هموم‭ ‬الفرد‭ ‬وهموم‭ ‬الأوطان

الاثنين 2016/02/01
لوحة: سعود عبدالله

أتحفت “الجديد” قراءها بعدد ممتاز خصصته للقصة، هذا الجنس الأدبي الذي هجره بعضهم إلى الرواية، فيما استمسك به آخرون، سواء على انفراد أو في موازاة إنتاجهم الروائي، وأبدعوا فيه ألوانا من القص تعددت أشكاله وصيغه وأحجامه، حتى صار ينقسم إلى أجناس فرعية كالقصة الطويلة، والقصة القصيرة، والقصة القصيرة جدا، والقصة الومضة، والقصة القصيدة‭..‬ وقد حفل العدد بما يقارب مائتي قصة من تلك الألوان لحوالي مائة كاتب وكاتبة من مشرق الوطن العربي ومغربه، تنوعت مضامينها، وتباينت مستوياتها‭.‬

في هذه الورقة نحاول تلمّسَ خصائص الكتابة القصصية لدى العرب في لحظة فارقة من تاريخهم، وتبيُّن مدى اتصالها بالراهن أو انفصالها عنه، فالكاتب، مهما اعتزل، هو ابن بيئته‭.‬ وإذا كنا ندرك أن القصة، بحكم وَجازتها وأحادية حدثها ووحدة انطباعها، لا تتيح لنا أن نعرف غير ملمحٍ خاص من حياة البطل (ـة)، وجزءٍ من رؤيته (ـا) للعالم، وانفعالٍ آني، عابر أو مقيم، في لحظة فارقة من حياته (ـا)، فإننا ندرك أيضا أن القصة تعكس، وإن بطريقة غير مباشرة، موقف الكاتب من الحياة والنفس، ورؤيته للواقع الذي يعيش فيه، فالكتابة اختيار، والاختيار قد يخضع، عن وعي أو غير وعي، لمفهوم الكاتب للعمل الأدبي، والخلفية الأيديولوجية، والنظريات الفكرية السائدة، والتيارات الأدبية الرائجة التي ينطلق منها‭.‬

ملاحظة أولى

هي ملاحظة قد تبدو شكلية، ولكنها في صميم ما سوف نأتي على تفصيل القول فيه أدناه‭.‬ المساهمون في هذا العدد يتوزّعون على ستة عشر بلدا عربيا، هي على التوالي: سوريا (22 كاتبا)، العراق (16)، مصر (16)، فلسطين (13)، الأردن (8)، السعودية (7)، المغرب (5)، الجزائر (2)، تونس (2)، اليمن (2)، لبنان (1)، سلطنة عمان (1)، الإمارات (1)، الكويت (1)، ليبيا (1)، السودان (1)‭.‬ وقد استرعى انتباهنا طغيان المركز وتقلص الأطراف، إن جاز لنا استعمال هذا التقسيم القديم، ما يوحي بأن أدب القصة ضامر الحضور في المغرب العربي وشبه الجزيرة العربية، ونحن نعرف مدى ولع الكتاب به في تونس والجزائر والمغرب مثلا، ووفرة إنتاجهم فيه، ولا ندري هل هو اختيار مقصود، أم فرضه ضيق الوقت والمادة المتوافرة‭.‬

ملاحظة ثانية

لفت انتباهنا أيضا تبادل الأدوار -في بعض القصص- بين الكاتب والذات الساردة، حيث يتقمص الرجل شخصية المرأة، وتحلّ المرأة في إهاب الرجل، على طريقة المسرح اليوناني القديم مع يوريبيديس وإسخيلوس، ثم في أوروبا منذ العصر الإيليزابيثي إلى الكوميديا ديلاّرتي وبيرانديلّو في إيطاليا وجان جينيه في فرنسا، وكذلك في الصين (الأوبرا) واليابان (الأونّاغاتا ورقصة البوتو) والهند (رقص الشَّكري والغُوتيبْوا) ثم في أميركا (مسرح السخرية لجون فاكارو) وأميركا اللاتينية (المسرح الأرجنتيني الراقص) وحتى في المشرق العربي، إما من خلال أعمال صيغت أساسا لهذا الغرض، أو باختيار هذا الممثل أو تلك الممثلة لأداء دور جُعل للجنس الآخر‭.‬ فقد وردت قصص لكاتبات على لسان ذكر، مثل “حبّ ووعد” لسمية عزام، و”لعنة الفراعنة” لكوليت بهنا، و”صندل الصبيّ” لهند جعفر‭.‬ كما وردت قصص أخرى لكتّاب على لسان أنثى مثل “مرسم” لغسّان الجباعي و”لسان مرّ” لطالب الرفاعي، وهي ظاهرة جديرة ببحث خاص، لا تتسع له هذه الصفحات‭.‬

ملاحظة ثالثة

كنا نتوقع، وبلاد العرب حرائق مشتعلة، أن أجواء القصص المقترحة ستحوم في معظمها حول معاناة الناس، أفرادا وجماعات، خلال سنين أربع من ثورات كاسحة ومعارك دامية وحروب أهلية لا يصيب فيها الرجل إلا أخاه، ولا تقطع فيها يمين المرء إلا يسراه‭.‬ ليس بنقل الأحداث وأطوارها وتقلباتها ونتائجها وتبعاتها، فذلك نهضت له في الإبان -ولا تزال- وسائل الإعلام والمواقع الاجتماعية على الشبكة، بل باختراق المرئي، البادي للعيان للنفاذ إلى ما وراءه، واقتناص تفاصيل الواقع الملتبس ولحظات الزمن الهارب، وسبر ما يعتمل في نفوس المتصارعين، ومَن أكفأ من القصاصين على الإمساك باللحظة، والتقاط التفاصيل، وتخليد حالات وشخصيات غير نمطية، تنبض بالحياة وتترك في النفس أثرا لا يمّحي‭.‬ إلا أن الجانب الأكبر (أكثر من مائة وستين قصة من جملة 198) نحا منحى آخر‭.‬ فبعض القصص قديم يرجع عهده إلى التسعينات والثمانينات وحتى ستينات القرن الماضي‭.‬ وبعض آخر منها متماهٍ مع الواقع يبحث في تجاويفه عن حالات جديرة -في رأي أصحابه طبعا- بأن تروى، وأشخاص حقيقيين بالمعالجة الفنية بوصفهم خارجين عن المألوف، فيما جانب مهمّ آثر أصحابه التوسل بالفنتازيا لتصوير واقع ملتبس، أو مضطرب، أو متغير، يتهجّون مفرداته ويرصدون تحولاته بأساليب حداثية، مستغلقة حينا، ولكنها لا تعدم دلالات رمزية في أغلب الأحيان‭.‬ وقد أحصينا منها عددا جديرا بالتنويه كـ”الرؤيا” لإبراهيم الحجري، و”مرآة” لأحمد الخميسي، و”جثتي الجافة كقطعة حطب” لإسلام أبو شكير، و”جناح الأورام” لأنيس الرافعي، و”الرحم” لسماح دبور، إلى جانب قصص أخرى، قصيرة جدا، تصيب مرماها بيسر، باعتماد نقد ساخر لاذع، ولغة تبدو بسيطة، ولكنها تكتنز تجارب في الحياة واسعة، كما في بعض قصص عاصم الباشا، وقصص صلاح زنكنة، وخاصة “الجنة موحشة جدا”، حيث يضع الكاتب، في كلمات معدودة، كثيرا من سردياتنا الأسطورية موضع مساءلة‭.‬

كنا نتوقع، وبلاد العرب حرائق مشتعلة، أن أجواء القصص المقترحة ستحوم في معظمها حول معاناة الناس، أفرادا وجماعات، خلال سنين أربع من ثورات كاسحة ومعارك دامية وحروب أهلية لا يصيب فيها الرجل إلا أخاه، ولا تقطع فيها يمين المرء إلا يسراه

لا جدال أن العدد حوى قصصا جيدة، بل ممتازة، لكتّاب بعضهم معروف والبعض الآخر لم يسعفنا الحظ والموانع العربية الكثيرة بالاطلاع عليه، مثل “يشماغ” لعبدالستار البيضاني، و”دوزنة في شقوق الطين” لعبدالقادر حكيم، و”البيت ذو المدخل الواطئ” لإبراهيم صامويل، و”البخار الآدمي” لأحمد سعيد نجم، و”الغناء المر” و”حارسة النعناع″ لحسن أبو دية، و”اجتياز العتبة” لأحمد خلف، و”ثلاثة أحلام من باصورا” لمحمد خضير، التي تتميز بسبك متين ورؤية فلسفية عميقة وبنية فنية مستحكمة‭.‬ ولكنها لا تدخل في قراءتنا أدناه، لأننا اخترنا التوقف عند التجارب التي حاولت التفاعل مع الراهن، في سخونته وزخمه، ومعاناة الناس في حِلّهم وترحالهم، وقد غدت أرضنا رمالا متحركة، وسماؤنا براميل متفجرة، وأفقنا أسلاكا شائكة، وحدودا حصينة، ومراكب أوديسية تتقاذفها أمواج المتوسط، أملا في مرافئ آمنة، فإذا هي تنجاب عن تيه وغرق وضياع وصدّ من بلدان غربية كان الفارون من الجحيم يحسبونها رحيمة‭.‬

قصص في صلب الحدث

“لا شيء حدث ما لم يُكتب”، تقول فرجينيا وولف‭.‬ لذلك استغربنا من قلة القصص التي تصدّى أصحابها إلى مكابدات الناس وتفتت النسيج الاجتماعي وانهيار المؤسسات، واندثار مدن بحالها، وخلق ما يسميه الشاعر نوري الجراح “التغريبة الشامية الكبرى” خصوصا وأن أغلب المساهمين، كما أسلفنا، ينتمون إلى بؤر الحروب الطاحنة والعمليات الإرهابية المدمرة والعدوان الأثيم (سوريا، العراق، مصر، فلسطين)‭.‬ ولا نحسب أن التذرع باختمار التجربة كافٍ وحده لتفسير قلة اهتمام الكتاب بأحداث مزلزلة رجّت البلدان العربية في شتى أنحائها‭.‬ في حديث له بجريدة العرب، يقول الروائي والناقد السوري نبيل سليمان “ليس هناك أسرع من التعلل بضرورة الانتظار حتى تختمر التجربة الإبداعية، أي حتى تهدأ الحرب أو يخمد الزلزال، ربما كان هذا التعلل كلمة حق يراد بها باطل، بعبارة أخرى: لا يعني اختمار التجربة بالضرورة ألا نكتب عمّا نعيشه، فقد تنتصر ثورة أو تهزم، قد يخمد الزلزال وتضع الحرب أوزارها، ثم يأتي من يكتب فإذا بالتخمر لم يحمه من السقوط أو الهاوية”‭.‬

هذه القلة نفسها، وإن نجحت في تصوير الأجواء العامة لما يلقاه البشر من نظام قامع لا يتورع عن دك البيوت على رؤوس أهلها، ورصد تفاصيل الحياة اليومية للمواطنين العزل، الساعين إلى أسباب عيش صارت تتمنّع عليهم، الباحثين عن ملاوذ عصية تنفلت من أيديهم انفلات الماء من بين فروج الأصابع، ووصف آلة القمع والاضطهاد، ممثلة في ميليشيات الحزب الحاكم وعساكره وضباط أمنه، فإنها، في عمومها، غير ناضجة بما فيه الكفاية، إلا نادرا‭.‬ صحيح أنها لصيقة بالواقع، ترسم تجلياته وتحولاته الرهيبة، وأصحابها ينطلقون من معاناة حقيقية، عاشوها أو عاينوها، ولكن النيات الطيبة لا تصنع بالضرورة أدبا جيدا‭.‬

هذه مثلا قصة “الأمانة” لزهير شلبي، تروي حكاية شاب أفشلت قوات النظام عرسه، ثم صار رأسه مطلوبا بعد أن انضم إلى قوى المعارضة، فأودع أمّه أمانة رجاها أن توصلها إلى عروسه‭.‬ وبعد مدة، تضع هذه المرأة خلقا سويّا‭.‬ فالكاتب ينجح في خلق جوّ مشحون بالتوتر، وتشويق يدفع القارئ إلى معرفة البقية، ثم يبدّد كل ذلك بنهاية غير مقنعة بالمرة، حتى وإن أردنا أن نحمل القصة على محمل الترميز، فلا يعقل أن ينقل رجل نطافه بالمراسلة إلى فتاة بكر في لفافة، تستعملها للقاح والإخصاب ثم تتلوها ولادة‭.‬

كذا قصة “فاطمة التي عاشت” لسعاد خبية، وتروي قصة عجيبة عن رضيعة ولدت تحت القصف الذي قوض المستشفى بمن فيه، قبل الأوان بثلاثة أشهر، في وزن لا يتعدى الكيلوغرام‭.‬ تؤخذ من حاضنتها، وتظل تنقَل بين أيدي النساء من ملجأ إلى ملجأ، طوال يومين كاملين، دون تغذية، ثم تكتب لها الحياة بقدرة قادر‭.‬ هنا أيضا استهتار بقوانين الطبيعة، فضلا عن كون القصة أقرب إلى ملخص رواية، حيث تتعدد الأماكن والأحداث والشخصيات والمفاجآت التي لا ينظمها منطق، والحال أن القصة لا تحتمل البعثرة، وعناصرها لا بدّ أن تكون متصلة، يأخذ بعضها برقاب بعض‭.‬

قصة أخرى هي “غبار المعركة” لنهى الصرّاف، بطلها جندي يدعى كاظم، يَحمل على ذراعيه، في ليلة زفافه وسط الطبول والزغاريد شيئا يتستّر عليه، ولا نكتشفه إلا في آخر القصة، وهو عبارة عن صورة مع رفاق له في الجبهة، أصابهم صاروخ قتلهم وأخطأه، وأصرّ أن يعلّق تلك الصورة في صالون بيته لتبقى شاهدا على وفائه لهم وعدم نسيانهم‭.‬ ولا نفهم لماذا انتظر هذا الجندي حلوله رفقة عروسه في بيته الجديد لتعليق الصورة‭.‬ ولماذا حمل ذلك الإطار مستورا عن أعين الناس كما يُحمَل الكفنُ وهو ذاهب إلى بيت الزوجية في ليلة يفترض أنها ليلة فرح وليست ليلة جنازة‭.‬ عنصر التشويق، الذي انبنت عليه القصة، يبدو مفتعلا، ولن تشفع للقصة واقعيتها، واتكاؤها على حدث قد يكون وقع بالفعل، فالسرد التخييلي إنما هو “كذب حق” كما يقول لويس أراغون، أي ممكن الحدوث، حتى وإن كانت الأحداث التي يرويها من وحي الخيال، والشرط في هذا “الكذب” ليس الصدق الواقعي وحده بل الصدق الفني أيضا‭.‬

قصص أخرى تبدو أكثر إقناعا مثل “حمزة المحروق” لابتسام شاكوش، وهي قصة طفل لجأ مع أمه، المصابة بمرض خبيث، وجدّته إلى أحد المخيمات، هربا من براميل الموت التي كانت تلقيها على رؤوس المواطنين طائراتُ نظام مجرم، وتنتهي نهاية مأساوية، حيث يموت الطفل صعقا بتيار كَبْل كان يريد بيعه ليشتري لأمه دواء، وتهلك الجدة بشظية طائشة، وتقضي الأم نحبها دون أن تعلم بما حاق بابنها‭.‬ ولم يكن أمام إدارة المخيم إلا تسليم الخيمة بما فيها للاجئين جدد، قد يلاقون المصير نفسه “مادامت براميل الموت ترفد المقابر والمخيمات بأرقام تتجدد في كل ساعة”‭.‬ قصة مؤثرة تعبر عن مصائر الناس، كبارا وصغارا، وقد صار الموت يأتيهم في أكثر من وجه، إلا أنها جاءت في سرد تقليدي كثّف الوصف وغفل عن الحوار، وصيغت بلغة تقريرية لا تخلو من هنات كاستعمال “لا بدّ” في غير محلها (لا بدّ أن أمه قد عادت، والمقصود هنا لا شكّ) أو بعض التعابير الممجوجة (وراح يبحث فرحا مسرورا)‭.‬

مأساة أخرى يصورها وافي بيرم في قصة “أنفاس طفلة” وهي عن أب يصيب بيتَه صاروخٌ أو برميلٌ يهلك إثره كلّ أهله، ويفقد هو بصره، فيمضى يضرب في الأرض بحثا عن ملاذ ثم عن مدرسة لتسجيل ابنته، ولم يكن المسكين يعلم -بعد أن أذهلته المصيبة- أن ابنته قضت نحبها حين انهدّ بيته على من فيه، وأن ما بقي متمسكا به لا يعدو أن يكون سوى دميتها‭.‬ قصة مكثفة، تروي حال من يجيئهم الدمار في أبشع صورة، فيفقدون كل شيء، حتى مداركهم العقلية‭.‬

هذا الانذهال الذي يفقد الإنسان عقله ووعيه وإحساسه بالزمن، وحتى آدميته، لا يصيب العزّل وحدهم، بل يصيب حتى جنود الغزاة، كما يتبدى في قصة “ماذا كنا نفعل هناك؟” لهيثم حسين‭.‬ يروي من خلالها السارد اعترافات متطوعة أميركية في قوات المارينز، قال إنها صديقة افتراضية فيسبوكية (لا يهمنا أن نعرف ما إذا كانت حقيقية أم متخيلة)، تبوح له بما شهدته من قتل ودمار أثناء حرب بلادها على العراق، وأثر ذلك في نفسها هي، مثلما تروي له معاناة الجنود الأميركان حينما كانوا في الجبهة، أو عندما وقع تسريحهم وإعادتهم إلى موطنهم‭.‬ وما تصفه نجد صداه في أعمال سردية لجنود أميركان عائدين من العراق مثل “الطيور الصفراء” لكيفن بويرس، و”نهاية مهمة” لفيل كلاي‭.‬ والكاتب هنا اهتم بالمضمون أكثر من اهتمامه بالشكل، ربما ليعطي تلك الاعترافات ثقل القصة كله، ويؤكد على عودة الوعي لدى من غُرر بهم وصُوّرت لهم الحرب في صورة نزهة ترفيهية‭.‬

عودة الوعي هذه، نجدها وإن بشكل مغاير، في قصة “ثورة” لهيفاء بيطار‭.‬ وتتوقف عند لحظة فارقة في حياة كاتب كان يعيش عيشة العبيد تحت نظام مستبد غاشم، لا يستطيع أن يكتب ما يريد لأنه كان يخشى جرائر قول الحق أمام مظاهر الطغيان البادية أمامه‭.‬ وفي لحظة يقرر أن ينبذ جبنه وخوفه ويتمرد على وضع العبد الذي أرداه إليه الاستبداد، ليعلن فكّ قيوده وتحرره، فيحس أنه تصالح مع نفسه، ولم يعد ينحى عليها باللائمة وينتقد جبنها، ويشعر أخيرا أنه في قامة صديقه سجين الرأي‭.‬ عودة الوعي إلى بطل هذه القصة ترافقت مع اندلاع ثورة الكرامة في سوريا، وهي حال كثير من المثقفين سكتوا عن الظلم دهرا ثم ركبوا الموجة، ورفعوا أصواتهم إما عن اقتناع أو عن تقليد، ليخوضوا نضالا بمفعول رجعي، حسب عبارة الفيلسوف المصري فؤاد زكريا‭.‬

اخترنا التوقف عند التجارب التي حاولت التفاعل مع الراهن، في سخونته وزخمه، ومعاناة الناس في حِلّهم وترحالهم، وقد غدت أرضنا رمالا متحركة، وسماؤنا براميل متفجرة، وأفقنا أسلاكا شائكة، وحدودا حصينة، ومراكب أوديسية تتقاذفها أمواج المتوسط

شبيه به في تمرده بطلُ “المنشورات توزع الليلة” لصبحي الدسوقي، وكان لا يني يعارض نشاط ابنه وابنته في توزيع المناشير السرية التي تحض الناس على الخروج على حاكم ظلوم غشوم، وينصحهما “امشي الحيط الحيط وقول يا ربّ الستر”، فلما جيء به إلى المخفر وشاهد ابنه داميا يبتسم أمام جلاديه، ثم ابنته دامية هي أيضا وعارية من أي ثوب يستر عورتها، ورغم ذلك تبتسم، وكأن الشابين يقولان لرموز الاستبداد: ما أصبتم إذ أصبتم سوى كتلة من لحم وعظام، أما الجوهر فهيهات‭.‬ اعترى الوالدَ ابتسامٌ ثم ضحكٌ ثم قهقهةٌ عالية أوهمت كبيرَهم بأن الرجل جُن فصاح فيهم: أخرجوه‭.‬ وما جُنّ الرجل، بل وعى أيَّ نظام يقاوم ولداه، فما كان إلا أن ‘ركض باتجاه منزله وهو يتمتم: في المنزل منشورات ستوزع الليلة”‭.‬ قصة مبنية بناء محكما، بأسلوب فني جيد يأتلف فيه التصعيد الدرامي المشوق والعبارة الصائبة‭.‬

من القصص ذات الدلالات العميقة “عشر دقائق” لوسام نبيل المدني، قصة عن امرأة حامل يجيئها إنذار لإخلاء البيت قبل القصف‭.‬ وتطوف ببيتها مترددة ماذا تحمل معها من أشيائه، ثم تعدل عن مغادرته، لأنها لا تستطيع أن تترك وراءها ذكرياتها وعلاقتها ببيت شهد أفراحها وأتراحها‭.‬ في هذه القصة المكثفة رمزية بليغة عن التمسك بالأرض، بالوطن، رغم الأخطار المحدقة‭.‬ خلافا ليزيد عاشور في قصة “شكرا للرصاصة”، إذا يشكر السارد قاتله، لأنه سيخلصه من المحن التي يعيشها في زمن سماته القتل والمهانة والنفي والتشرد والبحث عن مقبرة لدفن من مات‭.‬ وفيها يستعرض الكاتب جملة ما يقابل به النظام الجائر مواطنيه، حتى صاروا يتمنون الموت على حياة الذل، أكثر من ذلك، صاروا يشكرون قاتليهم لأنهم سيخلصونهم من رحلة عذاب لا تنتهي‭.‬

قصة أخرى لا تقل رمزية، هي “صرخت هناء” لسمارة حسين عن ولادة مستعصية في جو لاهب، شكلت نقطة ضوء في جحيم أسرة لا تنتظر غير الفرح‭.‬ فهي صورة عن أمنية العرب جميعا، أن ينوب عن المخاض العسير الذي تشهده المنطقة انفراج يعيد البسمة إلى الناس، الذين لا يريدون سوى فرحة الحياة، الحياة الكريمة التي تنكرها عليهم أنظمة جائرة‭.‬

ولعل أكثر القصص نضجا وأكملها حبكة وأسلوبا “لولو” و”مجرد كلب” وكلتاهما لغسان الجباعي‭.‬ الأولى عن وفاء كلبة لمولاها، ودفاعها عنه بعد أن اقتيد عنوة إلى المخفر، ولم يجد الضابط من حيلة لإخراس نباحها سوى رميها بطلقة‭.‬ والثانية عن كلب من الفصيلة الجرمانية يتخذه مطية لتصوير الرعب الذي يعيشه سكان المدينة في ظل نظام بوليسي‭.‬ ويبرع الكاتب في شد اهتمام القارئ بلغة سليمة صافية، وسرد متوتر‭.‬ واختيار الكلب هنا يمكن أن نتأوله تأويلا أخلاقيا في الحالة الأولى حيث يبدو الحيوان أرحم من الإنسان، وآخر رمزيا للدلالة على ما يمثله البوليس في حياة المواطن العربي من شراسة ودموية وتهديد إن بليل أو نهار، فما هو في النهاية سوى “مجرد كلب”‭.‬ وهو ما تلخصه سمارة حسين في “رحلة استمارة” ضمن حوار بليغ عما يلقاه المواطن العربي:

- هل اعتُقلت ؟

- نعم‭.‬

- كيف كانت المعاملة؟

- خمس نجوم‭.‬

القصة فن صعب بشهادة كل من مارسها، ولا بد والحالة تلك، من الإلمام بمقوماتها وشروطها، والاطّلاع على اتجاهاتها ومراحل تطورها، والاستفادة من التجارب المتميزة في الشرق والغرب، حتى يكون الكاتب عارفا من أين يبدأ وإلى أين يمضي، قادرا على شق طريق لم يألفها قبله سابل‭.‬ فالسجية وحدها لا تكفي، لأنها لا تفضي إلا إلى ما تعارف نقاد الفنون التشكيلية على تسميته بالفن الساذج، أعمال تراوح مكانها من بدئها إلى منتهاها، ولا يمكن مقارنتها بحال بلوحات المتمرّسين وفق مناهج معلومة يمر خلالها الفنان عبر مراحل من التعلم والدربة والاحتذاء والمهارة والتميز‭.‬ فالكتابة لا تأتي عفو الخاطر، وإنما هي قَسْرٌ (contrainte) كما يقول يونسكو‭.‬

وكاتب القصة يحتاج -مع الموهبة- إلى معرفة مقومات الكتابة القصصية، ويحتاج بقدر أكبر إلى ثقافة متينة، وخبرة في الحياة واسعة، وطاقة على رصد تفاصيل الحياة اليومية بدقة وموضوعية، وقدرة على الغوص في أعماق الإنسان في حالات انتصاره وانكساره، ليجلو من كل ذلك قيما سامية‭.‬ ولكنه يحتاج أولا وأخيرا إلى تملك اللغة التي يصوغ بها فنه، فقد وقفنا على قصص تشوبها هنات مخلّة، منها ما صار شائعا مثل “حكايا” بدل “حكايات”، و”استلم” بدل “تسلّم”، و”سويّا” بدل “معًا”، و”بالكاد” التي لا وجود لها في لغة الضاد، و”فاح” الذي لا يصح إلا للريح الخبيثة، واستعمال “أحد” مع أفعل التفضيل تأثرا بالفرنسية والإنكليزية (“والده أحد أهمّ ضبّاط الأمن” بدل “من أهمّ”)، فضلا عن تأنيث البطن والرأس، وتذكير الكتف والذراع‭.‬ ومنها أخطاء لا تغتفر لكاتب كقول أحدهم “يستطيعون أن يخبرونكم” عوض “يخبروكم”، وقول الآخر “ديوانا قبّاني اللذين…” بدل “اللذان”، وقول ثالث “فيما يخصنا نحن الغائبون” والصواب “الغائبين”، وقول رابع “قال والجميع حوله مصطفين” عوض “مصطفون”‭.‬ ومنها ما ينبئ عن قلة إلمام بالعربية كقول أحدهم ⊇“يبدو فمه خاليا من الأسنان” بدل “أدرد”، وقول ثان “أفيق بعينين مغلقتين” بدل “مغمضتين”، وقول ثالث “لم أستطع حبس دموع عينيّ” وكأن الدموع يمكن أن تسيل من عضو آخر‭.‬ وقول رابع “وقف على رجليه” وكأن من عادة البشر الحبو على أربع، فضلا عن سوء التعبير كقول أحدهم “ليس متأكدا إن كان سوف يحضر” وكان من اليسير أن يقول “ليس متأكدا من الحضور، أو من حضوره”‭.‬ فالإمساك باللغة والإلمام بقواعدها وضوابطها هما من أصول الكتابة‭.‬ ولا يمكن للقارئ الفطن أن يحترم كاتبا لا يحسن تصريف الأفعال كقول بعضهم “يستعدن” وهو يقصد “يستعددن” و”أصرّيت” وهو يقصد “أصررت”، أو ينصب الفاعل (وتنسال – كذا – من جبينه حبّتي عرق) ويرفع المفعول (يمد لي صاحبي يداه)، أو يجهل عمل النواسخ (لا يزال عليٌّ ماضٍ)، وحتى الأسماء الموصولة (عيناها التي تكادان)… ومن نافلة القول إن اللغة عنصر أساس، فهي التي بواسطتها يوصل الكاتب أفكاره ويصوّر بها نصا يتواشج فيه الشكل والمضمون، فإذا اختلت، اختل الفكر واختل التواصل‭.‬ إضافة إلى البناء الذي لم يحفل به إلا القليل، والحال أنه قوام العمل الفني الناجح، لأن القصة ليست مجرد حكاية تروى، ذات بداية ووسط وخاتمة، وإلا لكان كل متعلم قاصا، وفي صدر كل إنسان أكثر من حكاية، بل هي عمل فنّي له شروطه، حتى وإن كان الإبداع خلقا على غير مثال.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.