الهويات‭ ‬المنشطرة

الأربعاء 2017/03/01
لوحة: منيف عجاج

‬نحن بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬قراءة‭ ‬معمقة‭ ‬للواقع‭ ‬العربي‭ ‬المأساوي‭ ‬الراهن‭ ‬ولا‭ ‬أعنى‭ ‬بالقراءة‭ ‬هنا‭ ‬تلك‭ ‬المهمة‭ ‬المعرفية‭ ‬التي‭ ‬تتغيى‭ ‬فك‭ ‬شفرة‭ ‬النصوص،‭ ‬فالقراءة‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬هرمنيوطيقا‭ ‬وتأويل،‭ ‬لقد‭ ‬غدت‭ ‬القراءة‭ ‬بوصفها‭ ‬فعلا‭ ‬اجتماعيا‭ ‬ينفذ‭ ‬إلى‭ ‬بنية‭ ‬المعنى‭ ‬ويعيد‭ ‬ترتب‭ ‬العلاقات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬الداعمة‭ ‬لها‭.‬

وثمة‭ ‬شروط‭ ‬وعوامل‭ ‬كُثر‭ ‬تجتمع‭ ‬وتتداخل‭ ‬حيث‭ ‬تسهم‭ ‬في‭ ‬تشكُّل‭ ‬الوعي‭ ‬وتشكُّل‭ ‬العقل‭ ‬والوجدان‭ ‬وكذا‭ ‬تشكُّل‭ ‬المسار‭ ‬الثقافي‭ ‬والمسار‭ ‬المعرفي‭ ‬والمسار‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬المسار‭ ‬الحضاري،‭ ‬إذ‭ ‬المجتمعات‭ ‬والأوطان‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬حدود‭ ‬أيكولوجية‭ ‬إقليمية‭ ‬متموقعة،‭ ‬فثمة‭ ‬حدود‭ ‬روحية‭ ‬قيمية‭ ‬هي‭ ‬ما‭ ‬يمنح‭ ‬الوطن‭ ‬المعنى‭ ‬والمغزى،‭ ‬فالوطن‭ ‬هو‭ ‬تلك‭ ‬المساحة‭ ‬الروحية‭ ‬التي‭ ‬تتآلف‭ ‬داخلها‭ ‬القلوب‭ ‬والعقول،‭ ‬وتتحلّق‭ ‬حولها‭.‬

تلك‭ ‬العوامل‭ ‬والشروط‭ ‬ماثلة‭ ‬كانت‭ ‬أو‭ ‬كامنة‭ ‬يمكن‭ ‬تتبعها‭ ‬ورصدها،‭ ‬وذلك‭ ‬عبر‭ ‬تفحص‭ ‬البناءات‭ ‬الثقافية‭ ‬والمعرفية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والسياسية‭ ‬التي‭ ‬تمنح‭ ‬مجتمعا‭ ‬ما‭ ‬خصوصيته‭ ‬المائزة‭ ‬له،‭ ‬ولنا‭ ‬أن‭ ‬نتلمس‭ ‬ها‭ ‬هنا‭ ‬مقدمات‭ ‬البراديم‭ ‬الاجتماعي‭ ‬المنطمرة‭ ‬داخل‭ ‬نسق‭ ‬القيم‭ ‬المركزي،‭ ‬وكذا‭ ‬الفهم‭ ‬المشترك‭ ‬الثقافي‭ ‬والبناء‭ ‬المعرفي‭ ‬‭(‬العقلاني‭)‬‭ ‬والمسار‭ ‬الديني‭ ‬والمسار‭ ‬السياسي،‭ ‬هذا‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬الثقافة‭ ‬والمخيلة‭ ‬الشعبية،‭ ‬وسنلمس‭ ‬أنها‭ ‬كلها‭ ‬تحلق‭ ‬وتسبح‭ ‬في‭ ‬أفق‭ ‬الفصل‭.‬

الفصل‭ ‬يشطر‭ ‬الذات‭ ‬والهوية‭ ‬الإنسانية

الفصل‭ ‬تلك‭ ‬السمة‭ ‬المقيتة‭ ‬والخصيصة‭ ‬الوحشية‭ ‬الشرسة‭ ‬أسهمت‭ ‬في‭ ‬شطر‭ ‬الذات‭ ‬والهوية‭ ‬الإنسانية‭ ‬العربية،‭ ‬إذ‭ ‬تشيد‭ ‬هوية‭ ‬وحدود‭ ‬متعارضة‭ ‬إقصائية‭ ‬تشطر‭ ‬الذات‭ ‬الإنسانية‭ ‬وتشطر‭ ‬الهوية،‭ ‬بل‭ ‬تشطر‭ ‬الذات‭ ‬الكونية‭.‬

وغدا‭ ‬الفصل‭ ‬أيديولوجيّا‭ ‬لا‭ ‬مجرّد‭ ‬أفق،‭ ‬أيديولوجيا‭ ‬نافذة‭ ‬غائرة‭ ‬في‭ ‬صلب‭ ‬البنية‭ ‬الثقافية‭ ‬والبنية‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والبنية‭ ‬المعرفية،‭ ‬حيث‭ ‬تسهم‭ ‬في‭ ‬شطر‭ ‬الهوية‭ ‬الإنسانية‭ ‬قيم‭ ‬وأنساق‭ ‬ثقافية‭ ‬مضمرة‭ ‬جائرة‭ ‬وذلك‭ ‬عبر‭ ‬التأسيس‭ ‬لثنائية‭ ‬ذكر‭/‬أنثى،‭ ‬عقل‭/‬شعور،‭ ‬الجسد‭/‬الروح،‭ ‬العقلاني‭/‬الاجتماعي‭.. ‬الخ‭ ‬تلك‭ ‬التعارضات‭ ‬الوحشية‭ ‬والتي‭ ‬تقضي‭ ‬بأن‭ ‬يقصى‭ ‬الطرف‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬التعارضات‭ ‬الطرف‭ ‬الثاني‭ ‬ويعلو‭ ‬عليه‭ ‬فيشق‭ ‬الذات‭ ‬والهوية‭ ‬وتغدو‭ ‬الذوات‭ ‬والهويات‭ ‬الإنسانية‭ ‬منشطرة‭ ‬متصارعة،‭ ‬ويحلّ‭ ‬الصدام‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬الالتئام‭ ‬والانسجام‭ ‬والتناغم‭.‬

وها‭ ‬هنا‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الثنائيات‭ ‬المذكورة،‭ ‬والتي‭ ‬هي‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬ثنائيات‭ ‬كُثر‭ ‬تلُفّ‭ ‬وتوجّه‭ ‬الحاضر‭ ‬وتمارس‭ ‬فعلها‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭ ‬وتسهم‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬أدق‭ ‬تفاصيل‭ ‬الحياة‭ ‬الإنسانية،‭ ‬يعلو‭ ‬الذكر‭ ‬على‭ ‬الأنثى،‭ ‬والعقل‭ ‬على‭ ‬الشعور،‭ ‬والجسد‭ ‬على‭ ‬الروح‭ ‬والعقلاني‭ ‬المعرفي‭ ‬على‭ ‬الاجتماعي. ‬في‭ ‬تلكم‭ ‬العلاقة‭ ‬الثنائية‭ ‬ليس‭ ‬ثمة‭ ‬التئام‭ ‬وليس‭ ‬ثمة‭ ‬انسجام،‭ ‬بل‭ ‬شقاق‭ ‬وصدام‭ ‬وعنف‭.. ‬وتلك‭ ‬مخالفة‭ ‬صريحة‭ ‬لما‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬عليه‭ ‬طبيعة‭ ‬الحقائق‭ ‬والوقائع‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والذوات‭ ‬الإنسانية‭.‬

ولنا‭ ‬أن‭ ‬نحاول‭ ‬هنا‭ ‬تتبّع‭ ‬بعض‭ ‬الشروط‭ ‬والبنى‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تكشف‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬عميق‭ ‬عن‭ ‬مبررات‭ ‬ودواعي‭ ‬تلك‭ ‬السياقات‭ ‬المأساوية‭ ‬العنيفة‭ ‬الراهنة‭ ‬التي‭ ‬استنت‭ ‬التناحر‭ ‬والاقتتال،‭ ‬ويأتي‭ ‬نسق‭ ‬القيم‭ ‬المركزي‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬تلك‭ ‬الشروط‭ ‬والبنى‭ ‬وكذا‭ ‬البناء‭ ‬المعرفي‭ ‬والمسار‭ ‬الديني‭ ‬ودور‭ ‬النخبة‭ ‬والسياسات‭ ‬العولمية‭.‬

نسق‭ ‬القيم‭ ‬المركزي

لكل‭ ‬مجتمع‭ ‬قلب،‭ ‬أو‭ ‬منطقة‭ ‬مركزية،‭ ‬هذا‭ ‬القلب‭ ‬يتفاعل‭ ‬بطرق‭ ‬شتى‭ ‬مع‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬يعيشون‭ ‬داخل‭ ‬حدود‭ ‬الحقل‭ ‬الأيكولوجي‭ ‬الذي‭ ‬يقع‭ ‬فيه‭ ‬المجتمع،‭ ‬فانتماء‭ ‬الأفراد‭ ‬للمجتمع‭ ‬ليس‭ ‬مجرد‭ ‬انتماء‭ ‬أيكولوجي،‭ ‬ليس‭ ‬مجرد‭ ‬انتماء‭ ‬لحدود‭ ‬إقليمية‭ ‬جغرافية‭.‬

الانتماء‭ ‬للمجتمع‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬مجرد‭ ‬التكيف‭ ‬مع‭ ‬عوامل‭ ‬بيئية‭ ‬أو‭ ‬أشخاص‭ ‬يعيشون‭ ‬داخل‭ ‬حدود‭ ‬الإقليم‭ ‬نفسه. ‬إذ‭ ‬يتأسس‭ ‬الانتماء‭ ‬وفقاً‭ ‬لعلاقة‭ ‬الأفراد‭ ‬بتلك‭ ‬المنطقة‭ ‬المركزية‭ ‬والتي‭ ‬تحتل‭ ‬مكان‭ ‬القلب‭ ‬في‭ ‬بنية‭ ‬المجتمع،‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬المنطقة‭ ‬ليست‭ ‬ظاهرة‭ ‬مكانية‭ ‬‭(‬ليست‭ ‬مستقرة‭ ‬في‭ ‬المكان‭)‬‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬تملك‭ ‬مكانا‭ ‬محددا‭ ‬داخل‭ ‬الحدود‭ ‬الإقليمية‭ ‬للمجتمع‭ ‬وهذا‭ ‬المكان‭ ‬ليس‭ ‬له‭ ‬علاقة‭ ‬بالهندسة‭ ‬ولا‭ ‬الجغرافيا،‭ ‬فهذا‭ ‬القلب‭ ‬أو‭ ‬تلك‭ ‬المنطقة‭ ‬هي‭ ‬نسق‭ ‬القيم‭ ‬والمعتقدات‭ ‬التي‭ ‬تحكم‭ ‬المجتمع. ‬ولكن‭ ‬لماذا‭ ‬هي‭ ‬القلب؟

ذلك‭ ‬لأنها‭ ‬تتشارك‭ ‬المقدس‭ ‬مكانته‭ ‬وطبيعته،‭ ‬فكل‭ ‬مجتمع‭ ‬له‭ ‬مقدس‭ ‬رسمي‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬المقدّس‭ ‬دنيويا‭ ‬ومدنيا‭ ‬وجمعيا. ‬فثمة‭ ‬سطوة‭ ‬للقيم‭ ‬الاجتماعية‭ ‬قد‭ ‬تفوق‭ ‬سطوة‭ ‬القيم‭ ‬الدينية‭ ‬والأخلاقية،‭ ‬ولنا‭ ‬أن‭ ‬نلفت‭ ‬بداءة‭ ‬إلى‭ ‬أحد‭ ‬أهم‭ ‬مقدمات‭ ‬البراديم‭ ‬الاجتماعي‭ ‬ألا‭ ‬وهو‭ ‬نسق‭ ‬القيم‭ ‬المركزي‭.‬

وعلى‭ ‬هذا،‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نقارب‭ ‬نسق‭ ‬القيم‭ ‬المركزي‭ ‬بوصفه‭ ‬أحد‭ ‬مقدمات‭ ‬البراديم‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬ونعنى‭ ‬بمقدمات‭ ‬البراديم‭ ‬الاجتماعي‭ ‬القيم‭ ‬والمعايير‭ ‬والعادات‭ ‬والمعتقدات‭.‬

والبراديم‭ ‬الاجتماعي‭ ‬هو‭ ‬المرجعية‭ ‬الجمعية‭ ‬وإطار‭ ‬ضام‭ ‬يتشاركه‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬يشتركون‭ ‬في‭ ‬الدين‭ ‬والوطن‭ ‬والعرق‭.‬

يسهم‭ ‬البراديم‭ ‬الاجتماعي‭ ‬في‭ ‬تشكل‭ ‬الوعي‭ ‬وفى‭ ‬تشكل‭ ‬البناء‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والبناء‭ ‬الثقافي‭ ‬والبناء‭ ‬المعرفي. ‬وعبر‭ ‬تفحص‭ ‬مقدمات‭ ‬البراديم‭ ‬الاجتماعي‭ ‬يتكشف‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬عميق‭ ‬جليّ‭ ‬أنه‭ ‬ثمة‭ ‬قيم‭ ‬ومعايير‭ ‬تلتئم‭ ‬وتؤسس‭ ‬للتطرف‭ ‬والعنف،‭ ‬ولنا‭ ‬أن‭ ‬نلمس‭ ‬ذلك‭ ‬عبر‭ ‬الالتفات‭ ‬إلى‭ ‬شيوع‭ ‬وإعلاء‭ ‬قيم‭ ‬تأكيد‭ ‬الذات‭ ‬على‭ ‬التواشج‭ ‬والهيمنة‭ ‬على‭ ‬التشارك‭ ‬والاستغلال‭ ‬على‭ ‬الرعاية‭ ‬والتنافس‭ ‬على‭ ‬التعاون‭.. ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬القيم‭ ‬تسهم‭ ‬في‭ ‬شطر‭ ‬الهوية‭ ‬الإنسانية‭ ‬وتشويه‭ ‬الواقع‭ ‬والحياة‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬وذلك‭ ‬بوصفها‭ ‬تؤسس‭ ‬لهيراركية‭ ‬تفضي‭ ‬إلى‭ ‬شطر‭ ‬الذات‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬الهوية‭ ‬الإنسانية‭.‬

وعندما‭ ‬تأمل‭ ‬تلك‭ ‬القيم‭ ‬سنجد‭ ‬أنها‭ ‬قيم‭ ‬‭(‬بطريركية‭)‬‭ ‬ذكورية‭ ‬خلقتها‭ ‬الخبرة‭ ‬الذكورية‭.‬

فإذا‭ ‬ما‭ ‬انتقلنا‭ ‬إلى‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬البنية‭ ‬المعرفية‭ ‬والتوجهات‭ ‬الثقافية‭ ‬التي‭ ‬تحكم‭ ‬الممارسات‭ ‬المعرفية‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬الممارسات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والسياسية‭ ‬سنرى‭ ‬كيف‭ ‬أسهمت‭ ‬التعارضات‭ ‬الثنائية‭ ‬في‭ ‬شطر‭ ‬البناء‭ ‬المعرفي‭.‬

البناء‭ ‬المعرفي‭ ‬المنشطر

انبنى‭ ‬المسار‭ ‬المعرفي‭ ‬العربي‭ ‬ـبصورة‭ ‬أو‭ ‬بأخرى‭-‬‭ ‬وفقاً‭ ‬لعدد‭ ‬من‭ ‬التعارضات‭ ‬الثنائية‭ ‬كثنائية‭ ‬عقلاني‭/‬اجتماعي‭ ‬وثنائية‭ ‬العقل‭/‬الشعور‭ ‬تلك‭ ‬الثنائية‭ ‬التي‭ ‬أسهمت‭ ‬في‭ ‬انفصال‭ ‬المسار‭ ‬المعرفي‭ ‬عن‭ ‬المسار‭ ‬السياسي‭ ‬والمسار‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬فالعقلانية‭ ‬تقتضى‭ ‬أن‭ ‬تبقى‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬الانحياز‭ ‬والانهمام‭ ‬والتعاطف‭ ‬والسياسات،‭ ‬تلك‭ ‬ضمانة‭ ‬الموضوعية‭ ‬والموثوقية‭ ‬ففي‭ ‬انفصال‭ ‬الذات‭ ‬عن‭ ‬الموضوع‭ ‬ضمانة‭ ‬ا‭ ‬لموضوعية‭ ‬والعقلانية‭ ‬وأخذ‭ ‬العقل‭ ‬التحليلي‭ ‬يؤسس‭ ‬لفصل‭ ‬المعارف‭ ‬عن‭ ‬الحيوات،‭ ‬العقل‭ ‬التحليلي‭ ‬يُجمد‭ ‬العالم،‭ ‬يرى‭ ‬العالم‭ ‬بوصفه‭ ‬عدداً‭ ‬من‭ ‬الموضوعات‭ ‬يتأملها‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬محايد‭ ‬نزيه،‭ ‬وهذا‭ ‬يقتضى‭ ‬أن‭ ‬تبقى‭ ‬الذات‭ ‬العارفة‭ ‬خارج‭ ‬حدود‭ ‬الحقل‭ ‬المعرفي‭ ‬الذي‭ ‬تدرسه‭.‬

تلك‭ ‬الصورة‭ ‬للمعرفة‭ ‬مهمة‭ ‬لإزالة‭ ‬المسؤولية‭ ‬عن‭ ‬المعرفة،‭ ‬فالمعرفة‭ ‬ليست‭ ‬مسؤولة‭ ‬وبناء‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الرؤية‭ ‬التقليدية‭ ‬للمعرفة،‭ ‬انتفت‭ ‬المسؤولية‭ ‬عن‭ ‬المعرفة. ‬وإذ‭ ‬يبحث‭ ‬العقل‭ ‬التحليلي‭ ‬العالم،‭ ‬ليس‭ ‬منغمساً‭ ‬فيه. ‬يتم‭ ‬توظيفه‭ ‬أيديولوجيا‭ ‬حيث‭ ‬يسهم‭ ‬في‭ ‬إخفاء‭ ‬أشكال‭ ‬القهر‭ ‬والعنف،‭ ‬وذلك‭ ‬بأن‭ ‬يجعل‭ ‬الشروط‭ ‬الإنسانية‭ ‬الجائرة‭ ‬الماثلة‭ ‬تبدو‭ ‬“طبيعية”،‭ ‬وعلى‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬ليس‭ ‬مسؤولاً‭ ‬عن‭ ‬تغييرها،‭ ‬فالعقل‭ ‬التحليلي‭ ‬يشيد‭ ‬المعرفة‭ ‬متوخياً‭ ‬الفصل،‭ ‬فصل‭ ‬الذات‭ ‬عن‭ ‬الموضوع،‭ ‬فصل‭ ‬المعارف‭ ‬عن‭ ‬الحيوات،‭ ‬فصل‭ ‬المسار‭ ‬المعرفي‭ ‬عن‭ ‬المسار‭ ‬السياسي،‭ ‬فصل‭ ‬الأكاديمي‭ ‬عن‭ ‬الإنساني،‭ ‬العقل‭ ‬التحليلي‭ ‬يشيد‭ ‬التعارضات‭ ‬الثنائية‭ ‬وذلك‭ ‬بوصفها‭ ‬أفق‭ ‬الفصل‭ ‬الذي‭ ‬يشطر‭ ‬البناء‭ ‬المعرفي‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬يشطر‭ ‬البناء‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬حيث‭ ‬يسهم‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يغدو‭ ‬المجتمع‭ ‬بيئة‭ ‬حاضنة‭ ‬للعنف‭ ‬والتطرف‭ ‬ويغدو‭ ‬السياق‭ ‬الاجتماعي‭ ‬داعماً‭ ‬للصدام‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬التناغم‭ ‬والالتئام،‭ ‬وذلك‭ ‬لأن‭ ‬فصل‭ ‬المسار‭ ‬المعرفي‭ ‬عن‭ ‬المسار‭ ‬الاجتماعي‭ ‬السياسي‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬أن‭ ‬يسهم‭ ‬في‭ ‬إخفاق‭ ‬أيّ‭ ‬مشروع‭ ‬حداثي‭.‬

ولنا‭ ‬أن‭ ‬نعرّج‭ ‬الآن‭ ‬على‭ ‬المسار‭ ‬الدين‭ ‬والذي‭ ‬يعد‭ ‬‭-‬بصورة‭ ‬أو‭ ‬بأخرى‭-‬‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬البناء‭ ‬المعرفي‭ ‬والثقافة‭ ‬العربية‭.‬

‮ ‬تؤسس‭ ‬مفردة‭ ‬“نخبة”‭ ‬لهيراركية‭ ‬إنسانية‭ ‬وحشية‭ ‬تشطر‭ ‬المجتمع‭ ‬إلى‭ ‬نخبة‭/‬عامة،‭ ‬أو‭ ‬نخبة‭/‬جمهور،‭ ‬هذا‭ ‬التمييز‭ ‬يعد‭ ‬أحد‭ ‬أشكال‭ ‬تحويل‭ ‬المعرفة‭ ‬إلى‭ ‬سلطة‭ ‬وذلك‭ ‬عبر‭ ‬الامتياز‭ ‬الممنوح‭ ‬لتلك‭ ‬النخبة‭ ‬‭(‬العلماء‭ ‬والمثقفين‭)‬،‭ ‬هذا‭ ‬الامتياز‭ ‬يتيح‭ ‬للنخبة‭ ‬أن‭ ‬تنتج‭ ‬المعرفة‭ ‬وأن‭ ‬تغدو‭ ‬المتحدث‭ ‬الرسمي‭ ‬باسم‭ ‬الحقيقة

التجربة‭ ‬الدينية‭ ‬الميكانيكية

فصل‭ ‬الفقه‭ ‬عن‭ ‬التصوف

الدين‭ ‬تجربة‭ ‬روحية‭ ‬في‭ ‬الأساس،‭ ‬حيث‭ ‬الخبرة‭ ‬الروحية‭ ‬سابقة‭ ‬على‭ ‬التجربة‭ ‬الدينية،‭ ‬فبالوسع‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬الدين‭ ‬هو‭ ‬الوجه‭ ‬العملي‭ ‬للتجربة‭ ‬الروحية؛‭ ‬الدين‭ ‬هو‭ ‬الجانب‭ ‬العقلاني‭ ‬للخبرة‭ ‬الروحية‭ ‬فإذا‭ ‬ما‭ ‬انفصلت‭ ‬الخبرة‭ ‬الروحية‭ ‬عن‭ ‬التجربة‭ ‬الدينية‭ ‬تستحيل‭ ‬التجربة‭ ‬الدينية‭ ‬تجربة‭ ‬كمية‭ ‬ميكانيكية‭ ‬مختزلة‭ ‬مجتزأة،‭ ‬فاختزال‭ ‬الدين‭ ‬في‭ ‬افعل‭ ‬ولا‭ ‬تفعلـ‭ ‬في‭ ‬التحريم‭ ‬والتحليل،‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬والنهى‭ ‬أضفى‭ ‬قداسة‭ ‬زائفة‭ ‬على‭ ‬أولئك‭ ‬الفقهاء‭ ‬الذين‭ ‬يمارسون‭ ‬تلك‭ ‬المهمة،‭ ‬وغدا‭ ‬الدين‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬سوط‭ ‬يقيم‭ ‬الحدود‭ ‬ويعاقب‭ ‬من‭ ‬يقع‭ ‬فيها،‭ ‬انتفت‭ ‬العلاقة‭ ‬الروحية،‭ ‬انتفى‭ ‬الحب‭ ‬والتعلق‭ ‬بالذات‭ ‬الإلهية‭ ‬تعلقاً‭ ‬روحياً. ‬انفرد‭ ‬الفقهاء‭ ‬بالدين،‭ ‬انفرد‭ ‬الشيوخ‭ ‬الغلاظ‭ ‬القساة‭ ‬الصارمون‭ ‬بالدين‭ ‬والفتوى‭ ‬والإرشاد‭ ‬والتوجيه‭ ‬واختُزل‭ ‬الدين‭ ‬في‭ ‬الممارسات‭ ‬والأقوال‭ ‬الميكانيكية‭ ‬الصماء‭ ‬ونحيّت‭ ‬الخبرة‭ ‬الروحية‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬تحتل‭ ‬مكان‭ ‬القلب‭ ‬داخل‭ ‬الدين‭ ‬ثم‭ ‬تجريف‭ ‬ومحو‭ ‬تلك‭ ‬الكتلة‭ ‬الصغيرة‭ ‬الكبيرة،‭ ‬الدين‭ ‬قلب‭ ‬محب‭ ‬عاشق‭ ‬لا‭ ‬مجرد‭ ‬جوارح‭ ‬تخطئ‭ ‬وتصيب‭ ‬تعصي‭ ‬وتطيع‭.‬

وعلى‭ ‬هذا،‭ ‬تبدو‭ ‬الحاجة‭ ‬ماسة‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬النظر‭ ‬أو‭ ‬لنقل‭ ‬نقد‭ ‬المؤسسات‭ ‬الدينية،‭ ‬وعلى‭ ‬المؤسسة‭ ‬الدينية‭ ‬أن‭ ‬تمارس‭ ‬النقد‭ ‬الذاتي‭ ‬الخلاق،‭ ‬فقد‭ ‬تحوّل‭ ‬الدين‭ ‬إلى‭ ‬سلطة،‭ ‬وتحولت‭ ‬المؤسسة‭ ‬الدينية‭ ‬إلى‭ ‬سلطة‭ ‬وتولّد‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬علاقات‭ ‬السلطة،‭ ‬تلك‭ ‬العلاقة‭ ‬التي‭ ‬تمارس‭ ‬بين‭ ‬طرفين‭ ‬أحدهما‭ ‬أعلى‭ ‬والآخر‭ ‬أدنى،‭ ‬فالسلطة‭ ‬الدينية‭ ‬أو‭ ‬المعرفية‭ ‬هي‭ ‬علاقة‭ ‬بين‭ ‬Y‭ ‬وX،‭ ‬فما‭ ‬يقوله‭ ‬Y‭ ‬هو‭ ‬حقيقي‭ ‬لا‭ ‬لشيء‭ ‬سوى‭ ‬لأن‭ ‬من‭ ‬يقوله‭ ‬هو‭ ‬Y‭ ‬ويغدو‭ ‬Y‭ ‬هو‭ ‬المتحدث‭ ‬الرسمي‭ ‬باسم‭ ‬الحقيقة‭.‬

فإذا‭ ‬نظرنا‭ ‬إلى‭ ‬السلطة‭ ‬بوصفها‭ ‬علاقة‭ ‬بين‭ ‬شخص‭ ‬ما‭ ‬وشخص‭ ‬آخر‭ ‬وبو‭ ‬صفها‭ ‬علاقة‭ ‬بين‭ ‬أعلى‭ ‬وأدنى‭ ‬فيما‭ ‬يخص‭ ‬حقل‭ ‬ما‭ ‬أو‭ ‬مجال‭ ‬ما‭ ‬فان‭ ‬السلطة‭ ‬الدينية‭ ‬هي‭ ‬حالة‭ ‬خاصة‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬السلطة،‭ ‬حيث‭ ‬يمثل‭ ‬شخص‭ ‬ما‭ ‬X‭ ‬سلطة‭ ‬دينية‭ ‬واقعية‭ ‬لشخص‭ ‬آخر‭ ‬‭(‬Y‭)‬‭ ‬وذلك‭ ‬عندما‭ ‬يعتقد‭ ‬Y‭ ‬في‭ ‬صدق‭ ‬ما‭ ‬يقوله‭ ‬X‭ ‬لا‭ ‬لشيء‭ ‬سوى‭ ‬أن‭ ‬‭(‬X‭)‬‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬يقوله،‭ ‬وثمة‭ ‬أسباب‭ ‬تدع‭ ‬‭(‬Y‭)‬‭ ‬لأن‭ ‬يثق‭ ‬ثقة‭ ‬لا‭ ‬محدودة‭ ‬فى‭ ‬مزاعم‭ ‬X‭ ‬وتلك‭ ‬الأسباب‭ ‬نتيجة‭ ‬لعدد‭ ‬من‭ ‬المعتقدات‭ ‬التي‭ ‬لدى‭ ‬Y‭ ‬عن‭ ‬X‭ ‬وتلك‭ ‬المعتقدات‭ ‬تمارس‭ ‬فعلها‭ ‬عبر‭ ‬الثقافة‭ ‬والتي‭ ‬تضع‭ ‬ثقة‭ ‬غير‭ ‬محدود‭ ‬في‭ ‬“الخبراء”‭.‬

فثمة‭ ‬منزلة‭ ‬رفيعة‭ ‬لمن‭ ‬لديه‭ ‬سلطة‭ ‬دينية‭ ‬واقعة‭ ‬حيث‭ ‬تتوشّج‭ ‬بمعتقدات‭ ‬بشأن‭ ‬الامتياز‭ ‬المعرفي‭ ‬‭(‬الدينى‭)‬‭ ‬الذي‭ ‬يفترض‭ ‬أنه‭ ‬قار‭ ‬في‭ ‬وضعية‭ ‬بعينها‭.‬

وثمة‭ ‬أيضا‭ ‬سلطة‭ ‬للنصوص‭ ‬تستدعى‭ ‬أن‭ ‬نستحضر‭ ‬ونمارس‭ ‬قراءة‭ ‬ضد‭ ‬النص‭.‬

الخبرة‭ ‬الدينية‭ ‬خبرة‭ ‬روحية‭ ‬في‭ ‬الأساس،‭ ‬حيث‭ ‬تسهم‭ ‬الخبرة‭ ‬الروحية‭ ‬في‭ ‬التئام‭ ‬وتواشج‭ ‬الذوات‭ ‬الإنسانية‭ ‬لا‭ ‬شطرها‭ ‬واقتتالها،‭ ‬وحدها‭ ‬الخبرة‭ ‬الروحية‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬فعل‭ ‬هذا،‭ ‬وها‭ ‬هنا‭ ‬يتجلى‭ ‬دور‭ ‬الخبرة‭ ‬الصوفية‭ ‬والتي‭ ‬من‭ ‬شأنها‭ ‬أن‭ ‬تلم‭ ‬شمل‭ ‬المجتمع‭ ‬العربي‭ ‬بل‭ ‬والإنساني‭.‬

وثمة‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬زعامة‭ ‬روحية‭ ‬حقيقية‭ ‬لا‭ ‬سلطة‭ ‬دينية‭ ‬تمارس‭ ‬الاستعلاء‭ ‬والاستبداد‭ ‬باسم‭ ‬الدين،‭ ‬ولنا‭ ‬أن‭ ‬نشير‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬غاندي‭ ‬ومارتن‭ ‬لوثر‭ ‬كينج‭ ‬‭-‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭-‬‭ ‬بوصفهما‭ ‬زعيمين‭ ‬روحيين‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬حيواتهم‭ ‬تعبيراً‭ ‬عن‭ ‬قيم‭ ‬إنسانية‭ ‬روحية‭ ‬نبيلة،‭ ‬لم‭ ‬ينفصلا‭ ‬عن‭ ‬الواقع‭ ‬المعيش‭ ‬والحياة‭ ‬اليومية،‭ ‬بل‭ ‬أسهما‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الممارسات‭ ‬الظالمة‭ ‬وإعلاء‭ ‬قيم‭ ‬العدالة‭ ‬والحرية‭ ‬والمساواتية‭.‬

نحن‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تغدو‭ ‬المؤسسة‭ ‬الدينية‭ ‬مؤسسة‭ ‬روحية‭ ‬لا‭ ‬مجرد‭ ‬سلطة‭ ‬معرفية‭ ‬متعالية‭ ‬بعيدة‭ ‬تكتفي‭ ‬بإقرار‭ ‬الحلال‭ ‬وتحريم‭ ‬الحرام‭.‬

النخبة تلك‭ ‬المفردة‭ ‬الزائفة

‮ ‬تؤسس‭ ‬مفردة‭ ‬“نخبة”‭ ‬لهيراركية‭ ‬إنسانية‭ ‬وحشية‭ ‬تشطر‭ ‬المجتمع‭ ‬إلى‭ ‬نخبة‭/‬عامة،‭ ‬أو‭ ‬نخبة‭/‬جمهور،‭ ‬هذا‭ ‬التمييز‭ ‬يعد‭ ‬أحد‭ ‬أشكال‭ ‬تحويل‭ ‬المعرفة‭ ‬إلى‭ ‬سلطة‭ ‬وذلك‭ ‬عبر‭ ‬الامتياز‭ ‬الممنوح‭ ‬لتلك‭ ‬النخبة‭ ‬‭(‬العلماء‭ ‬والمثقفين‭)‬،‭ ‬هذا‭ ‬الامتياز‭ ‬يتيح‭ ‬للنخبة‭ ‬أن‭ ‬تنتج‭ ‬المعرفة‭ ‬وأن‭ ‬تغدو‭ ‬المتحدث‭ ‬الرسمي‭ ‬باسم‭ ‬الحقيقة‭ ‬والممثل‭ ‬الرسمي‭ ‬للجمهور‭ ‬أو‭ ‬عامة‭ ‬الناس‭ ‬وهذا‭ ‬ليس‭ ‬حقيقيا،‭ ‬ليس‭ ‬ثمّة‭ ‬نخبة‭ ‬يحق‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تغدو‭ ‬سلطة‭ ‬معرفية‭ ‬داخل‭ ‬المجتمع‭ ‬الإنساني،‭ ‬فتلك‭ ‬القسمة‭ ‬نخبة‭/‬جمهور‭ ‬تشطر‭ ‬المجتمع‭ ‬الإنساني‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬تسهم‭ ‬في‭ ‬شطر‭ ‬الهوية‭ ‬وتؤسس‭ ‬لتهميش‭ ‬العامة‭ ‬وقهر‭ ‬الجمهور،‭ ‬إذ‭ ‬تشي‭ ‬بأن‭ ‬أولئك‭ ‬العامة‭ ‬ليسوا‭ ‬مؤهلين‭ ‬وليس‭ ‬لديهم‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬إنتاج‭ ‬المعرفة‭ ‬وصناعة‭ ‬القرار‭ ‬السياسي،‭ ‬والحاصل‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الجمهور‭ ‬وأولئك‭ ‬العامة‭ ‬هم‭ ‬من‭ ‬تقع‭ ‬عليهم‭ ‬تبعة‭ ‬القرار‭ ‬السياسي،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬يغدو‭ ‬من‭ ‬العدل‭ ‬أن‭ ‬يسهموا‭ ‬بخبرتهم‭ ‬الثمينة‭ ‬معرفياً‭ ‬واجتماعيا‭ ‬في‭ ‬إنتاج‭ ‬المعرفة‭ ‬وصناعة‭ ‬القرار‭ ‬السياسي،‭ ‬إذ‭ ‬المواقع‭ ‬التي‭ ‬يشغلها‭ ‬أولئك‭ ‬العامة‭ ‬هي‭ ‬مواقع‭ ‬لإمكانية‭ ‬معرفية‭ ‬ثمينة،‭ ‬تلك‭ ‬المواقع‭ ‬لديها‭ ‬إمكانية‭ ‬تقديم‭ ‬نقد‭ ‬جذري‭ ‬للمجتمع‭ ‬ولنا‭ ‬أن‭ ‬نشير‭ ‬ها‭ ‬هنا‭ ‬إلى‭ ‬هيجل‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ينتمي‭ ‬إلى‭ ‬العبيد‭ ‬حين‭ ‬قدّم‭ ‬تصوّرا‭ ‬ورؤية‭ ‬لحيواتهم‭ ‬وسياقاتهم‭ ‬وكذا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬كارل‭ ‬ماركس‭ ‬ينتمي‭ ‬إلى‭ ‬البلوريتاريا‭ ‬حين‭ ‬قدم‭ ‬تصورا‭ ‬دقيقا‭ ‬عن‭ ‬واقعهم‭ ‬وحيواتهم. ‬فإذا‭ ‬كان‭ ‬للعامة‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬حيواتهم‭ ‬وتقديم‭ ‬خبراتهم‭ ‬الخاصة‭ ‬سنجد‭ ‬أن‭ ‬خبرة‭ ‬أولئك‭ ‬العامة‭ ‬تدور‭ ‬في‭ ‬مصفوفة‭ ‬رحيبة‭ ‬وسيعة‭ ‬من‭ ‬الاهتمامات‭ ‬والخبرات‭ ‬تفوق‭ ‬تلك‭ ‬الرؤية‭ ‬أو‭ ‬الخبرة‭ ‬الخاصة‭ ‬بالنخبة‭ ‬والتي‭ ‬تتجاوز‭ ‬خبرات‭ ‬ومعاناة‭ ‬الطبقات‭ ‬الدنيا‭.‬

وعند‭ ‬تفكيك‭ ‬تلك‭ ‬القسمة‭ ‬أو‭ ‬ذلك‭ ‬التعارض‭ ‬الثنائي‭ ‬نخبة‭/‬جمهور‭ ‬تسيل‭ ‬النخبة‭ ‬في‭ ‬الجمهور‭ ‬ويسيل‭ ‬الجمهور‭ ‬في‭ ‬النخبة‭ ‬ويتلاشى‭ ‬الفصل‭ ‬وتلتئم‭ ‬الهوية‭ ‬ويتناغم‭ ‬البناء‭ ‬الاجتماعي‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬ينتفي‭ ‬العنف‭ ‬ويخبو‭ ‬التطرف‭ ‬ويتهاوى‭.‬

الشروط‭ ‬العولمية

أسهمت‭ ‬السياسات‭ ‬الدولية‭ ‬العولمية‭ ‬في‭ ‬التأسيس‭ ‬للعنف‭ ‬والقتل‭ ‬عبر‭ ‬ممارسات‭ ‬جائرة،‭ ‬فثمة‭ ‬خطابات‭ ‬تلتئم‭ ‬لتشكل‭ ‬الحاضر‭ ‬والمستقبل‭ ‬وتسحق‭ ‬الشعوب‭ ‬وذلك‭ ‬عبر‭ ‬اقتصاديات‭ ‬التجارة‭ ‬الحرة‭ ‬والخصخصة‭ ‬وسياسات‭ ‬التنمية‭ ‬وعبر‭ ‬نحت‭ ‬مفاهيم‭ ‬جائرة‭ ‬كمفهوم‭ ‬العالم‭ ‬الثالث‭ ‬ذلك‭ ‬المفهوم‭ ‬الذي‭ ‬نحت‭ ‬كي‭ ‬ما‭ ‬يؤسس‭ ‬لما‭ ‬يسمى‭ ‬بالعالم‭ ‬الثالث‭ ‬تأسيساً‭ ‬يمتد‭ ‬ويستمر‭ ‬ولا‭ ‬ينتهي‭ ‬ويظل‭ ‬هناك‭ ‬العالم‭ ‬الثالث‭ ‬المستهلك‭ ‬لما‭ ‬ينتجه‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الرأسمالي،‭ ‬فكل‭ ‬مجتمع‭ ‬هو‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬النظام‭ ‬الرأسمالي‭ ‬وذلك‭ ‬عبر‭ ‬نظرية‭ ‬نظام‭ ‬العالم‭ ‬أو‭ ‬القلب‭ ‬والأطراف،‭ ‬الحواضر‭ ‬والتابعين‭ ‬تلك‭ ‬العلاقة‭ ‬كامنة‭ ‬بعمق‭ ‬في‭ ‬بنية‭ ‬النظام‭ ‬الرأسمالي‭ ‬وقد‭ ‬تم‭ ‬فرضها‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬والحياة‭ ‬الإنسانية‭.‬

توشجت‭ ‬الرأسمالية‭ ‬بالإمبريالية‭ ‬والبطريركية‭ ‬والتأمت‭ ‬معاً‭ ‬وأسهمت‭ ‬في‭ ‬توجيه‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭ ‬والواقع‭ ‬الإنساني‭ ‬الميعش‭ ‬في‭ ‬الجنوب‭.‬

نعم‭ ‬بالوسع‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬الرأسمالية‭ ‬والإمبريالية‭ ‬والبطريركية‭ ‬بوصفها‭ ‬خطابات‭ ‬ملتئمة‭ ‬نافذة‭ ‬في‭ ‬عمق‭ ‬النظام‭ ‬العالمي‭.‬

وجاءت‭ ‬سياسات‭ ‬التنمية،‭ ‬الحلم‭ ‬الواعد‭ ‬بالازدهار‭ ‬والتقدم‭ ‬بينما‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬حقيقتها‭ ‬سياسات‭ ‬ترسخ‭ ‬التخلف‭ ‬وتؤسس‭ ‬للتبعية‭ ‬والفقر‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬العنف‭.‬

وقد‭ ‬منيت‭ ‬تلك‭ ‬السياسات‭ ‬بفشل‭ ‬ذريع‭ ‬وذلك‭ ‬باعتراف‭ ‬من‭ ‬أقرّوها،‭ ‬وبدلا‭ ‬من‭ ‬النموّ‭ ‬والتقدم‭ ‬والازدهار،‭ ‬ذاق‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬شتى‭ ‬بقاع‭ ‬العالم‭ ‬الفقر‭ ‬المدقع،‭ ‬تسرب‭ ‬النمو‭ ‬الاقتصادي‭ ‬الذي‭ ‬وعدت‭ ‬به‭ ‬تلك‭ ‬السياسات‭ ‬وغدت‭ ‬سياسات‭ ‬التنمية‭ ‬هي‭ ‬وريثة‭ ‬الخطاب‭ ‬الاستعماري‭.‬

وفي‭ ‬الأخير،‭ ‬ثمة‭ ‬إمكانية‭ ‬قوية‭ ‬‭-‬إذا‭ ‬ما‭ ‬انقشع‭ ‬ذلك‭ ‬الأفق‭ ‬المقيت،‭ ‬أفق‭ ‬الفصل‭-‬‭ ‬لأن‭ ‬تشرق‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬الإنساني،‭ ‬مجتمع‭ ‬الإنسانية‭ ‬المتكاملة‭ ‬الملتئمة‭.. ‬مجتمع‭ ‬يتأسس‭ ‬على‭ ‬الصلات‭ ‬والوشائج‭ ‬المتنوعة‭ ‬المتآلفة‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬الفصل‭ ‬والعنف‭ ‬والصدام‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.