تأملات‭ ‬في‭ ‬مسألة‭ ‬العرب‭ ‬والهوية

الأحد 2016/05/01
لوحة: عمار النحاس

ما‭ ‬الهوية‭ ‬العربية

سؤال‭ ‬الهوية‭ ‬المطروح‭ ‬علينا،‭ ‬ليس‭ ‬سؤالاً‭ ‬مجرداً‭ ‬عن‭ ‬مفهوم‭ ‬الهوية‭ ‬منطقياً،‭ ‬إنه‭ ‬سؤال‭ ‬ثقافي‭ ‬سياسي‭ ‬أيديولوجي‭ ‬بامتياز‭.‬

غير‭ ‬أننا‭ ‬لا‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نحلل‭ ‬تلك‭ ‬العلاقات‭ ‬التي‭ ‬ينطوي‭ ‬عليها‭ ‬سؤال‭ ‬الهوية‭ ‬دون‭ ‬التحديد‭ ‬النظري‭ ‬لهذا‭ ‬المفهوم‭. ‬والبحث‭ ‬في‭ ‬تعدد‭ ‬دلالاته،‭ ‬ومعانيه‭ ‬وتعيين‭ ‬وظائفه‭. ‬الهوية‭ ‬مفهوماً‭: ‬ما‭ ‬يتقوم‭ ‬به‭ ‬الشيء‭ ‬من‭ ‬صفة‭ ‬ماهوية أو‭ ‬صفات‭ ‬أساسية‭ ‬ثابتة‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬الشيء‭ ‬المتعين‭ ‬شيئاً‭ ‬إلا‭ ‬بها‭. ‬إنها‭ ‬الصفات‭ ‬الجوهرية‭ ‬الثابتة‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬بعامل‭ ‬التميز‭. ‬الهوية‭ ‬ـ‭ ‬إذن‭ ‬ـ‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬تعبير‭ ‬عن‭ ‬الثابت،‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬تعبير‭ ‬عن‭ ‬الاختلاف،‭ ‬لأنها‭ ‬حقل‭ ‬تمييز،‭ ‬والتمييز‭ ‬هو‭ ‬تحديد‭ ‬الاختلاف‭. ‬ولسنا‭ ‬واجدين‭ ‬أيّ‭ ‬مشكلة‭ ‬ذات‭ ‬شأن‭ ‬عندما‭ ‬يتعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بهوية‭ ‬الأشياء‭ ‬والحيوان،‭ ‬فمهما‭ ‬اختلف‭ ‬حول‭ ‬هوياتها‭ ‬يظل‭ ‬الاتفاق‭ ‬هو‭ ‬السائد‭.‬

فمن‭ ‬ذا‭ ‬الذي‭ ‬ينكر‭ ‬أن‭ ‬النهر‭ ‬مجرى‭ ‬من‭ ‬الماء‭ ‬ينبع‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬أو‭ ‬أمكنة‭ ‬ثم‭ ‬يصبّ‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬آخر،‭ ‬إن‭ ‬صفات‭ ‬ثانوية‭ ‬للنهر‭ ‬قد‭ ‬تميز‭ ‬نهراً‭ ‬عن‭ ‬نهر‭ ‬دون‭ ‬فقدان‭ ‬ماهية‭ ‬النهر‭ ‬كالطول‭ ‬والعرض‭ ‬واتجاه‭ ‬المصب‭.. ‬الخ‭.‬

بل‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬حددنا‭ ‬الإنسان‭ ‬المجرد‭ ‬دون‭ ‬أصل‭ ‬وفصل‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬هويته‭ ‬الكلية‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬اختلاف‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬اغتنى‭ ‬بصفات‭ ‬متعددة‭. ‬فالغنى‭ ‬لا‭ ‬ينفي‭ ‬الاتفاق‭ ‬على‭ ‬تحديد‭ ‬هوية‭ ‬الإنسان‭ ‬المجردة،‭ ‬كالنطق‭ ‬والتفكير‭ ‬والضحك‭ ‬والإبداع‭ ‬والشعور‭ ‬بالجمال‭.. ‬الخ‭.‬

تتعقد‭ ‬ـ‭ ‬أمامنا‭ ‬ـ‭ ‬الهوية‭ ‬وتغدو‭ ‬مشكلة‭ ‬بسبب‭ ‬ارتباطاتها‮ ‬‭ ‬بالوعي‭. ‬فتتحول‭ ‬الهوية‭ ‬الإنسانية،‭ ‬أقصد‭ ‬هوية‭ ‬الإنسان،‭ ‬إلى‭ ‬مشكلة‭ ‬بسبب‭ ‬وعي‭ ‬الإنسان‭ ‬لتعيّنه،‭ ‬ووعي‭ ‬تعيّنه‭ ‬ذاتي‭ ‬بامتياز‭.‬

ها‭ ‬هي‭ ‬الذات‭ ‬تحدد‭ ‬هويتها‭ ‬بوعيها‭ ‬لذاتها‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬محدد‭. ‬الذات‭ ‬هنا‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬فرد،‭ ‬إنها‭ ‬جماعة،‭ ‬جماعة‭ ‬تنطوي‭ ‬بالضرورة‭ ‬على‭ ‬أفراد‭ ‬يعون‭ ‬ذاتهم‭ ‬بانتمائهم‭ ‬للجماعة‭.‬

وهكذا‭ ‬تغدو‭ ‬أشكال‭ ‬الوعي‭ ‬الذاتي‭ ‬أشكالاً‭ ‬لوعي‭ ‬الهوية‭.‬

ليس‭ ‬مهما‭ ‬أن‭ ‬نسأل‭ ‬عن‭ ‬الأساس‭ ‬الموضوعي‭ ‬للوعي‭ ‬الذاتي‭. ‬فقد‭ ‬يكون‭ ‬الوعي‭ ‬الذاتي‭ ‬وهماً‭ ‬من‭ ‬الأوهام‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الوعي‭ ‬الواهم‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يصنع‭ ‬هوية‭ ‬ووعياً‭ ‬بالهوية‭. ‬المهم‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬دائما‭ ‬أساساً‭ ‬لإنتاج‭ ‬الوعي‭ ‬الذاتي‭ ‬بالهوية‭.‬

فإذا‭ ‬كانت‭ ‬الهوية‭ ‬ثمرة‭ ‬وعي‭ ‬ذاتي،‭ ‬فإن‭ ‬الوعي‭ ‬الذاتي‭ ‬وعي‭ ‬بذات‭ ‬تنطوي‭ ‬على‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬الأبعاد‭. ‬فحتى‭ ‬الوهم‭ ‬الذاتي‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يظهر‭ ‬إلا‭ ‬بوجود‭ ‬ما‭ ‬يصدر‭ ‬عنه‭ ‬هذا‭ ‬الوهم‭.‬

يحوّل‭ ‬الوعي‭ ‬الذاتي‭ ‬بالذات‭ ‬الهوية‭ ‬إلى‭ ‬مشكلة‭ ‬حين‭ ‬يصل‭ ‬وعي‭ ‬جماعة‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬إلى‭ ‬أشكال‭ ‬متعددة‭ ‬من‭ ‬الوعي‭ ‬بالهوية،‭ ‬ويكون‭ ‬هناك‭ ‬اختلاف‭ ‬ونفي‭ ‬متبادل‭ ‬بين‭ ‬الهويات‭ ‬الموعيّ‭ ‬بها،‭ ‬وقد‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬أساس‭ ‬لتناقضات‭ ‬عميقة‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬صراع‭ ‬أيديولوجي‭ ‬سياسي‭ ‬عنفي‭.. ‬الخ‭.‬

وتزداد‭ ‬المشكلة‭ ‬ـ‭ ‬أقصد‭ ‬مشكلة‭ ‬الهوية‭-‬‭ ‬تعقيداً‭ ‬إذا‭ ‬انطوت‭ ‬الجماعة‭ ‬على‭ ‬عدة‭ ‬هويات‭ ‬في‭ ‬آن،‭ ‬وإذا‭ ‬انطوت‭ ‬على‭ ‬هويات‭ ‬مستيقظة‭ ‬وهويات‭ ‬نائمة‭ ‬قابلة‭ ‬للتيقظ‭ ‬في‭ ‬شروط‭ ‬محددة‭ ‬كما‭ ‬سنرى‭ . ‬وإذا‭ ‬انطوت‭ ‬على‭ ‬هويات‭ ‬سالبة‭ ‬لبعضها‭ ‬البعض‭. ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬الوعي‭ ‬بالهوية‭ ‬وعياً‭ ‬‮«‬جوهرياً‮»‬‭ ‬ثابتاً‭.‬

ولما‭ ‬كان‭ ‬الوعي‭ ‬بالهوية‭ ‬يتكون‭ ‬تاريخياً‭ ‬ثم‭ ‬يلبس‭ ‬لبوساً‭ ‬لا‭ ‬تاريخياً‭ ‬عند‭ ‬بعض‭ ‬الجماعات،‭ ‬فإن‭ ‬أيّ‭ ‬تناقض‭ ‬بين‭ ‬التاريخ‭ ‬والهوية،‭ ‬الهوية‭ ‬التي‭ ‬صارت‭ ‬لا‭ ‬تاريخية‭ ‬ـ‭ ‬هو‭ ‬إيذان‭ ‬بظهور‭ ‬التعصب‭ ‬‭(‬الهوياتي‭)‬‭ ‬ـ‭ ‬والذي‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬هوية‭ ‬متعيّنة‭ ‬بجماعة‭ ‬عرضة‭ ‬لحشد‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬حصر‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬القيل‭ ‬الأيديولوجي،‭ ‬وغير‭ ‬الأيديولوجي‭ ‬والتعامل‭ ‬معه‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬حقيقة‭ ‬مطلقة‭ ‬بامتياز‭. ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬الأصل‭ ‬في‭ ‬تحول‭ ‬الوعي‭ ‬بالهوية‭ ‬إلى‭ ‬وعي‭ ‬مقيد‭ . ‬ويغدو‭ ‬أكثر‭ ‬عناداً‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬الحشد‭ ‬الأيديولوجي‭ ‬اقتطاع‭ ‬فترة‭ ‬من‭ ‬التاريخي‭ ‬واعتبارها‭ ‬تاريخ‭ ‬الجماعة‭ ‬الحق‭.‬

إن‭ ‬تاريخية‭ ‬الهوية‭ ‬البشرية،‭ ‬هوية‭ ‬الجماعة‭ ‬الواحدة‭ ‬تحدد‭ ‬الهوية‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الثابت‭ ‬والمتحول‭ ‬فيها‭.‬

‬انتقال‭ ‬الهوية‭ ‬من‭ ‬حالة‭ ‬أنثربولوجية‭ ‬ـ‭ ‬إنسانية‭ ‬إلى‭ ‬حالة‭ ‬أيديولوجية‭ ‬معلم‭ ‬هام‭ ‬من‭ ‬معالم‭ ‬أزمة‭ ‬واقع‭ ‬وأزمة‭ ‬وعي‭ ‬بامتياز‭.‬ والعرب‭ ‬من‭ ‬الأقوام‭ ‬القليلة‭ ‬التي‭ ‬تشعر‭ ‬بأن‭ ‬هويتها‭ ‬معرضة‭ ‬للخطر‬

فالمكان‭ ‬واللغة‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬بعض‭ ‬الجماعات‭ ‬ثابت،‭ ‬والمتحول‭ ‬قيم‭ ‬وعادات‭ ‬ونمط‭ ‬حياة‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬شروطاً‭ ‬تاريخية،‭ ‬اجتماعية‭ ‬وسياسية‭ ‬وحضارية‭ ‬ـ‭ ‬كما‭ ‬سأبين‭ ‬ـ‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تجعل‭ ‬المتحول‭ ‬ثابتا‭ ‬‭(‬هوياتياً‭)‬‭ ‬والثابت‭ ‬متحولاً‭.‬

ولعبة‭ ‬الوعي‭ ‬بالهوية‭ ‬لا‭ ‬حدود‭ ‬لها،‭ ‬سواء‭ ‬لدى‭ ‬الجماعات‭ ‬أو‭ ‬لدى‭ ‬الأفراد،‭ ‬أو‭ ‬لدى‭ ‬الأجيال،‭ ‬بل‭ ‬ولدى‭ ‬جيل‭ ‬واحد‭. ‬وحقل‭ ‬اللعبة‭ ‬هنا‭ ‬مليء‭ ‬بالخيارات،‭ ‬وبخاصة‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬الحقل‭ ‬مزروعاً‭ ‬بالهويات‭ ‬الجاهزة‭ ‬المتعايشة‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تحقق‭ ‬هوية‭ ‬واحدة‭ ‬ما‭ ‬انتصاراً‭ ‬ساحقاً‭ ‬على‭ ‬الهويات‭ ‬الأخرى‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تلغيها،‭ ‬بل‭ ‬تحولها‭ ‬إلى‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬الضعف‭ ‬قابلة‭ ‬للنسيان‭.‬

وظاهرة‭ ‬النكوص‭ ‬‭(‬الهوياتي‭)‬‭ ‬لا‭ ‬تفهم‭ ‬إلا‭ ‬انطلاقا‭ ‬من‭ ‬فهمنا‭ ‬لحقل‭ ‬الهويات‭ ‬الذي‭ ‬تحدثت‭ ‬عنه،‭ ‬فحتى‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬هوية‭ ‬متوارية‭ ‬تحت‭ ‬التراب‭ ‬فإن‭ ‬البشر‭ ‬ـ‭ ‬لحاجات‭ ‬عملية‭ ‬ـ‭ ‬مصلحية‭ ‬قادرون‭ ‬على‭ ‬بعثها‭ ‬وإنمائها‭ ‬حتى‭ ‬لتغدو‭ ‬أحياناً‭ ‬وحشاً‭ ‬‭(‬هوياتياً‭)‬‭.‬

وإذا‭ ‬ما‭ ‬انتقلنا‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬التحديد‭ ‬النظري‭ ‬المجرد‭ ‬للهوية‭ ‬كما‭ ‬نرى‭ ‬إلى‭ ‬مشكلة‭ ‬الهوية‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬لنطبق‭ ‬عليها‭ ‬ما‭ ‬كنا‭ ‬قد‭ ‬جردناه،‭ ‬فإننا‭ ‬لواجدون‭ ‬التعين‭ ‬الأكثر‭ ‬وضوحاً‭ ‬لما‭ ‬ذهبنا‭ ‬إليه‭.‬

وعندي‭ ‬أن‭ ‬الهوية‭ ‬لم‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬مشكلة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المنطقة‭ ‬مترامية‭ ‬الأطراف‭ ‬إلا‭ ‬بسبب‭ ‬التاريخ‭ ‬الحديث‭ ‬والمعاصر‭ ‬الذي‭ ‬حال‭ ‬دون‭ ‬تكوين‭ ‬‭(‬الأمة‭ ‬ـ‭ ‬الدولة‭)‬‭.‬

‮ ‬ماذا‭ ‬نعني‭ ‬بمشكلة‭ ‬الهوية

المشكلة‭ ‬بالتعريف‭: ‬تعدد‭ ‬إجابات‭ ‬تنطوي‭ ‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬قد‭ ‬يصل‭ ‬حد‭ ‬التناقض‭ ‬عن‭ ‬سؤال‭ ‬واحد‭. ‬والهوية‭ ‬مشكلة‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬تعني‭ ‬تعايش‭ ‬عدة‭ ‬هويات‭ ‬وتناقضها‭ ‬معاً‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تنتصر‭ ‬هوية‭ ‬ما‭ ‬انتصاراً‭ ‬كلياً‮ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬الهويات‭ ‬الأخرى‭ ‬منتحية،‭ ‬أو‭ ‬نائمة‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬مشعور‭ ‬بها‭.‬

فمن‭ ‬المعلوم‭ ‬أن‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية‭ ‬تحتوي‭ ‬على‭ ‬أقوام‭ ‬‭(‬عرب،‭ ‬وكرد،‭ ‬أمازيغ،‭ ‬أرمن،‭ ‬وشركس‭)‬‭. ‬والعرب‭ ‬هم‭ ‬الأكثرية‭. ‬من‭ ‬المنطقي‭ ‬والتاريخي‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬العروبة‭ ‬بما‭ ‬هي‭ ‬هوية‭ ‬دالة‭ ‬على‭ ‬التميز‭ ‬هي‭ ‬الهوية‭ ‬المنتصرة‭ ‬والسائدة‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬سواها‭ ‬من‭ ‬الهويات‭ ‬دون‭ ‬إلغاء‭ ‬الشعور‭ ‬بالهوية‭ ‬الإثنية‭ ‬لدى‭ ‬الأقوام‭ ‬الأخرى‭.‬

لكن‭ ‬الواقع‭ ‬لا‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬انتصار‭ ‬كهذا‭ ‬وفق‭ ‬معيار‭ ‬الممارسة،‭ ‬فإلى‭ ‬جانب‭ ‬هذه‭ ‬الإثنيات‭ ‬كمصدر‭ ‬أساسي‭ ‬من‭ ‬مصادر‭ ‬الوعي‭ ‬بالهوية‭ ‬فإن‭ ‬هناك‭ ‬الدين،‭ ‬فالإسلام‭ ‬والمسيحية‭ ‬منبعان‮ ‬‭ ‬للوعي‭ ‬بالهوية‭ ‬بوصفها‭ ‬هوية‭ ‬دينية‭.‬

وداخل‭ ‬الإسلام،‭ ‬فإن‭ ‬الطوائف‭ ‬الدينية‭ ‬الإسلامية،‭ ‬تعيد‭ ‬إنتاج‭ ‬الهوية‭ ‬الدينية‭ ‬بوصفها‭ ‬هوية‭ ‬طائفية‭. ‬كما‭ ‬تعيد‭ ‬الطوائف‭ ‬الدينية‭ ‬المسيحية‭ ‬إنتاج‭ ‬هويات‭ ‬مسيحية‭ ‬طائفية‭.‬

إلى‭ ‬جانب‭ ‬هذين‭ ‬النوعين‭ ‬من‭ ‬الهوية،‭ ‬فإن‭ ‬سكان‭ ‬شبه‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‭ ‬والعراق‭ ‬وجزء‭ ‬من‭ ‬بلاد‭ ‬الشام،‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬الهوية‭ ‬لهم‭ ‬الناتجة‭ ‬عن‭ ‬وعي‭ ‬الأصل‭ ‬القبلي‭ ‬حاضرة‭ ‬بجلاء‭ ‬حتى‭ ‬لتكاد‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬الهوية‭ ‬الأكثر‭ ‬حضوراً‭ ‬وبروزاً‭.‬

فضلا‭ ‬عن‭ ‬ذلك،‭ ‬فإن‭ ‬السّلط‭ ‬الحاكمة‭ ‬في‭ ‬المناطق‭ ‬العربية‭ ‬المتنوعة،‭ ‬تسعى‭ ‬جاهدة‭ ‬عبر‭ ‬الرموز‭ ‬والجنسية‭ ‬والحدود‭ ‬إلى‭ ‬تكوين‭ ‬هوية‭ ‬مناطقية‭ ‬باسم‭ ‬الدولة‭.‬

فالإثنية‭ ‬والدين‭ ‬والطائفة‭ ‬والعائلة‭ ‬والمنطقة‭ ‬والسلطة‭ ‬المسورة‭ ‬بحدود‭ ‬سياسية‭ ‬أشكال‭ ‬من‭ ‬الهويات‭ ‬السائدة‭ ‬والمتناقضة‭ ‬والتي‭ ‬تحمل‭ ‬خطاباً‭ ‬أيديولوجيا‭ ‬مبرراً‭ ‬لكل‭ ‬هوية‭.‬‮ ‬تضمن‭ ‬كل‭ ‬هوية‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الهويات‭ ‬موقعها‭ ‬من‭ ‬تشكل‭ ‬الوعي‭ ‬الأيديولوجي‭ ‬بها‭.‬

ونحن‭ ‬أمام‭ ‬وقائع‭ ‬لا‭ ‬مجال‭ ‬لنكران‭ ‬وجودها،‭ ‬ثم‭ ‬نحن‭ ‬أمام‭ ‬وعي‭ ‬هذه‭ ‬الوقائع‭ ‬وبخاصة‭ ‬الوعي‭ ‬الأيديولوجي‭.‬

العرب‭. ‬البربر،‭ ‬الكرد،‭ ‬إثنيات‭ ‬لأقوام‭ ‬موجودة‭ ‬تاريخياً‭. ‬دعك‭ ‬عن‭ ‬وعي‭ ‬كل‭ ‬إثنية‭ ‬عند‭ ‬أصحابها‭ ‬الذي‭ ‬يصل‭ ‬حد‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬كل‭ ‬إثنية‭ ‬تشكل‭ ‬أمّة‭.‬

يتحدد‭ ‬الوعي‭ ‬بالإثنية‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية‭ ‬بوصفه‭ ‬وعياً‭ ‬بالأصل‭ ‬أولاً‭. ‬يقود‭ ‬الوعي‭ ‬بالأصل‭ ‬إلى‭ ‬تصور‭ ‬عرقي‭ ‬للهوية‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬يتأتى‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬التصور‭ ‬عنصرية‭ ‬ما،‭ ‬لكن‭ ‬وعي‭ ‬الهوية‭ ‬بوصفها‭ ‬أصلا‭ ‬إثنياً‭ ‬يحول‭ ‬الأصل‭ ‬إلى‭ ‬طريقة‭ ‬في‭ ‬الوعي‭ ‬‭(‬الهوياتي‭)‬‭ ‬يأتي‭ ‬على‭ ‬مفهوم‭ ‬الأمة‭ ‬بوصفها‭ ‬هوية‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬الشعور‭ ‬المشترك‭.‬

لا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬هوية‭ ‬بوصفها‭ ‬بنية،‭ ‬ولكن‭ ‬إن‭ ‬هي‭ ‬إلا‭ ‬لحظة‭.. ‬حتى‭ ‬تلك‭ ‬المجتمعات‭ ‬الراكدة‭ ‬تاريخياً‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬الإفلات‭ ‬من‭ ‬عملية‭ ‬تفتيت‭ ‬بنيتها‭ ‬الثقافية

فضلا‭ ‬عن‭ ‬ذلك،‭ ‬فإن‭ ‬بعض‭ ‬الأقليات‭ ‬الإثنية‭ ‬تعوّل‭ ‬على‭ ‬فكرة‭ ‬الأصل‭ ‬التاريخي‭ ‬القديم‭ ‬لتأكيد‭ ‬تمايزها‭ ‬التام‭ ‬عن‭ ‬الأكثرية‭. ‬بل‭ ‬ويصل‭ ‬بها‭ ‬الحد‭ ‬إلى‭ ‬تنامي‭ ‬الشعور‭ ‬الشوفيني‭ ‬لديها‭ ‬تجاه‭ ‬الأكثرية‭ ‬التي‭ ‬تراها‭ ‬طارئة‭ ‬على‭ ‬مكان‭ ‬سكناها‭.‬

وليس‭ ‬هذا‭ ‬فحسب،‭ ‬فهناك‭ ‬أشكال‭ ‬من‭ ‬الوعي‭ ‬بالهوية‭ ‬تأسيساً‭ ‬على‭ ‬تاريخ‭ ‬قديم‭. ‬فنصادف‭ ‬مهاجراً‭ ‬من‭ ‬حوران‭ ‬إلى‭ ‬جبل‭ ‬لبنان‭ ‬ليعلن‭ ‬أنه‭ ‬ليس‭ ‬عربياً‭ ‬بل‭ ‬فينيقي،‭ ‬ومصريّ‭ ‬أصله‭ ‬من‭ ‬اليونان‭ ‬ليؤسس‭ ‬وعيه‭ ‬‭(‬الهوياتي‭)‬‭ ‬بانتمائه‭ ‬إلى‭ ‬أجداده‭ ‬الفراعنة‭ ‬ويعلن‭ ‬مصر‭ ‬فرعونية‭.‬

وهكذا،‭ ‬صحيح‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الوعي‭ ‬‭(‬الهوياتي‭)‬‭ ‬يظل‭ ‬محصوراً‭ ‬في‭ ‬ثلة‭ ‬من‭ ‬النخب‭ ‬التي‭ ‬ينمو‭ ‬لديها‭ ‬المتخيل‭ ‬العرقي‭ ‬الزائف،‭ ‬لكنه‭ ‬قابل‭ ‬لأن‭ ‬يتحول‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الأزمات‭ ‬مسدودة‭ ‬الحلول‭ ‬إلى‭ ‬أيديولوجيا‭ ‬عنفية‭.‬

والحق‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الهويات‭ ‬المتيقظة‭ ‬بدرجات‭ ‬متفاوتة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬الهوية‭ ‬مشكلة‭ ‬في‭ ‬عالمنا‭ ‬العربي،‭ . ‬وتزاد‭ ‬المشكلة‭ ‬تعقيداً‭ ‬حين‭ ‬تتحوّل‭ ‬هذه‭ ‬الهويات‭ ‬إلى‭ ‬أيديولوجيات‭ ‬تعصبية‭ ‬أو‭ ‬عنفية،‭ ‬أو‭ ‬شوفينية‭ ‬بامتياز‭.‬

والهوية‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬الشوفينية‭ ‬‮«‬المتعصبة‭ ‬أو‭ ‬العنفية‮»‬‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬ترفع‭ ‬من‭ ‬شأنها‭ ‬بشكل‭ ‬مرضي‭ ‬وتستصغر‭ ‬شأن‭ ‬الهويات‭ ‬الأخرى‭ ‬وتتعالى‭ ‬عليها،‭ ‬فتتحول‭ ‬الهوية‭ ‬الشوفينية‭ ‬إلى‭ ‬هوية‭ ‬نافية‭ ‬للآخر‭ ‬وسالبة‭ ‬لحقه‭.‬

وفي‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬تستوي‭ ‬هوية‭ ‬الأكثرية‭ ‬مع‭ ‬هوية‭ ‬الأقلية‭. ‬بل‭ ‬إن‭ ‬هوية‭ ‬الأقليات‭ ‬أكثر‭ ‬شوفينية‭ ‬لهويتها‭ ‬من‭ ‬هوية‭ ‬الأكثرية،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬تأكيد‭ ‬وجودها‭ ‬الصغير‭ ‬والضعيف‭ ‬يستدعي‭ ‬منها‭ ‬تعصباً‭ ‬مرضياً‭.‬

فدعوة‭ ‬بعض‭ ‬مثقفي‭ ‬الأمازيغ‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬إلى‭ ‬رحيل‭ ‬العرب‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬جاؤوا‭ ‬شاهدا‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الصورة‭ ‬الشوفينية‭ ‬لهوية‮ ‬‭ ‬بعض‭ ‬نخبة‭ ‬الأقلية‭. ‬وحديث‭ ‬بعض‭ ‬المنتسبين‭ ‬إلى‭ ‬أحزاب‭ ‬طائفية‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬عن‭ ‬القيمة‭ ‬الكيفية‭ ‬للطائفة‭ ‬مقابل‭ ‬قيمة‭ ‬عددية‭ ‬لأخرى‭ ‬هو‭ ‬الآخر‭ ‬تعبير‭ ‬عن‭ ‬شوفينية‭ ‬مرضية‭. ‬وقس‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬شوفينية‭ ‬الهوية‭ ‬القومية‭ ‬العربية‭ ‬عند‭ ‬بعض‭ ‬القوميين‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الإعلاء‭ ‬المطلق‭ ‬للعرب‭ ‬على‭ ‬باقي‭ ‬الأمم‭.. ‬والهوية‭ ‬الإسلامية‭ ‬السياسية‭ ‬التي‭ ‬تعود‭ ‬بنا‭ ‬إلى‭ ‬الماضي‭ ‬لتحقق‭ ‬في‭ ‬الحاضر‭.‬

والحق‭ ‬أن‭ ‬انتقال‭ ‬الهوية‭ ‬من‭ ‬حالة‭ ‬أنثربولوجية‭ ‬ـ‭ ‬إنسانية‭ ‬إلى‭ ‬حالة‭ ‬أيديولوجية‭ ‬معلم‭ ‬هام‭ ‬من‭ ‬معالم‭ ‬أزمة‭ ‬واقع‭ ‬وأزمة‭ ‬وعي‭ ‬بامتياز‭.‬

والعرب‭ ‬من‭ ‬الأقوام‭ ‬القليلة‭ ‬التي‭ ‬تشعر‭ ‬بأن‭ ‬هويتها‭ ‬معرضة‭ ‬للخطر‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬غزو‭ ‬دائم‭ ‬للغرب،‭ ‬فتحوّل‭ ‬الغرب‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬ذات‭ ‬طبيعة‭ ‬استعمارية‭ ‬توسعية‭ ‬مسيطرة‭ ‬إلى‮ ‬‭ ‬دول‭ ‬تعادي‭ ‬هوية،‭ ‬مع‭ ‬غض‭ ‬الطرف‭ ‬عن‭ ‬السمة‭ ‬الأساسية‭ ‬للغرب‭. ‬وهكذا‭ ‬يتحول‭ ‬الواقع‭ ‬الاستعماري‭ ‬الجديد‭ ‬إلى‭ ‬غزو‭ ‬ثقافي‭.‬

كلما‭ ‬ازداد‭ ‬التواصل‭ ‬بأشكاله‭ ‬المتعددة‭ ‬اكتسبت‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬شخصية‭ ‬وساهمت‭ ‬في‭ ‬بلورة‭ ‬الهوية‭ ‬المشتركة‭ ‬وخصوصاً‭ ‬عبر‭ ‬الثقافة‭ ‬الواعية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تنفكّ‭ ‬الآن‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬مبدعيها‭ ‬رموزاً‭ ‬ما‭ ‬فوق‭ ‬قطرية

الهوية والاختلاف والثقافة العربية

ما‭ ‬الذي‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬الهوية‭ ‬والاختلاف‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬المعاصرة‭ ‬مشكلة‭ ‬للبحث‭ ‬والدرس؟

أطرحُ‭ ‬قولاً‭ ‬كهذا‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬تتصف‭ ‬فيه‭ ‬كل‭ ‬ثقافات‭ ‬العالم‭ ‬بمثل‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭. ‬ولا‭ ‬تبرز‭ ‬فيها‭ ‬جميعها‭ ‬هذه‭ ‬المشكلة‭. ‬إني‭ ‬لأعتقد‭ ‬أنّ‭ ‬هذه‭ ‬المشكلة‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬لتبرز‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النحو‭ ‬الظاهر‭ ‬لولا‭ ‬الإحساس‭ ‬المتنامي‭ ‬للعرب‭ ‬بأن‭ ‬وحدتهم‭ ‬القومية‭ ‬–‭ ‬التي‭ ‬تبدو‭ ‬كمشروع‭ ‬معوَّق‭ ‬–‭ ‬لا‭ ‬تكتمل‭ ‬في‭ ‬صيغتها‭ ‬السياسية‭ ‬إلا‭ ‬بإنجاز‭ ‬وحدة‭ ‬ثقافية‭ ‬تأتي‭ ‬على‭ ‬تنوع‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬الظن‭ ‬عامل‭ ‬سلب‭ ‬لها‭.‬

فتوزع‭ ‬العرب‭ ‬إلى‭ ‬دول‭ ‬قطرية،‭ ‬وما‭ ‬ينتج‭ ‬عنه‭ ‬من‭ ‬اختلاف‭ ‬سياسي‭ ‬واقتصادي‭ ‬واجتماعي‭ ‬وثقافي،‭ ‬ووجود‭ ‬أقليات‭ ‬إثنية‭ ‬يبرز‭ ‬وعيها‭ ‬الذاتي‭ ‬في‭ ‬لحظات‭ ‬ترهل‭ ‬الكفاح‭ ‬السياسي‭ ‬العربي،‭ ‬وانشطار‭ ‬بعض‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬إلى‭ ‬ملل‭ ‬دينية‭ ‬تأخذ‭ ‬صيغة‭ ‬البنى‭ ‬المعادة‭ ‬ذات‭ ‬تعبيرات‭ ‬أيديولوجية،‭ ‬والعلاقة‭ ‬مع‭ ‬الغرب‭ ‬المتقدم‭ ‬التي‭ ‬تواجه‭ ‬بتحصّن‭ ‬بالهوية‭ ‬الثقافية‭ ‬بدواعٍ‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬غزواً‭ ‬ثقافياً‭ ‬ينال‭ ‬من‭ ‬الثقافة‭ ‬القومية‭. ‬والتناقض‭ ‬بين‭ ‬ثقافة‭ ‬تقليدية‭ ‬وثقافة‭ ‬حديثة‭. ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬يقف‭ ‬وراء‭ ‬تحول‭ ‬الثقافة‭ ‬إلى‭ ‬مشكلة‭ ‬أنتجت‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬المفاهيم‭ ‬المتقابلة‭: ‬الثقافة‭ ‬القطرية‭ ‬والثقافة‭ ‬القومية،‭ ‬الثقافة‭ ‬الأصلية‭ ‬والثقافة‭ ‬المعاصرة،‭ ‬الثقافة‭ ‬القديمة‭ ‬والثقافة‭ ‬الجديدة،‭ ‬الإسلام‭ ‬والغرب،‭ ‬التراث‭ ‬والتجديد،‭ ‬الاستشراق‭ ‬والاستغراب‭.. ‬إلخ‭.‬

أما‭ ‬نحن‭ ‬فسندخل‭ ‬مدخلاً‭ ‬آخر‭ ‬في‭ ‬بحث‭ ‬هذه‭ ‬المشكلة‭.‬

مدخلنا‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬نقطة‭ ‬انطلاق‭ ‬أولى‭ ‬مفادها‭: ‬أن‭ ‬وجود‭ ‬الثقافة‭ ‬سابق‭ ‬على‭ ‬هويتها‭ ‬–‭ ‬أو‭ ‬ماهيتها‭. ‬ولما‭ ‬كان‭ ‬وجود‭ ‬الثقافة‭ ‬أمراً‭ ‬تاريخياً،‭ ‬فهوية‭ ‬الثقافة‭ ‬هي‭ ‬الأخرى‭ ‬تاريخية‭.‬

إذا‭ ‬الهوية‭ ‬سيرورة‭ ‬لا‭ ‬تكف‭ ‬عن‭ ‬التعين،‭ ‬والنظر‭ ‬إلى‭ ‬الهوية‭ ‬الثقافية‭ ‬باقتلاعها‭ ‬من‭ ‬تاريخيتها‭ ‬فعل‭ ‬متناقض‭ ‬كلية‭ ‬مع‭ ‬منطق‭ ‬الثقافة‭ ‬ذاتها‭.‬

ولا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬هوية‭ ‬بوصفها‭ ‬بنية،‭ ‬ولكن‭ ‬إن‭ ‬هي‭ ‬إلا‭ ‬لحظة‭.. ‬حتى‭ ‬تلك‭ ‬المجتمعات‭ ‬الراكدة‭ ‬تاريخياً‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬الإفلات‭ ‬من‭ ‬عملية‭ ‬تفتيت‭ ‬بنيتها‭ ‬الثقافية‭. ‬والأمر‭ ‬أكثر‭ ‬سطوعاً‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬التغير‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬الحيوية،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تنفك‭ ‬تعيش‭ ‬تناقضاً‭ ‬متعدد‭ ‬الأوجه‭ ‬يعيّن‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬مستمر‭ ‬حالها‭ ‬الثقافي‭.‬

إن‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬ينفي‭ ‬إطلاقاً‭ ‬استمرار‭ ‬صلاح‭ ‬مفهوم‭ ‬الثقافة‭ ‬القومية‭ ‬معرفياً،‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬خصائص‭ ‬ثقافة‭ ‬أمّة‭ ‬محددة‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬محدد‭ ‬من‭ ‬تطورها‭.‬

وذلك‭: ‬أن‭ ‬الثقافة‭ ‬القومية‭ ‬هي‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬السمات‭ ‬النفسية‭ ‬–‭ ‬الروحية‭ ‬والقيمية‭ ‬واللغوية،‭ ‬والأدبية‭ ‬يحضنها‭ ‬شعور‭ ‬مشترك‭ ‬بالانتماء‭ ‬يخلق‭ ‬الوعي‭ ‬بالتمايز‭ ‬يتكون‭ ‬تاريخياً‭.‬

تعريف‭ ‬كهذا‭ ‬لا‭ ‬يشير‭ ‬إطلاقاً‭ ‬إلى‭ ‬هوية‭ ‬مطلقة‭ ‬نشأت‭ ‬لمرة‭ ‬واحدة‭ ‬وإلى‭ ‬الأبد‭.‬

ولكن‭ ‬الثابت‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬السمات‭ ‬أمران‭: ‬اللغة‭ ‬والشعور‭ ‬المشترك‭ ‬بالانتماء‭ ‬كعنصرين‭ ‬لا‭ ‬ينفصلان‭ ‬ويعطيان‭ ‬للهوية‭ ‬ديمومتها،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬اغتنائها‭ ‬الدائم‭. ‬فاللغة‭ ‬دون‭ ‬شعور‭ ‬مشترك‭ ‬بالانتماء‭ ‬ليست‭ ‬عنصراً‭ ‬أساسياً‭ ‬في‭ ‬الهوية‭ ‬والشعور‭ ‬بالانتماء‭ ‬يضعف‭ ‬أو‭ ‬يزول‭ ‬دون‭ ‬اللغة‭ ‬مع‭ ‬أنه‭ ‬عنصر‭ ‬أقوى‭ ‬من‭ ‬عنصر‭ ‬اللغة،‭ ‬لأنه‭ ‬مرتبط‭ ‬بإرث‭ ‬طويل‭ ‬من‭ ‬الذكريات‭ ‬والإحساس‭ ‬بالأصل‭ ‬تعززه‭ ‬بعض‭ ‬العادات‭ ‬والتقاليد‭.‬

استناداً‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬سبق‭: ‬كيف‭ ‬ننظر‭ ‬إلى‭ ‬وجود‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬هويتها‭ ‬واختلافها‭.‬

‏كأي‭ ‬ثقافة‭ ‬حيوية‭ ‬–‭ ‬ذات‭ ‬جانبين‭ ‬متداخلين‭ ‬نسبياً‭: ‬جانب‭ ‬موضوعي‭ ‬يتكون‭ ‬من‭ ‬مجموعة‭ ‬القيم‭ ‬والعادات‭ ‬والتقاليد‭ ‬والمعتقدات‭ ‬الدينية،‭ ‬تحدد‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬عفوي‭ ‬أنماط‭ ‬السلوك،‭ ‬وتنتقل‭ ‬من‭ ‬جيل‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬بشكل‭ ‬عفوي‭ ‬–‭ ‬إنها‭ ‬ثقافة‭ ‬غير‭ ‬موعيّ‭ ‬بها‭ ‬وتشكل‭ ‬طبيعة‭ ‬ثانية‭ ‬للإنسان‭.‬

وجانب‭ ‬ذاتي‭ ‬–‭ ‬أي‭ ‬صادر‭ ‬عن‭ ‬ذات‭ ‬واعية‭ ‬مبدعة‭ ‬يتلقاه‭ ‬المجتمع‭ ‬عبر‭ ‬وسائل‭ ‬الاتصال‭ ‬المتعددة‭ ‬كالأدب‭ ‬والفن‭ ‬والأيديولوجيا‭ ‬والعلم‭.. ‬إلخ‭. ‬ويحدث‭ ‬تأثيراً‭ ‬في‭ ‬الوعي‭ ‬–‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬نطلق‭ ‬عليه‭ ‬الثقافة‭ ‬الموعيّ‭ ‬بها‭.‬

تتعرض‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬جانبها‭ ‬الموضوعي‭ ‬منذ‭ ‬عصر‭ ‬النهضة‭ ‬وحتى‭ ‬الآن‭ ‬لتغير‭ ‬عميق‭ ‬بدأ‭ ‬بطيئاً‭ ‬وصار‭ ‬متسارعاً‭ ‬وهو‭ ‬تغير‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬للإرادة‭ ‬الواعية‭ ‬فيه‭ ‬مباشرة‭ ‬وذلك‭ ‬بفعل‭ ‬عاملين‭ ‬اثنين‭:‬

1‭-‬‭ ‬التطور‭ ‬الهائل‭ ‬في‭ ‬أسلوب‭ ‬الإنتاج‭ ‬وما‭ ‬ينشأ‭ ‬عنه‭ ‬من‭ ‬طبقات‭ ‬وفئات‭ ‬اجتماعية‭ ‬وخصوصاً‭ ‬بدخول‭ ‬التقنية‭ ‬الحديثة‭ ‬في‭ ‬الإنتاج،‭ ‬طبقات‭ ‬فئات‭ ‬تعينت‭ ‬مصالحها‭ ‬كقوى‭ ‬حديثة،‭ ‬أسهمت‭ ‬وتسهم‭ ‬في‭ ‬تفتيت‭ ‬البنى‭ ‬الاجتماعية‭ ‬التقليدية‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬تفتيت‭ ‬عالم‭ ‬القيم‭ ‬والنظرة‭ ‬إلى‭ ‬العالم،‭ ‬وعلاقات‭ ‬البشر‭ ‬ببعضهم‭ ‬بعضا،‭ ‬وهذا‭ ‬بدوره‭ ‬ألقى‭ ‬بظله‭ ‬على‭ ‬الثقافة‭ ‬الذاتية‭ ‬المبدعة‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬الأدب‭ ‬والفلسفة‭ ‬والأيديولوجيا‭ ‬أي‭ ‬عالم‭ ‬الفكر‭ ‬بشكلٍ‭ ‬عام‭.‬

2‭-‬‭ ‬الاختراق‭ ‬المستمر‭ ‬للثقافة‭ ‬الأوروبية‭ ‬التي‭ ‬تحولت‭ ‬بفعل‭ ‬عالمية‭ ‬الرأسمالية‭ ‬–‭ ‬سواء‭ ‬أخذت‭ ‬الرأسمالية‭ ‬صيغة‭ ‬الإمبريالية‭ ‬أو‭ ‬صيغة‭ ‬العولمة‭ ‬–‭ ‬إلى‭ ‬ثقافة‭ ‬سائدة‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬الانتقال‭ ‬العفوي‭ ‬إلى‭ ‬الأطراف‭.‬

وهذا‭ ‬الاختراق‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬ليتمّ‭ ‬إلا‭ ‬لأن‭ ‬العلاقات‭ ‬الرأسمالية‭ ‬ذاتها‭ ‬قد‭ ‬شرعت‭ ‬بالانتصار‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬أقطار‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭.‬

لكن‭ ‬هذه‭ ‬العملية‭ ‬تمت‭ ‬وتتم‭ ‬على‭ ‬أنحاء‭ ‬مختلفة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬قطر‭ ‬من‭ ‬أقطار‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬وفي‭ ‬تعين‭ ‬هذه‭ ‬العملية‭ ‬وفق‭ ‬شروط‭ ‬كل‭ ‬قطر‭ ‬يبرز‭ ‬الاختلاف‭ ‬بما‭ ‬فيه‭ ‬الاختلاف‭ ‬الثقافي‭.‬

فبلد‭ ‬–‭ ‬كتونس‭ ‬مثلاً‭ ‬–‭ ‬خضع‭ ‬بشكلٍ‭ ‬مبكر‭ ‬للاستعمار‭ ‬الفرنسي،‭ ‬ونشأت‭ ‬فيه‭ ‬علاقات‭ ‬رأسمالية‭ ‬بفضل‭ ‬توظيف‭ ‬الرأسمال‭ ‬الاحتكاري‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬مبكرة‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬ساعد‭ ‬على‭ ‬نشوء‭ ‬طبقة‭ ‬برجوازية‭ ‬تونسية‭ ‬متجانسة‭ ‬مع‭ ‬الرأسمالية‭ ‬الفرنسية‭.‬

وشهدت‭ ‬تونس‭ ‬كفاحاً‭ ‬وطنياً‭ ‬قادته‭ ‬النخبة‭ ‬من‭ ‬الفئات‭ ‬الوسطى‭ ‬وأنجزته‭ ‬عام‭ ‬1956م‭. ‬ثم‭ ‬عملت‭ ‬هذه‭ ‬النخبة‭ ‬على‭ ‬تأسيس‭ ‬دولة‭ ‬حديثة‭ ‬ذات‭ ‬علاقات‭ ‬رأسمالية‭ ‬وتحديث‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬أوروبي‭.‬

عملية‭ ‬كهذه‭ ‬شرعت‭ ‬في‭ ‬تحطيم‭ ‬مؤسسات‭ ‬المجتمع‭ ‬التقليدي‭ ‬ولا‭ ‬سيما‭ ‬الثقافية‭ ‬–‭ ‬القيمية‭ ‬فيها‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬ولّد‭ ‬أشكالاً‭ ‬من‭ ‬الوعي‭ ‬الأيديولوجي‭ ‬الجديد‭ ‬نمت‭ ‬في‭ ‬إطاره‭ ‬مؤسسات‭ ‬حديثة‭: ‬الحزب،‭ ‬الثقافة،‭ ‬الجامعة،‭ ‬المدرسة‭. ‬والآن‭ ‬يعيش‭ ‬50‭ ‬بالمئة‭ ‬من‭ ‬سكان‭ ‬تونس‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬ولم‭ ‬يتجاوز‭ ‬عدد‭ ‬البدو‭ ‬الرحل‭ ‬حتى‭ ‬عام‭ ‬1983م‭ ‬الـ300‭‬ ألف‭ ‬شخص‭.‬


لوحة: عمار النحاس

وظلت‭ ‬الروابط‭ ‬الثقافية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬بين‭ ‬تونس‭ ‬وفرنسا‭ ‬قوية،‭ ‬فهناك‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬التونسيين‭ ‬الذين‭ ‬يعملون‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬ومازالوا‭ ‬مرتبطين‭ ‬بالوطن‭ ‬الأم،‭ ‬واللغة‭ ‬الفرنسية‭ ‬لغة‭ ‬منتشرة‭ ‬تصدر‭ ‬بها‭ ‬صحف‭ ‬يقرؤها‭ ‬السكان‭ ‬الأصوليون‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يعزز‭ ‬من‭ ‬اختراق‭ ‬الثقافة‭ ‬الفرنسية‭ ‬للثقافة‭ ‬العربية‭ ‬التونسية‭.‬

وهذا‭ ‬لا‭ ‬ينفي‭ ‬أن‭ ‬الثقافة‭ ‬التقليدية‭ ‬والثقافة‭ ‬الحديثة‭ ‬كعالمين‭ ‬مختلفين‭ ‬تجدان‭ ‬حضوراً‭ ‬لهما‭ ‬في‭ ‬علمنا‭ ‬الثقافي‭ ‬كله‭.‬

وهذا‭ ‬ما‭ ‬يدعونا‭ ‬إلى‭ ‬القول‭:‬ إن‭ ‬عملية‭ ‬رأسمالية‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬تسمح‭ ‬لنا‭ ‬بالحديث‭ ‬عن‭ ‬ثقافة‭ ‬مجتمع‭ ‬رأسمالي‭ ‬لا‭ ‬عن‭ ‬ثقافة‭ ‬رأسمالية‭ ‬سائدة‭.‬

وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أننا‭ ‬في‭ ‬ثقافة‭ ‬المجتمع‭ ‬الرأسمالي‭ ‬العربي‭ ‬نجد‭ ‬ثقافات‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬رأسمالية‭ ‬تفعل‭ ‬فعلها‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬الثقافة‭ ‬الرأسمالية‭ ‬مع‭ ‬تفاوت‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬بين‭ ‬هذا‭ ‬القطر‭ ‬أو‭ ‬ذاك‭.‬

أي‭ ‬لم‭ ‬تصل‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬إلى‭ ‬انتصار‭ ‬الثقافة‭ ‬الرأسمالية‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬الميل‭ ‬هو‭ ‬نحو‭ ‬انتصار‭ ‬الثقافة‭ ‬الرأسمالية‭.‬

وإنّ‭ ‬طرح‭ ‬مسألة‭ ‬الهوية‭ ‬والاختلاف‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬المعاصرة‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬تحليل‭ ‬كهذا،‭ ‬يجنّبنا‭ ‬النظرة‭ ‬السكونية‭ ‬للمسألة‭.‬

فانطلاقاً‭ ‬من‭ ‬أطروحتنا‭ ‬أن‭ ‬العلاقات‭ ‬الرأسمالية‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تحدد‭ ‬مصير‭ ‬المنطقة،‭ ‬فإن‭ ‬الاختلاف‭ ‬يقل‭ ‬وعامل‭ ‬الهوية‭ ‬يزداد،‭ ‬بوصفها‭ ‬هوية‭ ‬مصير‭.‬

ولكن‭ ‬المسألة‭ ‬في‭ ‬تحديد‭ ‬الهوية‭ ‬لا‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬رأسمالية‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬إلى‭ ‬رأسمالية‭ ‬بلاد‭ ‬تحوز‭ ‬على‭ ‬ثقافة‭ ‬مشتركة‭ ‬وشعور‭ ‬مشترك‭ ‬بالانتماء‭ ‬يتنامى‭ ‬أكثر‭ ‬فأكثر‭ ‬في‭ ‬الشروط‭ ‬الجديدة‭.‬

وإذا‭ ‬كان‭ ‬صحيحاً‭ ‬أن‭ ‬الرأسمالية‭ ‬في‭ ‬شروط‭ ‬العولمة‭ ‬الجديدة‭ ‬توحّد‭ ‬العالم‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬أكثر،‭ ‬وخصوصاً‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬الاقتصاد‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬كبير‭ ‬وفي‭ ‬مجال‭ ‬الثقافة‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬أقل،‭ ‬لكنها‭ ‬–‭ ‬أي‭ ‬العولمة‭ ‬–‭ ‬لم‭ ‬تلغ‭ ‬التمايز‭ ‬بين‭ ‬الأمم‭ ‬والشعور‭ ‬بالانتماء‭. ‬بل‭ ‬قل‭ ‬إن‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬العولمة‭ ‬يحصلون‭ ‬على‭ ‬شروط‭ ‬أفضل‭ ‬لوحدتهم‭ ‬الثقافية‭.‬

وقد‭ ‬يعترض‭ ‬البعض‭ ‬قائلاً‭ ‬إنها‭ ‬لمفارقة‭ ‬حقاً‭. ‬فالعولمة‭ ‬تنتج‭ ‬الآن‭ ‬ثقافة‭ ‬ما‭ ‬فوق‭ ‬قومية‭. ‬ولماذا‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬العرب‭ ‬أحد‭ ‬عوامل‭ ‬إنتاج‭ ‬ثقافة‭ ‬قومية؟

الحق‭ ‬أن‭ ‬العرب‭ ‬يتوافرون‭ ‬بالأصل‭ ‬على‭ ‬مشترك‭ ‬ثقافي،‭ ‬وعوامل‭ ‬نبذ‭ ‬عديدة‭ ‬لهذا‭ ‬المشترك،‭ ‬أهمها‭ ‬حالة‭ ‬التجزئة‭ ‬السياسية‭ ‬وما‭ ‬يترتب‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬تجزئة‭ ‬اقتصادية‭ ‬وثقافية‭ ‬ومنع‭ ‬التواصل‭.‬

والعولمة‭ ‬التي‭ ‬وفرت‭ ‬شروط‭ ‬التواصل‭ ‬العالمي‭ ‬أسهمت‭ ‬بدورها‭ ‬بكسر‭ ‬حالة‭ ‬الانفصال‭ ‬السائدة‭ ‬وخصوصاً‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الانفصال‭ ‬الثقافي‭.‬

فالتلفاز‭ ‬عربي‭ ‬اليوم،‭ ‬والكتاب‭ ‬عربي،‭ ‬والانتقال‭ ‬أفضل‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يقاس،‭ ‬والهاتف‭ ‬دخل‭ ‬أداة‭ ‬يومية‭ ‬للاتصال،‭ ‬ناهيك‭ ‬عن‭ ‬عشرات‭ ‬الصحف‭ ‬والمجلات‭ ‬التي‭ ‬يتمّ‭ ‬تبادلها،‭ ‬وعشرات‭ ‬المؤتمرات‭ ‬المشتركة،‭ ‬التي‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬توفير‭ ‬سبل‭ ‬الالتقاء‭ ‬والحوار،‭ ‬توفر‭ ‬أيضاً‭ ‬شعوراً‭ ‬مشتركاً‭ ‬بالمشكلات‭.‬

وكلما‭ ‬ازداد‭ ‬التواصل‭ ‬بأشكاله‭ ‬المتعددة‭ ‬اكتسبت‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬شخصية‭ ‬وساهمت‭ ‬في‭ ‬بلورة‭ ‬الهوية‭ ‬المشتركة‭ ‬وخصوصاً‭ ‬عبر‭ ‬الثقافة‭ ‬الواعية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تنفكّ‭ ‬الآن‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬مبدعيها‭ ‬رموزاً‭ ‬ما‭ ‬فوق‭ ‬قطرية‭.‬

الطائفية‭ ‬بالتعريف‭ ‬هي‭ ‬هوية‭ ‬ذات‭ ‬نزعة‭ ‬تعصبية‭ ‬للطائفة‭. ‬وكل‭ ‬نزعة‭ ‬تعصبية‭ ‬هي‭ ‬نزعة‭ ‬إقصائية‭ ‬للآخر‭ ‬سراً‭ ‬أو‭ ‬علناً‭. ‬بل‭ ‬قل‭ ‬الطائفية‭ ‬انتقال‭ ‬العصبية‭ ‬الجامعة‭ ‬بوصفها‭ ‬هوية‭ ‬أنثروبولوجية‭ ‬إلى‭ ‬هوية‭ ‬تعصبية

غير‭ ‬أننا‭ ‬نواجه‭ ‬في‭ ‬علاقة‭ ‬الثقافة‭ ‬الموضوعية‭ ‬والثقافة‭ ‬كفعلٍ‭ ‬واعٍ‭ ‬ظاهرة‭ ‬طريفة،‭ ‬ألا‭ ‬وهي‭: ‬تحول‭ ‬عناصر‭ ‬من‭ ‬الثقافة‭ ‬غير‭ ‬الموعيّ‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬ثقافة‭ ‬موعيّ‭ ‬بها‭ ‬وخصوصاً‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬القيم‭ ‬والدين‭. ‬كيف‭ ‬تتم‭ ‬هذه‭ ‬العملية؟

قلنا‭ ‬إن‭ ‬الثقافة‭ ‬غير‭ ‬الموعيّ‭ ‬بها‭ ‬تتعرض‭ ‬لأسباب‭ ‬موضوعية‭ ‬داخلية‭ ‬وخارجية‭ ‬لعملية‭ ‬تغير‭ ‬حقيقية‭.‬

فالتقنية‭ ‬تخلق‭ ‬لا‭ ‬محالة‭ ‬ثقافة‭ ‬تنحو‭ ‬نحو‭ ‬تغيير‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الإنسان‭ ‬والطبيعة‭ ‬وتتطلّب‭ ‬حداً‭ ‬أدنى‭ ‬من‭ ‬التفكير‭ ‬العلمي‭ ‬الذي‭ ‬يتنامى‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬علاقة‭ ‬الإنسان‭ ‬بالآلة‭ ‬ودرجة‭ ‬تعقدها‭ ‬الحاصل‭ ‬الآن،‭ ‬وإنجازات‭ ‬العلم‭ ‬قد‭ ‬أودت‭ ‬بأساطير‭ ‬ورؤى‭ ‬قديمة،‭ ‬فإجابات‭ ‬العلم‭ ‬الاختباري‭ ‬على‭ ‬أسئلة‭ ‬قديمة‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬الحياة‭ ‬أو‭ ‬الفيزياء‭ ‬أو‭ ‬الفلك.. ‬إلخ،‭ ‬تحرّر‭ ‬التفكير‭ ‬من‭ ‬الأوهام‭ ‬السابقة،‭ ‬ونكران‭ ‬صحتها‭ ‬أمر‭ ‬يدعو‭ ‬إلى‭ ‬السخرية‭. ‬وازدهار‭ ‬المدينة‭ ‬وتوسعها،‭ ‬وانتصار‭ ‬الفردية‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬وتغير‭ ‬مرجعية‭ ‬الولاء‭ ‬يأتي‭ ‬على‭ ‬قيم‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬صالحة‭ ‬كمحددة‭ ‬للسلوك‭ ‬الفردي‭ ‬فتشيع‭ ‬قيم‭ ‬مجتمع‭ ‬رأسمالي‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬المنفعة‭ ‬والفردية‭ ‬وتلبية‭ ‬الحاجات‭ ‬كما‭ ‬تشيع‭ ‬فيه‭ ‬قيم‭ ‬الاحتجاج‭ ‬الإنساني‭.‬

والتعرف‭ ‬على‭ ‬منجزات‭ ‬الثقافة‭ ‬الغربية‭ ‬وخصوصاً‭ ‬المبدعة‭ ‬منها،‭ ‬العلوم‭ ‬الإنسانية‭ ‬والعلوم‭ ‬الطبيعية،‭ ‬وأشكال‭ ‬الإبداع‭ ‬الفني‭ ‬والأدبي‭ ‬يغني‭ ‬تجربة‭ ‬الوعي‭ ‬بالعالم‭.‬

ولما‭ ‬كان‭ ‬المجتمع‭ ‬–‭ ‬أي‭ ‬مجتمع‭ ‬–‭ ‬ينطوي‭ ‬دائماً‭ ‬على‭ ‬قوى‭ ‬محافظة‭ ‬وعلى‭ ‬فئات‭ ‬ذات‭ ‬مصالح‭ ‬لا‭ ‬تتحقق‭ ‬إلا‭ ‬باستمرار‭ ‬القديم،‭ ‬فإن‭ ‬التغيّر‭ ‬الموضوعي‭ ‬يضعها‭ ‬وجهاً‭ ‬لوجه‭ ‬أمام‭ ‬مواجهة‭ ‬مباشرة‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬مباشرة‭ ‬للجديد‭.‬

وليس‭ ‬أمام‭ ‬قوى‭ ‬كهذه‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬تنقل‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬الثقافة‭ ‬من‭ ‬حقلها‭ ‬الموضوعي‭ ‬–‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬عالمنا‭ ‬الثقافة‭ ‬الدينية‭ ‬–‭ ‬إلى‭ ‬حقل‭ ‬الثقافة‭ ‬الذاتية‭ ‬–‭ ‬الموعيّ‭ ‬بها،‭ ‬وتعيد‭ ‬صياغتها‭ ‬في‭ ‬قالب‭ ‬أيديولوجي‭ ‬خالص‭ ‬أساسه‭ ‬فكرة‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬الهوية‭ ‬التي‭ ‬تتعرض‭ ‬لمؤامرة‭ ‬الابتلاع‭ ‬من‭ ‬ثقافة‭ ‬وافدة‭ ‬–‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬حالنا‭ ‬الثقافة‭ ‬الغربية‭ ‬–‭ ‬وممثّلوها‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬كما‭ ‬يظن‭. ‬وهكذا‭ ‬تنتقل‭ ‬حركة‭ ‬التغير‭ ‬من‭ ‬حالة‭ ‬موضوعية‭ ‬إلى‭ ‬حقل‭ ‬الصراع‭ ‬الأيديولوجي‭. ‬أي‭ ‬تنتقل‭ ‬آلية‭ ‬التناقض‭ ‬بين‭ ‬ثقافة‭ ‬قديمة‭ ‬وثقافة‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬حقل‭ ‬العفوية‭ ‬إلى‭ ‬حقل‭ ‬تناقض‭ ‬فكري‭ ‬–‭ ‬أيديولوجي‭ ‬–‭ ‬سياسي‭ ‬بين‭ ‬أصحاب‭ ‬الهوية‭ ‬المغلقة‭ ‬ودعاة‭ ‬الهوية‭ ‬المفتوحة‭.‬

وليست‭ ‬القضية‭ ‬هنا‭ ‬بثقافية‭ ‬بحتة،‭ ‬إنما‭ ‬الثقافة‭ ‬هي‭ ‬التعبير‭ ‬الظاهر‭ ‬واللباس‭ ‬المبرقع‭ ‬الذي‭ ‬تلبسه‭ ‬التناقضات‭ ‬الواقعية‭.‬

من‭ ‬هذه‭ ‬الزاوية‭ ‬يجب‭ ‬ألا‭ ‬ننظر‭ ‬إلى‭ ‬التناقض‭ ‬الثقافي‭ ‬الحاصل‭ ‬الآن‭ ‬بين‭ ‬دعاة‭ ‬الهوية‭ ‬المغلقة‭ ‬وأصحاب‭ ‬الهوية‭ ‬المفتوحة‭ ‬على‭ ‬أنّه‭ ‬مظهر‭ ‬سلبي،‭ ‬أو‭ ‬أنه‭ ‬نكوص‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬تعبير‭ ‬عن‭ ‬حيوية‭ ‬المجتمع‮ ‬‭ ‬وركوده‭ ‬معاً‭ ‬وإن‭ ‬أخذ‭ ‬أشكالاً‭ ‬من‭ ‬العنف‭ ‬لدى‭ ‬بعض‭ ‬الجماعات‭ ‬المتطرفة‭.‬

‮ ‬الهوية‭ ‬والطائفة والطائفية

تشكل‭ ‬آسيا‭ ‬العربية‭ ‬مكاناً‭ ‬فريداً‭ ‬في‭ ‬التنوع‭ ‬الطائفي‭ ‬الإسلامي‭. ‬ففيها‭ ‬يعيش‭ ‬السنة‭ ‬والشيعة‭ ‬والعلويون‭ ‬والدروز‭ ‬والإسماعيليون‭ ‬والبهائيون‭ ‬والإباضيون‭.‬

وبالرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬السنة‭ ‬هم‭ ‬الأغلبية‭ ‬فإنهم‭ ‬تعايشوا‭ ‬مع‭ ‬الأقليات‭ ‬الأخرى‭ ‬ودون‭ ‬صراع‭ ‬طائفي‭.‬

ولم‭ ‬يلحظ‭ ‬المرء‭ ‬منذ‭ ‬عصر‭ ‬النهضة‭ ‬وحتى‭ ‬وقت‭ ‬قريب‭ ‬من‭ ‬نهاية‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬تعيّن‭ ‬التنوع‭ ‬الطائفي‭ ‬في‭ ‬حركات‭ ‬وأحزاب‭ ‬سياسية‭ ‬ما‭ ‬خلا‭ ‬الإخوان‮ ‬‭ ‬المسلمين‭ ‬وحزب‭ ‬التحرير‭ ‬الإسلامي‭ ‬والأحزاب‭ ‬الطائفية‭ ‬المحلية‭ ‬في‭ ‬لبنان،‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬يقوم‭ ‬نظامه‭ ‬السياسي‭ ‬أصلاً‭ ‬على‭ ‬التقاسم‭ ‬الطائفي‭.‬

ثم‭ ‬نشأت‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬الأحزاب‭ ‬الشيعية‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬كحزب‭ ‬الدعوة‭ ‬وما‭ ‬شابه‭ ‬ذلك‭.‬

والحق‭ ‬أن‭ ‬الطوائف‭ ‬الإسلامية‭ ‬وقائع‭ ‬تاريخية‭ ‬وواقع‭ ‬موضوعي‭ ‬والناس‭ ‬يتوارثون‭ ‬الانتماءات‭ ‬الطائفية‭ ‬دون‭ ‬خيار‮ ‬‭ ‬منهم‭.‬

فيما‭ ‬بلدان‭ ‬مصر‭ ‬وليبيا‭ ‬والمغرب‭ ‬العربي‭ ‬فإنها‭ ‬بلدان‭ ‬لا‭ ‬طوائف‭ ‬فيها‭ ‬سوى‭ ‬الإسلام‭ ‬السني،‭ ‬ولهذا‭ ‬فإن‭ ‬الأحزاب‭ ‬الإسلامية‭ ‬لا‭ ‬تواجه‭ ‬معارضة‭ ‬إلا‭ ‬الشعبية‭ ‬السنية‭ ‬أيضا‭.‬

أما‭ ‬مسيحيو‭ ‬سوريا‭ ‬والعراق‭ ‬ومصر‭ ‬فليس‭ ‬لهم‭ ‬أحزاب‭ ‬معلنة‭ ‬تمثلهم‭. ‬والخطر‭ ‬الذي‭ ‬أحدق‭ ‬بالمنطقة‭ ‬العربية‭ ‬الآسيوية‭ ‬هو‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬الطائفة‭ ‬إلى‭ ‬الطائفية‭ ‬والأكثر‭ ‬خطراً‭ ‬انتقال‭ ‬الطائفية‭ ‬إلى‭ ‬عصبية‭ ‬حاكمة‭.‬

وإذا‭ ‬كان‭ ‬أمر‭ ‬الطائفة‭ ‬معروفا‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬أصلها‭ ‬وفصلها‭ ‬ومعتقداتها‭ ‬ونمط‭ ‬عيشها‭ ‬وأخلاقها‭ ‬وقيمها‭ ‬فإن‭ ‬أمر‭ ‬الطائفية‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬نظر‭.‬

الطائفية‭ ‬بالتعريف‭ ‬هي‭ ‬هوية‭ ‬ذات‭ ‬نزعة‭ ‬تعصبية‭ ‬للطائفة‭. ‬وكل‭ ‬نزعة‭ ‬تعصبية‭ ‬هي‭ ‬نزعة‭ ‬إقصائية‭ ‬للآخر‭ ‬سراً‭ ‬أو‭ ‬علناً‭. ‬بل‭ ‬قل‭ ‬الطائفية‭ ‬انتقال‭ ‬العصبية‭ ‬الجامعة‭ ‬بوصفها‭ ‬هوية‭ ‬أنثروبولوجية‭ ‬إلى‭ ‬هوية‭ ‬تعصبية،‭ ‬إلى‭ ‬تعصّب‭..‬

وفي‭ ‬حال‭ ‬انتقال‭ ‬التعصب‭ ‬الطائفي‮ ‬‭ ‬كهوية‭ ‬إقصائية إلى‭ ‬النظام‭ ‬السياسي‭ ‬الحاكم‭ ‬فإن‭ ‬تحطيم‭ ‬العقل‭ ‬والمجتمع‭ ‬يحفر‭ ‬مجراه‭ ‬ببطء‭ ‬داخل‭ ‬جسد‭ ‬المجتمع‭ ‬ليصل‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬التدمير‭ ‬الشامل‭ ‬للحياة‭ ‬والهويات‭ ‬الوطنية‭.‬

وتشهد‭ ‬بلاد‭ ‬الشام‭ ‬والعراق‭ ‬ومصر‭ ‬وهي‭ ‬البلدان‭ ‬الأبكر‭ ‬في‭ ‬الحداثة‭ ‬–‭ ‬حركة‭ ‬نكوصية‭ ‬تعصبية‭ ‬غريبة‭ ‬وغير‭ ‬معقولة‭ ‬لأنها‭ ‬غير‭ ‬متوقعة‭ ‬في‭ ‬الإطار‭ ‬التاريخي‭ ‬لهذه‭ ‬البلدان‭.‬

فلقد‭ ‬انتشرت‭ ‬الإخوانيات‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬واسع‭: ‬الإخوان‭ ‬المسلمون‭ ‬والإخوان‭ ‬الشيعة‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الإخوانيات‭ ‬المتعددة‭ ‬هذه عبر‭ ‬العصبية‭ ‬الدينية‭ ‬التي‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬عصبية‭ ‬سياسية‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬نقلت‭ ‬الطائفة‭ ‬إلى‭ ‬طائفية‭ ‬دمرت‭ ‬مجرى‭ ‬التاريخ‭ ‬الطبيعي‭ ‬لآسيا‭ ‬العربية‭ ‬عموماً‭ ‬ولأكثر‭ ‬بلدانها‭ ‬تقدماً‭.‬

فلقد‭ ‬بدأ‭ ‬التاريخ‭ ‬الطبيعي‭ ‬لبلاد‭ ‬الشام‭ ‬والعراق‭ ‬عصر‭ ‬النهضة‭ ‬العربية‭ ‬بالفكرة‭ ‬القومية‭ ‬الجامعة‭ ‬–‭ ‬أي‭ ‬فكرة‭ ‬العروبة‭ ‬–‭ ‬أو‭ ‬الفكرة‭ ‬السورية‭ ‬القومية‭.‬

والحق‭ ‬أن‭ ‬الجسد‭ ‬الثقافي‭ ‬الشامي‭ ‬والعراقي‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬الغالب‭ ‬جسداً‭ ‬قوميا‭ ‬وَذَا‭ ‬هوية‭ ‬قومية‭ ‬عربية‭ ‬مع‭ ‬وجود‭ ‬أيديولوجيات‭ ‬أخرى‭.‬

‬إن‭ ‬الهوية‭ ‬المنتصرة‭ ‬أيديولوجياً‭ ‬وفكرياً‭ ‬وفلسفياً‭ ‬هي‭ ‬منتصرة‭ ‬في‭ ‬حدود‭ ‬تراجع‭ ‬الهوية‭ ‬الأضيق‭ ‬إلى‭ ‬الخلف‭ ‬وعندها‭ ‬تغط‭ ‬بالنوم‭ ‬ولا‭ ‬تستيقظ‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬جاءت‭ ‬ظروف‭ ‬حملتها‭ ‬على‭ ‬الاستيقاظ

وحتى‭ ‬حركات‭ ‬الاستقلال‭ ‬والتحرر‭ ‬اتكأت‭ ‬على‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬القومية‭. ‬فازدهرت‭ ‬في‭ ‬الخمسينات‭ ‬الفكرة‭ ‬القومية‭ ‬العربية‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬حركات‭ ‬البعث‭ ‬والقومين‭ ‬العرب‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬–‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬–‭ ‬الناصريين‭. ‬وبدا‭ ‬أن‭ ‬مجرى‭ ‬للتاريخ‭ ‬ينمو‭ ‬نحو‭ ‬هوية‭ ‬قومية‭ ‬عربية‭.‬

ولم‭ ‬يخطر‭ ‬على‭ ‬بال‭ ‬أحد‭ ‬أن‭ ‬تنهزم‭ ‬الحركة‭ ‬القومية‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬الشام‭ ‬و‭ ‬العراق‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النحو‭ ‬الفاجع‭.‬

بل‭ ‬ولم‭ ‬تنتصر‭ ‬الهوية‭ ‬السورية‭ ‬أو‭ ‬الهوية‭ ‬العراقية‭ ‬باستثناء‭ ‬الهوية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬التي‭ ‬–‭ ‬بسبب‭ ‬القضية‭ ‬والكفاح‭ ‬السياسي‭ ‬والمسلح‭ ‬–‭ ‬برزت‭ ‬واقعاً‭ ‬واضحاً‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تلوثها‭ ‬بالأخونة‭.‬

حين‭ ‬حكم‭ ‬البعث‭ ‬سوريا‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬تنتصر‭ ‬الفكرة‭ ‬القومية‭ ‬هوية‭ ‬جامعة‭ ‬للسكان،‭ ‬فمنذ‭ ‬1963‭ ‬عام‭ ‬استيلاء‭ ‬البعث‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬العسكر‭ ‬على السلطة ظل‭ ‬الخطاب‭ ‬الإعلامي‭ ‬والتربوي‭ ‬والتعليمي‭ ‬مطبوع‭ ‬بطابع‭ ‬الهوية‭ ‬القومية‭.‬

ولكن‭ ‬الخطاب‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬فقد‭ ‬تأثيره‭ ‬عبر‭ ‬الممارسة‭ ‬في‭ ‬احتكار‭ ‬السلطة‭ ‬والقضاء‭ ‬على‭ ‬حال‭ ‬الدولة‭. ‬ففي‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬تنتصر‭ ‬فيه‭ ‬السلطة‭ ‬على‭ ‬الدولة‭ ‬وتدمر‭ ‬الدولة‭ ‬تبحث‭ ‬السلطة‭ ‬عن‭ ‬عصبية‭ ‬تسمح‭ ‬باستمرارها‭. ‬فماتت‭ ‬العصبية‭ ‬الأيديولوجية البعثية‭ ‬القومية‭ ‬وانتصرت‭ ‬العصبية‭ ‬الطائفية‭ ‬التي‭ ‬بعثت‭ ‬العصبيات‭ ‬الطائفية‭ ‬الأخرى‭. ‬وهكذا‭ ‬انهزمت‭ ‬عصبية‭ ‬الدولة‭ ‬وعصبية‭ ‬الأمة‭.‬

أما‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬التي‭ ‬حكمها‭ ‬البعث‭ ‬أيضاً‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬عصبية‭ ‬السلطة‭ ‬منقسمة‭ ‬إلى‭ ‬عصبية‭ ‬حزبية‭ ‬وعصبية‭ ‬عائلية‭ ‬انتصرت‭ ‬عصبية‭ ‬السلطة‭ ‬على‭ ‬هوية‭ ‬الدولة‭ ‬–‭ ‬الهوية‭ ‬العراقية‭ ‬أولاً‭ ‬وعلى‭ ‬الهوية‭ ‬القومية‭ ‬ثانياً،‭ ‬ولكن‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬للنظام‭ ‬هوية‭ ‬طائفية،‭ ‬بل‭ ‬نشأت‭ ‬الهوية‭ ‬الطائفية‭ ‬الشيعية‭ ‬بوصفها‭ ‬معارضة‭ ‬للنظام‭ ‬وبدعم‭ ‬من‭ ‬الحالة‭ ‬الإيرانية‭ ‬حيث‭ ‬إيران‭ ‬الآن‭ ‬هي‭ ‬الدولة‭ ‬الدينية‭ ‬–‭ ‬الطائفية‭ ‬الوحيدة‭ ‬في‭ ‬العالم‭.‬

أما‭ ‬في‭ ‬فلسطين‭ ‬حيث‭ ‬حركة‭ ‬المقاومة‭ ‬و‭ ‬م‭.‬ت‭.‬ف‭ ‬هي‭ ‬حركة‭ ‬وطنية‭ ‬علمانية‭ ‬نشأت‭ ‬فيها‭ ‬النزعة‭ ‬الطائفية‭ ‬المتدينة‭ ‬بفعل‭ ‬هزيمة‭ ‬المشروع‭ ‬الوطني‭ ‬الحداثوي‭ ‬فكانت‭ ‬التي‭ ‬حولتها‭ ‬السلطة‭ ‬إلى‭ ‬حركة‭ ‬سلطة‭ ‬فقط‭ ‬عبر‭ ‬شعار‭ ‬مستتر‭ ‬“غزة‭ ‬تكفيني”‭.‬

وإذا‭ ‬كان‭ ‬انتصار‭ ‬السلطة‭ ‬على‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬سوريا‭ ‬والعراق‭ ‬قد‭ ‬نقل‭ ‬الطائفة‭ ‬إلى‭ ‬طائفية‭ ‬وأدّى‭ ‬إلى‭ ‬وجود‭ ‬سلطة‭ ‬طائفية‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬الحديث‭ ‬وسلطة‭ ‬شيعية‭ ‬متدينة‮ ‬‭ ‬وتعيش‭ ‬الهوية‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬هذين‭ ‬البلدين‭ ‬أزمة‭ ‬وجودية‭ ‬خطيرة،‭ ‬فالطائفية‭ ‬هي‭ ‬نظام‭ ‬السلطة‭ ‬السياسي،‭ ‬وهي‭ ‬أساس‭ ‬الهويات‭ ‬في‭ ‬مناطق‭ ‬منعزلة‭ ‬وهي‭ ‬مناطق‭ ‬جرى‭ ‬تجميعها‭ ‬بشكل‭ ‬عشوائي‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الفرنسيين. ‬فالطائفية‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬طائفية‭ ‬مقاتلة‭ ‬ومسلحة‭ ‬ولهذا‭ ‬لم‭ ‬ينتصر‭ ‬الاندماج‭ ‬الاجتماعي‭ ‬ليشكل‭ ‬هوية‭ ‬لبنانية‭.‬

فإذا‭ ‬كانت‭ ‬السلطتان‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬والعراق‭ ‬قد‭ ‬حطمتا‭ ‬مشروع‭ ‬الدولة‭ ‬الذي‭ ‬بدأ‭ ‬في‭ ‬أربعينات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬وتشهدان‭ ‬الآن‭ ‬تحطم‭ ‬التعايش‭ ‬والاندماج‭ ‬بفعل‭ ‬العصبية‭ ‬الطائفية،‭ ‬فإن‭ ‬لبنان‭ ‬بالأساس‭ ‬لم‭ ‬يشهد‭ ‬مشروع‭ ‬الدولة‭ ‬بل‭ ‬تأسس‭ ‬على‭ ‬مبدأ‭ ‬التقاسم‭ ‬الطائفي‭ ‬للسلطة‭ ‬فقط‭.‬

وإذا‭ ‬كان‭ ‬الأمر‭ ‬كذلك،‭ ‬وهو‭ ‬كذلك،‭ ‬فإن‭ ‬البديل‭ ‬الوحيد‭ ‬للخروج‭ ‬من‭ ‬حال‭ ‬تحول‭ ‬الطائفة‭ ‬إلى‭ ‬طائفية‭ ‬هو‭ ‬إنجاز‭ ‬الدولة‭ ‬الوطنية‭ ‬–‭ ‬الديمقراطية‭ ‬العلمانية،‭ ‬ومنع‭ ‬أيّ‭ ‬حزب‮ ‬يتخذ‭ ‬من‭ ‬الطائفية‭ ‬مبدأ‭ ‬له،‭ ‬وإن‭ ‬مبدأ‭ ‬الديمقراطية‭ ‬العلمانية‭ ‬لا‭ ‬يستقيم‭ ‬مع‭ ‬وجود‭ ‬أحزاب‭ ‬ذات‭ ‬أيديولوحيات‭ ‬طائفية‭ ‬–‭ ‬دينية‭.‬

ولعمري‭ ‬أن‭ ‬وجود‭ ‬أحزاب‭ ‬شيعية‭ ‬متعصبة‭ ‬وحاقدة‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬يعني‭ ‬أكبر‭ ‬كارثة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬العراق‭ ‬الحديث‭ ‬إذ‭ ‬عمل‭ ‬على‭ ‬تحطيم‭ ‬الهويتين‭ ‬العراقية‭ ‬والعربية‭ ‬معاً‭.‬‮ ‬كما‭ ‬أن وجود‭ ‬سلطة‭ ‬طائفية‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬قد‭ ‬حطم‭ ‬أهم‭ ‬مشروع‭ ‬قومي‭ ‬عربي‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬العرب‭ ‬المعاصر،‭ ‬كما‭ ‬حطم‭ ‬المجتمع‭ ‬السوري‭ ‬نفسه‭.‬

ليس‭ ‬هناك‭ ‬سوى‭ ‬خيار‭ ‬واحد‭ ‬وحيد‭ ‬الدولة‭ ‬الوطنية‭ ‬–‭ ‬الديمقراطية‭ ‬العلمانية‭. ‬أجل‭ ‬يجب‭ ‬لقيام‭ ‬الدولة‭ ‬فصل‭ ‬الدين‭ ‬عن‭ ‬الدولة،‭ ‬في‭ ‬دولة‭ ‬ديمقراطية‭ ‬لا‭ ‬وجود‭ ‬فيها‭ ‬للحق‭ ‬في‭ ‬قيام‭ ‬الأحزاب‭ ‬الدينية‭ ‬أو‭ ‬الأحقاد‭ ‬الطائفية‭.‬

الطائفية‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬حزباً‭ ‬أو‭ ‬سلطة‭ ‬أو‭ ‬خطاباً‭ ‬جريمة‭ ‬تاريخية‭ ‬كبرى‭ ‬هي‭ ‬قتل‭ ‬للحياة‭ ‬وتدمير‭ ‬لإمكانية‭ ‬قيام‭ ‬الدولة،‭ ‬وأساس‭ ‬للحروب‭ ‬الداخلية‭ ‬ومدخل‭ ‬للولاءات‭ ‬الخارجية‭ ‬وتحطيم‭ ‬للسيادة‭ ‬الوطنية‭.‬

‮الهوية‭ ‬النائمة‭ ‬و‬الهوية‭ ‬المتخفية

الهوية‭ ‬النائمة‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬هوية‭ ‬ضعيفة‭ ‬نوعاً‭ ‬ما،‭ ‬وإلا‭ ‬لما‭ ‬غفت‭ ‬أصلاً،‭ ‬وما‭ ‬كانت‭ ‬لتغفو‭ ‬إلا‭ ‬لأن‭ ‬هناك‭ ‬هوية‭ ‬أقوى‭ ‬قد‭ ‬احتلت‭ ‬المكانة‭ ‬الأرأس‭ ‬في‭ ‬الذات‭.‬

ففي‭ ‬لحظة‭ ‬من‭ ‬لحظات‭ ‬الوعي‭ ‬الأيديولوجي‭ ‬–‭ ‬السياسي‭ ‬بالعالم‭ ‬تنتصر‭ ‬الهوية‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬والفكرية،‭ ‬فإما‭ ‬أن‭ ‬تصبح‭ ‬هوية‭ ‬دائمة‭ ‬قابلة‭ ‬للتجديد‭ ‬ويعبر‭ ‬عنها‭ ‬قولاً‭ ‬وفعلاً،‭ ‬فتنتصر‭ ‬على‭ ‬سواها‭ ‬من‭ ‬الهويات‭ ‬التي‭ ‬ورثتها‭ ‬الذات‭ ‬كالهوية‭ ‬اليسارية‭ ‬أو‭ ‬الهوية‭ ‬القومية‭ ‬العربية‭ ‬أو‭ ‬الهوية‭ ‬القومية‭ ‬السورية‭ ‬أو‭ ‬الهوية‭ ‬العلمانية‭ ‬أو‭ ‬الهوية‭ ‬الفلسفية،‭ ‬وإذا‭ ‬ما‭ ‬نظرنا‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الهوية‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬السلب‭ ‬فإننا‭ ‬نتحدث‭ ‬هنا‭ ‬عن‭ ‬هوية‭ ‬تنفي‭ ‬ما‭ ‬يتناقض‭ ‬معها‭ ‬داخل‭ ‬الذات‭ ‬نفسها‭.‬

فإذا‭ ‬كنت‭ ‬قومياً‭ ‬مثلاً‭ ‬فإنك‭ ‬–‭ ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬–‭ ‬تنفي‭ ‬هوية‭ ‬طائفية‭ ‬وإقليمية‭ ‬إذ‭ ‬من‭ ‬المستحيل‭ ‬أن‭ ‬تجتمع‭ ‬هاتان‭ ‬الهويتان‭ ‬معاً‭. ‬وإذا‭ ‬إجتمعت‭ ‬هويتان‭ ‬غير‭ ‬متناقضتين‭ ‬كالهوية‭ ‬القومية‭ ‬والهوية‭ ‬الوطنية‭ ‬فإن‭ ‬إحداهما‭ ‬‭(‬أحدهما‭)‬‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تتفوق‭ ‬على‭ ‬أخرى‭ ‬سلوكاً‭ ‬على‭ ‬الأقل‭.‬

أو‭ ‬إن‭ ‬الهوية‭ ‬المنتصرة‭ ‬أيديولوجياً‭ ‬وفكرياً‭ ‬وفلسفياً‭ ‬هي‭ ‬منتصرة‭ ‬في‭ ‬حدود‭ ‬تراجع‭ ‬الهوية‭ ‬الأضيق‭ ‬إلى‭ ‬الخلف‭ ‬وعندها‭ ‬تغط‭ ‬بالنوم‭ ‬ولا‭ ‬تستيقظ‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬جاءت‭ ‬ظروف‭ ‬حملتها‭ ‬على‭ ‬الاستيقاظ‭.‬

وعليه‭ ‬فاستيقاظها‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬درجة‭ ‬نشاطها‭ ‬متوقف‭ ‬على‭ ‬الموقف‭ ‬نفسه‭ ‬وطبيعته،‭ ‬وهناك‭ ‬اختلاف‭ ‬بين‭ ‬استيقاظها‭ ‬لدى‭ ‬الفرد‭ ‬واستيقاظها‭ ‬لدى‭ ‬الجماعات‭.‬

فلقد‭ ‬مضى‭ ‬زمن‭ ‬طويل‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تستيقظ‭ ‬الهوية‭ ‬الطائفية‭ ‬في‭ ‬المجتمعين‭ ‬السوري‭ ‬والعراقي،‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬تنتقل‭ ‬من‭ ‬عفويتها‭ ‬الطبيعية‭ ‬إلى‭ ‬قصديّتها‭ ‬السياسية‭ ‬كما‭ ‬نرى‭ ‬الآن‭.‬ فالأيديولوجيا‭ ‬البعثية‭ ‬والناصرية‭ ‬والسورية‭ ‬القومية‭ ‬والشيوعية‭ ‬تقاسمت‭ ‬هوية‭ ‬السنة‭ ‬والعلويين‭ ‬والدروز‭ ‬والإسماعليين‭ ‬والمسيحيين في‭ ‬سوريا‭ ‬كما تقاسمت‭ ‬الأيديولوجيات‭ ‬القومية‭ ‬والعراقية‭ ‬والشيوعية‭ ‬ولاءات‭ ‬العراقيين‭ ‬ولم‭ ‬تستطع‭ ‬حركة‭ ‬الإخوان‭ ‬المسلمين‭ ‬أو‭ ‬حزب‭ ‬التحرير‭ ‬أن‭ ‬تحتل‭ ‬المكانة‭ ‬التي‭ ‬إحتلتها‭ ‬الناصرية‭ ‬مثلاً‭ ‬في‭ ‬كلا‭ ‬البلدين‭.‬

ما‭ ‬إن‭ ‬قامت‭ ‬الثورة‭ ‬وصار‭ ‬لزاماً‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬المثقفين‭ ‬بعامة‭ ‬أن‭ ‬يتخذوا‭ ‬الموقف‭ ‬سراً‭ ‬أو‭ ‬علانية‭ ‬ما‭ ‬عادت‭ ‬الهوية‭ ‬المتخفية‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬التخفي‭ ‬فأعلنت‭ ‬حقيقتها‭ ‬بوصفها‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬النظام‭ ‬المقاتل‭ ‬وذلك‭ ‬بحجة‭ ‬مواجهة‭ ‬المد‭ ‬الإسلامي‭ ‬الأصولي

وظلت‭ ‬الهوية‭ ‬السنية‭ ‬هوية‭ ‬بسيطة‭ ‬خارج‭ ‬حدود‭ ‬الممارسة‭ ‬السياسية‭ ‬والوعي‭ ‬الذاتي‭.‬ وهذا‭ ‬حال‭ ‬هوية‭ ‬الأكثرية‭ ‬بعامة‭.‬

وقس‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬باقي‭ ‬الهويات‭ ‬باستثناء‭ ‬الهوية‭ ‬الكردية‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تسمح‭ ‬لها‭ ‬ممارسات‭ ‬الأنظمة‭ ‬أن‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬هوية‭ ‬نائمة‭ ‬أصلاً‭.‬

غير‭ ‬أن‭ ‬شدة‭ ‬وعي‭ ‬الأقليات‭ ‬بهويتها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬شدة‭ ‬وعي‭ ‬الأكثرية‭ ‬عموماً‭. ‬وهذا‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬بنية‭ ‬الجماعة‭ ‬النفسية‭.‬

فالشعور‭ ‬برغبة‭ ‬الحضور‭ ‬لدى‭ ‬الأقليات‭ ‬يولّد‭ ‬لديها‭ ‬تضامناً‭ ‬قوياً‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬ونزوعاً‭ ‬نحو‭ ‬تبني‭ ‬هوية‭ ‬جامعة‭ ‬والدعوة‭ ‬لها‭ ‬لتحقيق‭ ‬المساواة‭ ‬مع‭ ‬الأكثرية‭.‬

وفي‭ ‬كلا‭ ‬الحالين‭ ‬لا‭ ‬تحملها‭ ‬هويتها‭ ‬–‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬المبدأ‭ ‬–‭ ‬على‭ ‬نزوع‭ ‬طائفي،‭ ‬ولكن‭ ‬هويتها‭ ‬متيقظة‭ ‬أكثر‭ ‬بسبب‭ ‬إحساسها‭ ‬بالاختلاف‭. ‬وهذا‭ ‬أمر‭ ‬طبيعي‭.‬

ويجب‭ ‬الاعتراف‭ ‬أن‭ ‬الهوية‭ ‬السنية‭ ‬النائمة‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬والعراق‮ ‬‭ ‬لم‭ ‬تستيقظ‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬زمن‭ ‬طويل‭ ‬من‭ ‬شعورها‭ ‬بالغبن‭ ‬التاريخي‭ ‬وعدم‭ ‬المساواة‭ ‬أمام‭ ‬السلطتين‭ ‬الحاكمتين‮ ‬‭ ‬اللتين‭ ‬احتكرتا‭ ‬بشكل‭ ‬شبه‭ ‬كامل‭ ‬عنصر‭ ‬قوة‭ ‬الدولة‭: ‬الجيش‭ ‬والأمن‭ ‬وما‭ ‬جرّ‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬توسع‭ ‬سلطتي‭ ‬الجيش‭ ‬والأمن‭ ‬ليشمل‭ ‬حياة‭ ‬المؤسسات‭ ‬جميعها‭.‬

والإشارة‭ ‬إلى‭ ‬هاتين‭ ‬الهويتين‭ ‬كان‭ ‬يتم‭ ‬سراً‭ ‬وعلانية‭ ‬أحياناً‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬استيقاظ‭ ‬الهوية‭ ‬السنية‭ ‬وضع‭ ‬النظامين في‭ ‬ورطة‭ ‬تاريخية‭ ‬لم‭ ‬يفكرا‭ ‬بالخروج‭ ‬منها‭ ‬أبداً‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬السياسي‭ ‬والمجتمعي‭.‬

في‭ ‬مقابل‭ ‬الهوية‭ ‬السنية‭ ‬والهويات‭ ‬الأخرى‭ ‬النائمة‭ ‬التي‭ ‬استيقظت‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬نشط‭ ‬كانت‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬هوية‭ ‬متخفية‭ ‬لدى‭ ‬المثقفين‭ ‬بالأساس‭.‬

والفرق‭ ‬بين‭ ‬الهوية‭ ‬النائمة‭ ‬التي‭ ‬استيقظت‭ ‬والهوية‭ ‬المتخفية‭ ‬أن‭ ‬الأولى‭ ‬نامت‭ ‬بفعل‭ ‬غير‭ ‬إرادي‭ ‬واستيقظت‭ ‬بوصفها‭ ‬رد‭ ‬فعل،‭ ‬فيما‭ ‬الثانية‭ ‬حاضرة‭ ‬في‭ ‬الوعي‭ ‬ومتخفية‭ ‬بفعل‭ ‬إرادي‭ ‬عبر‭ ‬قول‭ ‬غير‭ ‬طائفي‭ ‬وهنا‭ ‬تكمن‭ ‬الخطورة‭.‬

كانت‭ ‬الهوية‭ ‬المتخفية‭ ‬تمارس‭ ‬التقية‭ ‬عن‭ ‬عمد‭ ‬ولكنها‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬كانت‭ ‬سعيدة‭ ‬بانتمائها‭ ‬الطائفي‭.‬

ما‭ ‬إن‭ ‬قامت‭ ‬الثورة‭ ‬وصار‭ ‬لزاماً‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬المثقفين‭ ‬بعامة‭ ‬أن‭ ‬يتخذوا‭ ‬الموقف‭ ‬سراً‭ ‬أو‭ ‬علانية‭ ‬ما‭ ‬عادت‭ ‬الهوية‭ ‬المتخفية‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬التخفي‭ ‬فأعلنت‭ ‬حقيقتها‭ ‬بوصفها‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬النظام‭ ‬المقاتل‭ ‬وذلك‭ ‬بحجة‭ ‬مواجهة‭ ‬المد‭ ‬الإسلامي‭ ‬الأصولي‭.‬

والحق‭ ‬أن‭ ‬لعنة‭ ‬السلطة‭ ‬لم‭ ‬تسمح‭ ‬للهوية‭ ‬المتخفية‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬تعلن‭ ‬عن‭ ‬موقفها‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬يدعو‭ ‬إلى‭ ‬القرف‭ ‬وبدل‭ ‬أن‭ ‬تقدم‭ ‬البديل‭ ‬السياسي‭ ‬العلماني‭ ‬–‭ ‬الديمقراطي‭ ‬–‭ ‬البديل‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬ينقذ‭ ‬البلاد تاريخياً‭ ‬راحت‭ ‬تكيل‭ ‬الاتهامات‭ ‬للعلمانيين‭ ‬واليساريين‭ ‬والديمقراطيين‭ ‬الذين‭ ‬يدافعون‭ ‬عن‭ ‬المستقبل‭ ‬الديمقراطي‭ ‬–‭ ‬العلماني‭ ‬لسوريا‭ ‬بأنهم‭ ‬عادوا‭ ‬إلى‭ ‬سنيتهم‭ ‬أو‭ ‬مالوا‭ ‬إلى‭ ‬الحركات‭ ‬الإسلامية،‭ ‬أو‭ ‬عبّروا‭ ‬عن‭ ‬أحقاد‭ ‬خفية‭. ‬وكان‭ ‬سلاحهم‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الشتيمة‭.‬

مع‭ ‬أن‭ ‬جميع‭ ‬اليساريين‭ ‬والقوميين‭ ‬والعلمانيين‭ ‬بمن‭ ‬فيهم‭ ‬من‭ ‬دخل‭ ‬السجون‭ ‬بذلوا‭ ‬جهوداً‭ ‬هائلة‭ ‬مع‭ ‬النظام‭ ‬لإخراجه‭ ‬من‭ ‬ورطته‭ ‬التاريخية‭ ‬ومساعدته‭ ‬على‭ ‬إتخاذ‭ ‬مشروع‭ ‬جديد‭ ‬للإنقاذ،‭ ‬وما‭ ‬من‭ ‬مثقف‭ ‬يساري‭ ‬ديمقراطي‭ ‬إلا‭ ‬وكان‭ ‬يدرك‭ ‬الخطر‭ ‬المحدق‭ ‬بسوريا‭ ‬المستقبل‭. ‬وهؤلاء‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬لديهم‭ ‬أصلاً‭ ‬هوية‭ ‬نائمة،‭ ‬فيما‭ ‬كانت‭ ‬الهوية‭ ‬المتخفية‭ ‬تمارس‭ ‬نوعاً‭ ‬من‭ ‬الإلهاء‭ ‬والشطارة‭ ‬الزائفة‭ ‬والغباء‭ ‬التاريخي‭.‬

هل‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬خطر‭ ‬لاحق‭ ‬ليقظة‭ ‬الهوية‭ ‬النائمة‭ ‬وانكشاف‭ ‬الهوية‭ ‬المتخفية؟

نعم‭ ‬هناك‭ ‬خطر‭ ‬وخطر‭ ‬كبير‭. ‬فالهوية‭ ‬المتخفية‭ ‬والمستيقظة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تحولتا‭ ‬إلى‭ ‬هويتين‭ ‬مقاتلتين‭ ‬فإن‭ ‬فكرة‭ ‬التسامح‭ ‬لديهما‭ ‬ستضعف‭ ‬لزمن‭ ‬ليس‭ ‬قصيراً،‭ ‬الهوية‭ ‬المنكشفة‭ ‬بعد‭ ‬الخفاء‭ ‬عزلت‭ ‬نفسها‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬قوى‭ ‬المستقبل‭.‬

والحق‭ ‬أن‭ ‬الهوية‭ ‬المستيقظة‭ ‬–‭ ‬بوصفها‭ ‬هوية‭ ‬ضعيفة‭ ‬–‭ ‬ستعود‭ ‬إلى‭ ‬حالها‭ ‬النائمة‭ ‬وقد‭ ‬تنتصر‭ ‬لديها‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬الهوية‭ ‬الكلية‭ ‬وهي‭ ‬وحدها‭ ‬–‭ ‬أي‭ ‬الهوية‭ ‬الكلية‭ ‬–‭ ‬المواطنة‭ ‬–‭ ‬الدولة‭ ‬الديمقراطية‭ ‬العلمانية‭ ‬ستحرر‭ ‬الهوية‭ ‬المتخفية‭ ‬من‭ ‬إرثها‭ ‬السيئ‭ ‬وستحول‭ ‬دون‭ ‬يقظة‭ ‬الهوية‭ ‬النائمة‭.‬

إن‭ ‬أخطر‭ ‬ما‭ ‬يواجهه‭ ‬المجتمع‭ ‬–‭ ‬أي‭ ‬مجتمع‭ ‬–‭ ‬هو‭ ‬صراع‭ ‬الهويات‭ ‬ولا‭ ‬سيما‭ ‬صراع‭ ‬الهويات‭ ‬الدامي،‭ ‬وليس‭ ‬هناك‭ ‬إلا‭ ‬حلّ‭ ‬واحد‭ ‬وحيد‭ ‬ألا‭ ‬وهو‭ ‬قيام‭ ‬الدولة‭ ‬الديمقراطية‭ ‬المدنية‭ ‬العلمانية‭ ‬التي‭ ‬تحوّل‭ ‬جميع‭ ‬الهويات‭ ‬إلى‭ ‬هوية‭ ‬وطنية‭ ‬وتجعل‭ ‬من‭ ‬ثقافاتها‭ ‬ثراءً‭ ‬يغني‭ ‬الحياة‭ ‬كما‭ ‬أشرنا‭.‬

‮ ‬الهوية‭ ‬والدولة

اعتقد‭ ‬أن‭ ‬–‭ ‬العرب‭ ‬–‭ ‬يعيشون‭ ‬حالتين‭ ‬متناقضتين‭ ‬بل‭ ‬قل‭ ‬حركتين‭ ‬متناقضتين‭:‬

الأولى‭: ‬حركة‭ ‬موضوعية‭ ‬تنحو‭ ‬نحو‭ ‬التوحيد‭ ‬وتحقيق‭ ‬الوعي‭ ‬الذاتي‭ ‬بالانتماء‭. ‬وهذا‭ ‬شرط‭ ‬ضروري‭ ‬غير‭ ‬كاف‭ ‬لتكون‭ ‬الأمة‭ ‬–‭ ‬الدولة‭.‬

تتم‭ ‬هذه‭ ‬الحركة‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬تقريباً‭ ‬دون‭ ‬قصد‭. ‬تتجلى‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬تتجلى‭ ‬هذه‭ ‬الحركة‭ ‬في‭ ‬الثقافة،‭ ‬كما‭ ‬أشرنا،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬واضح‭ ‬وجليّ‭ ‬وقويّ‭ ‬سواء‭ ‬نظرنا‭ ‬إلى‭ ‬الثقافة‭ ‬بالمعنى‭ ‬الأنثروبولوجي‭ ‬أو‭ ‬بالمعنى‭ ‬الإبداعي‭ ‬للكلمة‭. ‬بل‭ ‬إن‭ ‬الثقافة‭ ‬بالمعنى‭ ‬الإبداعي‭ ‬تقوم‭ ‬بتعويض‭ ‬شديد‭ ‬لما‭ ‬تخرجه‭ ‬سياسات‭ ‬الدويلات‭.‬ وعندي‭ ‬أن‭ ‬النخبة‭ ‬العربية‭ ‬المبدعة‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬الفكر‭ ‬والأدب‭ ‬والصحافة‭ ‬المكتوبة‭ ‬والإعلام‭ ‬التلفزيوني‭ ‬والسينمائي‭ ‬قامت‭ ‬وتقوم‭ ‬بدور‭ ‬لم‭ ‬يحصل‭ ‬لنخبة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬أن‭ ‬قامت‭ ‬به‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬خلق‭ ‬الوعي‭ ‬بالهوية‭ ‬في‭ ‬شروطنا. ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬النخبة‭ ‬قد‭ ‬استفادت‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬واقع‭ ‬موضوعي‭ ‬–‭ ‬هو‭ ‬واقع‭ ‬الاتصال‭ ‬اليوم،‭ ‬حيث‭ ‬زالت‭ ‬حدود‭ ‬المنع‭ ‬التي‭ ‬مارستها‭ ‬الدويلات‭ ‬سابقاً‭ ‬وآنفاً‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الدويلات‭. ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬الكتاب‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬عرضة‭ ‬للاعتقال‭ ‬فإن‭ ‬وسائل‭ ‬انتشاره‭ ‬الشعبية‭ ‬عن‭ ‬الطرق‭ ‬الحديثة‭ ‬جعلت‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬الممنوع‭ ‬أكثر‭ ‬انتشاراً‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬المسموح. ‬وكل‭ ‬ذلك‭ ‬يتم‭ ‬بانهيار‭ ‬شبه‭ ‬مطلق‭ ‬للجهاز‭ ‬الإعلامي‭ ‬–‭ ‬الأيديولوجي‭ ‬للدويلة‭ ‬العربية،‭ ‬وعزوف‭ ‬البشر‭ ‬عن‭ ‬تصديق‭ ‬الأكاذيب‭ ‬غير‭ ‬المعقولة‭ ‬التي‭ ‬يبثها‭ ‬هذا‭ ‬الجهاز‭ ‬الأيديولوجي.. ‬وهناك‭ ‬مظهر‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬مظاهر‭ ‬هذه‭ ‬الحركة‭ ‬الموضوعية‭ ‬ألا‭ ‬وهو‭ ‬الموقف‭ ‬من‭ ‬الصهيونية‭ ‬وإسرائيل‭.‬

ففي‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬نشهد‭ ‬فيه‮ ‬‭ ‬ميلاً‭ ‬نحو‭ ‬ثبات الدول‭ ‬التي‭ ‬نشأت‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‮ ‬وتأكيد‭ ‬الهوية‭ ‬كجنسية‭ ‬للدولة‭ ‬تشهد‭ ‬المنطقة‭ ‬وعياً‭ ‬شعبياً‭ ‬يميل‭ ‬إلى‭ ‬هويته‭ ‬العربية. ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬الميل‭ ‬المتعاظم‭ ‬لوعي‭ ‬الهوية‭ ‬الدينية‭.‬

إن‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية التي‭ ‬كانت‭ ‬مستعمرة‭ ‬والتي‭ ‬سارت‭ ‬شوطاً‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬التقدم‭ ‬الموضوعي‭ ‬–‭ ‬وأهمه‭ ‬تفكك‭ ‬البنى‭ ‬القديمة‭ ‬–‭ ‬أصبحت‭ ‬تقع‭ ‬في‭ ‬تناقضات من‭ ‬حيث‭ ‬نظامها‭ ‬السياسي‭ ‬وصورتها‭ ‬وجوهرها. ‬وبالتالي‭ ‬تقع‮ ‬‭ ‬في‭ ‬تناقض‭ ‬مزدوج‭: ‬تناقض‭ ‬مع‭ ‬حركة‭ ‬العرب‭ ‬الموضوعية‭ ‬نحو‭ ‬الوعي‭ ‬بالهوية‭ ‬القومية،‭ ‬وتناقض‭ ‬مع‭ ‬المجتمعات‭ ‬التي‭ ‬تحكمها‭ ‬والتي‭ ‬أصبحت‭ ‬أكثر‭ ‬تقدماً‭ ‬من بنية‭ ‬هذه‭ ‬السلطة،‭ ‬ولم‭ ‬تستطع‭ ‬الدولة أن‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬كابح‭ ‬للحركة‭ ‬إلا‭ ‬بفضل‭ ‬أقصى‭ ‬درجات‭ ‬القمع‭ ‬والتخريب‭ ‬ولهذا‭ ‬تراها: ‬تقدم‭ ‬خطاباً‭ ‬زائفاً‭ ‬حول‭ ‬السيادة،‭ ‬وخطاباً‭ ‬زائفاً‭ ‬حول‭ ‬تاريخها‭. ‬فالسيادة‭ ‬بالمعنى‭ ‬الذي‭ ‬تقدمه‭ ‬الدويلة‭ ‬العربية‭ ‬لا‭ ‬تعني‭ ‬سوى‭ ‬البقاء‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬دون‭ ‬أيّ‭ ‬ارتباط‭ ‬بالكل‭ ‬العربي،‭ ‬وظاهر‭ ‬الخطاب‭ ‬هو‭ ‬عدم‭ ‬التدخل‭ ‬في‭ ‬شؤون‭ ‬الدويلات‭ ‬الأخرى‭. ‬وكلما‭ ‬أحسّت‭ ‬هذه‭ ‬الدويلات‭ ‬بمأزقها‭ ‬التاريخي‭ ‬زادت‭ ‬من‭ ‬آلية‭ ‬الانكفاء‭ ‬على‭ ‬ذاتها‭ ‬اقتصادياً‭ ‬وسياسياً‭ ‬وبالغت‭ ‬من‭ ‬إجراءات‭ ‬السيادة‭ ‬الشكلية‭.‬

والسبب‭ ‬الأقوى‭ ‬لتقوقعها‭ ‬يكمن‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬تكامل‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الدويلات‭ ‬يؤدي‭ ‬بالضرورة‭ ‬إلى‭ ‬إضعاف‭ ‬سيادتها‭. ‬هنا‭ ‬بالذات‭ ‬يكتمل‭ ‬مأزق‭ ‬الدويلة‭ ‬القطرية‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬شرعيتها‭ ‬كدويلة‭ ‬ولا‭ ‬شرعية‭ ‬سلطتها‭ ‬بالذات‭. ‬من‭ ‬هنا‭ ‬يكون‭ ‬الجواب‭ ‬على‭ ‬السؤال‭ ‬التالي‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬تحصيل‭ ‬الحاصل‭: ‬لماذا‭ ‬يصبح‭ ‬300‭ ‬مليون‭ ‬عربي‭ ‬يسكنون‭ ‬بقعة‭ ‬تمتد‭ ‬من‭ ‬المحيط‭ ‬الأطلسي‭ ‬إلى‭ ‬الخليج‭ ‬العربي‭ ‬تجمعاً‭ ‬هامشياً‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬العالم،‭ ‬وغير‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬حل‭ ‬مشكلته‭ ‬الأساسية‭ ‬إزالة‭ ‬إسرائيل‭ ‬من‭ ‬الوجود‭.‬

هل‭ ‬هناك‭ ‬حل‭ ‬ومخرج‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المأزق؟

في‭ ‬اعتقادي‭ ‬أننا‭ ‬نعيش‭ ‬حالة‭ ‬الأجوبة‭ ‬الجاهزة‭ ‬غير‭ ‬المقنعة‭ ‬والتي‭ ‬لا‭ ‬تمتلك‭ ‬آلية‭ ‬تحققها‭.‬

كأن‭ ‬نقول‭ ‬مثلاً‭: ‬إن‭ ‬مواجهة‭ ‬النذر‭ ‬السياسي‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬الوحدة‭ ‬القومية،‭ ‬أو‭ ‬مواجهة‭ ‬الوضع‭ ‬الاقتصادي‭ ‬للدويلات‭ ‬غير‭ ‬ممكن‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬الوحدة‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬تحرير‭ ‬فلسطين‭ ‬لن‭ ‬يكون‭ ‬إلا‭ ‬ثمرة‭ ‬اشتراك‭ ‬العرب‭ ‬جميعاً‭ ‬في‭ ‬الصراع‭.‬

إن‭ ‬أجوبة‭ ‬كهذه‭ ‬هي‭ ‬بحث‭ ‬من‭ ‬النقيض‭ ‬البديل‭ ‬الذي‭ ‬أثبتت‭ ‬الأيام‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يمتلك‭ ‬شروط تحققه‭.‬

وعندي‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬المستحيل‭ ‬تحقيق‭ ‬أي‭ ‬هدف‭ ‬من‭ ‬أهداف‭ ‬العرب‭ ‬دون‭ ‬المدخل‭ ‬السياسي‭ ‬لفهم‭ ‬الدول‭ ‬وسلطتها‭.‬

أشرت‭ ‬فيما‭ ‬سبق‭ ‬إلى‭ ‬تناقض‭ ‬حركتين‭: ‬حركة‭ ‬موضوعية‭ ‬جاذبة‭ ‬وحركة‭ ‬ذاتية‭ ‬نابذة‭.. ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬التناقض‭ ‬الأولي‭ ‬هو‭ ‬بين‭ ‬مجتمع‭ ‬الدولة وسلطتها،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬أنتج‭ ‬الربيع‭ ‬العربي،‭ ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬أنها‭ ‬مسألة‭ ‬في‭ ‬غاية‭ ‬التعقيد‭ ‬كما‭ ‬تبدو‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬النزعات‭ ‬المنتشرة‭ ‬للتغيير‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نلمس‭ ‬أثرا‭ ‬يذكر‭ ‬اللهم‭ ‬سوى‭ ‬بعض‭ ‬التكيف‭ ‬هنا‭ ‬وهناك،‭ ‬أقصد‭ ‬تكيف‭ ‬السلطة‭ ‬وهو‭ ‬تكيف‭ ‬لم‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬تغيير‭ ‬ماهيتها‭.‬

ما‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬نظرياً‭ ‬هو‭ ‬إنتاج‭ ‬سلطة‭ ‬مطابقة‭ ‬في‭ ‬العموم‭ ‬مع‭ ‬خيارات‭ ‬المجتمع‭ ‬أي‭ ‬مع‭ ‬الحرية‭ ‬في‭ ‬التعاقد‭ ‬السياسي‭ ‬والتعاقد‭ ‬الوطني‭ ‬والتعاقد‭ ‬الاجتماعي‭.‬

‮«‬هذا‭ ‬الذي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‮»‬‭ ‬أمامه‭ ‬عوائق‭ ‬تراكمت‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية،‭ ‬أهمها‭ ‬عائق‭ ‬إفراغ‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬من‭ ‬حياتها‭ ‬السياسية‭ ‬أو‭ ‬الحيلولة‭ ‬دون‭ ‬قيام‭ ‬شخصية‭ ‬سياسية‭ ‬في‭ ‬مجتمعات‭ ‬لم‭ ‬تعرف‭ ‬بالأصل‭ ‬الحياة‭ ‬السياسية‭. ‬فاستمرار‭ ‬القمع‭ ‬مدة‭ ‬طويلة‭ ‬أنتج‭ ‬ضعفاً‭ ‬شديداً‭ ‬في‭ ‬فاعلية‭ ‬المجتمع‭ ‬بكل‭ ‬طبقاته‭ ‬وفئاته،‭ ‬وبخاصة‭ ‬الفئات‭ ‬الوسطى‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬قلب‭ ‬المجتمع‭ ‬الحي‭.‬

‬الهوية‭ ‬والخصوصية

ينتمي‭ ‬مفهوم‭ ‬الخصوصية‭ ‬إلى‭ ‬حقل‭ ‬الثقافة‭ ‬والاجتماع‭ ‬والسياسية‭ ‬والقيم،‭ ‬إنه‭ ‬مفهوم‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬الاختلاف‭ ‬الواقعي‭ ‬لتعيّنات‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬سبق،‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬اختلاف‭ ‬التطور‭ ‬التاريخي‭ ‬للتجمعات‭ ‬البشرية‭. ‬وليس‭ ‬لأحد‭ ‬أن‭ ‬ينكر‭ ‬خصوصية‭ ‬الإقطاع‭ ‬الشرقي‭ ‬العثماني‭ ‬عن‭ ‬خصوصية‭ ‬الإقطاع‭ ‬الأوروبي‭ ‬في‭ ‬القرنين‭ ‬الخامس‭ ‬عشر‭ ‬والسادس‭ ‬عشر،‭ ‬كما‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬بقادرٍ‭ ‬على‭ ‬نفي‭ ‬اختلاف‭ ‬تطور‭ ‬المجتمع‭ ‬الروسي‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬عن‭ ‬المجتمع‭ ‬الانكليزي‭.. ‬وقس‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬اختلاف‭ ‬قيم‭ ‬أوروبا‭ ‬عن‭ ‬قيم‭ ‬جنوب‭ ‬شرق‭ ‬آسيا‭.. ‬إلخ‭.‬

عند‭ ‬هذا‭ ‬الحد‭ ‬يظل‭ ‬مفهوم‭ ‬الخصوصية‭ ‬أداة‭ ‬معرفية‭ ‬لفهم‭ ‬المجتمعات‭ ‬واختلافها‭.‬

غير‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم،‭ ‬ما‭ ‬إن‭ ‬ينتقل‭ ‬إلى‭ ‬حقل‭ ‬الأيديولوجيا‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬الهوية‭ ‬حتى‭ ‬يفقد‭ ‬هذه‭ ‬الوظيفة،‭ ‬أي‭ ‬المعرفية،‭ ‬ويتحول‭ ‬إلى‭ ‬أداة‭ ‬تزييف‭ ‬للواقع،‭ ‬ومبررٍ‭ ‬لأهداف‭ ‬ومصالح‭ ‬متعددة‭. ‬وأسطع‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬حالات‭ ‬تحول‭ ‬مفهوم‭ ‬الخصوصية‭ ‬من‭ ‬مفهوم‭ ‬علمي‭ ‬ـ‭ ‬اجتماعي،‭ ‬إلى‭ ‬مبرر‭ ‬أيديولوجي،‭ ‬هو‭ ‬تحوله‭ ‬عندنا‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬العرب‭. ‬وباستطاعتنا‭ ‬أن‭ ‬نرصد‭ ‬الحالات‭ ‬الآنية‭ ‬لمثل‭ ‬هذا‭ ‬التحول‭ ‬الذي‭ ‬أطلقنا‭ ‬عليه: ‬أيديولوجياً‭ ‬الخصوصية‭.‬

أولاً: ‬الخصوصية‭ ‬في‭ ‬أيديولوجيا‭ ‬السلطة‭: ‬فلقد‭ ‬بات‭ ‬من‭ ‬المتفق‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬تسعى‭ ‬عبر‭ ‬الخصوصيات‭ ‬إلى‭ ‬التحلل‭ ‬من‭ ‬الأهداف‭ ‬المشتركة‭ ‬للعرب‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬السلطة‮ ‬‭ ‬في‭ ‬بلدان‭ ‬العرب‭ ‬تحتج‭ ‬دائماً‭ ‬بمفهوم‭ ‬الخصوصية‭ ‬لتأكيد هوية‭ ‬أبدية‭ ‬غير‭ ‬قابلة‭ ‬للتغير،‭ ‬فتتحدث‭ ‬عن‭ ‬اختلاف‭ ‬التطور‭ ‬بيننا‭ ‬وبين‭ ‬أوروبا،‭ ‬واختلاف‭ ‬القيم‭ ‬والعادات‭.. ‬إلخ‭. ‬إذ‭ ‬ذاك‭ ‬يصبح التخلف‭ ‬حالة‭ ‬طبيعية‭ ‬ناتجة‭ ‬بالضرورة‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الخصوصية‭.‬

يضاف‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬القيل‭ ‬الأيديولوجي،‭ ‬قيل‭ ‬آخر،‭ ‬يسوقه‭ ‬مثقفو‭ ‬التجزئة‭ ‬وحراس الطائفية،‭ ‬مفاده‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬خصوصيات‭ ‬لكل‭ ‬قطر‭ ‬عربي‭ ‬تمنع‭ ‬قيام‭ ‬الوحدة،‭ ‬أو‭ ‬أيّ‭ ‬شكل‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬الدولة‭ ‬الأمة‭.‬

ولو‭ ‬تأمل‭ ‬أيديولوجيو‭ ‬الخصوصية‭ ‬هؤلاء‭ ‬للخصوصية‭ ‬داخل‭ ‬أوطانهم‭ ‬بالذات،‭ ‬لكفوا‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬المقيل،‭ ‬لأنهم‭ ‬سيتوصلون‭ ‬حتماً‭ ‬إلى‭ ‬استحالة‭ ‬وجود‭ ‬القطر‭ ‬الواحد‭ ‬نفسه‭.‬

فالمتأمل‭ ‬لخصوصية‭ ‬طرابلس‭ ‬الشام‭ ‬واختلافها‭ ‬عن‭ ‬خصوصية‭ ‬بيروت‭ ‬الشرقية‭ ‬لدعا‭ ‬إلى‭ ‬الانفصال،‭ ‬وإقامة‭ ‬اتحاد‭ ‬بين‭ ‬حمص‭ ‬وطرابلس‭ ‬الشام‭ ‬وإلى‭ ‬الوحدة‭ ‬بين‭ ‬جبل‭ ‬لبنان‭ ‬ووادي‭ ‬النصارى‭ ‬في‭ ‬سوريا‭. ‬وقس‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬خصوصيات‭ ‬شرق‭ ‬الأردن‭ ‬المتماثل‭ ‬مع‭ ‬حوران‭ ‬وجبل‭ ‬العرب‭.. ‬وتشابه‭ ‬شمال‭ ‬شرق‭ ‬سوريا‭ ‬مع‭ ‬شمال‭ ‬غرب‭ ‬العراق‭..‬

ولمن‭ ‬لا‭ ‬يعلم‭ ‬فإن‭ ‬شمال‭ ‬روسيا‭ ‬يمتلك‭ ‬من‭ ‬الخصوصية‭ ‬المميزة‭ ‬عن‭ ‬جنوبها‭ ‬أكثر‭ ‬بكثير‭ ‬مما‭ ‬يمتلك‭ ‬المغرب‭ ‬من‭ ‬خصوصية‭ ‬تميزه‭ ‬عن‭ ‬فلسطين،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬لهجة‭ ‬القلمون‭ ‬صعب‭ ‬فهمها‭ ‬على‭ ‬الحوراني‭ ‬من‭ ‬لهجة‭ ‬أهل‭ ‬تونس‭..‬

ثانياً‭ ‬الخصوصية‭ ‬في‭ ‬الأيديولوجيا‭ ‬الإسلامية،‭ ‬ما‭ ‬إن‭ ‬يطرح‭ ‬مثقف‭ ‬عربي‭ ‬ضرورة‭ ‬التنوير‭ ‬والحداثة‭ ‬والديمقراطية‭ ‬والعلمانية‭ ‬وتحرر‭ ‬المرأة‭ ‬والتجديد‭ ‬والدخول‭ ‬في‭ ‬روح‭ ‬العصر‭ ‬حتى‭ ‬ينبري‭ ‬الأيديولوجي‭ ‬الإسلامي‭ ‬إلى‭ ‬القول‭: ‬وماذا‭ ‬نفعل‭ ‬بخصوصيتنا‭ ‬وقيمنا‭ ‬وديننا‭ ‬وهويتنا،‭ ‬ثم‭ ‬يروح‭ ‬متهماً‭ ‬خصمه‭ ‬بالتغريب‭ ‬والعدمية‭ ‬وما‭ ‬شابه‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬أوصاف،‭ ‬وكأن‭ ‬الهوية‭ ‬قد‭ ‬قُدّت‭ ‬مرة‭ ‬واحدة‭ ‬وإلى‭ ‬الأبد‭.‬

أبو‭ ‬الخصوصية‭ ‬الدينية‭ ‬هذا‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬غربلته‭ ‬فلن‭ ‬تجد‭ ‬في‭ ‬نمط‭ ‬حياته‭ ‬ما‭ ‬ينتمي‭ ‬إلى‭ ‬الهوية‭ ‬التي‭ ‬يدافع‭ ‬عنها،‭ ‬وإلى‭ ‬الخصوصية‭ ‬التي‭ ‬يتوهمها،‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هناك‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬التفكير‭ ‬المنبت‭.‬

وهكذا‭ ‬يتحول‭ ‬الاختلاف‭ ‬والتنوع‭ ‬من‭ ‬ثراء‭ ‬واقعي‭ ‬للحياة‭ ‬وللفكر‭ ‬إلى‭ ‬أيديولوجيا‭ ‬ضد‭ ‬الحياة‭ ‬والفكر‭ ‬ومصالح‭ ‬الأكثرية‭.‬

ولعمري‭: ‬إن‭ ‬الخصوصية‭ ‬هي‭ ‬أكثر‭ ‬المفاهيم‭ ‬التي‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬مفهوم‭ ‬تآمري‭ ‬سالب‭ ‬للحرية‭ ‬والتقدم‭.‬

الهوية‭ ‬والتاريخ‭:‬‮ ‬الهوية‭ ‬والوعي‭ ‬التاريخي

لماذا نحن‭ ‬مثقلون‭ ‬بالتاريخ‭ ‬إلى‭ ‬الحد‭ ‬الذي‭ ‬لشدة‭ ‬ثقله‭ ‬على‭ ‬ظهورنا‭ ‬نعجز‭ ‬عن‭ ‬السير‭ ‬بل‭ ‬ولا‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نحبو؟‭!‬

دعوني‭ ‬بداية‭ ‬أتوقف‭ ‬عند‭ ‬نحن‭ ‬وعند‭ ‬التاريخ،‭ ‬فمن‭ ‬نحن؟‭ ‬وما‭ ‬التاريخ؟‭ ‬يشير‭ ‬ضمير‭ ‬الرفع‭ ‬المنفصل‭ ‬هذا‭ ‬إلى‭ ‬قوم‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬هم‭ ‬العرب،‭ ‬والذين‭ ‬يعيشون‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬الثورة‭ ‬التقنية‭ ‬والإلكترونية‭ ‬والمعرفية‭ ‬عموماً،‭ ‬ثورة‭ ‬غيرت‭ ‬من‭ ‬علاقة‭ ‬الإنسان‭ ‬بالحياة‭ ‬والطبيعة‭ ‬عبر‭ ‬تقدم‭ ‬عاصف‭ ‬جداً‭.‬

ولكنهم‭ ‬في‭ ‬العموم‭ ‬مازال‭ ‬وعيهم‭ ‬بالحياة‭ ‬ينتمي‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬هذه‭ ‬الثورة‭ ‬العاصفة. ‬أما‭ ‬التاريخ‭ ‬فيفهم‭ ‬منه‭ ‬الأحداث‭ ‬والوقائع‭ ‬التي‭ ‬تمت‭ ‬في‭ ‬الماضي‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬تنطوي‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬صراعات‭ ‬وإيجابيات‭ ‬وسلبيات‭ ‬وشخوص‭ ‬أساسية‭ ‬أو‭ ‬ثانوية،‭ ‬ولا‭ ‬تخلو‭ ‬أمة‭ ‬من‭ ‬الأمم‭ ‬ولا‭ ‬شعب‭ ‬من‭ ‬الشعوب‭ ‬ولا‭ ‬جماعة‭ ‬من‭ ‬الجماعات‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬خاص. ‬لكن‭ ‬التاريخ‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬ثانية‭ ‬سيرورة‭ ‬وتغير‭ ‬وتجديد‭.‬

عندي‭ ‬أن‭ ‬علاقتنا‭ ‬نحن‭ ‬بتاريخنا‭ ‬علاقة‭ ‬تنسينا‭ ‬الجانب‭ ‬الآخر‭ ‬من‭ ‬التاريخ‭ ‬ألا‭ ‬وهو‭ ‬السيرورة‭ ‬والتغير. ‬ويبدو‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬أسباباً‭ ‬أساسية‭ ‬حالت‭ ‬دون‭ ‬تحررنا‭ ‬من‭ ‬أسر‭ ‬التاريخ‭ ‬واستمراره،‭ ‬عامل‭ ‬صراع‭ ‬وعامل‭ ‬تأخر‭.‬

أولاً‭ ‬إن‭ ‬الحنين‭ ‬للماضي‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬نعيشه‭ ‬حالة‭ ‬غريبة،‭ ‬لكنه‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬النكوص‭ ‬المرضي‭ ‬بسبب‭ ‬وجود‭ ‬عوائق‭ ‬بنيوية‭ ‬موضوعية‭ ‬وذاتية‭ ‬تحول‭ ‬دون‭ ‬تحقيق‭ ‬الحد‭ ‬الأدنى،‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬العربية،‭ ‬من‭ ‬الرضا‭ ‬بالحياة‭ ‬المعيشية،‭ ‬ولا‭ ‬يجدون‭ ‬في‭ ‬عالمهم‭ ‬ما‭ ‬يغريهم‭ ‬بالفرح‭ ‬به‭. ‬فيولون‭ ‬وجوههم‭ ‬شطر‭ ‬ماض‭ ‬تلقنوه‭ ‬عبر‭ ‬عملية‭ ‬انتقائية‭ ‬ولم‭ ‬يشهدوه‭.‬

إذ‭ ‬تختزن‭ ‬ذاكرتهم‭ ‬عالماً‭ ‬جميلاً‭ ‬قد‭ ‬تحقق‭ ‬بفضل‭ ‬رسالة‭ ‬سماوية‭ ‬صالحة‭ ‬لكل‭ ‬زمان‭ ‬ومكان. ‬وبالتالي‭ ‬فإن‭ ‬الأمل‭ ‬معقود‭ ‬لديهم‭ ‬في‭ ‬إعادة‭ ‬استعادة‭ ‬التاريخ‭ ‬واقعياً،‭ ‬أي‭ ‬جعله‭ ‬هدفاً‭ ‬مستقبلياً،‭ ‬وهنا‭ ‬تكمن‭ ‬المفارقة‭ ‬العجيبة،‭ ‬مفارقة‭ ‬أن‭ ‬المستقبل‭ ‬موجود‭ ‬في‭ ‬الماضي‭ ‬وليس‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬اليوم،‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬وليس‭ ‬في‭ ‬الآتي‭.‬

يحيلنا‭ ‬الركود‭ ‬التاريخي‭ ‬إلى‭ ‬الاحتفاظ‭ ‬بصراعات‭ ‬الأمس‭ ‬السحيق‭ ‬وجعلها‭ ‬حاضرة‭ ‬كصراعات‭ ‬حدثت‭ ‬للتو‭. ‬فيصبح‭ ‬ابن‭ ‬الحاضر‭ ‬مسؤولاً‭ ‬عن‭ ‬تاريخ‭ ‬جرى‭.‬

عودة‭ ‬إلى‭ ‬السؤال: ‬لقد‭ ‬طرحت‭ ‬على‭ ‬صفحات‭ ‬جريدة‭ ‬“العرب”‭ ‬يوماً‮ ‬السؤال‭ ‬الآتي: ‬من‭ ‬هم‭ ‬العرب،‭ ‬العرب‭ ‬بوصفهم‭ ‬يتوافرون‭ ‬على‭ ‬هوية؟

وفي‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الإجابة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬قبل‭ ‬عامين‭ ‬تقريباً‭ ‬أجدني‮ ‬‭ ‬الآن‭ ‬أكثر‭ ‬اعتقاداً‭ ‬بوجود‭ ‬العرب‭ ‬بوصفهم‭ ‬هوية‭.‬

‬وكما‭ ‬أشرنا‭ ‬فإنه‭ ‬من‭ ‬الوعي‭ ‬الزائف‭ ‬والخاطئ‭ ‬أن‭ ‬نساوي‭ ‬بين‭ ‬العرب‭ ‬والأيديولوجيا‭ ‬القومية‭. ‬لأن‭ ‬مساواة‭ ‬كهذه‭ ‬توحد‭ ‬بين‭ ‬ظاهرة‭ ‬موضوعية‭ ‬هي‭ ‬العرب،‭ ‬وبين‭ ‬ظاهرة‭ ‬أيديولوجية‭ ‬هي‭ ‬الأيديولوجيا‭ ‬القومية‭. ‬وهذا‭ ‬التوحيد‭ ‬الزائف‭ ‬يخلق‭ ‬لدى‭ ‬بعض‭ ‬الأقوام‭ ‬غير‭ ‬العربية‭ ‬نزعة‭ ‬تعصبية‭ ‬ضد‭ ‬العرب،‭ ‬بل‭ ‬ويبرر‭ ‬ظهور‭ ‬الهويات‭ ‬الطائفية‭ ‬المتعصبة‭ ‬والتأخرية،‭ ‬ويساعد‭ ‬الوعي‭ ‬الديني‭ ‬المتطرف‭ ‬على‭ ‬التوسع‭. ‬العرب‭ ‬هم‭ ‬واقعة‭ ‬بشرية‭ ‬إثنية‭-‬‭ ‬ثقافية‭. ‬هناك‭ ‬قوم‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الأرض‭ ‬يسمون‭ ‬بالعرب‭. ‬تماما‭ ‬كما‭ ‬هناك‭ ‬أقوام‭ ‬تسمى‭: ‬الكرد‭ ‬والأرمن‭ ‬والألمان‭.. ‬الخ‭. ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬هناك‭ ‬وعي‭ ‬ذاتي‭ ‬بالانتماء‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الإثنية‭-‬‭ ‬العرب‭.‬

العرب‭-‬‮ ‬‭ ‬إثنية‭ ‬ووعياً‭-‬‭ ‬واقعة‭ ‬موضوعية‭ ‬وليسوا‭ ‬واقعة‭ ‬أيديولوجية‭. ‬بل‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يمكن‭ ‬للأيديولوجيا‭ ‬القومية‭ ‬أن‭ ‬تظهر‭ ‬إلى‭ ‬الوجود‭ ‬لولا‭ ‬وجود‭ ‬العرب‭ ‬بوصفهم‭ ‬واقعة‭ ‬موضوعية‭. ‬والأيديولوجيا‭ ‬القومية‭ ‬ثمرة‭ ‬رغبة‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬وجود‭ ‬العرب‭ ‬المأمول‭ ‬وليس‭ ‬في‭ ‬خلق‭ ‬هذا‭ ‬الوجود‭.‬

العرب‭ ‬والحال‭ ‬هذه‭ ‬هوية‭ ‬دون‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬فاعليتها‭ ‬في‭ ‬الحياة،‭ ‬هوية‭ ‬موضوعية‭ ‬لا‭ ‬هوية‭ ‬“رغبوية”‭ ‬أو‭ ‬فكرية‭ ‬أو‭ ‬أيديولوجية،‭ ‬ولهذا‭ ‬فهي‭ ‬من‭ ‬نمط‭ ‬الهوية‭ ‬الثابتة‭. ‬بل‭ ‬إن‭ ‬الاحتجاج‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الهوية‭ ‬ينبع‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬المنتمين‭ ‬إليها‭.. ‬الخ‭.‬

تكمن‭ ‬مشكلة‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬أنهم‭ ‬قوم‭ ‬متعددو‭ ‬الدول،‭ ‬كما‭ ‬أشرنا‭. ‬وهذا‭ ‬يخلق‭ ‬وعياً‭ ‬ذاتياً‭ ‬ملتبساً،‭ ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬ينفي‭ ‬الوعي‭ ‬الذاتي‭ ‬الأقوامي‭.‬

ولهذا‭ ‬فإن‭ ‬غياب‭ ‬الدولة‭ ‬الأمة،‭ ‬الهدف‭ ‬المؤسس‭ ‬للأيديولوجيا‭ ‬القومية‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬غياب‭ ‬العرب‭. ‬بل‭ ‬يعني‭ ‬غياب‭ ‬العرب‭ ‬الدولة‭-‬‭ ‬الأمة‭ ‬ويبقي‭ ‬على‭ ‬الوعي‭ ‬بهذا‭ ‬الغياب‭ ‬بوصفه‭ ‬سلباً‭ ‬للإرادة‭.‬

وبالتالي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نميز‭ ‬بين‭ ‬الأيديولوجيا‭ ‬القومية‭ ‬ومنطلقاتها‭ ‬النظرية،‭ ‬والتي‭ ‬بدأت‭ ‬من‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬الشام‭ ‬والعراق‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬والحس‭ ‬القومي‭ ‬العفوي‭ ‬الذي‭ ‬راح‭ ‬ينمو‭ ‬بوصفه‭ ‬نمطاً‭ ‬من‭ ‬الثقافة‭ ‬المستندة‭ ‬إلى‭ ‬الشعور‭ ‬بالانتماء‭ ‬إلى‭ ‬العرب‭.‬

بل‭ ‬وقد‭ ‬دلل‭ ‬الربيع‭ ‬العربي‭ ‬على‭ ‬أمر‭ ‬في‭ ‬غاية‭ ‬الوضوح‭ ‬ألا‭ ‬وهو‭ ‬أن‭ ‬العوامل‭ ‬النابذة‮ ‬‭ ‬‭-‬الدولة‭ ‬القطرية‭-‬‭ ‬لم‭ ‬تستطع‭ ‬أن‭ ‬تلغي‭ ‬العوامل‭ ‬الجاذبة‭ ‬بين‭ ‬العرب‭.‬

غير‭ ‬أن‭ ‬العامل‭ ‬الأساسي،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬قادراً‭ ‬على‭ ‬خلق‭ ‬الاصطفافات‭ ‬العربية‭-‬‭ ‬العربية‭ ‬المعبرة‭ ‬عن‭ ‬الهموم‭ ‬المشتركة‭ ‬حتى‭ ‬لدى‭ ‬الأنظمة‭ ‬ليس‭ ‬هو‭ ‬العامل‭ ‬الرئيس‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬الجذب‭ ‬هذه‭. ‬بل‭ ‬العامل‭ ‬الرئيسي‭ ‬هو‭ ‬العامل‭ ‬الثقافي‭ ‬بمعنييه‭: ‬الأنثروبولوجي‭ ‬والإبداعي‭.‬

وإذا‭ ‬كان‭ ‬صحيحاً‭ ‬أن‭ ‬التحديث‭ ‬والحداثة‭ ‬قد‭ ‬زعزعا‭ ‬من‭ ‬وحدة‭ ‬المشترك‭ ‬الثقافي‭ ‬الأنثروبولوجي‭ ‬فإنه‭ ‬لم‭ ‬يلغ‭ ‬السمات‭ ‬المشتركة‭ ‬لهذه‭ ‬الثقافة،‭ ‬بل‭ ‬وأفضى‭ ‬إلى‭ ‬تشابه‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬التحديث‭ ‬والحداثة‭ ‬والتغريب،‭ ‬فالحدود‭ ‬السياسية‭ ‬لم‭ ‬تستطع‭ ‬أن‭ ‬تلغي‭ ‬المتحد‭ ‬الثقافي‭ ‬لفلسطين‭ ‬والأردن‭ ‬وسوريا‭ ‬ولبنان. ‬ولا‭ ‬المتحد‭ ‬الثقافي‭ ‬بين‭ ‬بلاد‭ ‬الشام‭ ‬والعراق‭ ‬فالثقافة‭ ‬الموضوعية‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬البلدان: ‬عادات‭ ‬الأفراح‭ ‬والأتراح‭ ‬وطقوس‭ ‬الولائم‭ ‬والتحية‭ ‬والزواج‭ ‬والقرابة‭ ‬والقيم‭ ‬المعشرية‭ ‬رغم‭ ‬ما‭ ‬أصابها‭ ‬من‭ ‬تزعزع‭ ‬مازالت‭ ‬مشتركة‭.‬

أما‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬تحدثنا‭ ‬عن‭ ‬الثقافة‭ ‬المبدعة‭ ‬فإننا‭ ‬نحصل‭ ‬على‭ ‬أقوى‭ ‬برهان‭ ‬على‭ ‬العامل‭ ‬الجاذب‭ ‬للهوية‭ ‬العربية‭ ‬والتعبير‭ ‬الأصدق‭ ‬على‭ ‬المتحد‭ ‬الثقافي‭.‬

فالشعر‭ ‬والرواية‭ ‬والقصة‭ ‬والمسرح‭ ‬والفكر‭ ‬والفلسفة‭ ‬والفن‭ ‬التشكيلي‭ ‬والسينما‭ ‬والدراما،‭ ‬وهذا‭ ‬المكتوب‭ ‬كله‭ ‬باللغة‭ ‬العربية‭ ‬والمسموع‭ ‬بها‭ ‬جعل‭ ‬من‭ ‬النخبة‭ ‬العربية‭ ‬مصدر‭ ‬وعي‭ ‬بالانتماء‭ ‬العربي. ‬اللغة‭ ‬هنا‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬أداة‭ ‬استعمال‭ ‬كما‭ ‬الإنكليزية‭ ‬بالنسبة‭ ‬للأفريقي‭ ‬أو‭ ‬الهندي،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬هوية‭ ‬تفكير‭ ‬وإبداع‭ ‬لأنها‭ ‬لغة‭ ‬إثنية وثقافة‭ ‬أمة‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬معادل‭ ‬لهويتها‭ ‬الإثنية‭ ‬والثقافية‭.‬

وكل‭ ‬الثقافات‭ ‬المبدعة‭ ‬مهمومة‭ ‬أصلاً‭ ‬بما‭ ‬يماثل‭ ‬الهم‭ ‬العربي‭ ‬وتعبر‭ ‬عن‭ ‬حياة‭ ‬الناس‭ ‬بمعزل‭ ‬عن‭ ‬مستويات‭ ‬التعبير‭ ‬وموضوعاته. ‬ولا‭ ‬يقلل‭ ‬أحد‭ ‬من‭ ‬دور‭ ‬النخبة‭ ‬ووظيفتها‭ ‬في‭ ‬وعي‭ ‬الهوية‭ ‬المتجددة‭ ‬عبر‭ ‬الثقافة‭ ‬المبدعة‭.‬

إن‭ ‬غياب‭ ‬الجوهر‭ ‬الحقيقي‭ ‬للدولة‭ ‬المعاصرة‭ ‬والتي‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬المواطنة‭ ‬والمساواة،‭ ‬والاكتفاء‭ ‬بسلطة‭ ‬تؤكد‭ ‬التمايز‭ ‬‭(‬الهوياتي‭)‬‭ ‬وتحول‭ ‬الهوية‭ ‬إلى‭ ‬عصبيات‭ ‬متعصبة‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يفسر‭ ‬لنا‭ ‬عدم‭ ‬انتصار‭ ‬الهوية‭ ‬الجامعة‭ ‬‭(‬هوية‭ ‬الدولة‭)‬‭.‬

إن‭ ‬فكرة‭ ‬‭(‬الدولة‭ ‬ـ‭ ‬الأمة‭)‬‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬فيها‭ ‬الآن‭ ‬من‭ ‬طوباوية،‭ ‬هي‭ ‬الحل‭ ‬الأمثل‭ ‬لمشكلة‭ ‬الهوية‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭.‬

فكما‭ ‬أن‭ ‬فكرة‭ ‬الدولة‭ ‬تخلق‭ ‬فكرة‭ ‬المواطنة‭ ‬والمساواة،‭ ‬فإن‭ ‬مفهوم‭ ‬الأمة‭ ‬يحقق‭ ‬حال‭ ‬الانتساب‭ ‬إلى‭ ‬الأمة،‭ ‬لكل‭ ‬المتعدد‭ ‬الهوياتي‭. ‬إذ‭ ‬أن‭ ‬الأمة‭ ‬لا‭ ‬تنفي‭ ‬تعدد‭ ‬الإثنيات‭ ‬داخلها‭ ‬والهويات‭ ‬المستندة‭ ‬إلى‭ ‬الإثنية،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬‭(‬الأمة‭ ‬الدولة‭)‬‭ ‬ـ‭ ‬أو‭ ‬‭(‬الدولة‭ ‬الأمة‭)‬‭ ‬تغتني‭ ‬أكثر‭ ‬بحضور‭ ‬الهويات‭ ‬بالمعنى‭ ‬الأنثروبولوجي‭ ‬ـ‭ ‬الإنساني‭ ‬للكلمة‭ ‬وتقضي‭ ‬على‭ ‬شروط‭ ‬تحول‭ ‬الهوية‭ ‬إلى‭ ‬أيديولوجيا‭.‬

وقائل‭ ‬يقول: ‬إن‭ ‬الأمة‭ ‬–‭ ‬الدولة‭ ‬حالة‭ ‬قديمة‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬العولمة‬،‭ ‬ثم‭ ‬إنها‭ ‬عودة‭ ‬إلى‭ ‬خطاب‭ ‬قومي‭ ‬عفا‭ ‬عليه‭ ‬الزمن‭.‬

أن‭ ‬تكون‭ ‬العولمة‭ ‬قد‭ ‬تجاوزت‭ ‬فكرة‭ ‬الأمة‭ ‬–‭ ‬الدولة‭ ‬فهذا‭ ‬قيل‭ ‬أيديولوجي‭ ‬بامتياز،‭ ‬فالعالم‭ ‬كل‭ ‬العالم‭ ‬مازال‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬الأمة‭ ‬الدولة‭ ‬من‭ ‬أميركا‭ ‬إلى‭ ‬الصين‭.‬

ويجب‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬ننظر‭ ‬إلى‭ ‬الأمة‭ ‬–‭ ‬الدولة‭ ‬عربياً‭ ‬من‭ ‬زاوية‭ ‬الدولة‭ ‬المركزية‭ ‬الواحدة‭ ‬،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬زاوية‭ ‬اتحاد‭ ‬دول‭ ‬لا‭ ‬تلغي‭ ‬الدولة‭ ‬القطرية،‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬ومن‭ ‬زاوية‭ ‬النظر‭ ‬إليها‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬سيرورة‭ ‬تنتج‭ ‬ذاتها‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬دائم،‭ ‬فليس‭ ‬من‭ ‬المعقول‭ ‬التاريخي‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬العرب‭ ‬واقعة‭ ‬موضوعية‭ ‬جداً‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬لهذه‭ ‬الواقعة‭ ‬الموضوعية‭ ‬معادل‭ ‬سياسي،‭ ‬أجل‭ ‬فالهوية‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬صورة،‭ ‬والماهية‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬وجود‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.