس لا يمتلكون مشاركة ذات معنى، ولا ديمقراطية، والكثير من الأشخاص لا يمتلكون الحرية الحقيقية في الكثير من جوانب حياتهم‭.‬

أما معضلة الحداثة فتكمن في فشل مقاربات حركة النهضة العربية‭.‬ إذ أن دعاة هذه النهضة من أمثال محمد عبده وعبدالرحمن الكواكبي، وغيرهم ربطوا الحداثة بالإسلام، مع اعترافهم بتجلياتها الأوروبية من ازدهار علمي ومادي غير مسبوق‭.‬ لم يكن إذن بدّ من الإقرار بصعوبة أن يكون المجتمع دينياً وحديثاً في الوقت نفسه‭.‬ في أوروبا ولدت الحداثة من قطيعة واضحة فكرية وسياسية مع الدين، وهذه القطيعة تجلّت في الثورة الفرنسية‭.‬ وكان من المستحيل أن يولد العصر الحديث دون هذه القطيعة مع الدين والتي لم تحدث حتى الآن في العالم العربي والإسلامي‭.‬ وعلى الأقل من دون فصل بين الدين واللعبة السياسية ومن دون نزع حصرية الاحتكار الديني لمنظومة القيم لن يحصل التقدم في عوالم الإسلام وخصوصا في العالم العربي.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.