سجن‭ ‬ويكفيلد‭ ‬الإنكليزي

الأربعاء 2017/03/01
لوحة: سعد يكن

في‭ ‬المخيّم‭ ‬المؤقّت‭ ‬في‭ ‬بلدة‭ ‬ويكفيلد،‭ ‬بقيت‭ ‬قرابة‭ ‬أسبوعين،‭ ‬تفاجأت‭ ‬بالمبنى‭ ‬المقابل. ‬كان‭ ‬سجن‭ ‬ويكفيلد‭ ‬الرهيب‭ ‬مقابل‭ ‬المخيّم‭.‬

حين‭ ‬اكتشفت‭ ‬أنّ‭ ‬السجن‭ ‬يربض‭ ‬على‭ ‬بعد‭ ‬أمتار‭ ‬قليلة‭ ‬من‭ ‬غرفتي‭ ‬لم‭ ‬أستطع‭ ‬النوم‭ ‬إلّا‭ ‬لماماً،‭ ‬كنت‭ ‬أفيق‭ ‬بين‭ ‬الساعة‭ ‬والأخرى‭ ‬متوجّساً،‭ ‬تساءلت‭ ‬كثيراً‭ ‬في‭ ‬نفسي‭ ‬هل‭ ‬من‭ ‬المصادفة‭ ‬اختيار‭ ‬هذا‭ ‬الفندق‭ ‬الكبير‭ ‬مقابل‭ ‬السجن‭ ‬الضخم‭ ‬ليكون‭ ‬عتبة‭ ‬مؤقّتة‭ ‬للاجئين‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬لجوئهم‭ ‬في‭ ‬بريطانيا،‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬لدفعهم‭ ‬إلى‭ ‬التحفّظ‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬حياتهم‭ ‬الجديدة،‭ ‬وترويعهم‭ ‬من‭ ‬رعب‭ ‬السجن‭ ‬المخيّم‭ ‬على‭ ‬المخيّم‭ ‬نفسه‭.‬

بدت‭ ‬المنطقة‭ ‬المحيطة‭ ‬بالسجن‭ ‬والمخيّم‭ ‬هادئة‭ ‬تماماً،‭ ‬لم‭ ‬أستطع‭ ‬منع‭ ‬نفسي‭ ‬من‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬حكايات‭ ‬المسجونين‭ ‬ومآسيهم‭ ‬وأنا‭ ‬القادم‭ ‬من‭ ‬بلاد‭ ‬كان‭ ‬سجوناً‭ ‬مفتوحة‭ ‬على‭ ‬العدم،‭ ‬سجوناً‭ ‬محاطة‭ ‬بأسوار‭ ‬من‭ ‬الخوف‭ ‬والرعب‭ ‬والترويع‭ ‬والجنون،‭ ‬تقهر‭ ‬الإنسان‭ ‬وتدمي‭ ‬روحه‭.‬

تذكّرت‭ ‬ليالي‭ ‬قضيتها‭ ‬في‭ ‬سجن‭ ‬القطعة‭ ‬العسكريّة‭ ‬أثناء‭ ‬خدمتي‭ ‬الإلزاميّة،‭ ‬كان‭ ‬قائد‭ ‬الكتيبة‭ ‬أمر‭ ‬بسجني،‭ ‬وهناك‭ ‬كان‭ ‬القهر‭ ‬والإذلال‭ ‬على‭ ‬أشدّه،‭ ‬كان‭ ‬السعي‭ ‬منصبّا‭ ‬على‭ ‬إشعار‭ ‬السجين‭ ‬أنّه‭ ‬ليس‭ ‬إلّا‭ ‬شيئاً‭ ‬للتسلية‭ ‬والتعذيب،‭ ‬وأنّه‭ ‬سيمضي‭ ‬حياته‭ ‬كلّها‭ ‬في‭ ‬مستنقع‭ ‬الذلّ‭ ‬ذاك،‭ ‬وبرغم‭ ‬أنّ‭ ‬السجّانين‭ ‬كانوا‭ ‬من‭ ‬العساكر‭ ‬الذين‭ ‬يعتبرون‭ ‬زملاء‭ ‬في‭ ‬الخدمة‭ ‬الإلزاميّة،‭ ‬إلّا‭ ‬أنّهم‭ ‬كانوا‭ ‬يتحوّلون‭ ‬إلى‭ ‬وحوش‭ ‬بمجرّد‭ ‬أن‭ ‬يتمّ‭ ‬إغلاق‭ ‬الأبواب‭ ‬علينا‭ ‬في‭ ‬السجن‭.‬

كانت‭ ‬تجربة‭ ‬فظيعة،‭ ‬برغم‭ ‬أنّها‭ ‬لم‭ ‬تتجاوز‭ ‬بضع‭ ‬ليالٍ،‭ ‬إلّا‭ ‬أنّني‭ ‬أشعر‭ ‬بالعار‭ ‬حين‭ ‬أستعيدها،‭ ‬أشعر‭ ‬بالعار‭ ‬لانتمائي‭ ‬بطريقة‭ ‬ما‭ ‬إلى‭ ‬أولئك‭ ‬الجلّادين‭ ‬الذين‭ ‬تجرّدوا‭ ‬من‭ ‬إنسانيّتهم‭ ‬وأصبحوا‭ ‬أدوات‭ ‬للقمع‭ ‬والتنكيل‭.‬

استرجعت‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬سرديّات‭ ‬السجون‭ ‬ويوميّات‭ ‬أدباء‭ ‬تعرّضوا‭ ‬لهذه‭ ‬التجربة‭ ‬الوحشيّة‭ ‬القاسية،‭ ‬كنت‭ ‬أتأمّل‭ ‬الجدار‭ ‬الشاهق‭ ‬المزروع‭ ‬بكاميرات‭ ‬المراقبة،‭ ‬أحاول‭ ‬تخيّل‭ ‬ما‭ ‬وراءه‭ ‬فأرتعب‭ ‬لمجرّد‭ ‬تصوّر‭ ‬أن‭ ‬يتماهى‭ ‬مع‭ ‬صور‭ ‬الواقع‭ ‬والذاكرة‭ ‬التي‭ ‬أحتفظ‭ ‬بها‭ ‬عن‭ ‬سجون‭ ‬بلدي‭ ‬الشهيرة‭ ‬بوحشيّتها‭ ‬وسفالتها‭ ‬وإجرامها‭.‬

أحاول‭ ‬تهدئة‭ ‬مشاعر‭ ‬نقمتي‭ ‬وغضبي،‭ ‬أهرب‭ ‬إلى‭ ‬المكتبة‭ ‬التي‭ ‬أجد‭ ‬فيها‭ ‬راحتي‭ ‬وملاذي،‭ ‬أهدّئ‭ ‬أعصابي‭ ‬هناك،‭ ‬أجلس‭ ‬بين‭ ‬رفوف‭ ‬الكتب‭ ‬أتأمّل‭ ‬حاضري‭ ‬وماضيّ،‭ ‬وأتخيّل‭ ‬صوراً‭ ‬متناقضة‭ ‬للمستقبل. ‬هل‭ ‬بدأت‭ ‬خيباتي‭ ‬حينها؟‭ ‬هل‭ ‬كان‭ ‬المخيّم‭ ‬عتبة‭ ‬للخيبة‭ ‬ومعبراً‭ ‬إلى‭ ‬سجن‭ ‬اللجوء‭ ‬وزنزانة‭ ‬الاغتراب؟

لم‭ ‬أرد‭ ‬لنفسي‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬سجين‭ ‬أيّ‭ ‬كابوس‭ ‬أو‭ ‬رعب‭ ‬أو‭ ‬واقع،‭ ‬حاولت‭ ‬تخطّي‭ ‬ذاك‭ ‬التوجّس‭ ‬الذي‭ ‬خلّفه‭ ‬جدار‭ ‬السجن‭ ‬في‭ ‬روحي،‭ ‬وأربكني‭ ‬وزعزع‭ ‬أماني‭ ‬المتوهّم،‭ ‬أعادني‭ ‬بطريقة‭ ‬ما‭ ‬إلى‭ ‬أرض‭ ‬الواقع‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬أوهام‭ ‬الانتقال‭ ‬إلى‭ ‬فردوس‭ ‬متخيّل‭.‬

يضع‭ ‬السجن‭ ‬حدّاً‭ ‬للوهم‭ ‬ويعشّش‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭ ‬بحضوره‭ ‬الدائم،‭ ‬فذكريات‭ ‬الأيّام‭ ‬الأولى‭ ‬لا‭ ‬تنسى،‭ ‬تخلّد‭ ‬في‭ ‬الذواكر،‭ ‬هي‭ ‬تماماً‭ ‬كذكريات‭ ‬الأيّام‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬الخدمة‭ ‬العسكريّة‭ ‬الإجباريّة‭ ‬في‭ ‬بلدي،‭ ‬يعيد‭ ‬صاحبها‭ ‬الحديث‭ ‬عنها‭ ‬حتّى‭ ‬يشيخ،‭ ‬ودائماً‭ ‬بالحماس‭ ‬نفسه،‭ ‬تفترش‭ ‬الذاكرة‭ ‬ولا‭ ‬تفسح‭ ‬أيّ‭ ‬مجال‭ ‬للنسيان‭ ‬كي‭ ‬يغافلها‭ ‬أو‭ ‬يمحوها. ‬هكذا‭ ‬هي‭ ‬أيّام‭ ‬اللجوء‭ ‬الأولى،‭ ‬تبقى‭ ‬وشماً‭ ‬في‭ ‬الروح‭ ‬والذاكرة‭.‬

أحاول‭ ‬جاهداً‭ ‬أن‭ ‬أتصالح‭ ‬مع‭ ‬تناقضات‭ ‬الحياة،‭ ‬أؤكّد‭ ‬لنفسي‭ ‬أنّ‭ ‬السجون‭ ‬مؤسّسات‭ ‬ضروريّة‭ ‬للدول‭ ‬كي‭ ‬تحفظ‭ ‬توازنها،‭ ‬أتخيّل‭ ‬دولاً‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬سجون،‭ ‬أماكن‭ ‬يتطهّر‭ ‬فيها‭ ‬الإنسان‭ ‬من‭ ‬وحشيّته،‭ ‬يتسامى‭ ‬عن‭ ‬الروح‭ ‬الإجراميّة‭ ‬التي‭ ‬تعصف‭ ‬به،‭ ‬وأدرك‭ ‬أنّ‭ ‬تخيّلاتي‭ ‬قد‭ ‬تندرج‭ ‬في‭ ‬دائرة‭ ‬الوهم‭ ‬والمثاليات‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬توصف‭ ‬بالمجنونة،‭ ‬إلّا‭ ‬أنّ‭ ‬الجنون‭ ‬أحياناً‭ ‬يكون‭ ‬ضروريّاً‭ ‬للحفاظ‭ ‬على‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬التعقّل،‭ ‬ولا‭ ‬بأس‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬جنوناً‭ ‬مثاليّا‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬جنوناً‭ ‬مدمّراً‭ ‬إجراميّاً‭.‬

أدرّب‭ ‬نفسي‭ ‬منذ‭ ‬فترة‭ ‬على‭ ‬التخلّي‭ ‬عن‭ ‬روح‭ ‬الشرّ‭ ‬التي‭ ‬تسكن‭ ‬الإنسان،‭ ‬أقمع‭ ‬دوافع‭ ‬الغضب‭ ‬التي‭ ‬تجتاحني،‭ ‬أحاول‭ ‬أن‭ ‬أقنع‭ ‬نفسي‭ ‬بوجوب‭ ‬التحلّي‭ ‬بروح‭ ‬السماحة‭ ‬والتسامح،‭ ‬لا‭ ‬من‭ ‬مبدأ‭ ‬القوة‭ ‬أو‭ ‬الضعف،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬موجبات‭ ‬استمرار‭ ‬الحياة‭ ‬نفسها،‭ ‬لأنّني‭ ‬حين‭ ‬أحقد‭ ‬على‭ ‬شخص‭ ‬ما‭ ‬أو‭ ‬أكرهه‭ ‬فإنّ‭ ‬ذلك‭ ‬ينال‭ ‬منّي،‭ ‬يحدث‭ ‬ارتجاجاً‭ ‬في‭ ‬روحي،‭ ‬أفقد‭ ‬توازني،‭ ‬أخرج‭ ‬عن‭ ‬مسار‭ ‬الأمان‭ ‬المأمول‭ ‬وأدخل‭ ‬طور‭ ‬الضياع‭ ‬الكارثيّ‭.‬

أقنع‭ ‬نفسي‭ ‬بأن‭ ‬أهمل‭ ‬من‭ ‬يسيء‭ ‬إليّ‭ ‬فالزمن‭ ‬كفيل‭ ‬بمعاقبته‭ ‬بطريقته‭ ‬الخاصّة،‭ ‬وأؤمن‭ ‬بدروس‭ ‬الزمن‭ ‬وعبره،‭ ‬واستحالة‭ ‬أن‭ ‬ينفذ‭ ‬المرء‭ ‬من‭ ‬العقاب‭ ‬الذي‭ ‬يناسب‭ ‬ما‭ ‬يقترفه‭ ‬بحقّ‭ ‬غيره. ‬أحاول‭ ‬أن‭ ‬أنسى،‭ ‬أو‭ ‬أبقي‭ ‬تلك‭ ‬الشعلة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أيّ‭ ‬تغذية‭ ‬بمشاعر‭ ‬الحقد‭ ‬والكراهيّة‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬أفسح‭ ‬لها‭ ‬المجال‭ ‬لتحرق‭ ‬كياني‭ ‬وروحي‭ ‬وتعكّر‭ ‬صفو‭ ‬أيّامي‭.‬


لوحة: سعد يكن

دفعتني‭ ‬الأمكنة‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬وجدت‭ ‬نفسي‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬الغوص‭ ‬في‭ ‬داخلي،‭ ‬ومراجعة‭ ‬ذاتي‭ ‬وأيّامي‭ ‬المنصرمة‭ ‬وذكريات‭ ‬الأسى‭ ‬والقهر‭ ‬والهدر‭ ‬التي‭ ‬أحملها‭ ‬معي‭ ‬كأعباء‭ ‬تثقل‭ ‬كاهلي،‭ ‬أقنعت‭ ‬نفسي‭ ‬أنّ‭ ‬الزمن‭ ‬القادم‭ ‬لا‭ ‬يحتمل‭ ‬المضيّ‭ ‬تحت‭ ‬أعباء‭ ‬تلك‭ ‬الأحقاد‭ ‬والأحزان‭ ‬والمآسي،‭ ‬وأنّه‭ ‬يحتاج‭ ‬للتخفّف‭ ‬من‭ ‬حمولتها‭ ‬لأتمكّن‭ ‬من‭ ‬العبور‭ ‬إلى‭ ‬غدي‭ ‬بأقلّ‭ ‬الخسائر‭ ‬الممكنة‭.‬

حين‭ ‬يحقد‭ ‬امرؤ‭ ‬على‭ ‬آخر،‭ ‬وحين‭ ‬يسكن‭ ‬روحه‭ ‬بالكراهية‭ ‬اللعينة،‭ ‬يغدو‭ ‬مرتهناً‭ ‬للقلق‭ ‬والتوتّر،‭ ‬يفكّر‭ ‬في‭ ‬سبل‭ ‬الإيقاع‭ ‬بمَن‭ ‬يعدّهم‭ ‬أعداء‭ ‬له،‭ ‬يوقف‭ ‬مخطّطاته‭ ‬لتعكير‭ ‬حياتهم‭ ‬والانتقام‭ ‬لنفسه‭ ‬منهم،‭ ‬ينشغل‭ ‬بوسائل‭ ‬الشرّ‭ ‬ويقع‭ ‬في‭ ‬فخّ‭ ‬الأشرار‭ ‬الذين‭ ‬يخرجونه‭ ‬عن‭ ‬طوره‭ ‬ويغيّرون‭ ‬مسار‭ ‬حياته،‭ ‬يضعونه‭ ‬في‭ ‬مواجهتهم‭ ‬ليكون‭ ‬انعكاساً‭ ‬لتشوّههم،‭ ‬ولا‭ ‬يستطيع‭ ‬التخلّص‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬القيد‭ ‬إلّا‭ ‬بالتسامي‭ ‬على‭ ‬جراحه،‭ ‬ومحاولة‭ ‬التناسي،‭ ‬أو‭ ‬إهمال‭ ‬الجرح‭ ‬وإفساح‭ ‬المجال‭ ‬للزمن‭ ‬كي‭ ‬يداويه. ‬صحيح‭ ‬أنّ‭ ‬الزمن‭ ‬خير‭ ‬دواء‭ ‬وعلاج،‭ ‬خير‭ ‬مداوٍ‭ ‬ومعالج‭.‬

كنت‭ ‬وما‭ ‬زلت‭ ‬أتذكّر‭ ‬بيت‭ ‬شعر‭ ‬مؤثّراً‭ ‬لجبران‭ ‬خليل‭ ‬جبران‭ ‬في‭ ‬قصيدته‭ ‬المميّزة‭ ‬“العواصف”‭: ‬“وقاتل‭ ‬الجسم‭ ‬مقتول‭ ‬بفعلته‭ ‬وقاتل‭ ‬الروح‭ ‬لا‭ ‬تدري‭ ‬به‭ ‬البشر”. ‬فلسفة‭ ‬الشاعر‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬العقوبة‭ ‬متمثّلة‭ ‬بالجريمة‭ ‬نفسها،‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬جريمة‭ ‬القاتل‭ ‬عقوبته‭ ‬الجاثمة‭ ‬على‭ ‬صدره‭ ‬تنخر‭ ‬روحه‭ ‬رويداً‭ ‬رويداً‭ ‬لحين‭ ‬تفتيته‭ ‬وإغراقه‭ ‬بالعذاب‭.‬

كان‭ ‬الروتين‭ ‬اليوميّ‭ ‬في‭ ‬المخيّم‭ ‬أشبه‭ ‬بروتين‭ ‬السجن‭ ‬نفسه،‭ ‬أوقات‭ ‬الوجبات‭ ‬الغذائيّة‭ ‬محدّدة‭ ‬بدقّة،‭ ‬يتمّ‭ ‬توزيع‭ ‬المخصّصات‭ ‬على‭ ‬اللاجئين،‭ ‬تمكن‭ ‬مصادفة‭ ‬صور‭ ‬من‭ ‬الترفّع‭ ‬والتعفّف‭ ‬وأخرى‭ ‬من‭ ‬التكبّر‭ ‬والوضاعة‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬يتكالب‭ ‬بعضهم‭ ‬على‭ ‬الطعام‭ ‬بطريقة‭ ‬مقزّزة،‭ ‬يظنّون‭ ‬أنّها‭ ‬شطارة،‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬ينخر‭ ‬الجوع‭ ‬أجسادهم‭ ‬لن‭ ‬يستدلّوا‭ ‬إلى‭ ‬أيّ‭ ‬طريق‭ ‬للشبع‭.‬

كنت‭ ‬أحمل‭ ‬بطاقة‭ ‬الوجبة‭ ‬وأقف‭ ‬في‭ ‬الدور‭ ‬منتظراً،‭ ‬أمارس‭ ‬هوايتي‭ ‬الدائمة‭ ‬في‭ ‬تأمّل‭ ‬البشر‭ ‬وسلوكيّاتهم،‭ ‬وكيف‭ ‬أنّهم‭ ‬يدخلون‭ ‬مضمار‭ ‬مسابقة‭ ‬لا‭ ‬نهاية‭ ‬لها،‭ ‬مسابقة‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬لعبة‭ ‬الحياة‭ ‬نفسها. ‬كنت‭ ‬أفكّر‭ ‬بالمساجين‭ ‬على‭ ‬الجانب‭ ‬الآخر‭ ‬من‭ ‬الشارع،‭ ‬وراء‭ ‬تلك‭ ‬الأسوار‭ ‬العالية،‭ ‬وكيف‭ ‬أنّهم‭ ‬ينتظرون‭ ‬دورهم‭ ‬أيضاً‭ ‬للحظوة‭ ‬بوجبتهم،‭ ‬وما‭ ‬يفرض‭ ‬عليهم‭ ‬من‭ ‬انضباط‭ ‬وتقييد،‭ ‬ثمّ‭ ‬أعود‭ ‬إلى‭ ‬مشاهد‭ ‬قاعة‭ ‬الطعام‭ ‬الكبيرة‭ ‬وأراقب‭ ‬اللاجئين‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬الجنسيّات،‭ ‬والاختلافات‭ ‬في‭ ‬طريقة‭ ‬أكل‭ ‬الطعام‭ ‬نفسه،‭ ‬وكيف‭ ‬أنّ‭ ‬الأكل‭ ‬ثقافة‭ ‬تعكس‭ ‬ثقافة‭ ‬تاريخيّة‭ ‬وحياتيّة‭ ‬واجتماعيّة‭ ‬وحضاريّة‭ ‬برمّتها‭.‬

مزيج‭ ‬غير‭ ‬متجانس‭ ‬من‭ ‬اللغات‭ ‬والشعوب،‭ ‬أفارقة‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬الدول‭ ‬الأفريقيّة‭ ‬يتقوقعون‭ ‬على‭ ‬أنفسهم،‭ ‬إيرانيّون‭ ‬يعلّقون‭ ‬صلباناً‭ ‬كبيرة‭ ‬يتعاملون‭ ‬بنوع‭ ‬من‭ ‬التعالي‭ ‬على‭ ‬غيرهم،‭ ‬ويشعرون‭ ‬بنوع‭ ‬من‭ ‬التفوّق‭ ‬عليهم،‭ ‬يعدّون‭ ‬كثيرين‭ ‬من‭ ‬اللاجئين‭ ‬الذين‭ ‬معهم‭ ‬في‭ ‬المخيّم‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬ماضيهم‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يغيّروا‭ ‬ديانتهم،‭ ‬وكثيراً‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يتردّد‭ ‬أنّهم‭ ‬إنّما‭ ‬يغيّرون‭ ‬دينهم‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬الإقامة‭ ‬لا‭ ‬غير،‭ ‬وكان‭ ‬الردّ‭ ‬التالي‭ ‬بأنّ‭ ‬مكسب‭ ‬الكنيسة‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬الأجيال‭ ‬التالية‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬الجيل‭ ‬الانتهازيّ‭ ‬الذي‭ ‬يقلب‭ ‬دينه‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬غايته‭ ‬في‭ ‬الإقامة‭ ‬فقط‭.. ‬ثمّ‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬عرب‭ ‬وكُرد‭ ‬يخوضون‭ ‬نقاشاتهم‭ ‬السياسيّة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تنتهي‭ ‬بالعادة،‭ ‬ولا‭ ‬ينفكّون‭ ‬ينظرون‭ ‬إلى‭ ‬أولئك‭ ‬الإيرانيّين‭ ‬بنوع‭ ‬من‭ ‬الاستهجان‭ ‬لانتهازيّتهم‭ ‬وتغييرهم‭ ‬دينهم‭ ‬وزعمهم‭ ‬تغيير‭ ‬جلودهم‭ ‬بتلك‭ ‬السرعة،‭ ‬ولا‭ ‬يعدم‭ ‬بعض‭ ‬منهم‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬شعور‭ ‬بنوع‭ ‬من‭ ‬التفوّق‭ ‬عليهم‭ ‬لأنّهم‭ ‬ما‭ ‬زالوا‭ ‬متشبّثين‭ ‬بدينهم‭ ‬ويحاولون‭ ‬إبراز‭ ‬ذاك‭ ‬التشبّث‭ ‬وإظهاره‭ ‬بطريقة‭ ‬مباشرة‭ ‬للدلالة‭ ‬على‭ ‬قوّة‭ ‬عقيدتهم‭.‬

أحياناً‭ ‬أفيق‭ ‬من‭ ‬النوم‭ ‬مذعوراً،‭ ‬أستعيد‭ ‬ظلال‭ ‬جدران‭ ‬سجن‭ ‬ويكفيلد‭ ‬العالية‭ ‬وأتخيّل‭ ‬أشباحاً‭ ‬تنقضّ‭ ‬عليّ‭ ‬في‭ ‬غرفتي‭ ‬المقابلة‭ ‬لها. ‬أحاول‭ ‬تحويل‭ ‬الذعر‭ ‬إلى‭ ‬طرفة‭ ‬أتسلّى‭ ‬بها،‭ ‬أقول‭ ‬لنفسي‭ ‬كأنّ‭ ‬ذكريات‭ ‬السجون‭ ‬وظلالها‭ ‬الكارثيّة‭ ‬وحكاياتها‭ ‬المريعة‭ ‬التي‭ ‬أختزنها‭ ‬في‭ ‬ذاكرتي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تكفي‭ ‬لإبقائي‭ ‬كائناً‭ ‬قلقاً‭ ‬مسكوناً‭ ‬بالخوف‭ ‬فجاءت‭ ‬ذكريات‭ ‬الأيّام‭ ‬الأولى‭ ‬للجوء‭ ‬لتكرّس‭ ‬ذاك‭ ‬المخزون‭ ‬من‭ ‬الأسى‭ ‬والخوف،‭ ‬وتزيد‭ ‬كوابيسي‭ ‬ووساوسي‭.‬

هكذا‭ ‬أبدّد‭ ‬حالة‭ ‬الخوف‭ ‬حين‭ ‬تتلبّسني،‭ ‬أحيلها‭ ‬إلى‭ ‬سخرية،‭ ‬أفقدها‭ ‬هيبتها‭ ‬ومعناها،‭ ‬أعابثها‭ ‬لأتمكّن‭ ‬من‭ ‬تعريتها‭ ‬والنظر‭ ‬إليها‭ ‬كعبث‭ ‬لن‭ ‬أسمح‭ ‬له‭ ‬بتعكير‭ ‬حياتي‭ ‬وأيّامي‭ ‬القادمة‭.‬

سجن‭ ‬ويكفيلد‭ ‬أحد‭ ‬معالم‭ ‬رحلتي‭ ‬إلى‭ ‬عالمي‭ ‬الجديد،‭ ‬طبعت‭ ‬جدرانه‭ ‬في‭ ‬ذاكرتي‭ ‬وخيالاتي،‭ ‬وتحوّلت‭ ‬إلى‭ ‬كابوس‭ ‬يعود‭ ‬لزيارتي‭ ‬بين‭ ‬الفينة‭ ‬والأخرى‭.‬

مرحباً‭ ‬بالكوابيس‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬لن‭ ‬تنافس‭ ‬بأيّ‭ ‬شكل‭ ‬من‭ ‬الأشكال‭ ‬كوابيسي‭ ‬المستوطنة‭ ‬في‭ ‬روحي‭ ‬وعقلي‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.