سلافوي جيجك وتناقضاته العجيبة

الأربعاء 2017/02/01
لوحة: همام السيد

جيجك الذي يقدَّم كنجم اليسار الراديكالي، والمدافع عن المثل الأسمى الشيوعي، والواعد بضرورة بعث الشيوعية بعد ما يشبه الموات، كتب يقول في مقالة نشرت مؤخرا بمجلة نوفيل أوبس: «إن ضرورة تحضير الحضارات نفسها، وفرض تضامن وتعاون كونيين بين مختلف المجموعات البشرية باتا مستعصيين بسبب تصاعد العنف الطائفي والإثني، والرغبة «البطولية» في التضحية باسم قضية. أليس تجاوزُ التوسع الرأسمالي، وإقامةُ تعاونٍ وتضامنٍ عالميين كفيلين بإيجاد سلطة تنفيذية تسمو بسيادة الدولة هما ما يمكّناننا من أن نأمل في حماية أملاكنا الطبيعية والثقافية؟ إن كانت إجراءات كهذه لا تنحو إلى الشيوعية، إن كانت لا تتضمن أفقا شيوعيا، إذن فعبارة «شيوعية» خالية من المعنى.»

ولكنه سبق أن نشر في مايو الماضي في العدد المائة لمجلة «فلسفة» الفرنسية، مقالة يناقش فيها مقولة لماركس وردت في رسالته الحادية عشرة عن فويرباخ يقول فيها: « الفلاسفة لم يقوموا سوى بتأويل العالم بطرق مختلفة، وما يهمّ هو تغييره.» فعلق جيجك قائلا: «إذا قررنا اليوم المرور إلى الفعل، فإن هذ الفعل لن يسجل على صفحة بيضاء، بل على خلفية أيديولوجيا مهيمنة. أول ما ينبغي القيام به هو عدم الانسياق لغواية الفعل، عدم التسرع لتغيير العالم (لتجنب الدخول مباشرة في الحائط: ماذا بوسعنا أن نفعل أمام الرأسمالية العالمية؟) بل ينبغي إعادة وضع المعطيات الأيديولوجية المهيمنة موضع مساءلة. في الواقع، لحظتنا التاريخية لا تزال هي لحظة أدورنو: «عن السؤال: ماذا ينبغي علينا أن نفعل؟ سوف أجيب بأمانة: لا أدري.» ويختم مقالته بقوله: «سأجدني ميالا إلى قلب أطروحة ماركس: طوال القرن العشرين، تعجّلنا تغيير العالم؛ من الآن فصاعدا، لنأخذ وقتنا في تأويله.»

ثم يعود في كتاب جديد عنوانه «صراع الطبقات الجديد. الأسباب الحقيقية للاجئين والإرهاب»، ليحاول بعث الروح في لينين واستعادة نماذج شيوعية طوباوية يدافع عن قدرتها على تلبية انتظارات فلسفية محددة. حسب شبكة قراءة ماركسية، يوحي بأن الرأسمالية، في شكلها الحالي، يمكن أن تنظم العولمة على نحو يحمي فضاء منغلقا على نفسه، حيث ينعزل فيه الداخل عن الخارج. وهو منطق يستند إلى تقسيم طبقي بالغ العنف مفروض على الكوكب كله، يفصل من يحميهم ذلك الفضاء عمن هم خارجه. وفي سياق آخر يقول إن المنطق المحايث للتاريخ ليس في صالحنا. ولو تركناه يتبع وجهته الطبيعية فسوف يواصل التاريخ مضيّه نحو استبداد رجعي. وفي هذا ينبغي أن تكون تحاليل ماركس نقطة بدايتنا. ولكنه يناقضه مرة أخرى في حديث صحافي أجرته معه جريدة ليبراسيون «إن شئنا البقاء ضمن اليسار اليوم، فلا بدّ مما ليس منه بدّ أن نتخلص من استعارة التقدم التاريخي تلك. قد يكون ثمة نزوع من التاريخ، ولكنه نزوع نحو الكارثة. أحب كثيرا هذه الجملة لفالتر بنيامين: «مهمتنا اليوم ليست في التقدم في زمن التقدم بل في دق ناقوس الخطر.»

والثابت أنه، باعترافه، لا يزال شيوعيا، ولكن شيوعي سلبي، شديد التواضع حسب قوله. وفي هذا يصرح: «البدهية المشتركة التي ينبغي قبولها هي أن نواصل استعمال لفظة شيوعية كأفق لآمالنا». وفي رأينا أنه حر في التمسك بالشيوعية ولكننا لا نوافق ما ذهب إليه من أن افتقار المُعادين للشيوعية من الليبراليين المعاصرين لجهاز مفهومي يتيح لهم نقد الشيوعية نقدا حقيقيا، يسوّغ ذلك الدفاع المستميت عن أنظمة مجرمة، ولا قوله إن نظرية الغواية التوتاليتارية، المرتبطة بالشيوعية، نفسانية مثيرة للضحك، وإن ما من كتاب قدّم دليلا مهمّا عن جرائم الستالينية سوى «كل يوم ستالينية» أو «الستالينية العادية» للمؤرخة الأمريكية من أصل أسترالي شايلا فيتزباتريك، لأن ما كتب عن مآسي الشيوعية لا يحصى عددا. حسبنا أن نذكر «أرخبيل الغولاغ» للروسي ألكسندر سولجينتسين، و»الطبقة الجديدة الحاكمة» لليوغسلافي ميلوفان دجيلاس، و»نهاية الإنسان الأحمر» للبيلوروسية سفيتلانا ألكسيفيتش، و»أنصاب» للصيني يانغ جيشنغ، فضلا عن «الكتاب الأسود» التي وضعه فريق من المفكرين والمؤرخين. في مقارنة بين الفاشية والشيوعية، يقول المجري إمري كيرتيش، الفائز بجائزة نوبل للآداب عام 2002: «الفاشية كانت واقعا، والشيوعية يوطوبيا؛ ولكن النظامين كانا يتميزان بنظام حزب واحد، يمارس نفوذا لا حدود له ولا رقابة عليه. كلاهما كان كارثة على الشعب.» الغريب أن جيجك يستدرك في هذا الحديثِ نفسِه، ليقرّ بأن أنظمة فظيعة استمدت شرعيتها من ماركس، «وهذه حقيقة تاريخية، كما يقول، ومن السهل أن يرد بعضهم بأن ذلك ليس من الماركسية الحقيقية في شيء، ورغم ذلك ينبغي أن نتساءل: كيف أمكن ذلك؟ ولكن هذا السؤال لا ينبغي أن يكون تعلة للتخلي عن ماركس.» يمكن أن نضيف بدورنا: حتى ولو أثبت بعض الشيوعيين القدامى مثل الباحث الفرنسي أندريه سونيك في كتاب «بيان الحزب الشيوعي في نظر التاريخ» وجود بذور التوتاليتارية في ما يعتبر زبدة الفكر الماركسي، وأكثر أعماله رمزية، وأوسعها انتشارا وتداولا في القرن العشرين؟

يعترف جيجك بأن ما حاق بالمنطقة سببه السياسة الأمريكية الرعناء: «هذه هي المفارقة السّياسية التراجيدية، التّدخل الأميركي في العراق حطّم أشياء كثيرة مهمّة.» فيدين دور الدول الغنية في تفتت عدة دول يشكل معظم سكانها سيول المهاجرين

في التعامل مع اللاجئين

في الحديث الذي أجرته معه «الجديد» سؤال عن دعوته إلى «عسكرة دخول اللاجئين»، فسرها بقوله: « أنا أرفض الممارسات التي تُفرض على اللاجئين، المحاورات التي يخضعون لها - باستمرار- تحت حجّة مُحاولة فهم مدى ملاءمتهم للثّقافة الأوروبية وللدّين المسيحي... إلخ. هذه ممارسات لا تعجبني. الطّريقة الكارثية التي تعاملوا فيها مع اللاجئين ساهمت في إنعاش العنصرية المضادّة للاجئين وكره الأجانب. كان يمكن تجنّب الأمر بتنظيم العملية، بشكل أكثر عقلانية. لاحظت في كثير من المرّات التّقسيمات التي فُرضت على اللاجئين أمام إدارات أوروبية: هذا سوري يحمل شهادة جامعية، إذن له قابلية للاندماج، هذا من أفغانستان إذن يجب عزله عن البقية...» بيد أنه يعيب على اليسار، في حديث أجرته معه مجلة تيليراما الفرنسية، تستّره على ما يسميه المواضيع المُغضِبة، ورفضه إثارتها علنا. وفي رأيه أن من الواجب الحديث بشكل علني صريح عن بعض المشاكل الثقافية، والفوارق الموجودة بين اللاجئين، فإن كان بعضهم ينتمي إلى الطبقات المتوسطة المتعلمة، فإن الأغلبية لها نمط عيش تقليدي، بطريركي، يسبب بالتأكيد مشاكل، ويتبين في الغالب أنها لا تتناسب مع التصور الغربي لحقوق الإنسان. والسكوت عن هذه المشاكل، وإنكارها، معناه تقديم ذرائع لمناهضي المهاجرين. وبسؤاله عن طبيعة تلك المشاكل أجاب أن «المسلمين لا يحتملون مجتمعاتنا المنفتحة، المتسامحة، التي تدافع عن حقوق النساء والمثليين»، ويضرب مثلا على هجوم المسلمين على تظاهرات المثليين في ألمانيا والسويد وهولندة. وفي رأيه أن الوقاية من هذه المخاطر تستدعي وضعَ قواعد صارمة، وتسامحًا تجاه أنماط عيش الآخرين.

في حديثه لمجلة «الجديد» يقول أيضا: «لا أحبذ هذا المنطق التّعاطفي السّلبي مع اللاجئين، ولا أتّفق مع من يُنادون بضرورة فهمهم ودمجهم، وغيرها من المرادفات السّلبية»، غير أنه يستدرك هذا الرأي في الحديث نفسه، فيضيف بصريح العبارة: «مع ما حصل مطلع السّنة الماضية في كولونيا بألمانيا، كان من الأفضل دعوة البعض من اللاجئين للتّلفزيون مثلا للحديث إليهم ومنحهم فرصة لعرض وجهات نظرهم. المشاكل الحقيقية يجب مواجهتها، بشجاعة وواقعية.» تلك الأحداث التي يعتبرها «طقسا كرنفاليا كما يحدث غالبا في ميدان التحرير بالقاهرة وفي رام الله بفلسطين»، وكأن التحرش بالنساء في الأماكن العامة شيء مباح في بلاد العرب، يدخل في عاداتهم وتقاليدهم، وليس سلوكا منافيا للأخلاق، قد تأتيه أية مجموعة بشرية مدفوعة بالسكر وحبوب الهلوسة وفكر القطيع. وبعكس كمال داود الذي نصح الغرب بضرورة تثقيف المهاجرين قبل منحهم تأشيرة دخول، يعتقد جيجك أن نية «تربيتهم» وتعريفهم بعاداتنا ومكانة المرأة في مجتمعاتنا هي من السذاجة بمكان، لأن المسألة في نظره مشكلة اتصالِ أنماطِ عيش، «إذ هم يتعمدون إتيان ذلك لأنهم يعرفون تمام المعرفة أنه لا يجوز». ويستشهد بصديقه الفيلسوف العنصري جان كلود ميلنر الذي يدعي أن المسلمين ليسوا كلهم ضحايا سلبية، فبعضهم يحمل مشاريع عملية. وبعضهم الآخر شرع في المبادرة. وكلاهما، أي جيجك وميلنر، يخلط بين الجاليات المقيمة وبين لاجئين دفعتهم ويلات الحرب وحدها إلى ترك أوطانهم.

دوافع التغريبة الكبرى

من المتناقضات أيضا موافقته على ما ورد في سؤال «الجديد» من أن اللجوء ليس سوى نتيجة متأخرة من نتائج الاستعمار الأوروبي في العالم الثالث والعالم العربي تحديدا، وأن المستعمرين القدامى تبرؤوا من واجبهم أمام الوافدين من المستعمرات القديمة. فأما النقطة الأولى، فلا نحسب أن من المنطق أن نظل نحاسب استعمارا رحل منذ أكثر من نصف قرن على سياسات فاشلة اقترفها منذ فجر الاستقلال أبناء البلد، الذين آثروا المصلحة الخاصة على المصلحة العامة، فحلّت الكوارث تباعا، حتى صارت الشعوب تبحث لدى المستعمر القديم عن طعام يغذيها وسقف يؤويها وقانون يحميها، وتركب الأهوال هربا من موت محتوم إلى موت محتمل. وأما النقطة الثانية، فقد أكدت مدى ما تتسم به أوروبا من أنانية منذ عقود، كانت ترى نفسها خلالها قلعة مسيجة يتناذرها البرابرة من كل صوب. ورغم الشعارات الإنسانية المرفوعة، تجد لنفسها الأعذار كي تسدّ الباب أمام القادمين من بلدان آوتهم في محنتهم خلال الحربين الكونيتين بلا شروط. يستوي في ذلك اليمين واليسار. وجيجك نفسه، حين يدعو إلى تنظيم أفواج اللاجئين عن طريق العساكر، لأن أوروبا لا تستطيع أن تستوعبهم كلهم (وعددهم دون ما استقبلته دول ضعيفة كتونس والأردن ولبنان بكثير)، لا يختلف عن الزعيم الاشتراكي الراحل ميشيل روكار حين قال: «لا نستطيع أن نستقبل بؤسَ العالمِ كلَّه.»

ينفي جيجك أن يكون أعضاء الدولة الإسلامية أصوليين دينيين، لأن الذي يكون ذا إيمان قوي ينأى بنفسه عمن يعتبرهم غير مؤمنين ويلقاهم بجفاء كطائفة الأميش والبوذيين. أما جهاديو داعش فليس لهم غير الهوس بالغرب، ينبذونه بعنف ولكنهم في الواقع مفتونون بخطايا الكفار والمشركين

ثم يستعيد صفاءه فيعترف بأن ما حاق بالمنطقة سببه السياسة الأمريكية الرعناء: «هذه هي المفارقة السّياسية التراجيدية، التّدخل الأميركي في العراق حطّم أشياء كثيرة مهمّة.» فيدين دور الدول الغنية في تفتت عدة دول يشكل معظم سكانها سيول المهاجرين المتدفقة على الاتحاد الأوروبي (كليبيا وسوريا والعراق والصومال والكونغو الديمقراطية) إما بالتدخل العسكري المباشر لزعزعة الأنظمة، أو عن طريق الشركات العملاقة التي تنهك اقتصاديات البلدان النامية. ويقرّ بأننا ندفع ثمن التدخل الغربي بعد الحادي عشر من سبتمبر ولا سيما الاحتلال الأمريكي للعراق. ومن ثَمّ ينبغي مواجهة الوضعية التي دفعت بالمهاجرين إلى الفرار من بلادهم، بدل معاملتهم كساعين للمساعدة الإنسانية.

والحل الأمثل بالنسبة إليه أن يتحد المهاجرون مع أهالي البلاد في نضال مشترك، ضد الكولونيالية الجديدة والأصولية الإسلامية، على غرار ويكيليكس وسنودن وبوسّي ريوت. وهو إذ يقرّ بأنه تضامن طوباوي يؤكد «أننا إن لم نحاوله فسوف نضيع فعلا.» وهذا من أغرب ما قرأنا.

أسباب الإرهاب الأصولي

خلافا للرأي السائد في الغرب، ينفي جيجك أن يكون أعضاء الدولة الإسلامية أصوليين دينيين، لأن الذي يكون ذا إيمان قوي ينأى بنفسه عمن يعتبرهم غير مؤمنين ويلقاهم بجفاء كطائفة الأميش والبوذيين. أما جهاديو داعش فليس لهم غير الهوس بالغرب، ينبذونه بعنف ولكنهم في الواقع مفتونون بخطايا الكفار والمشركين. وفي صراعهم ضد الآخر المتفسخ، إنما يقاومون غوايتهم نفسها. وفي رأي جيجك أن الأفكار التي يروجها الإسلام الراديكالي يحمل سمة هزيمة إيديولوجية أمام النموذج الغربي الرأسمالي، وأن الإسلاميين لا يبتكرون نموذجا فكريا خاصا كما فعل الشيوعيون السوفييت أمام النموذج الأمريكي مثلا، بل هم يتشكلون فقط عبر نبذ نموذج غربي موهوم، فهم في نظره يعلنون ثورتهم على كل ما يمثل صورة محددة للنجاح الغربي كالمال والنزعة الاستهلاكية والحرية الجنسية، ولكنهم في واقع الأمر يخالفون المبادئ التي يدعون اعتناقها والتعاليم التي يزعمون اتباعها، فهم يتعاطون المخدرات، ويشربون الخمر، ويغتصبون القاصرات، ويستعملون وسائل هذا الغرب الذين يوهمون بمعاداة نمط عيشه. ثم تلتبس عليه الأمور فيرى، من ناحية، في التشدد الإسلامي لبوكو حرام أو المتمردين السنّة في سوريا والعراق امتدادا لمقاومة الاستعمار حيث لا يدخل في الحسبان نمط العيش وحده، ومن ناحية أخرى يعتبر أن المشاريع المجتمعية التي يدافع أولئك الراديكاليون عنها ليست سوى رد فعل على عنف العولمة الرأسمالية التي لم يغنموا منها نصيبهم. فالجماعات المسلحة في رأيه، بهجومها على «القيم الليبرالية» للعولمة الرأسمالية، إنما تحارب تبعات تحديث قائم على هيمنة طبقة عميمة مدمِّرة، تسعى عبر أعوانها الدوليين إلى نشر الديمقراطية عبر العالم، ومعها الحرية والمساواة كقيمتين مركزيتين من جهة، ولكن بإقامة اضطهاد واستغلال اقتصاديين من جهة أخرى. وجيجك لا ينطلق في الظاهر من قراءة واعية للتاريخ الإسلامي، بل مما يكتبه غير المتخصصين في الشأن الإسلامي كأستاذ التحليل النفسي فتحي بن سلامة أو صديقه الفيلسوف الشيوعي ألان باديو، الذي يؤكد له أن الجهادية ليست ظاهرة قديمة من التّقليد الإسلامي ولا علاقة لها بالماضي، وأنها ظاهرة عصرية، كردّ فعل على العولمة الرأسمالية. ولا ينطلق أيضا من الواقع الجيوسياسي كي يعرف سبب صعود داعش بعد سقوط صدام حسين وقيام سلطة شيعية موالية لإيران أقصت السّنّة من الحكم.

التسامح كوسيلة لتجاهل الآخر

جيجك لا ينطلق في الظاهر من قراءة واعية للتاريخ الإسلامي، بل مما يكتبه غير المتخصصين في الشأن الإسلامي كأستاذ التحليل النفسي فتحي بن سلامة أو صديقه الفيلسوف الشيوعي ألان باديو، الذي يؤكد له أن الجهادية ليست ظاهرة قديمة من التّقليد الإسلامي ولا علاقة لها بالماضي، وأنها ظاهرة عصرية، كردّ فعل على العولمة الرأسمالية

من الأفكار المثيرة للجدل أيضا، مسألة التسامح، فجيجك يرى أن «التّسامح الأصلي بين الثّقافات هو أن نتقبّل الآخر دون أن نحبّه بالضّرورة»، وهذا في رأينا جائز، لأن البشر، بطبعهم، لا يحبون بعضهم بعضا ولا يحترمون بعضهم بعضا، حتى أن المشرّع، كي يحصل منهم على اعتراف متبادل بحقوقهم الأساسية، سنّ قوانين ترغمهم على السلوك المتسامح، وهو أضعف الإيمان. ولو أن التسامح في نظرنا يجري عادة في اتجاه واحد، من القوي إلى الضعيف، ومن الأغلبية إلى الأقلية، وهو بهذه الصيغة أقرب إلى غضّ النظر عما يخالف القاعدة العامة. ولكن أن يتحول ذلك الشعور إلى عدم رغبة في فهم الآخر، حتى وإن صرفنا النظر عن تناقض الفيلسوف السلوفيني مع دعوته في الإجابة السابقة، فذلك ليس من شأنه أن يقرب البشر بعضهم من بعض ليعيشوا معا في مجتمع واحد، بل سوف يخلق جدرانا عازلة بين شتى الجاليات. يقول جيجك في حديث لصحيفة ليبراسيون عقب صدور كتابه «أقل من لا شيء»: «لا أحب ليبراليي اليسار وحماة التعدد الثقافي الذي يقولون: «ينبغي فهم الآخر». كلا، لا أريد أن أفهم الآخر. ما أطمح إليه ليس العيش في عمارة بها عائلة فيتنامية، وأخرى لاتينية، وثالثة زنجية.» وفي رأيه أن معاداة العنصرية الحق تكمن في التجاهل، أو ما يسميه الحياء المؤدب.

إن الإنصات إلى الآخر يستوجب التواضع والقناعة بأن مخاطبنا إنسان يفكر ولا يقل عنا قدرة على طلب الحقيقة. واللفظة الأنسب هنا ليست التسامح بل احترام الآخر ككائن ذي بصيرة. فالاحترام، بعكس التسامح الذي قد يدل على الحِلْم، والاستهانة، واللامبالاة، وحتى العجز والجبن، هو شعور سعيد، يتضمن الاعتبار الذي نحس به أمام قيمة من القيم، ويؤدي إلى أن نعرب للشخص عن تقديرنا. ذلك أن حرية الإنسان، وكرامته، وقدرته على التفكير تنتمي كلها إلى جدول قيم تفرض نوعا من المواقف الإيجابية. ومن ثَمّ، فإن الاكتفاء بالتسامح مع ما ينبغي احترامه لا يجلب الاحترام. وإن كنا نحترمه، فلا يجمل بنا الحديث عندئذ عن التسامح، لأنه مجرد وسيلة لتجاهل الآخر.

حلم الأممية الجديدة

كيف يبدو المستقبل بعد انتصار الرأسمالية، وهزيمة اليسار في أمريكا وفي أغلب البلدان الأوروبية؟ هنا أيضا، لا يبدو جيجك واثقا مما يقترح. فمرة يقول: «الشّيء الحاصل الآن، والأكيد، والذي يمكن التنبؤ به من قراءة متأنية لتطوّرات الأحداث هو أننا نقترب فعلا من كارثة جديدة، قد تكون حربا أو أزمة أخرى، لكنها ستكون هذه المرّة أكثر تعقيداً. سنجد أنفسنا في مواجهة أزمة شاملة.» ويضيف: «في الوضع الحالي يجب أن يكون الواحد منا متشائما، يعني ألا يصنع طموحات ولا يفكّر في مشاريع كي لا يصطدم بالواقع لاحقاً.» ويقول أيضا: «إذا أردنا إنقاذ ما ضاع في الديمقراطية الغربية نحتاج إلى تحوّل راديكالي نحو اليسار، يسار عقلاني، يبتعد عن الشّيوعية القديمة.» ورغم ذلك يقترح «تأسيس «أمميّة جديدة» مضادّة للرّأسمالية الشمولية، في وقت يعترف فيه بأن «الرأسمالية صارت عالمية، وكل بلد يفكّر في عزل نفسه عنها سيسبب لنفسه مشاكل وأزمات.» ثم لا ندري على من يعود ضمير المتكلم الجمع في قوله « أن نتّفق حول قانون اقتصادي دولي جديد، يضع في أهدافه الحدّ من قوانين الرأسمالية. إذا توصّلنا إلى إقناع عدد من الدّول التي تعرف استقراراً وقوة اقتصاديين، فإن مشروع الأممية الجديدة ستكون له مهابة». قد يبدو الأمر مغريا في المطلق، ولكن الواقع يخالف ذلك، فأين الأممية العمالية، وأين كتلة دول عدم الانحياز، وغيرها من التكتلات التي لم تصمد أمام هيمنة الدول الكبرى أو الشركات العملاقة. حتى الديمقراطية، في شكلها الحالي، باتت لديه درقة مفرغة، ولذا فهو يتنبأ بنهاية الزواج الأزلي بين الديمقراطية والرأسمالية، ويرى في «رعب اليعاقبة» زمن روبسبيير الوسيلة الوحيدة التي تخلصنا من الرأسمالية العالمية، وتقطع مع سياسة الخوف التي تعمّ المجتمع، وتضع حدا لإدارة الحياة على نحو «بيوسياسي»، وتجنب العالم كارثة بيئية ترين على الإنسانية، لأن ما يحصل الآن في نظره ليس سوى إرهاصات أزمة عميقة قادمة.

ويُدهشنا اندهاشُه من عجز اليسار عن استغلال غضب عارم يعمّ كافة البلدان الغربية، والحال أن الناس، على غرار المثال الذي ذكره عن رواية سراماغو، ما عادوا يثقون في النخبة، وتصويتهم في الغالب لا يستند إلا إلى منطق الإقصاء، ليجربوا وجوها من خارج المؤسسة، وترامب ليس عبقريا ولا سياسيا فذا ولا صاحب برنامج سيغير أوضاع الأمريكان من حال إلى حال، ولكنهم اختاروه نكالة بمن سبق أن اكتووا بكذبهم ونفاقهم. كذلك الشأن في فرنسا، وآخر استطلاعات الرأي تشير إلى تقدم مارين لوبان زعيمة الحزب العنصري الإسلاموفوبي اليميني المتطرف، لا لشيء سوى لأن الناس ملّوا محترفي السياسة من اليمين واليسار على حدّ سواء.

البطريركية وتحرير المرأة

جيجك يرى أن «التّسامح الأصلي بين الثّقافات هو أن نتقبّل الآخر دون أن نحبّه بالضّرورة»، وهذا في رأينا جائز، لأن البشر، بطبعهم، لا يحبون بعضهم بعضا ولا يحترمون بعضهم بعضا، حتى أن المشرّع، كي يحصل منهم على اعتراف متبادل بحقوقهم الأساسية، سنّ قوانين ترغمهم على السلوك المتسامح

من خلال كل ما قرأنا له، يتبدى جيجك مهووسا بالرأسمالية الشمولية، التي يعتبرها المبحث الأساس للتحليل النفسي، وكل ما يجدّ في الكون من جرائرها. حتى تحرير المرأة، وتعليمها، ومشاركتها الرجل في تطور المجتمع ونهضته، هو في نظر الفيلسوف السلوفيني من تدبير الرأسمالية: «نعم، يقول، النّساء اليوم يشغلن مناصب عليا في المجتمع وفي السّلطة، من موظفات ساميات إلى مديرات ونجد بعضا منهن في منصب رئيس أو وزير أوّل، هذا التّحوّل ليس سوى جزء من صناعة رأسمالية خالصة. الرّأسمالية تستخدم خاصياتها الأنثوية بغرض تحقيق أهداف سياسية. كما لو أن السّلطة الرّأسمالية توزّع الخدمات والأدوار على النساء لتحقّق مكاسب لها من ورائهن.» وهذا تناقض آخر من مفكر يزعم أنه يدافع عن حرية المرأة وحقوقها، ثم ينكر عليها حقها في تولي المناصب التي يؤهلها لها تكوينها المعرفي، أم لعله يفضل ألا يرى المرأة، حتى الأكاديمية، إلا خلف خزينة بسوبر ماركت، ما دام ينظر نظرة شك للمناصب السامية التي تتقلدها. ولا ندري هل أن مرد ذلك نظرة بطريركية خلنا أنها ولت منذ ستينات القرن الماضي، أم حركة انعكاسية خاصة بالذهنية الشيوعية التي ترتاب من كل شيء، وتعزوه إلى الإمبريالية العالمية. ثم إن حكمه منافٍ للواقع، إذ إن وضع المرأة في فرنسا مثلا لا يزال دون المؤمل، من حيث المساواة في التمثيل النيابي والدبلوماسي والرتب الإدارية العليا والمناصب السياسية السامية، وحتى من حيث الرواتب والأجور... والجوائز الأدبية. هل يعلم جيجك أن عدد النساء الفائزات بجائزة غونكور لا يتعدى الاثني عشر منذ تأسيسها عام 1903؟

تأويل ما لا يحتاج إلى تأويل

ذلك هو سلافوي جيجك من خلال كتبه وتصريحاته وحواراته، ودونك عزيزي القارئ ملمحا آخر من شخصيته في هذه الفقرة الأخيرة:

في شريط وثائقي «دليل المنحرف إلى السينما»، يسعى جيجك إلى البحث عن الوظيفة الاستعارية لأفلام الكبار، من هتشكوك وكروننبرغ ودفيد لينش إلى سبيلبرغ ورومان بولنسكي وتوم هوبر، لاعتقاده «أن من يريد تشخيص حالنا الإيديولوجية، حسبُه أن يشاهد أفلام هوليوود، للوقوف على معناها الخافي، وأيديولوجيتها المستترة.» يستهل شريطه، وهو يتخذ مع كل فيلم وضعا يذكّر بوضع بطله، بقوله: «نتغذى طول الوقت من قمامة الأيديولوجيا نفسها. والأيديولوجيا لا تسمح برؤية ما نتغذى به بالضبط»، فيتأوله تأويلا لا نحسب أن كاتب السيناريو أو المخرج ذهب إليه. من ذلك مثلا شريط «أسنان البحر» لستيفن سبيلبرغ، إذ يستحضر نظرية «الآخر الكبير» (الذي يمثل الغيرية المُطلقة والمتجاوزة لغيرية النظام المتخيل الوهمية) كما صاغها لاكان، لتحليل صورة أسماك القرش التي «ترمز إلى عدة مخاوف بشرية وتكثفها: الكوارث، الأزمات الاقتصادية، اجتياح الأجانب، المرض، الموت...» ويحذر من تبسيط الواقع بهذا الشكل، الخاطئ والخطير في الوقت ذاته. وفي رأيه أن الأنظمة الفاشية تستعمل «الآخر الكبير» كبروباغندا خدمة لمصالحها، وتسويغا لسياساتها المتعسفة، على غرار هتلر الذي جعل من اليهود «آخر كبيرا» ينبغي إزالته لكونه سببا في كل أدواء ألمانيا. وللتحرر من الأيديولوجيات في نظره، ينبغي التخلص من هذا التصور للآخر الكبير.

قد نقبل هذا التأويل، على غرابته، باعتباره يتناول حكاية متخيلة، يجوز أن يفسرها من يشاء كما يشاء، ولكن ما البال بشريط عن حادثة تاريخية يعرفها القاصي والداني في أدق تفاصيلها، هي غرق الباخرة تيتانيك. فقد زعم جيجك أن فيلم «تيتانيك» لجيمس كاميرون ليس حكاية اصطدام باخرة بجبل جليد، بقدر ما هو تعبير عن عقاب أنزله القدر بركابها نتيجة انتهاك مزدوج: العلاقة الجنسية غير الشرعية بين بطل الفيلم جاك (ليوناردو دي كابريو) وبطلته روز (كيت ونسليت) وعدم احترام الفوارق الطبقية بينهما. فالكارثة في نظره حصلت حينما وعدت الفتاة عشيقها بالفرار معه حال رسوّ الباخرة بميناء نيويورك. أي أنها آثرت حياة الفقر مع حبيبها على حياة الدعة وسط الأغنياء. وفي رأيه أن في اصطدام الباخرة إنذارا بالكارثة الحقيقية، التي كانت ستحل بالشابين لو تزوجا وجابهتهما ظروف الحياة القاسية، مما سيؤدّي حتما إلى انطفاء شعلة الحب بينهما وانفراط عقديهما.

اقرأ أيضا:

سلافوي جيجك.. مرايا نقدية

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.