أب طيب

الخميس 2016/12/01
لوحة: حسين جمعان

قالت أمي: لقد أصبحت كبيرا ومن حقك الآن أن تزوره..

قالت ذلك وكأنها تتحدث عن شخص لا تستطيع وصف صورته، لم أفهم لمَ جعلتني نبرات صوتها أشعر بأنها كانت تتحدث عن شخص لم يسبق لها أن رأته مطلقا.

حين تراه قالت: صافحه بأدب، علمتني كيف يجب أن أصافحه بأدب، يجب أن ينحني جسمي إلى الأمام قليلا وتقترب شفتي من يده: إن سألك عني، قالت، قل له نحن بخير وأننا لا نحتاج لأي شيء.

ارتديت في الصباح جلبابا أصفر اللون خاطته أمي بنفسها، وضعت لي حول عنقي شالا من قماش قطني دافئ الملمس.

كان الوقت شتاء والرياح الباردة تصفّر في أزقة القرية.

سوف تمرض قالت لي وهي تصلح من وضع الشال حول رقبتي: يجب أن تحافظ عليه دائما حول عنقك حتى لا تمرض.

ثم وضعت على رأسي طاقية بيضاء من الصوف وأعطتني نقودا تكفيني لإيجار الحافلة التي سأستقلّها.

حين أصبحت جاهزا للخروج، أوقفتني وأحضرت مبخرا به قطع جمر حمراء ألقت فيها حبات من البخور والكمّون الأسود ثم جعلتني أستنشق الدخان، فيما تضع هي يدها على رأسي وتقرأ بعض آيات القرآن ثم دارت بالمبخر ثلاث دورات حول رأسي. كنت أحب رائحة احتراق حبات الكمّون الأسود وهي تتقافز فوق النار المشتعلة وكأنها تحاول الهروب من مصير محتوم.

حين ودعتني أمام باب البيت كررت لي قولها:

قل له نحن بخير ولا ينقصنا شيء، ثم تردّدت قليلا وقالت إن سألك كيف نعيش لا تقل له شيئا عن حياكة الطواقي والملابس أو عن عملك في الصيف في المزارع، قل له إن خالك يرسل لنا مالا نعيش منه.

في الشارع وقفت قليلا في انتظار الحافلة، كان العالم قد بدأ يسترد حياته وروائح الحياة تعبق من داخل البيوت، رائحة دخان نار جريد النخيل التي تعد النسوة طعام الإفطار عليها ورائحة الخبز الساخن.

تذكرت مدرستي التي ستفتح أبوابها بعد أيام والمشوار الطويل الذي أقطعه إليها ذهابا وإيابا كل يوم، وفكرت:

هل سيهديني أبي حمارا؟

توقف السائق مترددا حين رفعت يدي وسألني قبل أن يتوقف تماما:

هل معك نقود يا فتى؟

رفعت يدي بالورقة النقدية التي كنت لا أزال أقبض عليها بأصابعي فتبسم السائق وأوقف السيارة وسط عاصفة صغيرة من الصفير والغبار.

جلست في الخلف كان للحافلة مقعدان طويلان متقابلان يجلس على كل مقعد خمسة ركاب، لم أتبين ملامح الركاب الآخرين جيدا بسبب البرد، كان الجميع يغطون وجوههم.

سمعت فقط أحدهم يتحدث مع جاره، كان يبدو وكأنه يتحدث إلى نفسه بصوت عال:

لقد قررت ألا أغامر بالزراعة هذا العام، في العام الماضي خسرت كل شيء ولولا قيامي ببيع قطعة أرض ورثتها عن والدي لأسدد ديون البنك لقضيت بقية عمري في السجن.

ردّ عليه صوت خشن متقطع مثل آلة حصد القمح:

وماذا نفعل. نجلس في البيوت، أفضّل السجن على أن أجلس في انتظار مساعدة من شخص ما.

علّق الرجل الأول:

في هذا الزمان لا يصلح أن تكون شجاعا، يجب أن تكون حذرا وإلا واجهت المتاعب!

استغرقتني أحلامي فتباعدت أصوات الرجلين ولم أعد أسمع أو أرى شيئا سوى تفاصيل صورة استقبال أبي لي والحمار الذي سأعود به.

لا بد أن والدي سيكون كريما معي. لم يرني منذ خمس سنوات. لديه أطفال من زوجته الأخرى كما قالت لي أمي. لكنني ابنه الأكبر، سمعت في القرية كثيرا أن الابن الأكبر يكون له وضع خاص، ألم يطلق عليّ اسم والده. لا بد أنه يحبني مثلما كان يحب والده وإلا لما أطلق عليّ اسمه.

كنت أفكر كيف سأعود ومعي الحمار. لن أتمكن بالطبع من العودة بالحافلة. سيكون الطريق طويلا بالحمار لكنه سيكون ممتعا جدا. الحافلة تعبر بسرعة. لا تستطيع رؤية العالم من حولك بصورة أفضل مثلما يحدث من على ظهر الحمار. السيارة تعبر بسرعة فتختلط مشاهد الأشياء وحتى حين تبطئ سيرها تغطي كل شيء حولها بالغبار. كأنّ الغرض من السرعة في التنقل بالسيارة هو أن تدفن كل العالم حولك وتدفن نفسك أكثر داخل نفسك وخطط حياتك.

شعرت بفرح إضافي، سأتمكّن من توفير مبلغ صغير. المال الذي يجب أن أدفعه لقاء أجر العودة بالحافلة. سأعيده لأمي لكنها لن تأخذه على الأرجح، سأشتري شيئا يوم السوق القادم حين أذهب لشراء مستلزمات البيت. فكّرت ماذا أشتري. قلم جديد، حذاء خفيف أستخدمه في الصيف حين أذهب للعمل في المزارع، لأن حذائي القديم أصبح باليا. لكن أمي قد لا تسمح لي بارتدائه. في الصيف تكثر العقارب لذلك تصر أمي أن ارتدي الحذاء المحلي المصنوع من جلد الأبقار. إنه يحمي القدم من العقارب ومن أشواك السنط والضريس التي تنتشر في كل مكان.

قال صاحب الصوت الخشن: أفكر في العودة للعمل في مصلحة البريد، لقد باعتها الحكومة لبعض الأشخاص وشرعوا في استثمارها بصورة حديثة.

قال المزارع الذي أعلن إضرابا عن العمل والذي رغم أن وجهه كان مغطى تماما لكنني تخيلته مبتسما بخبث:

لن يعيدوك إلى العمل أبدا. أنت لا تعرف شيئا عن المخترعات الحديثة. من يعمل معهم يجب أن يعرف كيف يتعامل مع جهاز الكمبيوتر وأنت بالكاد تستطيع فتح جهاز الراديو، كما أنهم لا يحتاجون لعمال كثيرين يقال إن هذا الكمبيوتر ينجز في لحظة واحدة عمل مائة رجل!

هذه تخاريف، قال صاحب الصوت الخشن، تخيلته مبتسما بكآبة. أنا أعرف عملي جيدا وأؤديه بصورة مثالية. أختم الرسائل وأوزّعها في الحقائب الصحيحة وحتى حين لا يكون هناك حبر للأختام المعدنية أصنع حبرا من الصمغ والكربون. لا تستطيع آلة صماء تفقد عقلها حين تنقطع الكهرباء أن تفعل ذلك.

ضحك المزارع الذي أضرب عن العمل للمرة الأولي بصوت عال. أصابني ارتجاج صوت ضحكته بخيبة أمل، لا أدري لمَ تخيلت لضحكه شكلا مختلفا. قال:

انتهى عهد الرسائل التي تختمونها بأختامكم الحمقاء. ألم تسمع بالبريد الإلكتروني؟ تضغط زرا على الكمبيوتر فيقرأ الشخص الذي أرسلت إليه الرسالة في الجانب الآخر من العالم رسالتك في نفس اللحظة ويصلك رده قبل أن تكمل كوب الشاي الذي تشربه!

الرجل المصرّ على العمل لم يستسلم بعد: هذه أوهام، كيف يمكنني أن أثق في أن رسالتي تنقلها آلة صماء يمتلئ جوفها بالكهرباء دون أن تحذف منها شيئا أو تنقلها لجهة أخرى بدلا من الجهة التي أقصدها. وما عيب رسالة أحتفظ بها في جيبي وأبرزها عند الحوجة وأحتفظ بها في حقيبتي تذكارا من شخص عزيز وحين تتغيّر رائحتها بفعل الزمان، أتذكر حين أشمها عبق زمن آخر تعيدني الرسالة إليه.

تذكرت قول أمّي: لا تنزعج إن لم يستقبلك بودّ. إنه أب طيب رغم حرصه أحيانا على إظهار عكس ذلك.

رددت العبارة في سري حتى اقتنعت بها: إنه أب طيب، إنه أب طيب.

فكرت في حماري الصغير. قد أحمل معي إلى المدرسة أحد أصدقائي ممن يمشون إليها على أقدامهم مثلي. لن أفعل طبعا مثل ذلك الصديق الذي يحضر للمدرسة على ظهر حمار كسول يسير خطوة للأمام ثم يستريح قليلا قبل أن يستأنف خطوة أخرى. زملائي يقولون إن الحمار ليس كسولا لكن صديقي هو الكسول. لا يطعم الحمار جيدا. يسير الحمار في البداية بسرعة ثم تنفد قواه تحت ثقل وزن صديقي البدين والذي حين يجد أنه لا بدّ أن يتخلّص من بعض الأشياء التي يحملها حتى يخفّف الوزن على الحمار يمسك جيدا بإناء طعام الإفطار ويلقي أرضا بحقيبة القماش التي يحمل فيها الكتب المدرسية!

صديق آخر يفسر الأمر بأن صديقنا الكسول يتعمّد عدم إطعام حماره حتى يصل كل يوم متأخرا، لأنه بسبب عدم حبه للمدرسة لا يتعجل الوصول إليها!

لن أفعل مثله، سأعتني بإطعام حماري حين أخرج عصرا لرعي الماعز سأصحب حماري معي للرّعي. سأحمل طمبوري معي وأجلس بعيدا أراقب الماعز والحمار وأغنّي حتى تغرب الشمس. وفي الصيف حين أذهب للعمل في تسميد أشجار الفواكه في المزارع سآخذه معي ليأكل من الحشائش التي نزيلها من تحت أشجار الموالح قبل أن نضع زبل البهائم الذي يستخدم كسماد محلي.

كان المزارع النشيط لا يزال يحاجج برغبته في العودة ليعمل موظفا، صوته يتسرب إلى أذني مصحوبا بزعيق الريح الراحلة فوق حقول القمح. تختلط مع صوت أمي:

إنه أب طيب.. إنه أب طيب.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.