إسطنبول الجرأة والسّعادة

الأربعاء 2017/02/01

ومن ثمّ خطرت له حينذاك فكرة مفادها (لما لا أقوم بعمل متحف خاص لي)، فجاءت رواية «متحف البراءة» والتي صدرت في عام 2008، كإيمان منه بأن التاريخَ قادرٌ على أن يؤرِّخ بمتاحفه للبساطة وللإنسان العادي، كما هي قدرته للتأريخ للملوك والممالك. وبعد سنوات تحقّقت الفكرة وافتتح متحف البراءة عام 2012 في نفس المكان الذي وقعت فيه حكاية كمال مع فسون في «تشوقور جمعة» في أحد أزقة بيه أوغلو القديمة في منطقة تقسيم بأسطنبول. أصل المتحف منزل قديم (من ثلاث طوابق) بُني عام 1897 لمتحف قدم به حياة ومقتنيات عصر الرواية ليضمّ مقتنيات فسون التي جمعها من بيتها ومحيطها؛ أقراطها، وأحذيتها، وملاقط شعرها، وأثوابها ورخصة قيادتها. وكذلك مقتنيات لأم فسون نسيبة ووالدها السيد طارق وبالمثل حوى أشياء كمال ووالده أدهم بيه وكثير من الأبطال الواردة أسماؤهم في الرواية.

جاءت فكرة المتحف بعد الرواية والمعنونة بـ «بمتحف البراءة» 2008 وقد صدرت ترجمتها إلى العربية مؤخّرًا عن دار الشروق المصرية، بتوقيع المترجم السوري عبد القادر عبد اللّي. أما فكرة الرواية فترجع لعلاقة باموق العاطفية بالمتاحف، لكن في الحقيقة هذا الامتزاج الذي حدث بين النص الروائي والمكان، يتأتى وفقًا لإيمان باموق ذاته بأن «الأدب والفن يقومان على تحويل غرض مألوف إلى أمر غريب غير اعتيادي» وهو ما حدث بالضبط، سواء على مستوى المتحف الذي حوى أشياء تبدو للمشاهد أنها غير ذات قيمة، وفي الرواية حيث الإصرار الذي رأينا عليه كمال للذهاب إلى أسرة كسكين لتناول العشاء ومتابعة أحوال فسون، وتتبع كافة الأشياء التي ارتبطت بها. لكن في الحقيقة أن باموق كان يسعى من وراء الرواية إلى تأسيس علاقة عاطفية مع الأشياء، فحسب قوله: «لم يكن المتحف هو الهدف من روايته، بل شرح التعقُّد والحالة النفسية والثقافية والإنسانية التي نسميها عشقًا ببرودة أعصاب». كما أنه لا يعتبر المتحف «صورة تفسيرية عن الكتاب، والرواية ليست تفسيرًا للمتحف، إلا أنّهما مرتبطان بشكل وثيق» فببساطة حسب قوله «متحف البراءة قبل كل شيء فكرة حول العشق». (راجع: كلمة باموق في نهاية الرواية)

التاريخ والمدينة

السّمة الغالبة على أعمال باموق، هي هيمنة المكان وعلى الأخص إسطنبول، بكافة أزمنتها في معظم كتاباته، فهي حاضرة كعاصمة السّلطنة العثمانيّة كما في في رواية «القلعة البيضاء» 1995، وبالمثل روايته «اسمي أحمر» 1997، وحاضرة منذ انهيار السلطنة وقيام الجمهورية إلى سبعينيات الانقلابات كما في روايته الأولى «جودت بيك وأبناؤه» 1982. وحاضرة أيضًا منذ إعلان الجمهورية حتى وصول الإسلاميين إلى الحكم، كما في «غرابة في عقلي» 2015، وبالمثل تحضر إسطنبول الستينيات كما في روايته الأخيرة «المرأة ذات الشعر الأحمر» 2016.

وبالمثل تشكّل حضورًا مائزًا في سيرته الذاتيّة التي حملت «إسطنبول المدينة والذكريات» فقد أرّخ تاريخًا شاملاً للمدينة والتطوّرات التي حلّت عليها. العمل الوحيد الذي لم تحضر فيه المدينة الكوزموبوليتية إسطنبول هو رواية «ثلج» 2002، حيث دارت أحداثها في مدينة قارص شرق الأناضول وكانت الرواية مغايرة عمّا كتبه باموق في أعماله السابقة، فهي تحكي عن واقع اجتماعي وسياسي قاهر دفع الفتيات إلى الانتحار، دون معرفة الأسباب، فحمّلت الأحزاب المتصارعة منافستها الأمر، إلى أن يصل البطل (كا) وهو صحفي إلى المدينة، فيجري حوارات مع السُّكّان على اختلاف إيديولوجياتهم.

تعرية الطبقة المخمليّة

تأتي رواية «متحف البراءة» في 83 فصلاً (600 صفحة طبعة دار الشروق)؛ لتُقدِّم صورة متكاملة عن المدينة وهي آخذة بالحداثة الأوروبية في حقبة السبعينيات وبداية الثمانينيات بما تحمله من أحداث جسام وانقلابات كان لها بالغ الأثر على ما قطعته المدينة من نهضة وتخلّص من ميراثها القديم، فيرصد للتغيرات التي طرأت على المدينة بعد حلول ثقافة الغرب التي أتت بها الطبقة الراقيّة أو ما تعرف في التركية بالطبقة المخمليّة (Yüksek Sosyete) وهي الطبقة التي أرسلت أبناءها للدراسة في أوروبا وبعد عودتهم حملوا معهم جرثومة الحداثة، وفي سبيل هذه الحداثة تنازلوا عن كثير من العادات، ومن هنا يحدث الصّراع بين الحداثة الجديدة بكل ما تحمله من تناقضات وتغريب عن الثقافة التركية أو الشرقيّة الإسلاميّة بصفة عام، وبين المحافظين الذين مازالوا يتمسكّون بهذه التقاليد ويعبتروها حائط الصّد أمام هذه الحداثة التي تُسلب الهُويّة.

يُخايلني وأنا أتتبع مسار علاقة كمال وفسون بما تحمله من تناقضات طبقيّة وهو ما آل إلى هذه النهاية الدرامية بانتحار فسون، تساؤل مفاده: ما دافع هذا الحبّ الذي سعى خلفه كمال تاركًا تاريخ طبقته، ومجدها الاقتصادي حتى وصل الحال به إلى الخسائر المتلاحقة في المصانع، فانفصل أخيه عنه ليؤسّس مصنعه الخاص؟! بالطبع لن يكون الجواب أن كمال يبحث عن الجمال أو حتى البراءة. فسيبل التي اختارتها أسرته لتكون خطيبته؛ فتاة جميلة وذات ثقافة رفيعة ومن ذات طبقته أيضًا، وبالمثل كانت فسون فتاة جميلة لكنها من الطبقة الفقيرة. أما البراءة فمع الأسف فكلتاهما غير بريئتيْن كما يمكن أن يتوهم لمن يُفكِّر بأنّه كان يبحث عن البراءة. ففسون في جلسة من جلساتهما بعد ممارسة الجنس كانت تحكي له عن علاقاتها السّابقة بالرّجال أو الذين طاردوها.

في فصل كامل بعنوان «أزقة إسطنبول، جسورها، طلعاتها، ساحتها» حكت له عن التحرشات التي تعرّضت لها منذ أن كانت طفلة في الثانية عشر من صاحب الدكان الصغير الذي يبيع التبغ، والجار الخرّاء ذو الشاربين الذي يزورهم مع زوجته السمينة، وإداري مدرسة الدورات، والرجل العاطفي الرقيق السّيد طورغاي وهو أحد أصدقاء العائلة والعمل (صاحب مصنع النسيج) الذي كان يصطحبها بالسيارة ويتبادلان القبل. فمثلما أقدمت سيبل بعد عودتها من باريس على علاقة مع كمال فضت بها بكارتها في بيت سعادية، فعلت فسون ولكن في بيت نيشان طاش، الفارق أن سيبل كانت متباهية بموجة الحداثة التي سرت بين أجواء نساء الطبقة المخملية المتشبهات بالنساء الأوربيات والتي لا ترى غضاضة في مضاجعتها رجلاً قبل الزواج، أو عدم كونها بكرًا ليلة الزواج ليست مشكلة بالنسبة لها» (ص، 67).

فيسون والمجنون التركي

تبدو الرواية أشبه بحكاية عشق بسيطة، تدور وقائعها في حي نيشان طاش في مدينة إسطنبول لكن عين الرواي التي تتوازى مع عين باموق العاشق للمدينة يأخذنا في شوراعها وأحيائها الغنية والفقيرة وأسواقها ومطاعمها ومقاهيها، وكأنه يُسجِّل كلَّ شيء خشية الاندثار، وهو ما سيحدث بعد فشل علاقته بفسون فيعمل لها المتحف ليحفظ كافة الأشياء التي كانت شاهدة على علاقتهما معًا، كالأطباق وأدوات الطعام وأعقاب السجائر التي دخنتها وكان عددها 4213 سيجارة، وغيرها من أشياء سيقيم لها متحفًا حقيقيًّا.

قصة العشق تكاد تكون النسخة التركية من قصة ليلى والمجنون الشهيرة في التراث العربي. ولكن هنا بطلاها كمال ابن الطبقة الأرستقراطية حيث والده يمتلك أحد المصانع الذي سيؤل إليه هو وأخوه، وفسون الفقيرة ابنة عمه السّيد طارق مُدرس التاريخ المتقاعد ونسيبة الخياطة البسيطة. يقع الحب بعد لقاء كمال بفسون بعد خطبته لسيبل بأسبوعين بلا تدبير أو تفكير من الطرفين «بدأت الأحداث والمصادفة. كانت فسون تعمل في إحدى المحلات التي تعرض للمنتجات الأوروبية، كنوع من الاستجابة الفورية لمتطلبات الطبقة الراقية، وإن كانت في الوقت ذاته تُجهز لامتحان القبول في الجامعة بذهابها إلى إحدى مدارس الدورات، كما أن جمالها جعلها تدخل مسابقة ملكات الجمال، وهو الأمر الذي سيعرضها للقيل والقال، وإن كانت كشفت عمّا يحدث من علاقات مريبة في هذه المسابقات. لا تقتصر قصة الحب هنا على البطلين، وإنما يمرّر الراوي قصة حب بلقيس التي صدمتها سيارة ورحلت، وكانت عاشقة ومعشوقة، وبالمثل نورجيهان صديقة سيبل في فرنسا.


أورهان باموق: حكاية عشق مع مدينة

ما أن يتلقي كمال بفسون حتى يبدأ الشغف بها، وفي أول لقاء لهما بعد أن أعادت إليه نقود الحقيبة التي اشتراها لسيبل من بوتيك شانزليه لصاحبته شيناي، لأنها تقليد وليست أصلية، تحدث بينهما علاقة تامة (جمع بينهما أربعة وأربعون لقاءً جنسيًّا، كان يمارسان الجنس ويكتشفان الأشياء المشتركة بينهما). ستشغل فسون عقل كمال إلى نهاية الرواية مرورًا بزواجها من مخرج إعلانات (فريدون) يَعدُها بعمل فيلم لها، ثم تعود إليه بعد مرور تسع سنوات على لقائهما الأول، إلى أن تحل لحظة الكارثة بعدما تولت فسون مقود السيارة الشيفرولية 56 نحو شجرة الدلب وكانت نهايتها، ثم ما حدث بعد مرور عشرين عامًا من الحادثة.

اكتشاف كمال حبه لفسون يأتي بعد اختفائها في ليلة الخطوبة، فيغدو على وجهه هائمًا مهووسًا بجمع أو سرقة مقتنياتها البسيطة، ويضطر إزاء تتبع كل ما يتعلق بها لأن يلازم بيت عائلة فسون ثماني سنوات يتناول العشاء تقريبًا حوالي 1594 مرة؛ ليراقب كل شيء، ويتأمل عينيها، والأهم ليسرق الأجزاء الصغيرة التي تحمل رائحتها، ومن ثمّ ستكون نواة للمتحف الذي سيحمل اسم البراءة. في ظني أن المتحف كان حيلة لتعويض الاختفاء والافتقاد، واستحضار قصة الحب التي عصفت بكمال، الذي جلس أمام أورهان باموق في مطعم هنكار الذي فُتح في مكان فوآية بعد إغلاقه ليروي له حكايته.

التمرد على الكلاسيكية

في معظم أعمال باموق الروائية يبدو وكأنه من المحافظين على ميراث الرواية الكلاسيكية، بل ولا نُغالي إذا قلنا التراث الحكائي كما هو في ألف ليلة وليلة، حيث توالد الحكاية وتشعّبها، وهو ما ظهر بصورة جليّة في روايته قبل الأخيرة «غرابة في عقلي»، حتى أنه وضع خريطة توضح الأسماء والعائلات والأحفاد، لتكون دليلاً لقارئه. في هذه الرواية على الرغم من موضوع العشق واحد من الموضوعات الكلاسيكية في الأدبيات العالمية إلا أن باموقًا هنا يُعالجه بمعالجة حداثية، فالرواية يرويها راوٍ (أنا) باموق على لسان صاحبها الأصلي كمال. وهنا يظهر باموق الأديب وعائلته في الرواية أكثر من مرة الأولى في خطوبة كمال على سيبل، حيث يرقص مع فسون، والمرة الثانية في نهاية الرواية الفصل (83 سعادة)، حيث يذهب كمال إلى أورهان باموق، ويروى له «قصته كما خرجت من قلبي» بتعبيره، في ثلاث ساعات. حضور باموق هنا كان سببًا في حالة التداخل التي أصابت القُرّاء بين الشخصتيْن فكلاهما من أسرة غنية سكنت ذات المنطقة، بل إن الناس في الشارع من جراء هذا التداخل كانت تنادي باموق قائلة:

سيد باموق هل أنت السّيد كمال؟

الغريب أن باموق عجبته اللعبة، فيدخل السرد موضحًا علاقته بفسون التي بدأت في حفلة خطوبة السيد كمال وسيبل قائلاً: «مرحبًا أنا أورهان باموق! بعد إذن السيد كمال، أبدأ من رقصتي مع فسون، أجمل فتيات السهرة» التجريب الثاني الذي عمده باموق، على الرغم من أن المتحف جاء تاليًّا للرواية، إلا أن حضور المتحف هنا، ووصف معالمه، بل التذكرة التي يتم توقيعها، ويضع صورة توضيحية لها، وبها يتمكن قارئ الرواية من دخول المتحف مجانًا.

نتساءل في النهاية: هل ما كتبه باموق رواية عن العشق أمّ بحث في التاريخ عن أشهر المتاحف ومقتنياتها، أمّ عن تاريخ إسطنبول في هذه الحقبة؟! قد تكون الإجابة الرواية كل هذا، لكن الشيء المهم أن باموق ظهر منتقدًا لطبقته التي انصرفت إلى ملذاتها، واحتمت بالثراء والفنادق وتركيا تُعاني من ويلات الانقلابات التي عصفت بها!

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.