الجمال‭ ‬في‭ ‬متاهة‭ ‬لغته

الجمعة 2016/04/01
لوحة: محمد عبدالرسول

منذ‭ ‬خمسينات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬وحتى‭ ‬اليوم‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬سؤال‭ ‬الهوية‭ ‬في‭ ‬الرسم‭ ‬‭(‬العربي‭)‬،‭ ‬وهو‭ ‬سؤال‭ ‬يتعلق‭ ‬ببنية‭ ‬اللغة‭ ‬التعبيرية،‭ ‬مُحرجَا‭ ‬ومتعثرا‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬بقدر‭ ‬أو‭ ‬بآخر‭ ‬يمثّل‭ ‬نوعا‭ ‬من‭ ‬الشغف‭ ‬الوصفي‭ ‬بالمفردات‭ ‬البصرية‭ ‬الموروثة‭ ‬والمتداولة‭ ‬شعبيا‭ ‬‭(‬رموز‭ ‬وإشارات‭ ‬وعلامات‭ ‬دينية‭ ‬وسحرية‭ ‬وبيئية‭)‬‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ذلك‭ ‬ليقع‭ ‬لولا‭ ‬أن‭ ‬الرسامين‭ ‬الذين‭ ‬شكل‭ ‬ذلك‭ ‬السؤال‭ ‬مصدر‭ ‬قلق‭ ‬واحتقان‭ ‬‭(‬هلع‭ ‬وفزع‭ ‬ضمنيين‭)‬‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬دافعهم‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬انهمكوا‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬مناورات‭ ‬شكلية‭ ‬الوقوف‭ ‬أمام‭ ‬سؤال‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬“ما‭ ‬معنى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الرسام‭ ‬عربيا؟”،‭ ‬وهو‭ ‬السؤال‭ ‬الذي‭ ‬يشكل‭ ‬فرعا‭ ‬للسؤال‭ ‬الأكبر،‭ ‬المنسي‭ ‬هو‭ ‬الآخر‭ ‬‭(‬لا‭ ‬يزال‭ ‬منسيا‭)‬‭ ‬والذي‭ ‬يقول‭ ‬“ما‭ ‬معنى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الإنسان‭ ‬عربيا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العصر؟”‭.‬

وكما أرى‭ ‬فإن‭ ‬تأصيل‭ ‬الفعل‭ ‬الجمالي‭ ‬كان‭ ‬منذ‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬الكثيرين‭ ‬نوعا‭ ‬من‭ ‬الواجب‭ ‬الملزم‭ ‬ثقافيا‭ ‬وليس‭ ‬فنيا،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬البعض‭ ‬‭(‬منتصف‭ ‬الستينات‭ ‬وما‭ ‬بعدها‭)‬‭ ‬واجبا‭ ‬نضاليا‭ ‬يمليه‭ ‬الإيمان‭ ‬بضرورة‭ ‬قيام‭ ‬ثقافة‭ ‬عربية‭ ‬ذات‭ ‬أسس‭ ‬عقائدية‭. ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬الإيمان‭ ‬في‭ ‬حقيقته‭ ‬انعكاسا‭ ‬لطريقة‭ ‬حزبية‭ ‬في‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬المتغيرات‭ ‬الواقعية‭. ‬وإذا‭ ‬ما‭ ‬تجاوزنا‭ ‬تجارب‭ ‬ذلك‭ ‬البعض‭ ‬‭(‬الحزبي‭)‬‭ ‬بسبب‭ ‬تدني‭ ‬مستويات‭ ‬أدائها‭ ‬التعبيري‭ ‬في‭ ‬الفن،‭ ‬وخضوعها‭ ‬لمبادئ‭ ‬وأسس‭ ‬الواقعية‭ ‬الاشتراكية‭ ‬‭(‬تجربة‭ ‬المصري‭ ‬حامد‭ ‬عويس‭ ‬مثلا‭)‬،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬ألقى‭ ‬بظلال‭ ‬الشك‭ ‬على‭ ‬قدرتها‭ ‬على‭ ‬فهم‭ ‬قيمة‭ ‬المحاولة‭ ‬التي‭ ‬تهدف‭ ‬إلى‭ ‬التماهي‭ ‬مع‭ ‬إيحاء‭ ‬المنجز‭ ‬الجمالي‭ ‬العربي‭ ‬القديم،‭ ‬المتمثل‭ ‬بالخط‭ ‬والزخرفة،‭ ‬فإن‭ ‬اشتباك‭ ‬بدايات‭ ‬الحداثة‭ ‬الفنية‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬بالرغبة‭ ‬الملحّة‭ ‬في‭ ‬صياغة‭ ‬فنّ‭ ‬ذي‭ ‬هوية‭ ‬مفارقة‭ ‬لمصادر‭ ‬التأثير‭ ‬العالمي‭ ‬‭(‬على‭ ‬الأقل‭ ‬إلهاميا‭ ‬وليس‭ ‬شكليا‭)‬‭ ‬قد‭ ‬وضع‭ ‬التجربة‭ ‬الفنية‭ ‬العربية‭ ‬كلها‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬مصير‭ ‬ملتبس،‭ ‬صار‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬نوعا‭ ‬من‭ ‬القدر‭ ‬المرائي‭ ‬والقابل‭ ‬للتأويل‭ ‬المضاد‭.‬‮ ‬

فهل‭ ‬وقعنا‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬براءة‭ ‬القصد‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬يغلب‭ ‬عليها‭ ‬سوء‭ ‬الفهم،‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬نتائجها‭ ‬المباشرة‭ ‬قيام‭ ‬فن‭ ‬خلاسي،‭ ‬لا‭ ‬هوية‭ ‬حقيقية‭ ‬له؟‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يجعل‭ ‬تلمّس‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬لغة‭ ‬تشكيلية‭ ‬في‭ ‬الفن‭ ‬العربي،‭ ‬لغة‭ ‬ذات‭ ‬ملامح‭ ‬واضحة‭ ‬يغلب‭ ‬عليها‭ ‬الرجاء،‭ ‬دافعا‭ ‬بمواهب‭ ‬استثنائية‭ ‬إلى‭ ‬حافة‭ ‬الشفقة‭.‬‮ ‬

‮ ‬تياران‭ ‬أساسيان‭ ‬وثالث‭ ‬بعدهما

كما‭ ‬لو‭ ‬أن‭ ‬عناصر‭ ‬الهوية‭ ‬يمكن‭ ‬اختزالها‭ ‬في‭ ‬جدول‭ ‬للعلامات‭ ‬الخطية،‭ ‬فكك‭ ‬الرسامون‭ ‬العرب‭ ‬ما‭ ‬تيسر‭ ‬بين‭ ‬أيديهم‭ ‬من‭ ‬مفردات‭ ‬إرث‭ ‬تصويري‭ ‬محلي‭ ‬‭(‬تراثي‭ ‬قومي‭ ‬وفلكلوري‭ ‬قطري‭)‬‭ ‬وصاروا‭ ‬يبحثون‭ ‬في‭ ‬تفاصيل‭ ‬تلك‭ ‬اللقى‭ ‬عن‭ ‬ذرائع‭ ‬لاستخراج‭ ‬نسب‭ ‬جمالي‭ ‬جماعي‭. ‬بالمعنى‭ ‬الذي‭ ‬يعيد‭ ‬ترميم‭ ‬وصيانة‭ ‬قاعدة‭ ‬تؤسس‭ ‬لوعي‭ ‬العالم‭ ‬بصريا‭. ‬وهي‭ ‬القاعدة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬راسخة‭ ‬بقوة‭ ‬في‭ ‬أوقات‭ ‬سابقة،‭ ‬غير‭ ‬أنها‭ ‬تهدمت‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تعرّض‭ ‬فنا‭ ‬الزخرفة‭ ‬والخط‭ ‬العربيان‭ ‬للإهمال‭ ‬والإنكار‭ ‬بسبب‭ ‬نظرة‭ ‬دونية،‭ ‬استُلهمت‭ ‬من‭ ‬تصنيف‭ ‬غربي‭ ‬ألحقهما‭ ‬بالفنون‭ ‬التطبيقية‭. ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬الانحراف‭ ‬قد‭ ‬أحدث‭ ‬شرخا‭ ‬خفيا‭ ‬بين‭ ‬العربي‭ ‬وذاته‭. ‬ذلك‭ ‬الشرخ‭ ‬سيبدو‭ ‬واضحا‭ ‬في‭ ‬أوقات‭ ‬لاحقة،‭ ‬حين‭ ‬سعى‭ ‬بعض‭ ‬الفنانين‭ ‬إلى‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬معطيات‭ ‬فنّين،‭ ‬لم‭ ‬يحظيا‭ ‬بما‭ ‬يستحقانه‭ ‬من‭ ‬التبجيل‭ ‬والاحترام‭.‬‮ ‬

ولأنّ‭ ‬العرب‭ ‬لم‭ ‬يعرفوا‭ ‬في‭ ‬ماضيهم‭ ‬الرسم،‭ ‬فنا‭ ‬خالصا‭ ‬ومستقلا،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬عرفوه‭ ‬فنا‭ ‬احترافيا‭ ‬لتزويق‭ ‬الكتب‭ ‬‭(‬مقامات‭ ‬الحريري‭ ‬التي‭ ‬زيّنها‭ ‬يحيى‭ ‬بن‭ ‬محمود‭ ‬الواسطي‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الثالث‭ ‬عشر‭ ‬ميلادي‭ ‬هي‭ ‬الأكثر‭ ‬شهرة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭)‬‭ ‬فقد‭ ‬توزّع‭ ‬رعاة‭ ‬الحداثة‭ ‬الفنية‭ ‬الأوائل‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬مرجعيّاتهم‭ ‬التصويرية‭ ‬بين‭ ‬تيارين‭: ‬تيار‭ ‬وجد‭ ‬في‭ ‬رسوم‭ ‬الواسطي‭ ‬‭(‬معه‭ ‬عشرات‭ ‬الرسامين‭ ‬ممّن‭ ‬عاشوا‭ ‬في‭ ‬عصره‭)‬‭ ‬سندا‭ ‬فنيا‭ ‬مزدوجا‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬أزمتين‭: ‬إسقاط‭ ‬الفتاوي‭ ‬بتحريم‭ ‬الرسم‭ ‬إسلاميا‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬ومن‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭ ‬مدّ‭ ‬جسور‭ ‬أسلوبية‭ ‬مع‭ ‬منجزات‭ ‬رسامين‭ ‬غربيين‭ ‬معاصرين‭ ‬بعينهم‭ ‬‭(‬بيكاسو،‭ ‬ماتيس،‭ ‬بول‭ ‬كليه‭)‬‭ ‬انطلاقا‭ ‬من‭ ‬فكرة‭ ‬نقدية‭ ‬كانت‭ ‬غامضة‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير،‭ ‬تفيد‭ ‬بأن‭ ‬أولئك‭ ‬الرسامين‭ ‬كانوا‭ ‬قد‭ ‬تأثروا‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬مراحلهم‭ ‬الفنية‭ ‬بالـ‭(‬أرابيسك‭)‬‭. ‬كان‭ ‬العراقي‭ ‬جواد‭ ‬سليم‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬رموز‭ ‬ذلك‭ ‬التيار‭. ‬أما‭ ‬التيار‭ ‬الثاني‭ ‬فقد‭ ‬تماهى‭ ‬مع‭ ‬تأثيرات‭ ‬فنّي‭ ‬الزخرفة‭ ‬والخط‭ ‬وبالأخص‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬النغمي،‭ ‬وصار‭ ‬يستخرج‭ ‬من‭ ‬هذيانات‭ ‬فرشاة‭ ‬الرسم‭ ‬المعاصرة‭ ‬ما‭ ‬يذكر‭ ‬بعالم‭ ‬استثنائي‭ ‬يقيم‭ ‬خارج‭ ‬الصور‭ ‬المتاحة،‭ ‬عالم‭ ‬يمزج‭ ‬بين‭ ‬الشكلي‭ ‬واللاشكلي‭ ‬بعفوية‭ ‬مقيدة‭ ‬بأسبابها‭. ‬ومن‭ ‬أبرز‭ ‬رموز‭ ‬ذلك‭ ‬التيار‭ ‬المغربي‭ ‬أحمد‭ ‬الشرقاوي‭ ‬ومن‭ ‬بعده‭ ‬اتسع‭ ‬الطريق‭ ‬للعراقي‭ ‬شاكر‭ ‬حسن‭ ‬آل‭ ‬سعيد‭ ‬ليقود‭ ‬اتجاه‭ ‬الحروفية‭ ‬في‭ ‬السبعينات‭ ‬مستلهما‭ ‬تجارب‭ ‬مديحة‭ ‬عمر‭ ‬وجميل‭ ‬حمودي‭. ‬ولأن‭ ‬المسافة‭ ‬كانت‭ ‬شاسعة‭ ‬بين‭ ‬التيارين‭ ‬فقد‭ ‬ملأ‭ ‬تيار‭ ‬ثالث‭ ‬الفراغ‭ ‬التصويري‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬بمثابة‭ ‬المصفاة‭ ‬لكل‭ ‬ما‭ ‬يتسرب‭ ‬من‭ ‬قيم‭ ‬جمالية‭ ‬من‭ ‬محاولات‭ ‬الفريقين‭ ‬السابقين‭. ‬وقد‭ ‬ظهر‭ ‬ذلك‭ ‬التيار‭ ‬في‭ ‬أقوى‭ ‬صوره‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تجربتي‭ ‬السوري‭ ‬فاتح‭ ‬المدرس‭ ‬واللبناني‭ ‬بول‭ ‬غراغوسيان‭ ‬‭(‬1926‭ ‬ــ‭ ‬1993‭)‬‭.‬‮ ‬

‬فاتحا‭ ‬كان‭ ‬المدرس

‬لم‭ ‬يكن‭ ‬التيار‭ ‬الأخير‭ ‬تيارا‭ ‬وسطيا،‭ ‬كما‭ ‬قد‭ ‬يتبادر‭ ‬إلى‭ ‬الذهن‭. ‬يمكن‭ ‬تأويل‭ ‬تجربة‭ ‬رسام‭ ‬مثل‭ ‬فاتح‭ ‬المدرس‭ ‬‭(‬1922‭ ‬ــ‭ ‬1999‭)‬‭ ‬تراثيا‭ ‬‭(‬محليا‭ ‬على‭ ‬الأقل‭)‬،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬معاصرته‭ ‬الفنية،‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬تعبير‭ ‬عن‭ ‬تلصصه‭ ‬الخلاق‭ ‬على‭ ‬التجارب‭ ‬الفنية‭ ‬في‭ ‬الغرب،‭ ‬هناك‭ ‬حيث‭ ‬نشأ‭ ‬الرسم‭ ‬بمفهومه‭ ‬المعاصر‭ ‬‭(‬الذي‭ ‬صرنا‭ ‬نتبعه‭)‬،‭ ‬كان‭ ‬عميقا‭ ‬وضروريا‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬رسام‭ ‬فاتح‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬المدرس‭ ‬لا‭ ‬يتوقف‭ ‬عند‭ ‬حدود‭ ‬التماس‭ ‬الاستعراضي‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬تراثي‭ ‬وبين‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬معاصر،‭ ‬بين‭ ‬المحلي‭ ‬والعالمي‭. ‬ذلك‭ ‬لأن‭ ‬بحثه‭ ‬الجمالي‭ ‬انصبّ‭ ‬على‭ ‬ابتكار‭ ‬لغة‭ ‬تصويرية‭ ‬مستقلة،‭ ‬تكون‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬العين‭ ‬العربية‭ ‬مرجعا‭ ‬لتأويل‭ ‬الوقائع‭ ‬البصرية،‭ ‬ما‭ ‬يُرى‭ ‬منها‭ ‬وما‭ ‬لا‭ ‬يُرى‭. ‬كان‭ ‬لدى‭ ‬المدرس‭ ‬من‭ ‬العدة‭ ‬الذهنية‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬‭(‬التعبيرية‭)‬‭ ‬فنا‭ ‬ممكنا‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬العربي،‭ ‬ذلك‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬يكتب‭ ‬الشعر‭ ‬في‭ ‬موازاة‭ ‬ممارسته‭ ‬الرسم،‭ ‬غير‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المنطقة‭ ‬بالذات‭ ‬تصرّف‭ ‬بحذر‭ ‬وشعور‭ ‬صادق‭ ‬بالمسؤولية‭. ‬كان‭ ‬قد‭ ‬أدرك‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬مبكر‭ ‬من‭ ‬حياته‭ ‬أن‭ ‬للرسم‭ ‬لغة‭ ‬مختلفة،‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬أحوالها‭ ‬لن‭ ‬تكون‭ ‬محايدة،‭ ‬وهي‭ ‬لغة‭ ‬لا‭ ‬تصلح‭ ‬للوصف‭ ‬ولا‭ ‬لاستدعاء‭ ‬الذكريات‭ ‬ولا‭ ‬للحنين‭. ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬خيارا‭ ‬يفلت‭ ‬بالرسم‭ ‬من‭ ‬هيمنة‭ ‬الحكاية‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬أدب‭ ‬كثير‭ ‬في‭ ‬رسوم‭ ‬المدرس‭. ‬كان‭ ‬الرجل‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬تنقية‭ ‬الواقعة‭ ‬من‭ ‬تفاصيل‭ ‬الحكاية‭.‬

لن‭ ‬يكون‭ ‬مفاجئا‭ ‬أن‭ ‬يُعتبر‭ ‬المدرس‭ ‬أبا‭ ‬للحداثة‭ ‬الفنية‭ ‬في‭ ‬سوريا‭. ‬لقد‭ ‬هيمن‭ ‬بلغته‭ ‬الجمالية‭ ‬على‭ ‬طريقة‭ ‬تفكير‭ ‬أجيال‭ ‬من‭ ‬الرسامين‭ ‬السوريين‭ ‬في‭ ‬الرسم‭.‬‮ ‬

إرث‭ ‬الحداثة‭ ‬الثانية

‬في‭ ‬موازاة‭ ‬تجربة‭ ‬المدرس‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬كانت‭ ‬تجربة‭ ‬كاظم‭ ‬حيدر‭ ‬‭(‬1932‭ ‬ــ‭ ‬1985‭)‬‭ ‬في‭ ‬العراق،‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬تمثل‭ ‬تاريخيا‭ ‬نقلة‭ ‬نوعية‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬مفهوم‭ ‬الحداثة‭ ‬الفنية‭ ‬بعد‭ ‬حداثة‭ ‬الخمسينات،‭ ‬قد‭ ‬استلهمت‭ ‬أشكالها‭ ‬من‭ ‬المعنى‭ ‬العملي‭ ‬السابق‭ ‬لفعل‭ ‬الرسم‭. ‬ففي‭ ‬معرض‭ ‬“الشهيد”‭ ‬الذي‭ ‬أقامه‭ ‬حيدر‭ ‬عام‭ ‬1965‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬لغة‭ ‬تستلهم‮ ‬‭ ‬معاني‭ ‬يمتزج‭ ‬فيها‭ ‬التراثي‭ ‬بالشعبي،‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬تتخلى‭ ‬تلك‭ ‬اللغة‭ ‬عن‭ ‬أسلوبيتها‭ ‬المعاصرة‭ ‬في‭ ‬الأداء‭. ‬في‭ ‬رسوم‭ ‬ذلك‭ ‬المعرض‭ ‬كان‭ ‬الموضوع‭ ‬أساسيا‭ ‬‭(‬واقعة‭ ‬الطف‭ ‬في‭ ‬كربلاء‭ ‬ومقتل‭ ‬الإمام‭ ‬الحسين‭ ‬وأصحابه‭)‬‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬حيدر‭ ‬سعى‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬ينجو‭ ‬بفنه‭ ‬من‭ ‬الوصف‭ ‬الأدبي‭ ‬الفائض‭ ‬بشحنته‭ ‬التعبيرية،‭ ‬حين‭ ‬لجأ‭ ‬إلى‭ ‬استلهام‭ ‬التوتر‭ ‬البلاغي‭ ‬الذي‭ ‬تنطوي‭ ‬عليه‭ ‬الحكاية‭ ‬التاريخية‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬حيدر‭ ‬في‭ ‬استلهامه‭ ‬لواقعة‭ ‬تاريخية‭ ‬محلية‭ ‬تراثيا‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الشكلي‭. ‬كانت‭ ‬أشكاله‭ ‬تنبعث‭ ‬من‭ ‬رغبته‭ ‬في‭ ‬الإنصات‭ ‬إلى‭ ‬الجوهر‭ ‬المأساوي‭ ‬للحكاية‭. ‬لذلك‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬لغته‭ ‬وصفية،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬بحثا‭ ‬في‭ ‬عجينة‭ ‬المادة‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تشكل‭ ‬مساحة‭ ‬عظيمة‭ ‬من‭ ‬الوجود‭ ‬البشري‭.‬‮ ‬

من‭ ‬خلال‭ ‬تلك‭ ‬التجربة‭ ‬نجح‭ ‬كاظم‭ ‬حيدر‭ ‬في‭ ‬خلخلة‭ ‬لغة‭ ‬الفن‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬وديعة‭ ‬هادئة‭ ‬تركها‭ ‬جواد‭ ‬سليم‭ ‬بعد‭ ‬موته‭ ‬المبكر‭ ‬عام‭ ‬1961‭. ‬لقد‭ ‬بدأ‭ ‬جيل‭ ‬كامل‭ ‬من‭ ‬الرسّامين‭ ‬العراقيين‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬المنطقة‭ ‬التي‭ ‬فقد‭ ‬فيها‭ ‬التراث‭ ‬خياله‭ ‬الوصفي‭. ‬كان‭ ‬هنالك‭ ‬دم‭ ‬وقتل‭ ‬وخيانة‭ ‬ومكائد‭ ‬وظلم‭ ‬لن‭ ‬تنجو‭ ‬الصور‭ ‬من‭ ‬قسوته‭ ‬وعدوانيته‭. ‬وكما‭ ‬أرى‭ ‬فإن‭ ‬تجارب‭ ‬مهمة‭ ‬في‭ ‬الرسم‭ ‬العراقي‭ ‬المعاصر‭ ‬قد‭ ‬ولدت‭ ‬من‭ ‬رحم‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬المفارقة،‭ ‬وبالأخص‭ ‬تجارب‭ ‬الرسامين‭ ‬فائق‭ ‬حسين‭ ‬وضياء‭ ‬العزاوي‭ ‬ورافع‭ ‬الناصري‭.‬‮ ‬

كان‭ ‬ظهور‭ ‬كاظم‭ ‬حيدر‭ ‬مناسبة‭ ‬مهمة‭ ‬لفصل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬تراثي‭ ‬عما‭ ‬هو‭ ‬شعبي‭.‬


لوحة: محمد أبو الوفا

الرسام‭ ‬باعتباره‭ ‬مصورا

‬ولو‭ ‬تأملنا‭ ‬منجزات‭ ‬الرسم‭ ‬الحديث‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬لتحققنا‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬الخلط‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬تراثي‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬شعبي‭. ‬ففي‭ ‬كل‭ ‬مراحله،‭ ‬بدءا‭ ‬من‭ ‬محمد‭ ‬ناجي‭ ‬وانتهاء‭ ‬بجاذبية‭ ‬سرّي‭ ‬كان‭ ‬الرسام‭ ‬المصري‭ ‬يرى‭ ‬في‭ ‬تصوير‭ ‬الحياة‭ ‬الشعبية‭ ‬نوعا‭ ‬من‭ ‬الخيار‭ ‬الجمالي‭ ‬الذي‭ ‬يؤدي‭ ‬الرسم‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬وظيفته‭ ‬التأهيلية‭ ‬بصريا‭ ‬وجماليا،‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬يرتقي‭ ‬الرسام‭ ‬بلغته‭ ‬إلى‭ ‬مستوى‭ ‬الكشف‭ ‬الرؤيوي‭ ‬والتحليلي‭ ‬الذي‭ ‬يعنى‭ ‬بالرسم،‭ ‬باعتباره‭ ‬مادته‭ ‬الخيالية‭. ‬هناك‭ ‬استثناءات‭ ‬قليلة،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬لغة‭ ‬الرسم‭ ‬المصري‭ ‬كانت‭ ‬دائما‭ ‬متواضعة‭ ‬وفقيرة،‭ ‬لا‭ ‬تفرّق‭ ‬بين‭ ‬التصوير‭ ‬وخياله،‭ ‬بين‭ ‬الواقع‭ ‬كونه‭ ‬مادة‭ ‬تصويرية‭ ‬ملهمة‭ ‬وبينه‭ ‬باعتباره‭ ‬وجودا‭ ‬بصريا‭ ‬صلدا،‭ ‬لذلك‭ ‬كانت‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الفن‭ ‬التقليدي‭ ‬ممكنة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬لحظة‭. ‬ربما‭ ‬لهذا‭ ‬السبب‭ ‬لا‭ ‬يستعمل‭ ‬المصريون‭ ‬صفة‭ ‬رسام،‭ ‬إنما‭ ‬يشيرون‭ ‬إلى‭ ‬الرسام‭ ‬باعتباره‭ ‬مصورا‭.‬‮ ‬

كان‭ ‬محمود‭ ‬سعيد‭ ‬‭(‬1897‭ ‬ــ‭ ‬1964‭)‬‭ ‬هو‭ ‬الاستثناء‭ ‬الأكثر‭ ‬سعادة‭. ‬أرستقراطي‭ ‬الرسم‭ ‬الذي‭ ‬حلّق‭ ‬بالفلاحين‭ ‬إلى‭ ‬فضاء‭ ‬الملائكة‭.‬

لقد‭ ‬حرص‭ ‬سعيد‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬رساما‭ ‬خالصا‭ ‬فحسب‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يجرؤ‭ ‬على‭ ‬التفكير‭ ‬به‭ ‬رسام‭ ‬مصري‭. ‬كان‭ ‬لدى‭ ‬الرجل‭ ‬ما‭ ‬يقوله‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الرسم‭ ‬وحده،‭ ‬ومن‭ ‬أجله‭ ‬‭(‬الرسم‭)‬‭. ‬أما‭ ‬رمسيس‭ ‬يونان‭ ‬‭(‬1913‭ ‬ــ‭ ‬1966‭)‬‭ ‬وحامد‭ ‬ندا‭ ‬‭(‬1924‭ ‬ــ‭ ‬1990‭)‬‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬متعتهما‭ ‬في‭ ‬الرسم‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬دعاباتهما‭ ‬السريالية،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬‭(‬ندا‭)‬‭ ‬تودد‭ ‬إلى‭ ‬الفراعنة‭ ‬بقوة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يفعله‭ ‬المصريون‭ ‬عادة‭ ‬حين‭ ‬يتعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بمفهوم‭ ‬الأصالة،‭ ‬تاريخيا‭. ‬وهو‭ ‬مفهوم‭ ‬غالبا‭ ‬ما‭ ‬أدّى‭ ‬إلى‭ ‬الحط‭ ‬من‭ ‬قيمة‭ ‬اللغة‭ ‬التشكيلية‭ ‬لحساب‭ ‬قوة‭ ‬الانتماء‭. ‬لقد‭ ‬سحرت‭ ‬المواد‭ ‬القديمة‭ ‬ندا،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬مقبول،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬الرجل‭ ‬استسلم‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬للأشكال‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬لغته‭ ‬ترتخي‭ ‬لتدخل‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬عادي‭ ‬ومتداول‭ ‬في‭ ‬السوق‭ ‬السياحية‭.‬‮ ‬المواد‭ ‬واللغة

‬المغربي‭ ‬فريد‭ ‬بلكاهية‭ ‬تعرض‭ ‬للاختبار‭ ‬ذاته‭ ‬الذي‭ ‬تعرض‭ ‬له‭ ‬حامد‭ ‬ندا‭ ‬‭(‬الشغف‭ ‬بالمواد‭ ‬المحلية‭)‬،‭ ‬غير‭ ‬أنه‭ ‬ظل‭ ‬متوترا‭ ‬ومقتصدا،‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬إسراف‭ ‬عاطفي‭. ‬لم‭ ‬تخذله‭ ‬لغته‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬فارقت‭ ‬معيارها‭ ‬التعبيري‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬خالصة‭. ‬كانت‭ ‬المواد‭ ‬التي‭ ‬استعارها‭ ‬الرسام‭ ‬من‭ ‬الريف‭ ‬المغربي‭ ‬وبالأخص‭ ‬الجلد‭ ‬والحناء‭ ‬قد‭ ‬سحرته‭. ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬عالم‭ ‬من‭ ‬المسرات‭ ‬والمكائد‭ ‬والآلام‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬بكرا‭ ‬ينفتح‭ ‬أمامه‭. ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬جمال‭ ‬لا‭ ‬يؤدى‭ ‬بيسر‭ ‬وبحسن‭ ‬نية،‭ ‬لا‭ ‬يظهر‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬لحظة‭. ‬لقد‭ ‬هلكت‭ ‬أمم‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬تستسلم‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬الجمالية‭ ‬لواقعيتها‭ ‬الفجة‭. ‬يحارب‭ ‬بلكاهية‭ ‬على‭ ‬جبهات‭ ‬عديدة‭. ‬ليس‭ ‬لديه‭ ‬من‭ ‬المشهد‭ ‬البصري‭ ‬لبلاده‭ ‬المغرب‭ ‬ما‭ ‬لدى‭ ‬زميله‭ ‬محمد‭ ‬المليحي‭ ‬الذي‭ ‬أحاط‭ ‬الأطلسي‭ ‬بغرامه‭. ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أنه‭ ‬أعمى،‭ ‬يرسم‭ ‬بلكاهية‭ ‬بيدين‭ ‬تقتفيان‭ ‬أثر‭ ‬العرّاف‭ ‬الذي‭ ‬مرّ‭ ‬خفية‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬يبصره‭ ‬أحد‭. ‬ولكن‭ ‬للمواد‭ ‬لغتها‭.‬

كان‭ ‬شفيق‭ ‬عبود‭ ‬يستعمل‭ ‬الزيت‭ ‬وهو‭ ‬مادة‭ ‬أوروبية‭ ‬المنشأ،‭ ‬وكان‭ ‬زاووكي‭ ‬يستعمل‭ ‬الإكرليك‭ ‬وهي‭ ‬الأخرى‭ ‬مادة‭ ‬أوروبية‭ ‬المنشأ،‭ ‬ولكن‭ ‬الرسامين‭ ‬كانا‭ ‬ينتقلان‭ ‬بماديتهما‭ ‬إلى‭ ‬رحاب‭ ‬طقس‭ ‬مختلف‭ ‬ليس‭ ‬له‭ ‬إطلاقا‭ ‬علاقة‭ ‬بطقس‭ ‬الرسم‭ ‬الأوروبي‭. ‬مع‭ ‬عبود‭ ‬وزاووكي‭ ‬كانت‭ ‬المواد‭ ‬الأوروبية‭ ‬تفتح‭ ‬عيونها‭ ‬على‭ ‬شرق‭ ‬لم‭ ‬يره‭ ‬أحد‭ ‬من‭ ‬الأوروبيين‭ ‬من‭ ‬قبل‭. ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬بلكاهية‭ ‬فإن‭ ‬الذهاب‭ ‬إلى‭ ‬المواد‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬حد‭ ‬ذاته‭ ‬محاولة‭ ‬للعثور‭ ‬على‭ ‬لغة‭.‬

كان‭ ‬هناك‭ ‬دائما‭ ‬من‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬الشفاء‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬وصفات‭ ‬محلية‭.‬

عن‭ ‬طريق‭ ‬تلك‭ ‬الوصفات‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬شرق‭ ‬لم‭ ‬يره‭ ‬أحد‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬في‭ ‬طريقه‭ ‬إلى‭ ‬الظهور‭.‬

‬جدار‭ ‬الغيب

‮ ‬في‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬الوصفة‭ ‬المحلية‭ ‬تعثر‭ ‬العراقي‭ ‬شاكر‭ ‬حسن‭ ‬آل‭ ‬سعيد‭ ‬‭(‬1925‭ ‬ــ‭ ‬2004‭)‬‭ ‬بحجر‭ ‬مختلف‭. ‬لقد‭ ‬اكتشف‭ ‬الشاب‭ ‬القادم‭ ‬من‭ ‬الريف‭ ‬إلى‭ ‬بغداد‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬خط‭ ‬يلقيه‭ ‬على‭ ‬سطح‭ ‬اللوحة‭ ‬إنما‭ ‬هو‭ ‬صورة‭ ‬عن‭ ‬جرح‭ ‬في‭ ‬جدار‭ ‬الغيب،‭ ‬لذلك‭ ‬حرص‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تحمل‭ ‬خطوطه‭ ‬رسائل‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬العالم‭ ‬الذي‭ ‬اكتمل‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭ ‬بعيد‭. ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬آل‭ ‬سعيد‭ ‬فإن‭ ‬لغة‭ ‬الرسم‭ ‬هي‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬لغة‭ ‬الشكر‭ ‬منها‭ ‬إلى‭ ‬لغة‭ ‬المديح‭. ‬لم‭ ‬تلهمه‭ ‬الطبيعة‭ ‬جمالياته‭ ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬مع‭ ‬الانطباعيين،‭ ‬بل‭ ‬جعلته‭ ‬البيئة‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬الأثر‭ ‬الذي‭ ‬يتركه‭ ‬الإنسان،‭ ‬مؤكدا‭ ‬نزعته‭ ‬الخليقية‭. ‬كانت‭ ‬لغة‭ ‬آل‭ ‬سعيد‭ ‬تذوب‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬مطلق‭ ‬من‭ ‬الحركة‭ ‬العشوائية‭ ‬التي‭ ‬يؤديها‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬تيهه‭ ‬اليومي‭. ‬نتذكر‭ ‬الفرنسي‭ ‬هنري‭ ‬ميشو‭ ‬في‭ ‬تبقيعاته،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬آل‭ ‬سعيد‭ ‬كان‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ميشو‭ ‬معنيا‭ ‬بالمعنى‭ ‬الناتئ‭. ‬كان‭ ‬يمس‭ ‬الأشكال‭ ‬لا‭ ‬ليستغيث‭ ‬بها،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬يعينها‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬تكتمل‭. ‬يثني‭ ‬على‭ ‬نقصها‭ ‬ويبحث‭ ‬لها‭ ‬عن‭ ‬ذريعة‭ ‬للتساؤل‭ ‬الجريح‭. ‬“ثقي‭ ‬بي‭ ‬وسنصل‭ ‬معا‭ ‬إلى‭ ‬القيامة”‭ ‬كان‭ ‬يرعى‭ ‬أشكالا‭ ‬لا‭ ‬يراها‭ ‬أحد،‭ ‬ولن‭ ‬يراها‭ ‬أحد‭ ‬سواه‭ ‬في‭ ‬موته‭. ‬قال‭ ‬لي‭ ‬قبل‭ ‬أربع‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬موته‭ ‬“هل‭ ‬كنت‭ ‬رساما؟‭ ‬لم‭ ‬أعد‭ ‬أتذكر‭ ‬كيف‭ ‬يرسم‭ ‬المرء”‭ ‬لن‭ ‬يصدقه‭ ‬أحد،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬رسومه‭ ‬تقول‭ ‬ذلك‭ ‬بقوة‭ ‬اليوم‭.‬


لوحة: شاكر حسين آل سعيد

حروفية‭ ‬مضاعة

‬مشكلة‭ ‬آل‭ ‬سعيد‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يوما‭ ‬ما‭ ‬حروفيا،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬البعض‭ ‬نصّبه‭ ‬شيخا‭ ‬للحروفيين‭ ‬العرب‭. ‬في‭ ‬العقدين‭ ‬الأخيرين‭ ‬من‭ ‬حياته‭ ‬لم‭ ‬يظهر‭ ‬حرف‭ ‬في‭ ‬لوحاته‭. ‬غير‭ ‬أنني‭ ‬على‭ ‬يقين‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬لقبا‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬‭(‬شيخ‭ ‬الحروفيين‭)‬‭ ‬كان‭ ‬سيفرحه‭. ‬فـ”البعد‭ ‬الواحد”‭ ‬وهو‭ ‬عنوان‭ ‬المعرض‭ ‬الجماعي‭ ‬الذي‭ ‬تزعمه‭ ‬في‭ ‬بغداد‭ ‬عام‭ ‬1972‭ ‬كان‭ ‬إعلانا‭ ‬عن‭ ‬قيام‭ ‬تجمع‭ ‬وهمي،‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬انفرط‭ ‬عقده،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬البيان‭ ‬الذي‭ ‬أصدره‭ ‬آل‭ ‬سعيد‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المناسبة‭ ‬سيدخل‭ ‬التاريخ،‭ ‬باعتباره‭ ‬وثيقة‭ ‬من‭ ‬شأنها‭ ‬أن‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬جهود‭ ‬الحروفيين‭ ‬العرب‭ ‬السابقين‭ ‬واللاحقين‭ ‬‭(‬السوري‭ ‬محمود‭ ‬حماد،‭ ‬التونسي‭ ‬نجا‭ ‬المهداوي،‭ ‬العراقية‭ ‬مديحة‭ ‬عمر،‭ ‬اللبنانية‭ ‬سلوى‭ ‬روضة‭ ‬شقير،‭ ‬المصري‭ ‬حامد‭ ‬عبدالله،‭ ‬الفلسطيني‭ ‬كمال‭ ‬بلاطه،‭ ‬اللبناني‭ ‬حسين‭ ‬ماضي،‭ ‬الجزائري‭ ‬رشيد‭ ‬القريشي،‭ ‬الأردنية‭ ‬وجدان‭ ‬علي،‭ ‬اللبناني‭ ‬وجيه‭ ‬نحله،‭ ‬والعراقي‭ ‬جميل‭ ‬حمودي‭)‬‭. ‬من‭ ‬غير‭ ‬الحروفية،‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬الأوفاق،‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬الأدعية‭ ‬الصوفية،‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬جداول‭ ‬السحر‭ ‬والأرقام‭ ‬سعى‭ ‬آل‭ ‬سعيد‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يحتفي‭ ‬بضنى‭ ‬الجمال‭ ‬وهو‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬التحرر‭ ‬من‭ ‬هيمنة‭ ‬الموضوع‭ ‬والشكل‭ ‬والتقنية‭ ‬والمادة‭. ‬لغة‭ ‬حرة‭ ‬لرسم‭ ‬لا‭ ‬يذكر‭ ‬بشيء،‭ ‬هي‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬الوصول‭ ‬إليها‭.‬‮ ‬

‬فن‭ ‬خلاسي

‮سأطلب‭ ‬من‭ ‬صديقي‭ ‬نذير‭ ‬نبعة‭ ‬أن‭ ‬يرسم‭ ‬لي‭ ‬طائرا‭ ‬على‭ ‬الورق‭. ‬طبعا‭ ‬لن‭ ‬يشبه‭ ‬طائر‭ ‬نبعه‭ ‬ذلك‭ ‬الطائر‭ ‬الذي‭ ‬رسمه‭ ‬بيكاسو‭ ‬يوم‭ ‬كان‭ ‬قريبا‭ ‬من‭ ‬الشيوعيين‭. ‬طائر‭ ‬نبعة‭ ‬يشبهه،‭ ‬يشبه‭ ‬الرسام‭ ‬الذي‭ ‬قرر‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬طائرا‭ ‬لحظة‭ ‬الرسم‭. ‬لغة‭ ‬ذلك‭ ‬الطائر‭ ‬ستكون‭ ‬محلّقة‭ ‬باختلافها‭. ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬رأيت‭ ‬لوحة‭ ‬من‭ ‬زياد‭ ‬دلول‭ ‬فتذكرت‭ ‬بوسان‭. ‬غير‭ ‬أنني‭ ‬حين‭ ‬عدت‭ ‬إلى‭ ‬لوحة‭ ‬دلول‭ ‬اكتشفت‭ ‬أن‭ ‬الهدوء‭ ‬الذي‭ ‬تخيلته‭ ‬كان‭ ‬مختلفا‭. ‬هناك‭ ‬لغة‭ ‬شخصية‭ ‬أخرى‭.‬

كيف‭ ‬يمكننا‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬نقع‭ ‬في‭ ‬الشبهة؟‭ ‬شبهة‭ ‬التشابه‭ ‬وشبهة‭ ‬الاختلاف‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء‭.‬

لنقل‭ ‬إن‭ ‬هناك‭ ‬مئات‭ ‬من‭ ‬الفنانين‭ ‬العرب‭ ‬قد‭ ‬حاولوا‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬المراحل‭ ‬أن‭ ‬يكونوا‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬الرسم‭ ‬مخلصين‭ ‬لأصواتهم‭ ‬الشخصية‭. ‬ولكن‭ ‬السؤال‭ ‬لا‭ ‬يتعلق‭ ‬بإخلاص‭ ‬أولئك‭ ‬الرسامين‭ ‬الشخصي،‭ ‬بل‭ ‬بدرجة‭ ‬نقاء‭ ‬أصواتهم‭.‬

ألم‭ ‬يكن‭ ‬فننا‭ ‬خلاسيا‭ ‬منذ‭ ‬البدء؟‭ ‬بالمعنى‭ ‬الذي‭ ‬يجعله‭ ‬نهبا‭ ‬لصراع‭ ‬قوّتين‭. ‬واحدة‭ ‬تبدّد‭ ‬ثرواتها‭ ‬في‭ ‬استلهام‭ ‬المنسي‭ ‬وأسطرة‭ ‬أثره‭ ‬الشعبي‭ ‬والثانية‭ ‬تلهث‭ ‬وهي‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬الإمساك‭ ‬بأذيال‭ ‬أبجدية‭ ‬لغة،‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬تجلياتها‭ ‬الواقعية‭ ‬تشبهها‭ ‬أو‭ ‬تذكّر‭ ‬بها‭.‬‮ ‬

‬بلاد‭ ‬الأنبياء

كان‭ ‬فن‭ ‬إلياس‭ ‬الزيات‭ ‬مسيحيا‭ ‬وكان‭ ‬فن‭ ‬إبراهيم‭ ‬الصلحي‭ ‬أفريقيا‭ ‬أما‭ ‬المليحي‭ ‬محمد‭ ‬فإن‭ ‬هوى‭ ‬المتوسط‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬غمر‭ ‬لوحاته‭ ‬بزرقته‭ ‬ورافع‭ ‬الناصري‭ ‬كان‭ ‬عراقيا‭ ‬بضراوة‭ ‬أدعيته‭ ‬البغدادية‭ ‬وأتذكر‭ ‬عادل‭ ‬السيوي‭ ‬مصريا‭ ‬يبحث‭ ‬بين‭ ‬وجوه‭ ‬الفيوم‭ ‬عن‭ ‬وجهه‭ ‬الشخصي‭. ‬ولكن‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يدعو‭ ‬إلى‭ ‬اليأس‭. ‬كان‭ ‬لبلاد‭ ‬الأنبياء‭ ‬لغة‭ ‬الكون‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬ترثها‭ ‬الكيانات‭ ‬السياسية‭ ‬الصغيرة،‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬اختراع‭ ‬استعماري‭. ‬قبل‭ ‬الرسم‭ ‬كانت‭ ‬لنا‭ ‬لغة‭ ‬الإيحاء،‭ ‬وهي‭ ‬لغة‭ ‬وهمية،‭ ‬وكما‭ ‬أظن‭ ‬فإن‭ ‬رسامينا‭ ‬‭(‬الملهَمين‭ ‬منهم‭ ‬على‭ ‬الأقل‭)‬‭ ‬قد‭ ‬تعلموا‭ ‬تلك‭ ‬اللغة‭ ‬المباركة‭. ‬وهي‭ ‬لغة‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬مفردات‭ ‬مؤكدة‭. ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نجازف‭ ‬لنصل‭ ‬إلى‭ ‬الصلة‭ ‬الخفية‭ ‬التي‭ ‬تربط‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬يُرسم‭ ‬وما‭ ‬لم‭ ‬يُرسم‭ ‬بعد‭. ‬لقد‭ ‬انتظرنا‭ ‬مئات‭ ‬السنين‭ ‬لكي‭ ‬يولد‭ ‬الرسم‭ ‬في‭ ‬بلادنا‭. ‬استأنف‭ ‬المصري‭ ‬محمود‭ ‬مختار‭ ‬النحت‭ ‬من‭ ‬لحظة‭ ‬انتهى‭ ‬النحات‭ ‬الفرعوني‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬منحوتته‭ ‬الأخيرة،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬جواد‭ ‬سليم‭ ‬رسم‭ ‬على‭ ‬القماش‭ ‬لوحته‭ ‬الأولى‭ ‬منتحلا‭ ‬صفة‭ ‬المزوّق،‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬لديه‭ ‬نص‭ ‬مكتوب‭ ‬ليلتحق‭ ‬به‭ ‬برسومه‭ ‬التوضيحية،‭ ‬متأثرا‭ ‬بمعلمه‭ ‬القديم‭ ‬يحيى‭ ‬بن‭ ‬محمود‭ ‬الواسطي‭. ‬كانت‭ ‬لحظة‭ ‬استقلال‭ ‬الرسم‭ ‬إعلانا‭ ‬عن‭ ‬ولادة‭ ‬فن‭ ‬جديد‭. ‬وكما‭ ‬أرى‭ ‬مطمئنا‭ ‬فإن‭ ‬لغة‭ ‬الرسم‭ ‬العربي‭ ‬ولدت‭ ‬في‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬اختار‭ ‬فيها‭ ‬الرسام‭ ‬أن‭ ‬يتحاشى‭ ‬الرسام‭ ‬المرور‭ ‬بالنص‭ ‬المكتوب‭. ‬هناك‭ ‬لغة‭ ‬مبيتة‭ ‬دائما‭.‬

كان‭ ‬شفيق‭ ‬عبود‭ ‬لبنانيا،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬الزيت‭. ‬ولكن‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬شيء‭ ‬آخر‭.‬

بالضبط‭ ‬مثلما‭ ‬كان‭ ‬زاووكي‭ ‬صينيا،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬الإكرليك،‭ ‬ولكن‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬شيء‭ ‬آخر‭ ‬أيضا‭.‬

وصفات‭ ‬جاهزة

‬يصلح‭ ‬المجاز‭ ‬السابق‭ ‬عونا‭ ‬للعبور‭ ‬إلى‭ ‬منطقة‭ ‬أخرى،‭ ‬أقل‭ ‬يأسا‭ ‬وأكثر‭ ‬تشبثا‭ ‬بحيوية‭ ‬ما‭ ‬انطوت‭ ‬عليه‭ ‬التجربة‭ ‬التشكيلية‭ ‬العربية‭ ‬من‭ ‬قيم‭ ‬جمالية،‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬الجزء‭ ‬الأكبر‭ ‬منها‭ ‬مطمورا‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬النظري‭. ‬ولكن‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬ألقينا‭ ‬نظرة‭ ‬شاسعة‭ ‬على‭ ‬المشهد‭ ‬الفني‭ ‬العربي‭ ‬الآن‭ ‬سنرى‭ ‬أن‭ ‬السلوك‭ ‬الفني‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬استعارة‭ ‬الوحدات‭ ‬التراثية‭ ‬والفلكلورية‭ ‬قد‭ ‬حقق‭ ‬أرقاما‭ ‬قياسية‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬صياغة‭ ‬لغة‭ ‬بصرية‭ ‬مشتركة‭ ‬بين‭ ‬الفنان‭ ‬والمتلقي‭.‬‭ ‬بحيث‭ ‬صارت‭ ‬اللوحة‭ ‬تُصنع‭ ‬في‭ ‬مناخ‭ ‬غائم‭ ‬ومريب،‭ ‬تغلب‭ ‬عليه‭ ‬ألاعيب‭ ‬الوصفات‭ ‬الجاهزة،‭ ‬شكليا‭ ‬وتقنيا‭. ‬بحيث‭ ‬صرنا‭ ‬متأكدين‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الرسام‭ ‬إنما‭ ‬يعمل‭ ‬وفق‭ ‬مقاييس مختبرية،‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬لها‭ ‬بمبدأ‭ ‬الاشتباك‭ ‬بحيوية‭ ‬الحياة‭ ‬وهو‭ ‬المبدأ‭ ‬الذي‭ ‬يتميز‭ ‬بقدر‭ ‬عال‭ ‬من‭ ‬الفوضى‭ ‬والذي‭ ‬صار‭ ‬بسبب‭ ‬الظروف‭ ‬التاريخية‭ ‬القاسية‭ ‬التي‭ ‬يعيشها‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬مبدأ‭ ‬انتحاريا‭. ‬لقد‭ ‬تكاتفت‭ ‬قوى‭ ‬عديدة‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بينها‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬يتراجع‭ ‬الرسام‭ ‬عن‭ ‬خياراته‭ ‬الوجودية،‭ ‬ويكون‭ ‬عينا‭ ‬تصغي‭ ‬لرؤى‭ ‬فئات‭ ‬من‭ ‬المجتمع،‭ ‬لم‭ ‬تعنها‭ ‬تجربتها‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬على‭ ‬الارتقاء‭ ‬عن‭ ‬مستوى‭ ‬التلقي‭ ‬البصري‭ ‬السلبي،‭ ‬حيث‭ ‬التكرار‭ ‬هو‭ ‬الغالب‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬التذوق‭ ‬الجمالي‭.‬


لوحة: فاتح المدرس

ما‭ ‬نعدّه‭ ‬من‭ ‬الرسم‭ ‬فنا‭ ‬جاهزا‭ ‬صار‭ ‬اليوم‭ ‬يحتل‭ ‬الجزء‭ ‬الأكبر‭ ‬من‭ ‬المشهد‭. ‬وليس‭ ‬غريبا‭ ‬أن‭ ‬ينتمي‭ ‬التيار‭ ‬الحروفي‭ ‬في‭ ‬خواتمه‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الفن،‭ ‬ذلك‭ ‬لأن‭ ‬ذلك‭ ‬التيار‭ ‬في‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬محاولاته‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬ليحسب‭ ‬على‭ ‬الفن‭ ‬الصعب‭. ‬فالحروفيون‭ ‬الآن‭ ‬‭(‬لنقل‭ ‬معظمهم‭)‬‭ ‬يرتبطون‭ ‬اليوم‭ ‬بمزاج‭ ‬شعبي‭ ‬خفي،‭ ‬يتقدم‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬الوهم‭ ‬المستقر‭ ‬على‭ ‬الحقيقة‭ ‬المغامرة‭. ‬ولا‭ ‬أبالغ‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬قلت‭ ‬إن‭ ‬الحروفية‭ ‬صارت‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬طقس‭ ‬بصري‭ ‬استعادي،‭ ‬هذّبه‭ ‬المثقفون‭ ‬ليكونوا‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬روادا‭ ‬لفن‭ ‬يستلهم‭ ‬قيمه‭ ‬الجمالية‭ ‬مما‭ ‬هو‭ ‬مكرس‭ ‬اجتماعيا‭ ‬بصيغة‭ ‬ثقافية‭. ‬ومن‭ ‬اللافت‭ ‬أن‭ ‬الحروفية‭ ‬صارت‭ ‬مناسبة‭ ‬لكي‭ ‬يجهض‭ ‬خطاطون‭ ‬عرب‭ ‬كبار‭ ‬مشاريعهم‭ ‬الكبيرة‭ ‬في‭ ‬تطوير‭ ‬الخط‭ ‬العربي‭ ‬وتغييره‭ ‬والنهوض‭ ‬به‭ ‬فينساقوا‭ ‬إلى‭ ‬ممرات‭ ‬ثانوية،‭ ‬دفعا‭ ‬لشبهة‭ ‬ممارسة‭ ‬فن‭ ‬تطبيقي‭ ‬وإرضاء‭ ‬لحساسية‭ ‬السوق‭. ‬واقعيا‭ ‬خسرنا‭ ‬خطاطين‭ ‬ولم‭ ‬نربح‭ ‬رسامين‭.‬

وكانت‭ ‬للسوق‭ ‬لغتها‭ ‬التي‭ ‬وجدت‭ ‬بين‭ ‬حشود‭ ‬الفنانين‭ ‬المئات‭ ‬التي‭ ‬تنصت‭ ‬إليها‭.‬

‬لا‭ ‬تزال‭ ‬هناك‭ ‬أندلس

‬بعد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬سبعين‭ ‬سنة‭ ‬من‭ ‬بدايات‭ ‬الحداثة‭ ‬الفنية‭ ‬يعود‭ ‬بنا‭ ‬الرسامون‭ ‬اليوم‭ ‬إلى‭ ‬زمن‭ ‬المفردات‭ ‬الجمالية‭ ‬المتاحة‭. ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬المسافة‭ ‬بين‭ ‬الحرفي‭ ‬والفنان‭ ‬ضاقت‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬الفرق‭ ‬جوهريا‭ ‬بين‭ ‬الاثنين‭. ‬هناك‭ ‬وسائل‭ ‬تضع‭ ‬‭(‬الفنان‭)‬‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬مختلف،‭ ‬غير‭ ‬أنها‭ ‬لا‭ ‬تخفي‭ ‬عن‭ ‬العين‭ ‬الخبيرة‭ ‬حقيقة‭ ‬أن‭ ‬الفنان‭ ‬نفسه‭ ‬صار‭ ‬رهينة‭ ‬عالم‭ ‬تتجاذبه‭ ‬قوتان‭: ‬حيلة‭ ‬السوق‭ ‬ومهارات‭ ‬تقنية‭ ‬تنتمي‭ ‬إلى‭ ‬الدرس‭ ‬ولا‭ ‬تشي‭ ‬بأيّ‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الخبرة‭ ‬المغامرة‭. ‬يلتقط‭ ‬الرسام‭ ‬مفردة‭ ‬من‭ ‬المحيط‭ ‬الثقافي،‭ ‬ليلعب‭ ‬عليها،‭ ‬يكررها،‭ ‬يمحو‭ ‬جزءا‭ ‬منها،‭ ‬يكبّرها،‭ ‬يغرّبها‭ ‬عن‭ ‬وظيفتها‭ ‬الأصلية‭ ‬ويحركها‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬بلاغي‭ ‬مختلف‭. ‬الحرفي‭ ‬لا‭ ‬يفعل‭ ‬ذلك‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬حدود‭ ‬خبرته‭ ‬التقنية‭. ‬لقد‭ ‬أحكم‭ ‬السوق‭ ‬على‭ ‬الفن‭ ‬قيد‭ ‬لغة‭ ‬الصنعة‭. ‬وهي‭ ‬لغة‭ ‬مباركة‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬ما‭ ‬تدرّه‭ ‬من‭ ‬أموال،‭ ‬سيكون‭ ‬الفنان‭ ‬بسببها‭ ‬أكثر‭ ‬المنتفعين‭ ‬من‭ ‬تخاذله‭ ‬وانحطاط‭ ‬قيمته‭ ‬الاعتبارية‭.‬

خطأ‭ ‬قديم‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬خمسينات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬يوم‭ ‬اعتقد‭ ‬فنانو‭ ‬الحداثة‭ ‬الأوائل‭ ‬صادقين‭ ‬أن‭ ‬استعارة‭ ‬مفردات‭ ‬تراثية‭ ‬وفلكلورية‭ ‬ستكون‭ ‬بابا‭ ‬لحداثة‭ ‬أصيلة،‭ ‬يدفع‭ ‬ثمنه‭ ‬الفن‭ ‬العربي‭ ‬اليوم‭. ‬مئات‭ ‬من‭ ‬الفنانين‭ ‬العرب‭ ‬لا‭ ‬همّ‭ ‬لهم‭ ‬سوى‭ ‬ممارسة‭ ‬تلك‭ ‬الحيلة‭ ‬القديمة‭: ‬التراث‭ ‬معاصرا‭. ‬سأجازف‭ ‬بالقول‭ ‬إن‭ ‬هناك‭ ‬أموالا‭ ‬هائلة‭ ‬تهدر‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬كذبة‭. ‬فمن‭ ‬وجهة‭ ‬نظري‭ ‬أن‭ ‬تراثنا‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬المحاولات‭ ‬لـ”عصرنته”‭ ‬لم‭ ‬يتحرك‭ ‬جماليا‭ ‬قيد‭ ‬شعرة‭ ‬عن‭ ‬موقعه‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬ولا‭ ‬يزال‭ ‬رفيعا‭. ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬الجمال‭ ‬الذي‭ ‬تقترحه‭ ‬آثار‭ ‬أجدادنا‭ ‬في‭ ‬الأندلس‭ ‬وفي‭ ‬دمشق‭ ‬والقاهرة‭ ‬وبغداد‭ ‬أهم‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬التجارب‭ ‬المسخ‭ ‬التي‭ ‬ادعت‭ ‬‭(‬ولا‭ ‬تزال‭)‬‭ ‬استلهام‭ ‬مفرداته‭ ‬التشكيلية‭.‬

مع‭ ‬ذلك‭ ‬يظل‭ ‬هذا‭ ‬الكثير‭ ‬زبدا‭ ‬حائرا‭. ‬كيف؟

‬الوثيقة‭ ‬المغامرة

تستحق‭ ‬بدايات‭ ‬الرسم‭ ‬الحديث‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬أن‭ ‬نتخيلها‭ ‬دائما‭. ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬تاريخ‭ ‬عميق‭ ‬من‭ ‬القسوة‭. ‬لم‭ ‬تهب‭ ‬خمسة‭ ‬قرون‭ ‬من‭ ‬الظلام‭ ‬العثماني‭ ‬العراق‭ ‬سوى‭ ‬رسام‭ ‬واحد‭: ‬عبد‭ ‬القادر‭ ‬الرسام‭ ‬‭(‬1882‭ ‬ــ‭ ‬1952‭)‬‭. ‬الرجل‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬ير‭ ‬من‭ ‬حياته،‭ ‬ضابطا‭ ‬في‭ ‬الجيش‭ ‬العثماني‭ ‬إلا‭ ‬مناسبة‭ ‬لتعلم‭ ‬الرسم،‭ ‬وفاز‭ ‬في‭ ‬نهايات‭ ‬حياته‭ ‬بصفة‭ ‬رسام‭. ‬وهي‭ ‬الصفة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬معروفة‭ ‬في‭ ‬بلده‭. ‬حين‭ ‬جلس‭ ‬الرسام‭ ‬عام‭ ‬1951‭ ‬بين‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬البشر،‭ ‬لم‭ ‬يتعرف‭ ‬عليهم‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬لالتقاط‭ ‬صورة‭ ‬فوتوغرافية‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يتخيّل‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬الصورة‭ ‬ستكون‭ ‬بمثابة‭ ‬أيقونة‭ ‬وطنية،‭ ‬ذلك‭ ‬لأنها‭ ‬تظهر‭ ‬إلى‭ ‬جانبه‭ ‬عددا‭ ‬من‭ ‬الشباب‭ ‬ممن‭ ‬سيكون‭ ‬لهم‭ ‬موقع‭ ‬عظيم‭ ‬في‭ ‬صناعة‭ ‬فن‭ ‬المستقبل‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬القليلة‭ ‬التالية‭. ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬جواد‭ ‬سليم‭ ‬وحافظ‭ ‬الدروبي‭ ‬وأكرم‭ ‬شكري‭ ‬وعيسى‭ ‬حنا‭. ‬ربما‭ ‬كان‭ ‬أولئك‭ ‬الشباب‭ ‬قد‭ ‬احتالوا‭ ‬على‭ ‬الشيخ‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬يحصلوا‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الوثيقة‭.‬

صورة‭ ‬هي‭ ‬أشبه‭ ‬بالوصية

في‭ ‬المغرب‭ ‬ورث‭ ‬الرسامون‭ ‬المغاربة‭ ‬الرسم‭ ‬عن‭ ‬المعلمين‭ ‬الأسبان‭ ‬والفرنسيين‭. ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬هناك‭ ‬وصية‭. ‬ستكون‭ ‬اللغة‭ ‬الفنية‭ ‬مختلفة‭ ‬بين‭ ‬مشرق‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬ومغربه‭. ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظري‭ ‬كانت‭ ‬تجربة‭ ‬شاكر‭ ‬حسن‭ ‬آل‭ ‬سعيد‭ ‬الفنية‭ ‬بمثابة‭ ‬ضربة‭ ‬حظ‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬المغاربة‭ ‬ليعيدوا‭ ‬ارتباطهم‭ ‬بفن‭ ‬المشرق‭ ‬العربي‭ ‬‭(‬عبدالله‭ ‬الحريري،‭ ‬فؤاد‭ ‬بلامين‭ ‬بشكل‭ ‬خاص‭)‬‭. ‬لقد‭ ‬اكتسبت‭ ‬سبعينات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬صفة‭ ‬العقد‭ ‬العربي‭ ‬الهادئ‭ ‬الذي‭ ‬استطاعت‭ ‬أثناءه‭ ‬ثقافات‭ ‬البلدان‭ ‬العربية‭ ‬أن‭ ‬تتصل،‭ ‬بعضها‭ ‬بالبعض‭ ‬الآخر‭. ‬كان‭ ‬عقدا‭ ‬شقيا‭ ‬بما‭ ‬حمله‭ ‬من‭ ‬مفاجآت‭ ‬المعرفة‭. ‬كانت‭ ‬لغة‭ ‬الرسم‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬الألغاز‭ ‬التي‭ ‬صار‭ ‬في‭ ‬الإمكان‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬مفاتيحها‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬العقد‭.‬‮ ‬

يومها‭ ‬كنا‭ ‬نقف‭ ‬جميعا‭ ‬على‭ ‬الشرفات‭.‬

شكل‭ ‬ولا‭ ‬شكل

‬توزّعت‭ ‬لغة‭ ‬الرسم‭ ‬العربي‭ ‬بين‭ ‬منطقتين‭: ‬شكلية‭ ‬ولا‭ ‬شكلية‭. ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬الأولى‭ ‬يختلط‭ ‬التجريدي‭ ‬بالتشخيصي،‭ ‬ليشكّل‭ ‬الناتج‭ ‬جدارا‭ ‬عازلا،‭ ‬من‭ ‬خلفه‭ ‬تتخذ‭ ‬الحياة‭ ‬صورة‭ ‬فكرة‭ ‬محايدة‭ ‬عن‭ ‬العيش‭. ‬هي‭ ‬الفكرة‭ ‬التي‭ ‬صار‭ ‬الكثيرون‭ ‬يودّون‭ ‬لو‭ ‬اقتنصوا‭ ‬الفرصة‭ ‬لامتلاكها‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬المضي‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬إلى‭ ‬مغزى‭ ‬الصورة‭. ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬الثانية‭ ‬كانت‭ ‬الإرادات‭ ‬تتصارع‭ ‬إرضاء‭ ‬لقوة‭ ‬الغياب‭. ‬هي‭ ‬فكرة‭ ‬عن‭ ‬عالم‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬غير‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬إرضاء‭ ‬ذاته‭. ‬لقد‭ ‬تمترس‭ ‬هناك‭ ‬صوفيون‭ ‬ووجوديون‭ ‬وضحايا‭ ‬متمهلون‭ ‬وماركسيون‭ ‬سابقون‭ ‬وعدميون‭ ‬صاغوا‭ ‬عالما‭ ‬غير‭ ‬قابل‭ ‬للعيش،‭ ‬لكنه‭ ‬عالم‭ ‬أخّاذ‭ ‬ومهيمن‭. ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬هؤلاء‭ ‬فإنه‭ ‬ليس‭ ‬هناك‭ ‬ما‭ ‬يستحق‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مجالا‭ ‬لإعادة‭ ‬النظر‭. ‬الرسم‭ ‬وحده‭ ‬يمكنه‭ ‬أن‭ ‬يخلق‭ ‬عالما‭ ‬فذا،‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬حقيقته‭ ‬حديقة‭ ‬الحواس،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬هو‭ ‬الشاهد‭ ‬على‭ ‬فشل‭ ‬الحدس‭ ‬في‭ ‬التقاط‭ ‬بذرة‭ ‬تجليه‭ ‬النهائية‭. ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬دائما‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الإحباط،‭ ‬نبرة‭ ‬حزن‭ ‬يغطيها‭ ‬الغضب‭ ‬بفقاعاته‭. ‬ربما‭ ‬تصل‭ ‬الخرافة‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬التزيين‭. ‬يشعر‭ ‬هيمت،‭ ‬وهو‭ ‬رسام‭ ‬كردي‭ ‬من‭ ‬كركوك‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬العراق،‭ ‬بالحيرة‭ ‬بين‭ ‬أن‭ ‬يصف‭ ‬عذابه‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يليق‭ ‬به‭ ‬الوصف‭ ‬وحده‭ ‬وبين‭ ‬أن‭ ‬يزخرف‭ ‬متعته،‭ ‬كائنا‭ ‬صار‭ ‬الرسم‭ ‬قوته‭ ‬اليومي‭.‬


لوحة: نذير نبعة

‬الوجه‭ ‬باعتباره‭ ‬مقياسا

‮ ‬بعد‭ ‬كل‭ ‬هذا،‭ ‬أليس‭ ‬ضروريا‭ ‬أن‭ ‬نتساءل‭ ‬أين‭ ‬تقع‭ ‬اللغة‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬الفني؟‭ ‬أفي‭ ‬الأشكال‭ ‬أم‭ ‬في‭ ‬التقنية؟‭ ‬ربما‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نستبعد‭ ‬إمكانية‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬الأسلوب،‭ ‬أيّ‭ ‬أسلوب‭. ‬ذلك‭ ‬لأن‭ ‬الأسلوب‭ ‬لن‭ ‬يكون‭ ‬إلا‭ ‬مظهرا‭ ‬من‭ ‬مظاهر‭ ‬تلك‭ ‬اللغة‭. ‬يُمكّننا‭ ‬الأسلوب‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬نقوى‭ ‬على‭ ‬التصريح‭ ‬بوجود‭ ‬لغة‭. ‬وإذا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬رسامينا‭ ‬قد‭ ‬سقطوا‭ ‬ضحية‭ ‬لوهم‭ ‬الأسلوبية،‭ ‬بما‭ ‬ينطوي‭ ‬عليه‭ ‬ذلك‭ ‬الوهم‭ ‬من‭ ‬زعم‭ ‬شخصي،‭ ‬فإن‭ ‬الرسم،‭ ‬كونه‭ ‬محاولة‭ ‬لاستخراج‭ ‬مواقع‭ ‬حساسة‭ ‬لجمال‭ ‬لم‭ ‬يُستنفد‭ ‬بعد‭ ‬يظل‭ ‬رهين‭ ‬لغة‭ ‬هي‭ ‬أشبه‭ ‬بالوديعة‭ ‬التي‭ ‬تتنقل‭ ‬بها كائنات‭ ‬خفية‭ ‬بين‭ ‬الطبيعة‭ ‬والأعمال‭ ‬الفنية،‭ ‬ذهابا‭ ‬وإيابا،‭ ‬بما‭ ‬يكسبها‭ ‬خبرة‭ ‬المسافر‭ ‬الذي‭ ‬تشغله‭ ‬متعة‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬الطريق‭ ‬عن‭ ‬التفكير‭ ‬بمحطة‭ ‬الوصول‭.‬‮ ‬

لنأخذ‭ ‬“الوجه‭ ‬البشري”‭ ‬باعتباره‭ ‬موضوعا‭. ‬لطالما‭ ‬استلهم‭ ‬الرسامون‭ ‬الوجه،‭ ‬باعتباره‭ ‬لقية‭ ‬تعبيرية‭. ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬هناك‭ ‬ثلاثة‭ ‬رسامين‭ ‬عرب‭ ‬احتل‭ ‬الوجه‭ ‬الجزء‭ ‬الأعظم‭ ‬من‭ ‬تجاربهم‭ ‬الفنية‭: ‬السوري‭ ‬مروان‭ ‬‭(‬قصاب‭ ‬باشي‭)‬،‭ ‬العراقي‭ ‬ضياء‭ ‬العزاوي‭ ‬والمصري‭ ‬عادل‭ ‬السيوي‭. ‬لكل‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬الرسامين‭ ‬الثلاثة‭ ‬نزعته‭ ‬الأسلوبية‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬التعبير‭ ‬الأمثل‭ ‬عن‭ ‬سلوك‭ ‬بصري‭ ‬ينطوي‭ ‬على‭ ‬مرجعيات‭ ‬فكرية‭ ‬خاصة‭ ‬وأيضا‭ ‬على‭ ‬دربة‭ ‬وخبرة‭ ‬تقنيّتين‭. ‬ولكن‭ ‬هل‭ ‬كان‭ ‬الوجه‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬الثلاثة‭ ‬مقصودا‭ ‬لذاته؟

في‭ ‬كل‭ ‬الأحوال‭ ‬يصلح‭ ‬الوجه‭ ‬البشري‭ ‬وحدة‭ ‬للقياس‭.‬

بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬مروان‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬الوجه‭ ‬معيارا‭ ‬لقياس‭ ‬درجة‭ ‬ونوع‭ ‬المشاعر‭ ‬والانفعالات‭ ‬والتجاذبات‭ ‬الشكلية‭. ‬ليس‭ ‬المقصود‭ ‬هنا‭ ‬مشاعر‭ ‬الشخصية‭ ‬المرسومة‭ ‬وانفعالاتها،‭ ‬إن‭ ‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬الشخصية‭ ‬واقعية‭. ‬بل‭ ‬الأمر‭ ‬كله‭ ‬يتعلق‭ ‬بالرسام،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬كونه‭ ‬الجهة‭ ‬التي‭ ‬ترى‭ ‬وتتخيل‭ ‬وتبعث‭ ‬الأشكال‭ ‬من‭ ‬عدم‭ ‬بصري‭. ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬تظل‭ ‬وجوه‭ ‬مروان‭ ‬مكتفية‭ ‬بذاتها‭ ‬ولا‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬تعليق‭ ‬شكلي،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يجعلها‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬موضوع‭. ‬الوجه‭ ‬هو‭ ‬الموضوع‭ ‬الحاسم‭.‬‮ ‬

في‭ ‬حالة‭ ‬ضياء‭ ‬العزاوي‭ ‬فإن‭ ‬الخرافة‭ ‬بكل‭ ‬امتداداتها‭ ‬التصويرية‭ ‬المتخيلة‭ ‬تحل‭ ‬محل‭ ‬الواقع،‭ ‬بل‭ ‬وتنفيه‭. ‬لذلك‭ ‬فإن‭ ‬الوجه‭ ‬يلعب‭ ‬دورا‭ ‬تكميليا‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬حجمه‭ ‬على‭ ‬سطح‭ ‬اللوحة،‭ ‬لا‭ ‬بمعنى‭ ‬أنه‭ ‬يسد‭ ‬مضطرا‭ ‬نقصا‭ ‬بل‭ ‬بما‭ ‬يعني‭ ‬أنه‭ ‬يرافق‭ ‬الحالة‭ ‬السردية‭ ‬إلى‭ ‬خواتمها،‭ ‬باعتباره‭ ‬راويا‭ ‬ورائيا‭. ‬الوجه‭ ‬هو‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬كلّ‭ ‬تصويري،‭ ‬ملامحه‭ ‬الأسطورية‭ ‬هي‭ ‬تعبير‭ ‬عن‭ ‬تحولات‭ ‬الوقائع‭ ‬التي‭ ‬يستند‭ ‬إليها،‭ ‬وهي‭ ‬وقائع‭ ‬تتخذ‭ ‬طابعا‭ ‬ملحميا،‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬موضوع‭ ‬السرد‭ ‬حدثا‭ ‬راهنا،‭ ‬مثل‭ ‬مجزرة‭ ‬تل‭ ‬الزعتر‭.‬

أما‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬عادل‭ ‬السيوي،‭ ‬وهو‭ ‬رسام‭ ‬يرى‭ ‬في‭ ‬الوقائع‭ ‬اليومية‭ ‬نوعا‭ ‬من‭ ‬الخرافة‮ ‬‭ ‬المتحققة،‭ ‬فإن‭ ‬كل‭ ‬وجه‭ ‬يرسمه،‭ ‬يمكنه‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬وجهه،‭ ‬ويمكنه‭ ‬أن‭ ‬يرتقي‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬إلى‭ ‬مصاف‭ ‬الأيقونة‭. ‬وجوه‭ ‬الفيوم‭ ‬وهنّ‭ ‬ملهماته‭ ‬تقول‭ ‬الشيء‭ ‬نفسه‭. ‬وجوه‭ ‬السيوي‭ ‬لا‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬الواقعي‭ ‬والأسطوري،‭ ‬حسب‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬أيضا‭ ‬تمشي‭ ‬بالاثنين‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬مشترك‭: ‬الخلود‭ ‬الغامض‭ ‬باعتباره‭ ‬حلا‭ ‬لمشكلات‭ ‬العيش‭.‬

بين‭ ‬التقنية‭ ‬والشكل

‬الوجه‭ ‬وهو‭ ‬وحدة‭ ‬لغوية‭ ‬وضعنا‭ ‬أمام‭ ‬مائدة،‭ ‬قوتها‭ ‬أرضي‭ ‬وسماوي‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭. ‬ولو‭ ‬أعدنا‭ ‬الكرة‭ ‬وقمنا‭ ‬بالمقارنة‭ ‬بين‭ ‬فنانين‭ ‬عرب،‭ ‬مستعملين‭ ‬قياس‭ ‬موضوع‭ ‬بعينه،‭ ‬لاكتشفنا‭ ‬أن‭ ‬اللغة‭ ‬العينية‭ ‬نفسها‭ ‬قد‭ ‬تعرضت‭ ‬للتحلل‭ ‬والاختلاف‭ ‬بين‭ ‬الصلابة‭ ‬والذوبان‭. ‬وكما‭ ‬أرى‭ ‬فإن‭ ‬الرسامين‭ ‬الذين‭ ‬تخلوا‭ ‬عن‭ ‬الشكل‭ ‬‭(‬شفيق‭ ‬عبود‭ ‬وشاكر‭ ‬حسن‭ ‬في‭ ‬الثلاثين‭ ‬سنة‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬حياتهما‭ ‬بالتحديد‭)‬‭ ‬قد‭ ‬نظفوا‭ ‬لغة‭ ‬الرسم‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬المفردات‭ ‬المباشرة،‭ ‬وأعادوها‭ ‬إلى‭ ‬منطقة‭ ‬نفوذها،‭ ‬طقسا‭ ‬روحيا‭. ‬ومن‭ ‬الضروري‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬أؤكد‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬شكلانية‭ ‬عبود‭ ‬وبشكل‭ ‬أوضح‭ ‬لا‭ ‬شكلانية‭ ‬شاكر‭ ‬حسن‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬لها‭ ‬بمفهوم‭ ‬‭(‬التجريد‭ ‬الغنائي‭)‬‭ ‬الذي‭ ‬اقترحه‭ ‬الفرنسي‭ ‬جورج‭ ‬ماتيو‭ ‬ودخل‭ ‬قواميس‭ ‬الفن‭. ‬هما‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬تجربة‭ ‬جان‭ ‬فوترييه،‭ ‬الرسام‭ ‬الفرنسي‭ ‬الذي‭ ‬استلهم‭ ‬تجريديّاته‭ ‬من‭ ‬لحظة‭ ‬عمى‭ ‬تصويري،‭ ‬كانت‭ ‬ثمرة‭ ‬لسنوات‭ ‬اختفائه‭ ‬أثناء‭ ‬مرحلة‭ ‬مقاومة‭ ‬الاحتلال‭ ‬النازي‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭. ‬عاش‭ ‬الرجل‭ ‬يومها‭ ‬باعتباره‭ ‬كائنا‭ ‬خفيا‭. ‬وكما‭ ‬أرى‭ ‬فإن‭ ‬سيرة‭ ‬اللامرئي‭ ‬وقد‭ ‬ظهرت‭ ‬في‭ ‬الرسم‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تجربتي‭ ‬عبود‭ ‬وآل‭ ‬سعيد،‭ ‬إنما‭ ‬تعدّ‭ ‬فصلا‭ ‬مهما‭ ‬من‭ ‬فصول‭ ‬اللغة‭ ‬التي‭ ‬كسرت‭ ‬الحواجز‭ ‬بين‭ ‬الشكل‭ ‬والتقنية‭.‬

ذاب‭ ‬الشكل‭ ‬في‭ ‬التقنية‭.‬

صارت‭ ‬التقنية‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬أشكالها‭ ‬المجردة‭.‬

‬لغة‭ ‬كالموسيقى

‬ولكن‭ ‬ألم‭ ‬يكن‭ ‬التيار‭ ‬الشكلي‭ ‬‭(‬بجناحيه‭ ‬التجريدي‭ ‬والتشخيصي‭)‬‭ ‬أكثر‭ ‬غنى‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬اللغوي‭ ‬من‭ ‬تيار‭ ‬لا‭ ‬شكلي‭ ‬يحرص‭ ‬على‭ ‬إعلان‭ ‬براءته‭ ‬من‭ ‬الوظيفة‭ ‬الثقافية‭ ‬للغة،‭ ‬كونها‭ ‬عنصر‭ ‬اتصال‭ ‬بين‭ ‬الواقع‭ ‬وخياله‭ ‬اللفظي؟‭ ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬اللاشكليين‭ ‬قد‭ ‬لجأوا‭ ‬إلى‭ ‬خيار‭ ‬اللغة‭ ‬البديلة،‭ ‬وهي‭ ‬لغة‭ ‬أشبه‭ ‬بالموسيقى‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬تجردها‭ ‬من‭ ‬المعاني‭ ‬المتاحة‭ ‬واقعيا‭. ‬فكانوا‭ ‬لذلك‭ ‬أكثر‭ ‬حرصا‭ ‬من‭ ‬الآخرين‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬للرسم‭ ‬لغته‭ ‬الخاصة‭ ‬والمستقلة‭. ‬لغة‭ ‬خاصة‭ ‬لأنه‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تداولها‭ ‬ثقافيا‭ ‬ومستقلة‭ ‬لأنها‭ ‬تؤسس‭ ‬داخل‭ ‬الرسم‭ ‬عالمها‭ ‬الاشتقاقي‭ ‬الفذ‭.‬

ولو‭ ‬نظرنا‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬إلى‭ ‬تجربتي‭ ‬فنانين‭ ‬تجريديين‭ ‬مهمّين،‭ ‬هما‭ ‬العراقي‭ ‬رافع‭ ‬الناصري‭ ‬ومحمد‭ ‬المليحي،‭ ‬لعثرنا‭ ‬في‭ ‬لغة‭ ‬فنهما‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يثني‭ ‬على‭ ‬الطبيعة،‭ ‬كونها‭ ‬المعجزة‭ ‬التي‭ ‬ينبعث‭ ‬الرسم‭ ‬منها‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬الصلة‭ ‬بها‭. ‬وبهذا‭ ‬الثناء‭ ‬تكون‭ ‬لغة‭ ‬الطبيعة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تهب‭ ‬لغة‭ ‬الرسم‭ ‬كفاءته‭ ‬على‭ ‬اختراع‭ ‬سبل‭ ‬نجاته‭. ‬كانا‭ ‬رسامين‭ ‬كبيرين،‭ ‬لكن‭ ‬في‭ ‬حدود‭ ‬التجريد‭ ‬الغنائي‭. ‬وكما‭ ‬أرى‭ ‬فإن‭ ‬الرساميْن‭ ‬قد‭ ‬وهبا‭ ‬الطبيعة‭ ‬لغة‭ ‬صافية‭ ‬داخل‭ ‬الرسم،‭ ‬لغة‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬شأنها‭ ‬أن‭ ‬تخترع‭ ‬أشجارا‭ ‬وعصافير‭ ‬وجداول‭ ‬وأسرابا‭ ‬من‭ ‬البجع‭ ‬وزهورا‭ ‬برية‭ ‬لم‭ ‬ترها‭ ‬الطبيعة‭ ‬من‭ ‬قبل‭. ‬كان‭ ‬الرسم‭ ‬كريما‭ ‬دائما،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬علاقته‭ ‬مع‭ ‬الطبيعة‭ ‬أم‭ ‬مع‭ ‬التاريخ‭. ‬غير‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬بخيلا‭ ‬مع‭ ‬نفسه‭.‬

الرسام‭ ‬مصورا‭ ‬أيضا

لا‭ ‬تزال‭ ‬لغة‭ ‬الرسم‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬تتعثر‭ ‬بمفردات‭ ‬مستعارة‭ ‬من‭ ‬خارجه‭. ‬مفردات‭ ‬سعى‭ ‬الرسامون‭ ‬إلى‭ ‬تهذيبها،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬أصابع‭ ‬الصائغ‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬انتصرت‭ ‬أخيرا‭. ‬وهي‭ ‬أصابع‭ ‬لا‭ ‬تقبل‭ ‬الفوضى‭. ‬لن‭ ‬يحل‭ ‬الضجر‭ ‬المشكلة‭. ‬هناك‭ ‬لغة‭ ‬تقبل‭ ‬التفاوض،‭ ‬لغة‭ ‬اشتقاقية‭ ‬قريبة‭ ‬من‭ ‬لغة‭ ‬المعابد‭ ‬القديمة‭: ‬الآلهة‭ ‬المتعددة‭ ‬والعبد‭ ‬الوحيد‭. ‬صار‭ ‬الرسام‭ ‬العربي‭ ‬خادما‭ ‬للغة‭ ‬سواه‭. ‬لغة‭ ‬يخدمها‭ ‬الرسم‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬تصوير‭ ‬استثنائية‭.‬

حينها‭ ‬يكون‭ ‬الرسّام‭ ‬مصورا‭ ‬حسب‭ ‬التعبير‭ ‬المصري‭.‬‮ ‬

نحن‭ ‬في‭ ‬المتاهة‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.