جمعة‭ ‬اللامي‭ ‬شاعر‭ ‬السرد‭ ‬

الأحد 2017/01/01

ومن‭ ‬حسن‭ ‬الطالع،‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب،‭ ‬سبقه‭ ‬إصدار‭ ‬مجلد‭ ‬سردي‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬2015،‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬اليشنيون‭-‬حكايات‭ ‬فليفلة‭ ‬والسروط‮»‬‭ ‬حيث‭ ‬عاد‭ ‬اللامي‭ ‬إلى،‭ ‬بيئته‭ ‬الأولى،‭ ‬ومجموعاته‭ ‬البشرية‭ ‬المهمشة،‭ ‬أو‭ ‬الهامشية‭: ‬اليشن‭ ‬السومرية،‭ ‬فوسَّع‭ ‬في‭ ‬فضائها‭ ‬الجغرافي،‭ ‬وانتقل‭ ‬بها‭ ‬ومعها،‭ ‬من‭ ‬أهوار‭ ‬ميسان،‭ ‬إلى‭ ‬شرقي‭ ‬ميسان،‭ ‬ثم‭ ‬إلى‭ ‬الخليج‭ ‬العربي،‭ ‬حيث‭ ‬تتلاقى‭ ‬الجغرافيا،‭ ‬وتلتقي‭ ‬الحضارات‭ ‬والثقافات،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬في‭ ‬سوق‭ ‬العمل،‭ ‬حيث‭ ‬يجري‭ ‬تحويل‭ ‬الإنسان‭ ‬إلى‭ ‬سلعة،‭ ‬تحكمها‭ ‬متطلبات‭ ‬العرض‭ ‬والطلب‭.‬

وكان‭ ‬جمعة‭ ‬اللامي،‭ ‬إنساناً‭ ‬وكاتباً،‭ ‬جلس‭ ‬على‭ ‬كرسيّه‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬السجن‭ ‬السياسي،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أمضى‭ ‬نحو‭ ‬ست‭ ‬سنوات‭ ‬متصلة‭ ‬في‭ ‬سجون‭ ‬العراق‭ ‬ومعتقلاته،‭ ‬اعتباراً‭ ‬من‭ ‬سنة‭ ‬1963،‭ ‬على‭ ‬خلفية‭ ‬أشواقه‭ ‬الأخلاقية،‭ ‬وآماله‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬التي‭ ‬تعثرت‭ ‬آناً،‭ ‬وسقطت‭ ‬آناً‭ ‬آخر،‭ ‬لكنه‭ ‬استمر،‭ ‬مخلصاً،‭ ‬لهمّ‭ ‬الكتابة،‭ ‬التي‭ ‬غالباً‭ ‬ما‭ ‬أخبرني،‭ ‬أنها‭ ‬صولجانه‭ ‬لترميم‭ ‬نفسه،‭ ‬من‭ ‬حالات‭ ‬الخراب‭ ‬التي‭ ‬واجهته‭ ‬في‭ ‬السجن،‭ ‬واستمرت‭ ‬تلاحقه‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬الحرية‭ ‬المزعومة،‭ ‬فهي‭ ‬كانت‭ ‬عدّته‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬قوى‭ ‬الظلم‭ ‬والظلام‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬ووقفته‭ ‬أمام‭ ‬تحديات‭ ‬القوى‭ ‬الغيبية‭ ‬الرهيبة‭ ‬وفي‭ ‬مقدمتها‭: ‬الموت‭.‬

‮ ‬جمعة‭ ‬اللامي‭ ‬قال‭ ‬لي،‭ ‬ذات‭ ‬يوم،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬عاد‭ ‬إلى‭ ‬منزله‭ ‬عقب‭ ‬جلسة‭ ‬‮«‬‭ ‬تنقية‭ ‬دمٍ‮»‬‭ ‬استمرت‭ ‬نحو‭ ‬أربع‭ ‬ساعات،‭ ‬مربوطاً‭ ‬إلى‭ ‬ماكينة‭ ‬حديدية‭ ‬صماء،‭ ‬أن‭ ‬فكرة‭ ‬الموت،‭ ‬هي‭ ‬شغله‭ ‬الشاغل،‭ ‬سجيناً‭ ‬في‭ ‬سجن‭ ‬‮«‬نقرة‭ ‬السلمان‮»‬‭ ‬الصحراوي،‭ ‬ثم‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭ ‬والعملية،‭ ‬كاتباً،‭ ‬وصحافياً،‭ ‬ومهاجراً‭ ‬جوّالاً‭ ‬في‭ ‬بيئات‭ ‬جديدة،‭ ‬بين‭ ‬بلدان‭ ‬البحر‭ ‬الأبيض‭ ‬المتوسط،‭ ‬وشمال‭ ‬أفريقيا،‭ ‬والخليج‭ ‬العربي‭. ‬وفي‭ ‬منحنيات‭ ‬هذا‭ ‬السفر،‭ ‬ومنافي‭ ‬هذا‭ ‬الترحال،‭ ‬بقيت‭ ‬الأسئلة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الأجوبة،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬منها‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تتعلق‭ ‬بالإنسان‭ ‬والوجود‭ ‬والمصائر‭ ‬الكبرى‭.‬

ولعلّ‭ ‬صورة‭ ‬‮«‬اليشن‮»‬‭ ‬ومضمونها،‭ ‬أي‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬الميتة،‭ ‬أو‭ ‬التي‭ ‬يحكمها‭ ‬الجنّ‭ ‬أو‭ ‬الرجال‭ ‬الصالحون،‭ ‬هي‭ ‬المَخْبَر‭ ‬المفضل‭ ‬لديه‭ ‬في‭ ‬كشوفاته‭ ‬الأدبية،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬صعد‭ ‬بها،‭ ‬من‭ ‬الواقع‭ ‬العادي،‭ ‬إلى‭ ‬مستوى‭ ‬الرمز‭ ‬والمثال‭. ‬وبعبارة‭ ‬أدق‭ ‬فإن‭ ‬اللامي،‭ ‬لكي‭ ‬يقدم‭ ‬أجوبة‭ ‬حتى‭ ‬ولو‭ ‬كانت‭ ‬غير‭ ‬نهائية،‭ ‬وهي‭ ‬كذلك‭ ‬فعلاً،‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬لنفسه،‭ ‬حيال‭ ‬تلك‭ ‬الأسئلة‭ ‬الوجودية‭ ‬الضخمة،‭ ‬جعل‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬‮«‬اليشن‮»‬‭ ‬السومرية،‭ ‬وهي‭ ‬قرْيات‭ ‬مندرسة،‭ ‬تحت‭ ‬تلال‭ ‬وتِربانِ‭ ‬الأهوار‭ ‬والبوادي‭ ‬الشرقية‭ ‬العراقية،‭ ‬مدناً‭ ‬جديدة‭ ‬عرجت‭ ‬به،‭ ‬وسرى‭ ‬هو‭ ‬معها،‭ ‬لتكون‭ ‬رموزاً‭. ‬قال‭ ‬لي‭ ‬مرة‭ ‬‮«‬عملي‭ ‬هو‭ ‬صناعة‭ ‬مدن‭ ‬حرّة،‭ ‬يبنيها‭ ‬مواطنون‭ ‬أحرار‮»‬‭.‬

هذه‭ ‬المدن‭ ‬الحرّة،‭ ‬وجدناها‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬مجموعة‭ ‬‮«‬من‭ ‬قتل‭ ‬حكمة‭ ‬الشامي‮»‬‭ ‬في‭ ‬قصة‭ ‬‭(‬اليشن‭ ‬ـ‭ ‬يوم‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬مدينتنا‭ ‬المنسيّة‭)‬،‭ ‬ثم‭ ‬عبّرت‭ ‬عن‭ ‬نفسها‭ ‬بوضوح‭ ‬في‭ ‬مجموعته‭ ‬القصصية‭ ‬الثانية‭ ‬‮«‬اليشن‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬مجموعته‭ ‬الثالثة‭ ‬‮«‬الثلاثيات‮»‬‭ ‬دولاً‭ ‬ذات‭ ‬بنى‭ ‬سياسية‭ ‬وتشريعية‭ ‬وقضائية‭ ‬وأمنية،‭ ‬يتسلط‭ ‬عليها‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬أبنائها،‭ ‬أو‭ ‬تقع‭ ‬تحت‭ ‬هيمنة‭ ‬قوة‭ ‬خارجية‭.‬

أما‭ ‬في‭ ‬روايتيه‭ ‬المتتاليتين‭ ‬‮«‬مجنون‭ ‬زينب‮»‬‭ ‬و‮»‬عيون‭ ‬زينب‮»‬‭ ‬فأخذت‭ ‬حالات‭ ‬‮«‬اليشن‮»‬‭ ‬صورة‭ ‬أخرى‭: ‬إنها‭ ‬تنتظر‭ ‬يوم‭ ‬الخلاص‭ ‬الموعود‭. ‬يوم‭ ‬الحرية‭ ‬والكرامة‭ ‬الوطنية،‭ ‬يوم‭ ‬يتحقق‭ ‬للإنسان،‭ ‬للمواطن‭ ‬اليشيني،‭ ‬حقه‭ ‬في‭ ‬اختيار‭ ‬نمط‭ ‬حياته‭ ‬كما‭ ‬يشاء‭. ‬وهكذا‭ ‬عادت‭ ‬هذه‭ ‬القريات‭ ‬لتكون‭ ‬‮«‬أسطورة‮»‬‭ ‬جمعة‭ ‬اللامي‭ ‬اعتباراً‭ ‬من‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭.‬

من‭ ‬هنا‭ ‬كانت‭ ‬بداية‭ ‬حوارنا‭ ‬الذي‭ ‬امتد‭ ‬أشهراً،‭ ‬فصار‭ ‬هذا‭ ‬الذي‭ ‬بين‭ ‬أيديكم،‭ ‬الآن،‭ ‬بأبوابه‭ ‬ونوافذه‭ ‬الواسعة،‭ ‬بعضاً‭ ‬منه‭.‬

قلم‭ ‬التحرير

الجديد‭: ‬متى‭ ‬بدأت‭ ‬سارداً،‭ ‬أَعني‭ ‬متى‭ ‬اكتشفت‭ ‬نفسك‭ ‬كاتباً‭ ‬قصصياً،‭ ‬على‭ ‬وفق‭ ‬ما‭ ‬سجلته‭ ‬في‭ ‬كتبك؟

اللامي‭: ‬في‭ ‬السجن‭ ‬صرتُ‭ ‬كاتباً‭ ‬محترفاً‭. ‬وقبل‭ ‬السجن،‭ ‬في‭ ‬صباي‭ ‬وفتوّتي،‭ ‬كنت‭ ‬أقرأ‭ ‬كثيراً،‭ ‬وأُدوّن‭ ‬قليلاً‭. ‬في‭ ‬البدء،‭ ‬كنت‭ ‬أكتب‭ ‬رسائل‭ ‬إلى‭ ‬نفسي،‭ ‬وأُخرى‭ ‬إلى‭ ‬أقربائنا‭ ‬البعيدين‭ ‬والمهاجرين،‭ ‬وثالثة‭ ‬أُسجل‭ ‬الأحلاف‭ ‬بين‭ ‬العشائر،‭ ‬ورابعة‭ ‬كنت‭ ‬أرسم‭ ‬خطوطاً‭ ‬في‭ ‬درس‭ ‬‮«‬التربية‭ ‬الفنية‮»‬‭. ‬أَما‭ ‬في‭ ‬السجن‭ ‬فقد‭ ‬كنت سارداً‭: ‬استمرت‭ ‬قراءاتي‭ ‬الكثيرة‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬العالمي‭ ‬والثقافات‭ ‬الإنسانية،‭ ‬واستمرت‭ ‬أيضا‭ ‬كتاباتي‭ ‬‮«‬النادرة‮»‬،‭ ‬إن‭ ‬صحَّ‭ ‬التعبير،‭ ‬و‮»‬النادر‮»‬‭ ‬هذا‭ ‬في‭ ‬أغلبه،‭ ‬كان‭ ‬رسائل‭ ‬إلى‭ ‬والدي‭ ‬ووالدتي،‭ ‬وقصصا‭ ‬قليلة‭ ‬تضمنها‭ ‬كتابي‭ ‬المفقود‭ ‬‮«‬المسيح‭ ‬والجراد‮»‬‭.

في‭ ‬السجن‭ ‬صرتُ‭ ‬كاتباً‭ ‬محترفاً‭. ‬وقبل‭ ‬السجن،‭ ‬في‭ ‬صباي‭ ‬وفتوّتي،‭ ‬كنت‭ ‬أقرأ‭ ‬كثيراً،‭ ‬وأُدوّن‭ ‬قليلاً‭. ‬في‭ ‬البدء،‭ ‬كنت‭ ‬أكتب‭ ‬رسائل‭ ‬إلى‭ ‬نفسي،‭ ‬وأُخرى‭ ‬إلى‭ ‬أقربائنا‭ ‬البعيدين‭ ‬والمهاجرين،‭ ‬وثالثة‭ ‬أُسجل‭ ‬الأحلاف‭ ‬بين‭ ‬العشائر

الأجناس‭ ‬والحدود

الجديد‭:‬‮ ‬تتجاوز‭ ‬كتابتك‭ ‬حدود‭ ‬التصنيف‭ ‬بين‭ ‬الأنواع‭ ‬الأدبية،‭ ‬حيث‭ ‬يختلط‭ ‬السرد‭ ‬بالشعر‭ ‬بالتقرير‭ ‬الصحافي،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬الدكتور‭ ‬محسن‭ ‬الموسوي،سمّاك‭ ‬‮«‬هادم‭ ‬الحدود‭ ‬بين‭ ‬الأجناس‮»‬،‭ ‬كيف‭ ‬توصلت‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الصيغة؟

اللامي‭: ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬كثيرين‭ ‬اطّلعوا‭ ‬على‭ ‬مسودات‭ ‬الكتب‭ ‬التراثية‭ ‬العربية‭ ‬المحقّقة،‭ ‬ولكنني‭ ‬أشكُّ‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬كثيرين‭ ‬رأوا‭ ‬‮«‬التعويذات‮»‬‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تكتبها‭ ‬ساحرات‭ ‬عراقيات‭ ‬على‭ ‬‮«‬أختام‭ ‬أسطوانية‮»‬‭ ‬في‭ ‬‮«‬يِشِن‮»‬‭ ‬دولة‭ ‬ميسان‭ ‬التاريخية،‭ ‬بل‭ ‬إنني‭ ‬أجزم‭ ‬أن‭ ‬كثرة‭ ‬غالبة،‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬الكُتاب‭ ‬والأدباء‭ ‬والرسامين‮ ‬‭ ‬العراقيين،‭ ‬وليس‭ ‬العرب‭ ‬فقط،‭ ‬توقفوا‭ ‬ـ‭ ‬تأملاً‭ ‬وبصريّاـ‭ ‬عند‭ ‬‮«‬الأُخذة‭ ‬‮«‬‭ ‬السومرية‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬البشرية،‭ ‬وهي‭ ‬‮«‬تعويذة‮»‬‭ ‬عراقية،‭ ‬على‭ ‬هيئة‭ ‬‮«‬صحيفة‭ ‬سحر‮»‬‭ ‬رافدينية،‭ ‬كتبها‭ ‬رسما‭ ‬‮«‬ساحر‮»‬‭ ‬بحق‭ ‬امرأة‭ ‬عراقية‭.‬

في‭ ‬هذه‭ ‬النصوص،‭ ‬التي‭ ‬أسميها‭ ‬أنا‭: ‬سرداً‭ ‬بَصَريّاً،‭ ‬تتداخل‭ ‬أنواع‭ ‬الكتابة‭ ‬كلها،‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬استطعنا‭ ‬إحصاءها‭. ‬وأرغب‭ ‬–هنا‭-‬في‭ ‬ذكر‭ ‬هذه‭ ‬الحكاية‭ ‬بين‭ ‬يديك‭: ‬كان‭ ‬والدي‭ ‬يُلزمني‭ ‬بالكتابة‭ ‬إلى‭ ‬أحد‭ ‬أبناء‭ ‬عمّاتي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يشتغل‭ ‬بمدينة‭ ‬الكويت‭ ‬قبل‭ ‬نهاية‭ ‬العقد‭ ‬الخامس‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭. ‬وكان‭ ‬الوالد‭ ‬يقول‭ ‬لي‭ ‬‮«‬أكتب‭ ‬إليه‭ ‬إن‭ ‬قلبي‭ ‬مثقوب‭ ‬لشدة‭ ‬شوقي‭ ‬إليه‮»‬‭. ‬ولم‭ ‬أجد‭ ‬وسيلة‭ ‬لترجمة‭ ‬عواطف‭ ‬والدي‭ ‬وأَشواقه‭ ‬حيال‭ ‬ابن‭ ‬أخته،‭ ‬سوى‭ ‬أنني‭ ‬قمت‭ ‬بإشعال‭ ‬عود‭ ‬حطب‭ ‬من‭ ‬موقد‭ ‬النار‭ ‬في‭ ‬موقد‭ ‬منزلنا،‭ ‬وأحرقت‭ ‬الرسالة‭ ‬من‭ ‬زواياها‭ ‬الأربع،‭ ‬ومررت‭ ‬بالنار‭ ‬على‭ ‬أديم‭ ‬صفحة‭ ‬الرسالة‭ ‬بين‭ ‬السطور‭ ‬أحيانا،‭ ‬فظهرت‭ ‬أمامي‭ ‬صفحة‭ ‬جديدة‭ ‬تماماً،‭ ‬ورسالة‭ ‬شخصية‭ ‬لم‭ ‬يجرّب‭ ‬كتابتها‭ ‬غيري‭.‬

من‭ ‬هنا،‭ ‬كان‭ ‬عثوري‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الشكل‭ ‬‮«‬الصوري‮»‬‭ ‬للكتابة‭ ‬السردية‭ ‬في‭ ‬أعمالي‭ ‬الأولى‭. ‬وعندما‭ ‬نشرت‭ ‬‮«‬لوحات‮»‬‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬النصوص‭ ‬بجريدة‭ ‬‮«‬النهار‮»‬‭ ‬اللبنانية‭ ‬سنة‭ ‬1970،‭ ‬اعتبرها‭ ‬الشاعر‭ ‬والكاتب‭ ‬عصام‭ ‬محفوظ،‭ ‬الكتابة‭ ‬‮«‬الصورية‭ ‬الأولى‭ ‬عالمياً‮»‬‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬القصة‭ ‬البصرية،‭ ‬ولا‭ ‬يناظرها‭ ‬إلا‭ ‬كتابة‭ ‬غيوم‭ ‬أبولينير‭ ‬في‭ ‬فرنسا،‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬الكتابة‭ ‬الشعرية‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الناقد‭ ‬محمد‭ ‬دكروب،‭ ‬اعتبرها‭ ‬أحد‭ ‬‮«‬‭ ‬أشكال‭ ‬جمعة‭ ‬اللامي‭ ‬المدهشة‮»‬‭ ‬في‭ ‬مقال‭ ‬له‭ ‬بمجلة‭ ‬الآداب‭ ‬اللبنانية‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬السنة‭ ‬أيضا‭.‬

‮ ‬وبعد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أربعة‭ ‬عقود‭ ‬تقريباً‭ ‬على‭ ‬تشخيص‭ ‬عصام‭ ‬محفوظ‭ ‬ومحمد‭ ‬دكروب،‭ ‬نشر‭ ‬الناقد‭ ‬العراقي‭ ‬فاضل‭ ‬تامر،‭ ‬مقالاً‭ ‬رصيناً‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬نزوى‮»‬‭ ‬العمانية،‭ ‬قال‭ ‬فيه‭ ‬ما‭ ‬مضمونه‭ ‬‮«‬إن‭ ‬جمعة‭ ‬اللامي،‭ ‬سبقنا‭ ‬إلى‭ ‬كتابة‭ ‬نصوص‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة‮»‬،‭ ‬وهذا‭ ‬رأي‭ ‬يُعتدُّ‭ ‬به،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬جاء‭ ‬متأخراً،‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬رداً‭ ‬على‭ ‬ادعاءات‭ ‬عديدة،‭ ‬عراقية‭ ‬وعربية،‭ ‬بأن‭ ‬أصحابها‭ ‬كانوا‭ ‬روّاداً‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬البصرية‮»‬‭.‬

أسبقيتي‭ ‬الأدبية

الجديد‭: ‬هذا‭ ‬يدعوني‭ ‬إلى‭ ‬القول‭ ‬إنك‭ ‬كنت‭ ‬السابق‭ ‬والسبّاق‭ ‬إلى‭ ‬استخدام‭ ‬‮«‬‭ ‬تقنية‭ ‬الهامش‮»‬‭ ‬في‭ ‬نصوصك‭ ‬السردية،‭ ‬التي‭ ‬ابتدأت‭ ‬في‭ ‬مجموعة‭ ‬‮«‬‭ ‬من‭ ‬قتل‭ ‬حكمة‭ ‬الشامي‮»‬‭.‬

اللامي‭: ‬هذا‭ ‬صحيح‭ ‬تماماً،‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظري‭ ‬أيضا‭. ‬إنني‭ ‬أدعو‭ ‬إلى‭ ‬عودة‭ ‬إلى‭ ‬تواريخ‭ ‬نصوصي‭ ‬المنشورة‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬خارجه،‭ ‬وإلى‭ ‬تواريخ‭ ‬تلك‭ ‬النّصوص‭ ‬العراقية‭ ‬والعربية،‭ ‬التي‭ ‬استخدم‭ ‬أصحابها‭ ‬تلك‭ ‬التقنية،‭ ‬أو‭ ‬الذين‭ ‬كتبوا‭ ‬‮«‬بيانات‭ ‬ريادة‮»‬‭ ‬بصددها‭.‬

‮ ‬مدن‭ ‬جديدة

الجديد‭:‬‮ ‬تتذكر‭ ‬ميسان‭ ‬دائما‭ ‬منذ‭ ‬كتاباتك‭ ‬الأولى،‭ ‬وتذهب‭ ‬إلى‭ ‬طفولة‭ ‬عالم‭ ‬‭(‬ميسون،‭ ‬ميشون،‭ ‬الكرخة‭)‬‭ ‬المليء‭ ‬بالأسرار‭ ‬والأساطير‭ ‬وثقافات‭ ‬الحضارات‭ ‬الأولى‭ ‬للبشرية؟

اللامي‭: ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أعود‭ ‬إلى‭ ‬مقدمة‭ ‬كتابي‭ ‬‮«‬اليشن‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تحدثت‭ ‬باقتضاب‭ ‬عن‭ ‬‮«‬المدن‭ ‬الجديدة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬أحلم‭ ‬بها،‭ ‬وليس‭ ‬إلى‭ ‬مدننا‭ ‬‮«‬القديمة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تعني‭ ‬لديّ‭ ‬أنها‭ ‬مقابر‭ ‬ومخافر‭ ‬للشرطة‭ ‬و‮»‬رجال‭ ‬البريد‭ ‬‮«‬‭. ‬ولعل‭ ‬نموذج‭ ‬مدينة‭ ‬بغداد‭ ‬أو‭ ‬‮«‬دار‭ ‬السلام‮»‬‭ ‬هو‭ ‬الأفضل‭ ‬عندي،‭ ‬فهذه‭ ‬المدينة‭ ‬قامت‭ ‬على‭ ‬مقبرة،‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬شاخصة‭ ‬إلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا،‭ ‬فهناك‭ ‬يوجد‭ ‬قبر‭ ‬‮«‬الخيزران‭ ‬بنت‭ ‬عطاء‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬تحول‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬مدينة‭-‬مقبرة‮»‬،‭ ‬ضمت‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬قبر‭ ‬الإمام‭ ‬أبي‭ ‬حنيفة‭ ‬النعمان‭ ‬وعدداً‭ ‬من‭ ‬فقهاء‭ ‬العراق‭ ‬وأعلامه‭. ‬و‮»‬الخيزران‭ ‬هي‭ ‬زوج‭ ‬الخليفة المهدي‭ ‬ووالدة‭ ‬الخليفة الهاديوالخليفة هارون‭ ‬الرشيد‭ ‬والتي‭ ‬توفيت‭ ‬ودفنت‭ ‬فيها‭ ‬عام‮ ‬173‭ ‬هجرية‭.‬

لعل‭ ‬نموذج‭ ‬مدينة‭ ‬بغداد‭ ‬أو‭ ‬‮«‬دار‭ ‬السلام‮»‬‭ ‬هو‭ ‬الأفضل‭ ‬عندي،‭ ‬فهذه‭ ‬المدينة‭ ‬قامت‭ ‬على‭ ‬مقبرة،‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬شاخصة‭ ‬إلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا،‭ ‬فهناك‭ ‬يوجد‭ ‬قبر‭ ‬‮«‬الخيزران‭ ‬بنت‭ ‬عطاء‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬تحول‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬مدينة‭-‬مقبرة‮»‬،‭ ‬ضمت‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬قبر‭ ‬الإمام‭ ‬أبي‭ ‬حنيفة‭ ‬النعمان‭

وبعد‭ ‬هذا‭ ‬الكيان‭ ‬الجغرافي‭-‬الديموغرافي‭-‬المعماري،‭ ‬حوّل‭ ‬العثمانيون‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬خمسة‭ ‬قرون،‭ ‬مدينة‭ ‬بغداد،‭ ‬وما‭ ‬عُرف‭ ‬بالعراق‭ ‬بعد‭ ‬ذلك،‭ ‬إلى‭ ‬مخفر‭ ‬واسع،‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬النهب‭ ‬والسلب‭ ‬والعنصرية‭ ‬والتخلف‭ ‬والطائفية‭. ‬وعندما‭ ‬أعادت‭ ‬الكولونيالية‭ ‬البريطانية،‭ ‬صياغة‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬عند‭ ‬احتلالها‭ ‬العراق‭ ‬في‭ ‬سنة‭ ‬1914،‭ ‬كان‭ ‬ثمة‭ ‬المدينة‭ ‬التي‭ ‬تلبي‭ ‬الاحتياجات‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬للإمبراطورية‭ ‬البريطانية،‭ ‬مع‭ ‬ترك‭ ‬هامش‭ ‬معلوم‭ ‬تتحرك‭ ‬بين‭ ‬جنباته‭ ‬‮«‬فئة‮»‬‭ ‬أهلية‭ ‬جديدة‭ ‬ارتبطت‭ ‬مصالحها‭ ‬بمصالح‭ ‬بريطانيا‭ ‬العظمى‭.‬

أما‭ ‬المدن‭ ‬التي‭ ‬تطرحها‭ ‬كتبي،‭ ‬كنقيض‭ ‬للتصور‭ ‬والبناء‭ ‬العسكري‭ ‬والفاسد‭ ‬والمتخلّف‭ ‬للمدن،‭ ‬فهو‭ ‬إعادة‭ ‬إنهاض‭ ‬‮«‬يشن‮»‬‭ ‬بلاد‭ ‬الرافدين،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬شخصياتها‭ ‬التاريخية‭ ‬والعرفانية‭ ‬التي‭ ‬يكون‭ ‬مصيرها‭ ‬الاستشهاد‭ ‬أو‭ ‬التواري‭ ‬عن‭ ‬الأنظار،‭ ‬ارتباطاً‭ ‬بفكرة‭ ‬‮«‬المخلص‭ ‬الموعود‮»‬‭ ‬كما‭ ‬تجلى‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬كتابي‭ ‬‮«‬اليشن‮»‬‭ ‬و‮»‬الثلاثيات‮»‬‭ ‬ثم‭ ‬في‭ ‬‮«‬مجنون‭ ‬زينب‮»‬‭ ‬و‮»‬عيون‭ ‬زينب‮»‬‭. ‬هنا‭ ‬تريد‭ ‬نصوصي‭ ‬أن‭ ‬تقول‭ ‬إن‭ ‬مدننا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬مثامات‭ ‬لمواطنيها‭ ‬الأحرار،‭ ‬وليس‭ ‬سجوناً‭ ‬وتكايا‭ ‬لرعايا‭ ‬تحت‭ ‬هيمنة‭ ‬حماة‭ ‬أجانب،‭ ‬أو‭ ‬يسيطر‭ ‬عليهم‭ ‬وكلاء‭ ‬‮«‬أهليون‮»‬‭ ‬لأجانب‭. ‬المدن‭ ‬التي‭ ‬في‭ ‬كتبي،‭ ‬هي‭ ‬مثابات‭ ‬الحلم‭ ‬البشري،‭ ‬حيث‭ ‬الحرية‭ ‬والجمال‭.‬

المبدع‭ ‬طفل

الجديد‭:‬‮ ‬لكن‭ ‬ألا‭ ‬تعتقد‭ ‬أن‭ ‬التقاطع‭ ‬مع‭ ‬الطفولة‭ ‬قد‭ ‬يجلب‭ ‬وضعا‭ ‬مقلقا‭. ‬وهذا‭ ‬القلق‭ ‬هو‭ ‬محرك‭ ‬لتنشيط‭ ‬الذهن‭ ‬الإبداعي،‭ ‬القلق‭ ‬الإيجابي‭ ‬على‭ ‬التعبير‭ ‬مثلا؟

اللامي‭: ‬يقال،أحيانا،‭ ‬إن‭ ‬الفنان‭ ‬المبدع‭ ‬طفل‭ ‬كبير‭. ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬ثمة‭ ‬أطفال‭ ‬يعانون‭ ‬قلقا‭ ‬ضمن‭ ‬منحنيات‭ ‬طفولتهم،‭ ‬فإن‭ ‬قلق‭ ‬الفنان‭ ‬المبدع‭ ‬يعطي‭ ‬إلى‭ ‬قلق‭ ‬الطفولة‭ ‬بعداً‭ ‬وجوديا‭ ‬مضافاً،‭ ‬هنا‭ ‬يتحول‭ ‬الفنان‭ ‬ليس‭ ‬إلى‭ ‬جراب‭ ‬مليء‭ ‬بالذكريات،‭ ‬وإنما‭ ‬إلى‭ ‬حالة‭ ‬متقدمة‭ ‬من‭ ‬الوعي‭ ‬الوجودي‭.‬

‮ ‬المسكونون‭ ‬بالتاريخ

الجديد‭:‬‮ ‬هنا‭ ‬منعطفات،‭ ‬منعطفات‭ ‬في‭ ‬الفن‭ ‬والموضوع‭.. ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬الامتداد‭ ‬التراجيدي‭ ‬النشط‭ ‬لشخصيات‭ ‬نصوصك‭ ‬القصصية‭ ‬والروائية،‭ ‬المتداخلين‭ ‬والمتشابكين‭ ‬بأحداث‭ ‬ومقولات،‭ ‬كثير‭ ‬منها‭ ‬تاريخي‭. ‬فهل‭ ‬جمعة‭ ‬اللامي‭ ‬مسروق‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬بفعل‭ ‬سحر‭ ‬ما،‭ ‬أم‭ ‬أن‭ ‬شيئا‭ ‬آخر‭ ‬وراء‭ ‬ذلك؟

اللامي‭: ‬أبطال‭ ‬قصصي‭ ‬يسكنهم‭ ‬التاريخ،‭ ‬أو‭ ‬إنهم‭ ‬مقذوفون‭ ‬في‭ ‬أحداث‭ ‬تاريخية‭ ‬في‭ ‬الماضي‭ ‬البعيد‭ ‬وفي‭ ‬الماضي‭ ‬القريب‭ ‬أيضا،‭ ‬إذا‭ ‬جاز‭ ‬لي‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬القول‭. ‬وكما‭ ‬تعرف،‭ ‬فإن‭ ‬اهتمامي‭ ‬بالتاريخ‭ ‬والتراث‭ ‬في‭ ‬أعمالي‭ ‬القصصية،‭ ‬مرده‭ ‬إلى‭ ‬أنني‭ ‬أجد‭ ‬خصوصية‭ ‬العراقي‭ ‬في‭ ‬تاريخه‭ ‬المتنوع‭. ‬حدث،‭ ‬مرةً،‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬مشاركاً‭ ‬في‭ ‬ندوة‭ ‬حوار‭ ‬ثقافي،‭ ‬نظمه‭ ‬صديقنا‭ ‬الراحل‭ ‬محمد‭ ‬الجزائري،‭ ‬لصالح‭ ‬ملحق‭ ‬جريدة‭ ‬‮«‬الجمهورية‮»‬‭ ‬البغدادية،‭ ‬في‭ ‬سنة‭ ‬1977،‭ ‬حول‭ ‬مكونات‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬بـ‮»‬الثقافة‭ ‬الوطنية‭ ‬العراقية‮»‬‭ ‬أشرت‭ ‬فيه‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬التنوع‭ ‬العراقي‮»‬‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الديموغرافي‭ ‬و‮»‬الحقيقة‭ ‬العراقية‭ ‬‮«‬‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬الحضاري‭.. ‬كان‭ ‬طرحي‭ ‬صادماً‭ ‬حتى‭ ‬للراحل‭ ‬غالب‭ ‬هلسا،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬مؤيداً،‭ ‬في‭ ‬حينه‭ ‬للثقافة‭ ‬الأيديولوجية،‭ ‬ورديفها‭ ‬القومي‭ ‬‮«‬المُتَياسِر‮»‬‭.‬

إن‭ ‬شخصية‭ ‬‮«‬ميثم‭ ‬الثمار‮»‬‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬أولى‭ ‬اكتشافاتي‭ ‬للشخصيات‭ ‬العرفانية‭ ‬القلقة‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬الإسلامي،‭ ‬بعد‭ ‬أبي‭ ‬ذر‭ ‬والمقداد‭ ‬وعلي‭ ‬ومحمد،‭ ‬فارسية‭ ‬تعربت‭ ‬بالكوفة،‭ ‬ومثلها‭ ‬شخصية‭ ‬الحلاج‭ ‬الحسين‭ ‬بن‭ ‬منصور،‭ ‬وآحاد‭ ‬أخرى،‭ ‬عراقية‭ ‬في‭ ‬السكنى،‭ ‬ستجد‭ ‬مثيلات‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬أعمالي‭ ‬القصصية‭ ‬والروائية‭. ‬ولقد‭ ‬أدى‭ ‬هذا‭ ‬إلى‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬العداء‭ ‬والحنق‭ ‬من‭ ‬الموظفين‭ ‬الرسميين‭ ‬للثقافة‭ ‬الشمولية،‭ ‬بل‭ ‬قل‭ ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬دفع‭ ‬بي‭ ‬لأَقترب‭ ‬من‭ ‬‮«‬القتل‮»‬‭ ‬على‭ ‬أيدي‭ ‬‮«‬المنظمة‭ ‬الإرهابية‮»‬،‭ ‬وكذلك‭ ‬‮«‬الموت‭ ‬المعنوي‮»‬‭ ‬على‭ ‬أيدي‭ ‬دهاقنة‭ ‬‮«‬الثقافة‭ ‬الشمولية‮»‬‭. ‬ولكن،‭ ‬أنظر‭ ‬ماذا‭ ‬جرى‭ ‬بعد‭ ‬ذلك؟‭ ‬في‭ ‬العراق،‭ ‬الآن،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬بلدان‭ ‬عربية‭ ‬أخرى،‭ ‬أصوات‭ ‬تنادي‭ ‬بالتنوع‭ ‬الثقافي،‭ ‬بل‭ ‬وتسير‭ ‬أشواطاً‭ ‬بعيدة‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬‮«‬التماهي‮»‬‭ ‬مع‭ ‬دعوات‭ ‬وبرامج‭ ‬ثقافية‭ ‬إلغائية،‭ ‬وإن‭ ‬تزيَّت‭ ‬بزيّ‭ ‬التنوع‭ ‬والغفران‭ ‬وعدم‭ ‬محو‭ ‬ثقافة‭ ‬‮«‬الآخر‮»‬‭ ‬وشخصيته‭ ‬الوطنية‭.‬

المقامة‭ ‬اللامية

الجديد‭:‬‮ ‬لقد‭ ‬أسستَ‭ ‬مدنا،‭ ‬ورسمت‭ ‬شخصيات‭ ‬عربية‭ ‬وإسلامية،‭ ‬امتدت‭ ‬في‭ ‬‮«‬من‭ ‬قتل‭ ‬حكمة‭ ‬الشامي؟‮»‬‭ ‬و‮»‬اليشن‮»‬‭ ‬و‮»‬الثلاثيات‮»‬،‭ ‬وكذلك‭ ‬في‭ ‬رواية‮»‬المقامة‭ ‬اللامية‮»‬‭ ‬في‭ ‬جزئها‭ ‬الأول‭ ‬‮«‬أحمد‭ ‬العبدالله‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬قمت‭ ‬بإعادة‭ ‬تشكيل‭ ‬الحياة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬بعد‭ ‬موت‭ ‬‮«‬أحمد‭ ‬العبدالله‮»‬‭ ‬وانشقاق‭ ‬مدينة‭ ‬‮«‬ا‭ ‬ل‭ ‬م‮»‬‭ ‬على‭ ‬نفسها‭.‬

اللامي‭:‬‮ ‬بدأت‭ ‬أكتب‭ ‬‮«‬المقامة‭ ‬اللامية‮»‬،‭ ‬في‭ ‬نسختها‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬صيف‭ ‬سنة‭ ‬1977،‭ ‬حيث‭ ‬رفعت‭ ‬الدكتاتورية‭ ‬رقبتها‭ ‬مثل‭ ‬وحش‭ ‬كاسر،‭ ‬بعد‭ ‬المضي‭ ‬قدماً‭ ‬في‭ ‬الاعتداء‭ ‬على‭ ‬التاريخ‭ ‬العراقي،‭ ‬والقيام‭ ‬بعدد‭ ‬من‭ ‬الاختبارات‭ ‬في‭ ‬‮«‬تأميم‮»‬‭ ‬الثقافة‭ ‬العراقية‭ ‬على‭ ‬وفق‭ ‬نظرة‭ ‬فريق‭ ‬سياسي‭ ‬واحد‭. ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬يعني‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الاحتراب‭ ‬الداخلي‭ ‬وتصفية‭ ‬الآخر‭ ‬المعارض،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬الرديف‭ ‬الحليف‭. ‬لذلك‭ ‬عدت‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬معركة‭ ‬صفين‮»‬‭ ‬التاريخية‭ ‬والانشقاق‭ ‬الإسلامي‭ ‬في‭ ‬حينه،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬شخصية‭ ‬‮«‬أحمد‭ ‬العبدالله‮»‬‭ ‬وأولاده،‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬شخصية‭ ‬‮«‬الجنرال‮»‬‭ ‬وعائلته،‭ ‬التي‭ ‬سيطرت‭ ‬على‭ ‬مدينة‭ ‬‮«‬ا‭ ‬ل‭ ‬م‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬استوحيتها‭ ‬من‭ ‬النص‭ ‬القرآني‭ ‬الشريف‭. ‬هذا‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬المضمون‭.‬

أما‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الشكل،‭ ‬فقد‭ ‬لجأت‭ ‬إلى‭ ‬تقنية‭ ‬‮«‬تيار‭ ‬الوعي‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬حاولت‭ ‬أن‭ ‬أُقيم‭ ‬زمناً‭ ‬سردياً‭ ‬متصلاً،‭ ‬بين‭ ‬واقعة‭ ‬صفّين،‭ ‬والواقع‭ ‬العراقي‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬بظهور‭ ‬الانقلابات‭ ‬العسكرية،‭ ‬وبروز‭ ‬شخصية‭ ‬‮«‬الفرد‮»‬‭ ‬القروي،‭ ‬الذي‭ ‬يحوّل‭ ‬الدولة‭ ‬إلى‭ ‬إرث‭ ‬عائلي،‭ ‬ويتصرف‭ ‬بمقدرات‭ ‬الشعب،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يلهو‭ ‬الحكام‭ ‬العباسيون‭ ‬بمقدّرات‭ ‬العراقيين،‭ ‬في‭ ‬ساعات‭ ‬سكرهم‭.‬

إن‭ ‬‮«‬ا‭ ‬ل‭ ‬م‮»‬‭ ‬هي‭ ‬الرديف‭ ‬‮«‬اللامي‮»‬‭ ‬لتقنية‭ ‬‮«‬الحروف‭ ‬المقطعة‮»‬‭ ‬في‭ ‬المصحف‭ ‬الإسلامي‭. ‬ويبدو‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬تجربتي‭ ‬هذه،‭ ‬هي‭ ‬الأولى‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬المنوال،‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬السرد‭ ‬العربي،‭ ‬التي‭ ‬ستكرّر‭ ‬نفسها،‭ ‬بوضوح‭ ‬تام‭ ‬وجليّ،‭ ‬في‭ ‬روايتي‭ ‬‮«‬عيون‭ ‬زينب‮»‬‭.‬

أسطورة‭ ‬الكاتب

الجديد‭: ‬كأنك‭ ‬أعدت‭ ‬كتابة‭ ‬‮«‬حكاية‭ ‬ما‮»‬‭ ‬جديدة‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬حكاية‭ ‬أَو‭ ‬حكايات‭ ‬قديمة،‭ ‬أو‭ ‬أنك‭ ‬قدمت‭ ‬أُسطورة‭ ‬قديمة‭ ‬برؤية‭ ‬جديدة؟

اللامي‭: ‬أنا‭ ‬كتبت‭ ‬أُسطورتي‭ ‬الخاصة،‭ ‬صديقي‭ ‬العزيز‭ ‬شاكر‭.‬

الجديد‭: ‬أُسطورتك‭ ‬الخاصة؟

اللامي‭: ‬نعم،‭ ‬ولمَ‭ ‬لا؟

سأتحدث‭ ‬عن‭ ‬علاقتي‭ ‬وتجربتي‭ ‬بهذا‭ ‬المسالة،‭ ‬أي‭ ‬ما‭ ‬نسمّيه‭ ‬الأساطير‭ ‬العراقية،‭ ‬لأنها‭ ‬فضاء‭ ‬واسع‭ ‬جداً‭. ‬لنقل‭ ‬هنا‭ ‬إن‭ ‬الأُسطورة‭ ‬كانت،‭ ‬ربما،‭ ‬الحالة‭ ‬الطاهرة‭ ‬التي‭ ‬مثلت‭ ‬طوراً،‭ ‬أو‭ ‬أطواراً،‭ ‬من‭ ‬أحلام‭ ‬البشرية،‭ ‬نحو‭ ‬الكمال‭ ‬والعدالة‭ ‬والكرامة،‭ ‬ولذلك‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬أبطالها،‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬قوى‭ ‬الشر‭ ‬والعبودية‭. ‬ومن‭ ‬الواضح‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الوضع‭ ‬قد‭ ‬تمَّ‭ ‬بينما‭ ‬كانت‭ ‬المجتمعات‭ ‬الإنسانية،‭ ‬تنقسم‭ ‬إلى‭ ‬سادة‭ ‬وعبيد،‭ ‬أَخيار‭ ‬وشريرين،‭ ‬بيض‭ ‬وسود،عرب‭ ‬وأعاجم،‭.. ‬وهكذا‭. ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬يقتضي‭ ‬‮«‬اختراع‮»‬‭ ‬أبطال‭ ‬منتصرين‭ ‬دائما،‭ ‬أو‭ ‬يقدمون‭ ‬حياتهم‭ ‬فداءً‭ ‬للحلم‭ ‬البشري‭. ‬التاريخ‭ ‬العراقي،‭ ‬زاخر‭ ‬بمثل‭ ‬هذه‭ ‬الشخصيات‭ ‬التي‭ ‬أَطّرها‭ ‬شعراء‭ ‬الملاحم،‭ ‬لأنه‭ ‬الجغرافيا‭ ‬التي‭ ‬شهدت‭ ‬خمس‭ ‬حضارات‭ ‬كبرى،‭ ‬في‭ ‬واحدة‭ ‬منها،‭ ‬ربما‭ ‬هي‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬البشري،التي‭ ‬شهدت‭ ‬ميلاد‭ ‬الأبجدية‭ ‬والتدوين‭. ‬والى‭ ‬هذه‭ ‬المثابة‭ ‬العراقية،‭ ‬حطَّ‭ ‬كثيرون‭ ‬رحالهم،‭ ‬أمامنا‭ ‬الملاحم‭ ‬الأولى،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تتجه‭ ‬إلى‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬سرّ‭ ‬الخلود،‭ ‬وتمجد‭ ‬الصداقة‭ ‬والعمل‭.‬

لقد‭ ‬أَدليتُ‭ ‬بدلوي‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المضمار،‭ ‬وكنت‭ ‬أعي‭ ‬مسبقاً،‭ ‬أن‭ ‬الأبطال‭ ‬يخلدون‭ ‬بالملاحم‭ ‬الشعرية،‭ ‬أو‭ ‬‮«‬يخترعهم‮»‬‭ ‬كتاب‭ ‬الملاحم‭ ‬والسير‭. ‬وهكذا‭ ‬كتبت‭ ‬قصصي‭ ‬الأولى‭ ‬على‭ ‬وفق‭ ‬هذا‭ ‬الهمّ‭ ‬والاهتمام،‭ ‬فكان‭ ‬قصصي‭ ‬تضجّ‭ ‬بأسماء‭ ‬أُولئك‭ ‬الأبطال‭ ‬المقاتلين،‭ ‬المنتصرين،‭ ‬أَو‭ ‬القتلى‭ ‬بتلك‭ ‬الطرق‭ ‬البشعة،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬مقتل‭ ‬الحلاج‭ ‬والحسين‭ ‬وعلي‭ ‬وعمر‭ ‬وميثم‭ ‬التمار،‭ ‬مقرونة‭ ‬بالشعر‭ ‬الشعبي،‭ ‬والأغاني‭ ‬الشعبية،‭ ‬في‭ ‬الآداب‭ ‬العربية‭ ‬والإسلامية‭ ‬والعالمية‭.

المدن‭ ‬التي‭ ‬تطرحها‭ ‬كتبي،‭ ‬كنقيض‭ ‬للتصور‭ ‬والبناء‭ ‬العسكري‭ ‬والفاسد‭ ‬والمتخلّف‭ ‬للمدن،‭ ‬فهو‭ ‬إعادة‭ ‬إنهاض‭ ‬‮«‬يشن‮»‬‭ ‬بلاد‭ ‬الرافدين،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬شخصياتها‭ ‬التاريخية‭ ‬والعرفانية‭ ‬التي‭ ‬يكون‭ ‬مصيرها‭ ‬الاستشهاد‭ ‬أو‭ ‬التواري‭ ‬عن‭ ‬الأنظار

شعر‭ ‬وسرد

الجديد‭: ‬انطلقت‭ ‬بالقصة‭ ‬القصيرة‭ ‬ولم‭ ‬تنطلق‭ ‬بالرواية،‭ ‬حتى‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يعترف‭ ‬مشهدنا‭ ‬الثقافي‭ ‬على‭ ‬بورخيس‭. ‬ما‭ ‬هو‭ ‬السبب،‭ ‬هل‭ ‬هو‭ ‬الخوف‭ ‬من‭ ‬خوض‭ ‬غمار‭ ‬الرواية؟

اللامي‭: ‬بدأت‭ ‬بكتابة‭ ‬الشعر‭. ‬وأول‭ ‬عمل‭ ‬قرأته‭ ‬كان‭ ‬قصيدة‭ ‬شعر‭ ‬نثر‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1964‭ ‬في‭ ‬سجن‭ ‬نقرة‭ ‬السلمان،‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬محنة‭ ‬الإنسان‭. ‬وكانت‭ ‬تلك‭ ‬مغامرة‭ ‬غير‭ ‬مرغوب‭ ‬فيها‭ ‬في‭ ‬السجن‭ ‬الذي‭ ‬أثقل‭ ‬عليّ‭ ‬بضغوطاته،‭ ‬لكنني‭ ‬عبرتها‭ ‬واستجبت‭ ‬لتحدياتها‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الشعر‭ ‬والسرد‭. ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬إلا‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬الفنية‭ ‬إجابة‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬التحدي،‭ ‬فكانت‭ ‬قصصي‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬وجدت‭ ‬لها‭ ‬هوى‭ ‬عند‭ ‬فاضل‭ ‬العزاوي‭ ‬الذي‭ ‬عمل‭ ‬محررًا‭ ‬ثقافيًا‭ ‬ومترجمًا‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬صحيفة‭ ‬عراقية،‭ ‬فتلقف‭ ‬تجاربي‭ ‬وأشاعها‭ ‬بين‭ ‬القراء‭ ‬آنذاك‭. ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬لم‭ ‬أجد‭ ‬أمامي‭ ‬سوى‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭. ‬كنت‭ ‬أدافع‭ ‬عن‭ ‬نفسي‭ ‬بوجه‭ ‬‮«‬الخط‭ ‬الواحد‮»‬‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬والحياة‭ ‬كما‭ ‬يعبّر‭ ‬عنها‭ ‬النهج‭ ‬الشمولي‭ ‬السائد‭ ‬آنذاك‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العراقية‭. ‬ولذلك‭ ‬كانت‭ ‬مجموعة‭ ‬‮«‬من‭ ‬قتل‭ ‬حكمة‭ ‬الشامي‮»‬‭ ‬مزيجاً‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬والنثر‭. ‬وكذلك‭ ‬‮«‬الليل‭ ‬في‭ ‬غرفة‭ ‬الآنسة‭ ‬ميم‮»‬‭ ‬و‮»‬اليشن‮»‬‭. ‬وكانت‭ ‬هناك‭ ‬بدايات‭ ‬السرد‭ ‬الملحمي‭ ‬أي‭ ‬الشعر‭ ‬والنثر،‭ ‬ثم‭ ‬تطورت‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭.‬

‮ ‬

الجديد‭: ‬ماذا‭ ‬تعتبر‭ ‬نفسك‭ ‬شاعرًا‭ ‬أم‭ ‬قاصًا‭ ‬أم‭ ‬روائيًا؟

اللامي‭: ‬أنا‭ ‬شاعر‭ ‬السردية‭ ‬العراقية‭. ‬أَعتبر‭ ‬نفسي‭ ‬وريث‭ ‬الجاحظ،‭ ‬وحفيد‭ ‬بلزاك‭.‬

أدب‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة

الجديد‭: ‬لقد‭ ‬اعتمدت‭ ‬في‭ ‬‮«‬الثلاثيات‮»‬‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬المنهج‭ ‬الذي‭ ‬صنعته‭ ‬في‭ ‬حياتك‭ ‬الأدبية،‭ ‬ولكنك‭ ‬كنت‭ ‬تجريبيا‭ ‬بامتياز؟

اللامي‭: ‬هذه‭ ‬المسألة‭ ‬لم‭ ‬يتم‭ ‬الانتباه‭ ‬إليها‭ ‬في‭ ‬نقدنا‭ ‬العراقي‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬السنوات‭ ‬الستينية‭ ‬والسبعينية‭ ‬وحتى‭ ‬الثمانينية‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭. ‬اطلعت‭ ‬قبل‭ ‬نحو‭ ‬سنتين‭ ‬على‭ ‬مقال‭ ‬لفاضل‭ ‬تامر‭ ‬نشره‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬نزوى‮»‬‭ ‬يقول‭ ‬فيه‭ ‬إن‭ ‬جمعة‭ ‬اللامي‭ ‬كان‭ ‬يكتب‭ ‬بمفهوم‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة‭ ‬ولم‭ ‬نكن‭ ‬منتبهين‭ ‬لذلك‭. ‬ويقول‭ ‬فيها‭ ‬إن‭ ‬جمعة‭ ‬اللامي‭ ‬نفسه‭ ‬كان‭ ‬منبهًا‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭.‬‭ ‬وكان‭ ‬فاضل‭ ‬ثامر‭ ‬سجينًا‭ ‬معنا‭ ‬في‭ ‬نقرة‭ ‬السلمان‭ ‬والحلّة،‭ ‬وكنا‭ ‬قريبين‭ ‬من‭ ‬بعضنا‭. ‬ذكّرته‭ ‬بأطروحاتي‭ ‬آنذاك‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭. ‬قلت‭ ‬له‭: ‬إنني‭ ‬لست‭ ‬ابن‭ ‬الثقافة‭ ‬العراقية‭ ‬بل‭ ‬ابن‭ ‬الثقافة‭ ‬الأوروبية‭. ‬ولذلك‭ ‬كان‭ ‬نتاجي‭ ‬منذ‭ ‬البدء‭ ‬هو‭ ‬صعود‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬السلم‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬أين‭ ‬ينتهي‭. ‬كنت‭ ‬أتوجه‭ ‬نحو‭ ‬السماء‭ ‬والأخلاق،‭ ‬وقدماي‭ ‬راسختان‭ ‬على‭ ‬الأرض‭. ‬ولهذا‭ ‬تراني‭ ‬أتجه‭ ‬إلى‭ ‬الفن‭ ‬والجمال‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أنسى‭ ‬مسؤوليتي‭ ‬الأخلاقية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬الواقع‭. ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬أخلاق‭ ‬الشاعر‭ ‬الرائي‭ ‬أو‭ ‬السارد‭ ‬الرائي‭ ‬الذي‭ ‬أزاح‭ ‬النبيّ‭ ‬عن‭ ‬مكانه‭. ‬لهذا‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬أنبياء‭ ‬بل‭ ‬يوجد‭ ‬شعراء‭ ‬وروائيون‭ ‬وسرديون‭ ‬وملحميون‭.‬

‮ ‬انتماء‭ ‬فكري

الجديد‭: ‬غالباً،‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬وخارج‭ ‬العراق،‭ ‬يتم‭ ‬النظر،‭ ‬بل‭ ‬الفرز،‭ ‬بكونك‭ ‬شيوعياً‭. ‬هل‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬صحيح؟

اللامي‭: ‬سأخبرك‭ ‬بموقفي،‭ ‬حسب‭ ‬ما‭ ‬فهمته‭ ‬من‭ ‬سؤالك،‭ ‬انتميت‭ ‬إلى‭ ‬الحزب‭ ‬الشيوعي،‭ ‬فكرياً،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬أبلغ‭ ‬سن‭ ‬الرشد‭. ‬كنت‭ ‬معجباً‭ ‬بالماركسية‭ ‬حين‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬الدراسة‭ ‬الابتدائية‭. ‬وفي‭ ‬مرحلة‭ ‬الدراسة‭ ‬المتوسطة‭ ‬تقدمت‭ ‬بطلب‭ ‬انتماء‭ ‬للحزب،‭ ‬وتمَّ‭ ‬قبولي‭ ‬بقرار‭ ‬استثنائي،‭ ‬لأنّني‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬بلغت‭ ‬سن‭ ‬الرشد‭ ‬في‭ ‬حينه‭. ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬سنة‭ ‬1959‭. ‬وبعد‭ ‬سنتين‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬التاريخ‭ ‬انتقلت‭ ‬إلى‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬‮«‬الخط‭ ‬العسكري‮»‬‭ ‬بمعسكر‭ ‬الحبانية،‭ ‬بالتزامن‭ ‬مع‭ ‬سعة‭ ‬إطلاعي‭ ‬على‭ ‬الاتجاهات‭ ‬الثقافية،‭ ‬والمدارس‭ ‬الأدبية،‭ ‬ما‭ ‬هيّأ‭ ‬لي‭ ‬زوايا‭ ‬متعددة‭ ‬لمراقبة‭ ‬وتمحيص‭ ‬ودراسة‭ ‬ومعاينة‭ ‬‮«‬الثقافة‭ ‬الرسمية‮»‬‭ ‬السائدة‭ ‬عالمياً‭ ‬في‭ ‬حينه،‭ ‬أعني‭ ‬‮«‬الثقافة‭ ‬السوفييتية‮»‬‭ ‬الرسمية،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬اصطلح‭ ‬على‭ ‬الإشارة‭ ‬إليه‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬الثقافة‭ ‬الستالينية‭. ‬هنا‭ ‬أقول‭ ‬إنني‭ ‬كنت‭ ‬على‭ ‬غير‭ ‬وفاق‭ ‬مع‭ ‬‮«‬الثقافة‭ ‬الرسمية‮»‬‭.

لجأت‭ ‬إلى‭ ‬تقنية‭ ‬‮«‬تيار‭ ‬الوعي‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬حاولت‭ ‬أن‭ ‬أُقيم‭ ‬زمناً‭ ‬سردياً‭ ‬متصلاً،‭ ‬بين‭ ‬واقعة‭ ‬صفّين،‭ ‬والواقع‭ ‬العراقي‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬بظهور‭ ‬الانقلابات‭ ‬العسكرية،‭ ‬وبروز‭ ‬شخصية‭ ‬‮«‬الفرد‮»‬‭ ‬القروي،‭ ‬الذي‭ ‬يحوّل‭ ‬الدولة‭ ‬إلى‭ ‬إرث‭ ‬عائلي

وداع‭ ‬مشرف

الجديد‭: ‬الثقافة‭ ‬الستالينية‭ ‬التي‭ ‬طالما‭ ‬ترددت‭ ‬في‭ ‬قصصك‭ ‬وكتاباتك‭ ‬الأدبية‭ ‬والثقافية‭ ‬والفكرية‭.‬

اللامي‭: ‬نعم،‭ ‬هذا‭ ‬صحيح‭ ‬تماماً،‭ ‬ما‭ ‬أدّى‭ ‬إلى‭ ‬حدوث‭ ‬قطيعة‭ ‬نهائية‭ ‬بين‭ ‬مفهومي‭ ‬للعدالة،‭ ‬ونظرتي‭ ‬إلى‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الثقافات‭ ‬والحضارات‭ ‬المتعددة،‭ ‬وبين‭ ‬ذلك‭ ‬المناخ‭ ‬الثقافي‭-‬السياسي‭ ‬السائد،‭ ‬رغم‭ ‬أنني‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬أيضاً،‭ ‬تعرضت‭ ‬إلى‭ ‬الاعتقال،‭ ‬ومن‭ ‬ثمَّ‭ ‬الحكم‭ ‬عليّ‭ ‬بالسجن‭ ‬لمدة‭ ‬اثنتي‭ ‬عشرة‭ ‬سنة،‭ ‬أمضيت‭ ‬منها‭ ‬نحو‭ ‬ستّ‭ ‬سنوات‭ ‬في‭ ‬السجن‭ ‬الفعلي،‭ ‬وفي‭ ‬السجن،‭ ‬تقدمت‭ ‬باستقالة‭ ‬رسمية‭ ‬إلى‭ ‬قيادة‭ ‬الحزب‭ ‬آنئذ‭. ‬استقالة‭ ‬مُسَببة‭ ‬ومُعّللة،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬وجهة‭ ‬نظري‭ ‬حيال‭ ‬‮«‬مسألة‭ ‬الحرية‮»‬‭ ‬والنظرة‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬الدين‮»‬‭ ‬والموقف‭ ‬من‭ ‬‮«‬الهوية‭ ‬القومية‮»‬‭.‬

‮ ‬

الجديد‭: ‬تركت‭ ‬الحزب،‭ ‬العمل‭ ‬الحزبي،‭ ‬وأنت‭ ‬سجين‭ ‬إذن؟

اللامي‭: ‬نعم‭. ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬خلفية‭ ‬ما‭ ‬كنت‭ ‬أطّلع‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬مواقف‭ ‬عنف‭ ‬واستئصال،‭ ‬بل‭ ‬حتى‭ ‬محاولات‭ ‬قتل‭ ‬بطرق‭ ‬وحشية‭ ‬وغادرة،‭ ‬كما‭ ‬تمَّ‭ ‬بحق‭ ‬تروتسكي‭ ‬مثلاً،‭ ‬أو‭ ‬بطرق‭ ‬التشويه‭ ‬السياسي‭ ‬والثقافي‭ ‬كما‭ ‬جرى‭ ‬مع‭ ‬بول‭ ‬نيزان‭ ‬وناظم‭ ‬حكمت‭ ‬وعدد‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬في‭ ‬‮«‬البلدان‭ ‬الاشتراكية‮»‬،‭ ‬ولا‭ ‬سيما‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يعرف‭ ‬في‭ ‬حينه‭ ‬بـ‮»‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‮»‬‭.‬

‮ ‬

الجديد‭: ‬ألم‭ ‬يلحق‭ ‬بك‭ ‬أذى،‭ ‬جرّاء‭ ‬موقفك‭ ‬هذا‭.‬

اللامي‭: ‬ونعم،‭ ‬كان‭ ‬ثمة‭ ‬ألم‭ ‬ضخم،‭ ‬وتعذيب‭ ‬نفسي‭ ‬مبالغ‭ ‬فيه،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬في‭ ‬السجون،‭ ‬حيث‭ ‬عوملت‭ ‬بمنطق‭ ‬‮«‬المعزول‮»‬‭ ‬سياسياً،‭ ‬بما‭ ‬فيه‭ ‬الحرمان‭ ‬من‭ ‬العلاقات‭ ‬الإنسانية،‭ ‬الذي‭ ‬تطور‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬الصمت‭ ‬الثقافي‮»‬‭ ‬عن‭ ‬كتبي‭ ‬في‭ ‬صحافة‭ ‬الحزب‭ ‬الرسمية‭ ‬والصديقة،‭ ‬بعد‭ ‬خروجي‭ ‬من‭ ‬السجن‭.‬

الجديد‭: ‬وماذا‭ ‬كان‭ ‬ردَّ‭ ‬فعلك؟

اللامي‭: ‬كنت‭ ‬أتصرّف‭ ‬على‭ ‬ألاّ‭ ‬يكون‭ ‬موقفي‭ ‬‮«‬ردَّ‭ ‬فعل‭ ‬انفعالياً‮»‬‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الموقف،‭ ‬أَو‭ ‬أيّ‭ ‬موقف،‭ ‬من‭ ‬أيّ‭ ‬جهة‭ ‬ضدي‭. ‬كنت‭ ‬أنا‭ ‬المبادر‭ ‬في‭ ‬اتخاذ‭ ‬مواقفي‭ ‬بحرية‭ ‬وقناعة‭ ‬ودراية،‭ ‬فأنا‭ ‬أحترم‭ ‬ماركس،‭ ‬ولا‭ ‬أقبل‭ ‬بدكتاتورية‭ ‬ستالين،‭ ‬وهو‭ ‬الموقف‭ ‬الذي‭ ‬تطور‭ ‬إلى‭ ‬رفضي‭ ‬لأَيّ‭ ‬شكل‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬الهيمنة‭ ‬الفكرية‮ ‬‭ ‬والثقافية‭ ‬والسياسية،‭ ‬لاحقاً‭.‬

لقد‭ ‬أكملت‭ ‬مدة‭ ‬سجني‭ ‬القانونية،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أسيء‭ ‬إلى‭ ‬ضميري،‭ ‬أي‭ ‬لم‭ ‬أتقدم‭ ‬بـ‮»‬براءة‮»‬‭ ‬من‭ ‬الحزب‭ ‬ومن‭ ‬الماركسية،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬شائعاً‭ ‬في‭ ‬حينه،‭ ‬كنت‭ ‬أنظر‭ ‬إلى‭ ‬الأمر‭ ‬برمّته‭ ‬من‭ ‬زاوية‭ ‬ثقافتي‭ ‬الخاصة،‭ ‬ثقافة‭ ‬الحوار‭ ‬والإختلاف‭ ‬الحر،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬كنت‭ ‬أمارسه‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬بعد‭ ‬مغادرتي‭ ‬العراق‭ ‬إلى‭ ‬الخليج‭ ‬العربي‭ ‬منذ‭ ‬سنتي‭ ‬1979‭-‬1980،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الموقف‭ ‬قد‭ ‬أثار‭ ‬لدى‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الرموز‭ ‬الشيوعية‭ ‬التقليدية‭ ‬‭(‬التي‭ ‬كانت‭ ‬توصف‭ ‬بـ‮»‬اليمينية‭ ‬والذيلية‭ ‬‮«‬‭ ‬للنهج‭ ‬السوفييتي‭)‬‭ ‬علامات‭ ‬استغراب‭.‬

‮ ‬باقة‭ ‬ورد‭ ‬حمراء

الجديد‭: ‬علمت‭ ‬أنه‭ ‬تمَّ‭ ‬تصحيح‭ ‬ذلك‭ ‬الموقف‭.‬

اللامي‭: ‬نعم،‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬صيف‭ ‬سنة‭ ‬2011‭ ‬ببغداد،‭ ‬بعد‭ ‬زيارتي‭ ‬لبغداد،‭ ‬وفي‭ ‬حفل‭ ‬خاص‭ ‬أقامه‭ ‬لي‭ ‬الاتحاد‭ ‬العام‭ ‬للأدباء‭ ‬والكتاب‭ ‬في‭ ‬العراق،‭ ‬حيث‭ ‬تلقيت‭ ‬رسالة‭ ‬خطية‭ ‬من‭ ‬اللجنة‭ ‬المركزية‭ ‬للحزب،‭ ‬بعد‭ ‬غيبة‭ ‬عن‭ ‬العراق‭ ‬استمرت‭ ‬ثلاثاً‭ ‬وثلاثين‭ ‬سنة‭ ‬متواصلة،‭ ‬مرفقة‭ ‬بباقة‭ ‬ورود‭ ‬حمراء‭.‬

الجديد‭: ‬أنت‭ ‬سعيد‭ ‬لهذه‭ ‬النتيجة؟

اللامي‭: ‬نعم،‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬بذلك‭. ‬لكنني‭ ‬أدعو‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أوسع‭ ‬من‭ ‬ذلك‭. ‬أتمنّى‭ ‬أن‭ ‬أرى‭ ‬وثيقة‭ ‬فكرية‭-‬أخلاقية‭ ‬صادرة‭ ‬من‭ ‬قيادة‭ ‬الحزب‭ ‬الشيوعي‭ ‬العراقي،‭ ‬تدين‭ ‬جميع‭ ‬انتهاكات‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان،‭ ‬التي‭ ‬تمت‭ ‬بحق‭ ‬شعراء‭ ‬وكتاب‭ ‬ومناضلين‭ ‬شيوعيين،‭ ‬على‭ ‬خلفية‭ ‬مواقفهم‭ ‬المناهضة‭ ‬للسياسات‭ ‬الحزبية‭ ‬في‭ ‬تلك‮ ‬‭ ‬العقود‭. ‬فهذا‭ ‬من‭ ‬حق‭ ‬الموتى‭ ‬على‭ ‬الأحياء‭.‬

‮ ‬دم‭ ‬الكاتب

الجديد‭: ‬هل‭ ‬تكتب‭ ‬برؤية‭ ‬الشاعر‭ ‬الرائي‭ ‬والسارد‭ ‬الرائي‭ ‬تحت‭ ‬تأثيرات‭ ‬المرض‭ ‬الذي‭ ‬تعاني‭ ‬منه،‭ ‬أردت‭ ‬أن‭ ‬أسأل‭ ‬عن‭ ‬علاقة‭ ‬المرض‭ ‬بالإبداع؟

اللامي‭: ‬عندما‭ ‬ترتفع‭ ‬نسبة‭ ‬اليوريا‭ ‬في‭ ‬دم‭ ‬الإنسان،‭ ‬يحدث‭ ‬هناك‭ ‬انقطاع‭ ‬وصول‭ ‬الدم‭ ‬إلى‭ ‬المخ،‭ ‬ما‭ ‬يترتب‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬الجملة‭ ‬العصبية‭ ‬ومجموعة‭ ‬الأوعية‭ ‬الشعرية‭ ‬التي‭ ‬تستقبل‭ ‬الدم‭ ‬هنا‭ ‬سيكون‭ ‬فيها‭ ‬انفصال،‭ ‬مثل‭ ‬تشابك‭ ‬كفك‭ ‬اليمنى‭ ‬بكفك‭ ‬اليسرى،‭ ‬آنذاك‭ ‬تكون‭ ‬كأنك‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬الموت‭ ‬الإكلنيكي‭. ‬لست‭ ‬ميتًا‮ ‬‭ ‬ولست‭ ‬حيًّا‭.. ‬بين‭ ‬بين،‭ ‬بين‭ ‬برزخين،‭ ‬بين‭ ‬الجحيم‭ ‬والفردوس،‭ ‬لكنك‭ ‬في‭ ‬طريقك‭ ‬إلى‭ ‬الفردوس،‭ ‬أنت‭ ‬في‭ ‬التنور‭ ‬العظيم‭. ‬إذ‭ ‬ذاك‭ ‬سترى‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬لحظات‭ ‬تواجدك‭ ‬في‭ ‬رحم‭ ‬أمك‭ ‬إلى‭ ‬آفاق‭ ‬المستقبل‭ ‬أي‭ ‬تجد‭ ‬نفسك‭ ‬وحيدًا‭. ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬رأيته‭.. ‬أريد‭ ‬التحدث‭ ‬عنه‭ ‬بشكل‭ ‬وثائقي‭ ‬تفصيلي‭.‬

‮ ‬

الجديد‭: ‬هل‭ ‬تجد‭ ‬نفسك‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬المبدع‭ ‬المطلق‭ ‬أو‭ ‬المتأمل‭ ‬الرؤيوي؟

‬اللامي‭: ‬المنشد‭. ‬أنا‭ ‬المنشد،‭ ‬صديقي‭ ‬العزيز‭..‬

‮ ‬الموت‭ ‬صديقي

الجديد‭: ‬‮«‬ثمة‭ ‬فرق‭ ‬بيني‭ ‬وبين‭ ‬ملاك‭ ‬الموت‭. ‬إنني‭ ‬أخلق‭ ‬صحفي،‭ ‬وهو‭ ‬لا‭ ‬يمتلك‭ ‬إلا‭ ‬دوره‮»‬‭. ‬هكذا‭ ‬يقول‭ ‬‮«‬إبراهيم‭ ‬الأحمد‮»‬‭ ‬في‮»‬المقامة‭ ‬اللامية‮»‬‭.‬

اللامي‭: ‬نعم،‭ ‬هذه‭ ‬التقاطة‭ ‬حصيفة‭ ‬منك،‭ ‬عشت‭ ‬مع‭ ‬الموت‭ ‬رديفين،‭ ‬وخصمين،‭ ‬ثم‭ ‬صديقين‭. ‬في‭ ‬طفولتي،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬شبابي‭ ‬وكهولتي،‭ ‬وها‭ ‬هو‭ ‬معي‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬شيخوختي‭ ‬حيث‭ ‬سقمي،‭ ‬الذي‭ ‬نهاية‭ ‬حياتي،‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬لي‭ ‬الطبيب‭ ‬الذي‭ ‬يعالجني‭ ‬من‭ ‬مرض‭ ‬السكري‭ ‬الوبيل‭ ‬وتجلياته‭ ‬المدمرة‭ ‬التي‭ ‬ليس‭ ‬آخرها‭ ‬مرض‮ ‬‭ ‬الفشل‭ ‬الكلوي‭.‬

في‭ ‬طفولتي‭ ‬كانت‭ ‬‮«‬الأمراض‭ ‬المستوطنة‮»‬‭ ‬ومنها‭ ‬مرض‭ ‬الديزانتري‭ ‬‭(‬الزُّحار‭)‬‭ ‬مرافقاً‭ ‬لي،‭ ‬ولم‭ ‬أتخلص‭ ‬منهُ‭ ‬إلا‭ ‬بعملية‭ ‬‮«‬وشم‮»‬‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬آثارها‭ ‬على‭ ‬أجزاء‭ ‬من‭ ‬جسمي‭. ‬وفي‭ ‬شبابي‭ ‬رافقني‭ ‬مرض‭ ‬‮«‬إدمان‭ ‬الكحول‭ ‬والتدخين‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬برئت‭ ‬منه‭ ‬بقرار‭ ‬شخصي‭. ‬والآن‭ ‬فإن‭ ‬‮«‬الصديق‭ ‬القاتل‮»‬‭ ‬أي‭ ‬مرض‭ ‬السكري،‭ ‬الذي‭ ‬تعاملت‭ ‬معه‭ ‬على‭ ‬أن‮»‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬من‭ ‬صداقته‮»‬‭.‬

ومع‭ ‬هذه‭ ‬الأدواء،‭ ‬كانت‭ ‬مشكلة‭ ‬الموت،‭ ‬دافعي‭ ‬الأقوى‭ ‬للكتابة،‭ ‬ولخلق‭ ‬نمطي‭ ‬في‭ ‬الحياة‭. ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬كنت‭ ‬أحاول‭ ‬الإجابة‭ ‬على‭ ‬مسائل‭ ‬الحياة،‭ ‬وفي‭ ‬الحياة‭ ‬كنت‭ ‬أطلق‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬الأسئلة‭ ‬على‭ ‬‮«‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحياة‮»‬‭ ‬أي‭ ‬على‭ ‬الموت‭. ‬وبين‭ ‬هذه‭ ‬وذاك‭ ‬كنت‭ ‬أخلق‭ ‬صحفي،‭ ‬وكان‭ ‬الموت‭ ‬يجيد‭ ‬دوره،‭ ‬فيقترب‭ ‬منّي‭ ‬كثيراً،‭ ‬ولكنّ‭ ‬وضعاً‭ ‬خاصاً‭ ‬بي،‭ ‬كان‭ ‬يتوقف‭ ‬عند‭ ‬مفترق‭ ‬حاسم‭.‬

‮ ‬الغرق‭ ‬في‭ ‬دجلة

الجديد‭: ‬هل‭ ‬تعرضت‭ ‬إلى‭ ‬حالة‭ ‬موت،‭ ‬اعتبرها‭ ‬‮«‬‭ ‬موتاً؟‮»‬‭.‬

اللامي‭: ‬في‭ ‬طفولتي‭ ‬طلبني‭ ‬الموت‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة،‭ ‬كان‭ ‬أخطرها‭ ‬الغرق‭ ‬في‭ ‬نهر‭ ‬دجلة‭. ‬لقد‭ ‬تمسك‭ ‬بي‭ ‬‮«‬عبدالشط‮»‬‭ ‬مرة‭ ‬أو‭ ‬اثنتين،‭ ‬لكن‭ ‬ثمة‭ ‬من‭ ‬دفع‭ ‬بي‭ ‬إلى‭ ‬سطح‭ ‬النهر‭.

أتمنّى‭ ‬أن‭ ‬أرى‭ ‬وثيقة‭ ‬فكرية‭-‬أخلاقية‭ ‬صادرة‭ ‬من‭ ‬قيادة‭ ‬الحزب‭ ‬الشيوعي‭ ‬العراقي،‭ ‬تدين‭ ‬جميع‭ ‬انتهاكات‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان،‭ ‬التي‭ ‬تمت‭ ‬بحق‭ ‬شعراء‭ ‬وكتاب‭ ‬ومناضلين‭ ‬شيوعيين،‭ ‬على‭ ‬خلفية‭ ‬مواقفهم‭ ‬المناهضة‭ ‬للسياسات‭ ‬الحزبية‭

وفي‭ ‬شبابي،‭ ‬تعرضت‭ ‬إلى‭ ‬إطلاق‭ ‬رصاص،‭ ‬من‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬المحققين‭ ‬السكارى‭ ‬في‭ ‬‮«‬وكر‭ ‬الطائرات‭ ‬‮«‬‭ ‬بمعسكر‭ ‬الحبانية،‭ ‬كان‭ ‬ثلاثة‭ ‬من‭ ‬المحققين‭ ‬العسكريين‭ ‬قد‭ ‬قيّدوني‭ ‬إلى‭ ‬عمود‭ ‬رخامي‭ ‬في‭ ‬وكر‭ ‬المقاتلات‭ ‬الروسية،‭ ‬ثم‭ ‬أطلقوا‭ ‬عليَّ‭ ‬الرصاص،‭ ‬وعندها‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أعرف‭ ‬أين‭ ‬كنت‭. ‬ولكن‭ ‬بعد‭ ‬برهة‭ ‬قصيرة‭ ‬انتبهت‭ ‬على‭ ‬ضحكهم،‭ ‬قالوا‭ ‬‮«‬كنا‭ ‬نتشاقى‭ ‬معك‮»‬،‭ ‬وهذه‭ ‬الجملة‭ ‬التي‭ ‬قيلت‭ ‬باللهجة‭ ‬العراقية،‭ ‬تعني‭ ‬‮«‬كنا‭ ‬نمزح‭ ‬معك‮»‬‭. ‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬كانت‭ ‬لي‭ ‬محاولة‭ ‬انتحار‭ ‬في‭ ‬سجن‭ ‬نقرة‭ ‬سلمان‭ ‬سنة‭ ‬1964‭.‬

ومنذ‭ ‬سنة‭ ‬2005‭ ‬تعرضت‭ ‬إلى‭ ‬تجربة‭ ‬‮«‬الموت‮»‬‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة،‭ ‬كنت‭ ‬أتداوى‭ ‬بعشب‭ ‬وصفه‭ ‬طبيب‭ ‬عربي‭-‬أميركي،‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬دخولي‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬‮«‬لاوعي‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬علمياً‭ ‬‮«‬الموت‭ ‬الطبي‮»‬‭ ‬وبعد‭ ‬عملية‭ ‬إنعاش‭ ‬بوسائل‭ ‬طبية،‭ ‬عدت‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬الحياة‮»‬‭ ‬من‭ ‬جديد‭.‬

في‭ ‬طفولتي،‭ ‬كان‭ ‬لنا‭ ‬جار‭ ‬‮«‬كليّ‭ ‬البياض‮»‬‭. ‬كانت‭ ‬والدتي‭ ‬تقول‭ ‬لي‭ ‬‮«‬هذا‭ ‬خرج‭ ‬من‭ ‬قبره‮»‬‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تمّ‭ ‬دفنه‭ ‬باعتباره‭ ‬ميتاً،‭ ‬كان‭ ‬الرجل‭ ‬لا‭ ‬يتحدث‭ ‬إلى‭ ‬أيّ‭ ‬أحد،‭ ‬إن‭ ‬أمي‭ ‬قالت‭ ‬لي‭ ‬‮«‬إنه‭ ‬يصرخ‭ ‬في‭ ‬الليل‭ ‬فقط‭ ‬مثل‭ ‬جمل‭ ‬نًحر‭ ‬للتوّ‮»‬‭ ‬لأنه‭ ‬يرى‭ ‬‮«‬منكراً‭ ‬ونكيراً‮»‬‭ ‬ويتذكر‭ ‬عذاب‭ ‬القبر‭.‬

في‭ ‬تجاربي‭ ‬مع‭ ‬‮«‬الموت‮»‬‭ ‬لا‭ ‬أتذكر‭ ‬شيئاً‭ ‬محدداً‭ ‬لأنني‭ ‬لم‭ ‬أرَ‭ ‬شيئاً‭ ‬ما‭. ‬فقط،‭ ‬استيقظت‭ ‬من‭ ‬‮«‬نوم‭ ‬عميق‮»‬‭ ‬على‭ ‬أصوات‭ ‬موسيقية‭ ‬رائقة‭. ‬ولا‭ ‬أدري‭ ‬هل‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الاستيقاظ‭ ‬هو‭ ‬عودتي‭ ‬إلى‭ ‬حياتي،أو‭ ‬دخولي‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬جديدة‭. ‬لا‭ ‬أدري‭. ‬صدقني،‭ ‬لا‭ ‬أدري‭.‬

الجديد‭: ‬ولكنك‭ ‬مؤمن‭ ‬بالله؟‮»‬‭.‬

اللامي‭: ‬نعم،‭ ‬أنا‭ ‬مؤمن‭ ‬بالله‭.‬

الجديد‭: ‬ماذا‭ ‬تريد‭ ‬من‭ ‬الله؟

اللامي‭: ‬أُريد‭ ‬أن‭ ‬أراه‭.‬

اقرأ أيضا

حانة عقد التوراة

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.