المسرح‭ ‬ميزان‭ ‬حرارة‭ ‬الشعوب‭ ‬ومعدل‭ ‬نبضها‭ ‬الثوري

الجمعة 2016/07/01
لوحة: نبيل المالح

مازال ‭ ‬المسرح‭ ‬ومنذ‭ ‬ابتدعه‭ ‬اليونانيّون‭ ‬القدامى،‭ ‬نبراسا‭ ‬يضيء‭ ‬سبيل‭ ‬الإنسانيّة،‭ ‬وفتيلا‭ ‬يشعّ‭ ‬في‭ ‬دروب‭ ‬الرّوح‭. ‬إنّه‭ ‬محرار‭ ‬الشّعوب‭ ‬ومعدّل‭ ‬نبضها‭ ‬الثوري‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬اعتباطيّا‭ ‬نعــْـته‭ ‬بأبي‭ ‬الفنون،‭ ‬فالمسرح‭ ‬جامع‭ ‬لكلّ‭ ‬جمال،‭ ‬محرّك‭ ‬لكلّ‭ ‬القيم‭ ‬والعواطف،‭ ‬ملطّــف‭ ‬لكلّ‭ ‬بــــلاء،‭ ‬نبيل‭ ‬في‭ ‬مقاصده‭ ‬ومساراته،‭ ‬يدعوك‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬حين‭ ‬للتّساؤل‭ ‬والاستكشاف‭ ‬والتأمّل‭.‬

ولأنّ‭ ‬المسرح‭ ‬حيويّ‭ ‬بطبعه‭ ‬فهو‭ ‬الذي‭ ‬يقود‭ ‬البشريّة‭ ‬نحو‭ ‬رقـــيّ‭ ‬إنسانيّ‭ ‬ملحوظ،‭ ‬فقد‭ ‬شهد‭ ‬وعلى‭ ‬مـــرّ‭ ‬العصور‭ ‬تطوّرا‭ ‬هائلا‭ ‬تغيّرت‭ ‬فيه‭ ‬تمظهراته‭ ‬من‭ ‬المعبد‭ ‬إلى‭ ‬الكنيسة‭ ‬إلى‭ ‬الساحات‭ ‬العامّة‭ ‬إلى‭ ‬قاعات‭ ‬العرض‭ ‬الحديثة‭ ‬كما‭ ‬نراها‭ ‬اليوم،‭ ‬لذلك‭ ‬فالمسرح‭ ‬تحديثيّ‭ ‬تقدّميّ‭ ‬أو‭ ‬لا‭ ‬يكون‭.‬

ولعلّنا‭ ‬نرى‭ ‬كيف‭ ‬أنّ‭ ‬الأمم‭ ‬كلّما‭ ‬مــرّت‭ ‬بأزمات‭ ‬وحاصرتها‭ ‬الآفات‭ ‬وتملّكها‭ ‬الضّعف‭ ‬والوهـــن،‭ ‬إلاّ‭ ‬ولجأت‭ ‬إلى‭ ‬فنونها‭ ‬وآدابها‭ ‬تنبش‭ ‬فيهما‭ ‬مستنجدة‭ ‬بهما‭ ‬لاجئة‭ ‬إليهما‭ ‬باحثة‭ ‬عن‭ ‬أجوبة‭ ‬وحلول‭ ‬لكلّ‭ ‬مأزق‭ ‬يلـفـّـها‭.‬

وفي‭ ‬هذا‭ ‬السّياق،‭ ‬كان‭ ‬اهتمامي‭ ‬بالدراما‭ ‬التّاريخيّة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬تراثنا‭ ‬وأعلامنا‭ ‬ووقائعنا،‭ ‬إيمانا‭ ‬منّي‭ ‬بأنّه‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نتعاطى‭ ‬مع‭ ‬واقعنا‭ ‬وأن‭ ‬نفهمه‭ ‬إلاّ‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬فهمنا‭ ‬ماضينا‭ ‬وأخذنا‭ ‬منه‭ ‬العبر‭ ‬والمواعظ،‭ ‬فجاءت‭ ‬‮«‬داحس‭ ‬والغبراء‮»‬‭ ‬و‮»‬أصحاب‭ ‬الأخدود‮»‬‭ ‬و‮»‬علي‭ ‬بن‭ ‬غذاهم‮»‬‭ ‬و‮»‬المنصف‭ ‬باي‮»‬‭ ‬و‮»‬السّقيفة‮»‬‭ ‬و‮»‬احتقان‮»‬‭ ‬و‮»‬أو‭ ‬لا‭ ‬تكون‮»‬‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬المسرحيّات‭ ‬نتاجا‭ ‬لـــريح‭ ‬الـسـّـموم‭ ‬الذي‭ ‬نراه‭ ‬يعصف‭ ‬بالأمّة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الزمن‭ ‬المسمّى‭ ‬ربيعا‭ ‬عربيّا‭..‬

و‭ ‬لعلّ‭ ‬الأمر‭ ‬كان‭ ‬كذلك‭ ‬في‭ ‬خمسينات‭ ‬وستّينات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬حيث‭ ‬لجأ‭ ‬كبار‭ ‬الكتّاب‭ ‬إلى‭ ‬التّاريخ‭ ‬يستجوبونه‭ ‬عن‭ ‬حاضرهم‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالميّة‭ ‬الثّانية‭ ‬ومآلاتها‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬فكانت‭ ‬نصوص‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬الزّير‭ ‬سالم‮»‬‭ ‬و‮»‬الحسين‭ ‬شهيدا‮»‬‭ ‬و‮»‬أهل‭ ‬الكهف‮»‬‭ ‬و‮»‬جميلة‭ ‬بوحيرد‮»‬‭ ‬و‮»‬أحمد‭ ‬عرابي‮»‬‭ ‬و‮»‬الفتى‭ ‬مهران‮»‬‭ ‬و‮»‬مراد‭ ‬الثّالث‮»‬‭ ‬و‮»‬صاحب‭ ‬الحمار‮»‬‭ ‬وغيرها‭ ‬لكتّاب‭ ‬من‭ ‬المشرق‭ ‬ومن‭ ‬المغرب،‭ ‬ومن‭ ‬قبلهم‭ ‬كان‭ ‬الشّاعر‭ ‬الإنكليزي‭ ‬شكسبير‭ ‬قد‭ ‬لاذ‭ ‬بالتّاريخ‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬أعماله‭ ‬‭(‬الملك‭ ‬لير،‭ ‬مكبث،‭ ‬عطيل،‭ ‬تاجر‭ ‬البندقيّة‭..‬‭)‬‭.‬

إلاّ‭ ‬أنّ‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬التراث‭ ‬والاستلهام‭ ‬من‭ ‬التّاريخ‭ ‬إنْ‭ ‬هو‭ ‬إلاّ‭ ‬مسمار‭ ‬يعلّق‭ ‬عليه‭ ‬الفنّان‭ ‬لوحاته،‭ ‬فالمسرح‭ ‬فعل‭ ‬بناء،‭ ‬والبناء‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬إلاّ‭ ‬للمستقبل‭.. ‬بناء‭ ‬الأوطان،‭ ‬بناء‭ ‬الأمم،‭ ‬بناء‭ ‬الإنسان‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬ومن‭ ‬بعد،‭ ‬لذلك‭ ‬لن‭ ‬تجد‭ ‬ولو‭ ‬عملا‭ ‬فنيّا‭ ‬واحدا‭ ‬يدعوك‭ ‬إلى‭ ‬الموت‭ ‬حتّى‭ ‬في‭ ‬المآسي‭ ‬الكبرى،‭ ‬أكثر‭ ‬الأعمال‭ ‬تراجيديا‭.‬

فالمسرح‭ ‬يحرّضك‭ ‬على‭ ‬نفسك‭ ‬أوّلا‭ ‬ويدعوك‭ ‬للثّورة‭ ‬على‭ ‬ضعفك‭ ‬ووهنك‭ ‬ويستنفر‭ ‬الإنسان‭ ‬الكامن‭ ‬فيك‭.. ‬إنّك‭ ‬لا‭ ‬ترى‭ ‬مشهدا‭ ‬واحدا‭ ‬على‭ ‬خشبة‭ ‬المسرح‭ ‬يدعوك‭ ‬للحضيض‭..‬

لاحظْ‭ ‬أنّك‭ ‬ترفع‭ ‬هامتك‭ ‬منذ‭ ‬اللّحظة‭ ‬الأولى‭ ‬وأنت‭ ‬تطأ‭ ‬صالة‭ ‬المسرح‭.‬

‮ ‬ستشعر‭ ‬هناك‭ ‬أنّك‭ ‬تسبح‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬مخمليّ‭ ‬شفّاف،‭ ‬ستلامس‭ ‬السّحاب‭ ‬بيديك‭ ‬وتستنشق‭ ‬هواء‭ ‬لم‭ ‬تعتده،‭ ‬وترى‭ ‬عيناك‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬ترياه‭ ‬من‭ ‬قبل‭.. ‬إنّه‭ ‬عالمك‭ ‬السّحريّ‭ ‬الخلاّب‭ ‬وجنّتك‭ ‬المفقودة‭.‬

لا‭ ‬أحد‭ ‬يستأهل‭ ‬المسرح‭ ‬سواك‭. ‬خــذْه‭ ‬بكلّ‭ ‬قــوّة‭ ‬وطـــرْ‭ ‬به‭ ‬إليك‭.. ‬حــلــقْ‭ ‬بعيدا،‭ ‬بعيدا‭ ‬ستفهم‭ ‬ما‭ ‬معنى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬لك‭ ‬جناحان‭.‬

إن‭ ‬أنت‭ ‬امتلكت‭ ‬جناحيــْـك،‭ ‬فلن‭ ‬تتخلّى‭ ‬عنهما‭ ‬أبدا‭.‬

إنّه‭ ‬دبــيـب‭ ‬الحرّية،‭ ‬همـْـسها‭ ‬يناديك،‭ ‬فســـرْ‭ ‬إليها‭ ‬ولا‭ ‬تتردّد‭.‬

أمّا‭ ‬لماذا‭ ‬المسرح‭ ‬دون‭ ‬سواه،‭ ‬فذلك‭ ‬لأنّه‭ ‬حـــيّ‭ ‬مباشر‭ ‬وتلقائيّ،‭ ‬لا‭ ‬كذب‭ ‬ولا‭ ‬نفاق‭ ‬فيه،‭ ‬إنّه‭ ‬الآن‭ ‬وهنا‭ ‬حيث‭ ‬أنت،‭ ‬حيث‭ ‬الوجود‭ ‬النّابض‭ ‬من‭ ‬حولك،‭ ‬إنّه‭ ‬نبضة‭ ‬من‭ ‬نبضات‭ ‬قلبك‭ ‬وطرفة‭ ‬من‭ ‬طرفات‭ ‬عينك،‭ ‬لذلك‭ ‬ترى‭ ‬كلّ‭ ‬متــســلـّـط‭ ‬يخشاه،‭ ‬لأنّه‭ ‬يعلم‭ ‬أنّه‭ ‬يتسـرّب‭ ‬إلى‭ ‬الأفراد‭ ‬والجماعات‭.. ‬إلى‭ ‬ذات‭ ‬الإنسان‭ ‬يتسرّب‭ ‬مع‭ ‬كلّ‭ ‬لــمسة‭ ‬ودّ‭. ‬مع‭ ‬كلّ‭ ‬شهقة‭ ‬حـــبّ‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.