ماء وقصب وحريق

الخميس 2016/09/01
لوحة: فادي يازجي

هذا الصغير «أنا» القديم بعمر خمسة أصياف جنوبية كما أعتقد. وهي صورة وحيدة بقيت على قيد الحياة لسبب لا أعرفه..!

هذا الصغيرُ الذي أصبحَ فيما بعد (أنا) الماثل أمامكم بلقطة محنّطة تستوجبها لحظة التصوير أمام الصندوق الأسود السحري الذي يلعب في أحشائه رجل ساحر يقول للشيء كنْ فيكون.. ولهذا (كنتُ) في تلك اللحظة الصعبة التي انقطعت فيها الأنفاس من أجل أن تبقى إلى خمسين سنة قادمة..!

يومها كانت الدنيا بيضاء مثل بطة النهر وزرقاء مثل الله وحلوة كقرص العسل.

تقول القصة المتشابهة:

ولدتني أمي في بيتٍ من القصب يدور النهر حوله من أربع جهات وتمسحه شمس النهار من الشروق إلى المغيب، وتلعب العصافيرُ والبلابلُ والسنونوات على أطرافه العالية.

ولدت في ليلةٍ حارة تزاحمَ فيها البقُّ والحرمس وتوقف فيها الهواء عن الحركة. وكان الصيف وقتها جافاً وخانقاً بالرغم من وجودنا في جزر الأهوار التي لا يكف الماء الجاري عنها..

تفتحتْ عينايَ على الطبيعة البدائية في تشكيلها العفوي الخلاب، وما تزال تلك اللوحة العملاقة مرسومة وموشومة في مخيلتي إلى الآن. حيث كانت الحياة عبارة عن معزوفة ناي من الصباح إلى المساء، ورقصة بلابل تحت سعف النخيل وأبوذية ساحرة تختلج في حنجرة عاشق أمَضّه العشق حتى صار عندليباً شجياً.

لغة النايات الآسرة كشفتْ لي طفولة تفيضُ بالدمع والعشق معاً.

قيل إنني صرختُ بيد القابلة القروية وهذا من طبيعة الأجنّة الخارجين إلى الحياة، فقد كانت صفعتها قويّة على ظهري، ويدها غليظة مشقّقة تختزن طياتُها الكثيرَ من دماء الأرحام الطرية..

لكن قيل إن بكائي استمر طويلاً على غير العادة، وقيل إن القابلة انتبهت إلى هذا الزعيق من جنين عمره دقائق فأخذتني إلى صدرها وألقمتني حُلمتَها لتحلّ بي طمأنينة غريبة؛ فنساء القرية أخواتٌ متضامناتٌ وحُلَمَهُنّ لأفواهنا الصغيرة في كل الأوقات.

وهذه أول حلمة في حياتي قبل حُلمةِ أمي..!

كعادة الريفيين أطلق والدي بعض الإطلاقات النارية، فسّرها احتفاءً بنجاة أمي من عسر الولادة القروية، غير أني أدرك الآن بعد هذا العمر إن إطلاقاته عبّرت عن فرح عشائري بالمولود الذكر، ولا شأن لنجاة أمي بـ»حادث» ولادتي، فهي رحمٌ تتلقى وتنجب على مدار حياتها حتى وصلت إلى سن اليأس بطريقة التقاعد النسائية المعروفة..

يقول راوي الصورة:

وُلد هذا الصغير على حافاتِ الهور ذات ليلة حارة سكنت فيها موسيقى الليل واضطربت فيها النفوس النائمة على قيظ لافح وجو يخالطه الهوام وروائح النهر، إلا من صوت أمه الذي يبعث الحنين ( دلّلول.. دلّلول..) فكانت القرية تنام على هذه الهدهدة المؤثرة تسبقها تنهدات العشاق الفقراء الحالمين ببياض الحياة الطافحة على وجوه المعشوقات الصغيرات الحافيات بين الأشواك والسواقي والجرار الحبلى بالماء.

ولد الصغير بين القصب والأشواك ونباح الكلاب وثغاء البقر وصولات الثيران العارية ونسائم الريف الحيّة وأزهار البر القاسية وزهر الحقول الفسيحة، وكاد يولد تحت نخلة فارعة ظهيرة ذلك اليوم الساخن، غير أن أمّه تحاملتْ على نفسها إلى المساء وأقعتْ مثل الدجاجة تحت كوز الماء وشربت وارتوت وكانت تنظر إلى الليل بنجومه الوفيرة وصوتها المسموع: يا ربّ سهّل عليّ ولادتي..

الراوي يسرد شيئاً من السيرة ويقول:

فتح الصغير عينيه على منتجع عملاق اسمه الريف في أقصى الجنوب من العراق فكان حاضنته التي خطّ فيها حرفه الأول ونطق فيها لثغته الأولى بين نساء وصبايا تنفتح عيونهنّ على الرازقي والجوري والجمّار واخضرار النهر وبياض الصباحات المبكرة ولمعة القمر الوحيد واصطفاف الشمس على جدائلهن الشقر وانفتاح الليل على غناء العشاق الهائمين في وحشة القصب..

يتذكر صاحب الصورة الصغير:

إنّ حريقاً شبّ في ليلة صيف ساخن في صريفتهم الوحيدة (وهي بيت القصب) فانتشلته أمّه وأخاه من بين الحريق العارم. كان الأخ أصغر من الصورة وكان يتشبث بصدر أمي، وكانت الصورة هي أنا المسحوب في أقلّ من ذلك العمر بسنةٍ أو سنتين، مجروراً من يدي بين الدخان الخانق وألْسنة النيران الفتّاكة من دون أن أعي حجم المشكلة في نار أتت على الأخضر واليابس وأحالت الصريفة إلى ركام خلال وقتٍ قصير لكن من دون أن نُصاب بأذىً جميعاً سوى خسارة كل شيء كان في بيت القصب الذي تحول إلى جمرٍ ورماد حتى هَفَتت نيرانه في منتصف الليل.

نمنا في العراء كلّ الليل وكان النعاس يطاردني. وكان نهر القرية الذي أطفأ الحريق يشاطرنا العراء الصيفي الوحيد..

ذاكرتي الطيور والماء والقصب.. وحريق قديم ما زلتُ أتذكره حتى اليوم تسبب فيما بعد بأن تشبّ في داخلي نيران الكتابة التي لا يمكن إطفاؤها بنهرٍ أو بحرٍ.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.