انتصار العنصرية في بلد حقوق الإنسان

السبت 2017/04/01
لوحة: سهير سباعي

ولسائل أن يسأل: كيف استطاع حزب فاشيّ أن يتصدر المشهد السياسي؟ وكيف أمكن للخطاب العنصري أن يخصب في بلد حقوق الإنسان؟ وكيف باتت الأغلبية ميالة إلى تنصيب زعيمة شعبوية ليس في برنامجها ما يخرج فرنسا من أزماتها؟

للإجابة عن تلك الأسئلة ينبغي العودة إلى نشأة هذا الحزب وأيديولوجيته وشعاراته، والعوامل التي جعلته اليوم أشبه بحزب طبيعي، يبث خطابه مثل بقية الأحزاب، ويرى أن الحكم صار بالنسبة إليه يسير المنال.

تأسست الجبهة الوطنية في 27 أكتوبر 1972 كفرع من تنظيم فاشي يدعى النظام الجديد كان يندد بما يسميه «الهجرة المتوحشة» بتعلة الدفاع عن الغرب، ويدعو إلى «مواجهة الرعب الأحمر». اختار أحدُ مؤسسيه وهو الكاتبُ اليميني المتطرف ويل إمانويل ألّو (1919-2012) جان ماري لوبان رئيسا له ومرشحه في الانتخابات الرئاسية لعام 1974، مثلما اختار شعار حزب الفاشية الجديدة الإيطالي، الحركة الاجتماعية الإيطالية، وهو عبارة عن شعلة ثلاثية الألوان. وكان لوبان، الذي شارك في معارك بورت فؤاد بمصر وفي معركة الجزائر العاصمة واتهم بالتعذيب، لا يزال ملتزما بماضيه البوجادي ذ نسبة إلى بيير بوجاد (1920-2003) الذي أنشأ حركة نقابية وسياسية تعادي الشيوعية وترفض التطورات المجتمعية الجارية وتدافع عن صغار المقاولين والتجار. ولكن فرانسوا دوبرا (1940-1978) أحد رموز اليمين المتطرف أقنعه بضرورة الاهتمام بمسألة الهجرة، والتركيز على ملامحها الاجتماعية والاقتصادية، لا سيما بعد ظهور البطالة وإقرار الرئيس جيسكار ديستان بحق المهاجرين في استقدام عائلاتهم، وهو ما ولّد الخوف والاستنكار لدى شرائح من الشعب، سوف يعمل حزب الجبهة الوطنية على توسيعها وتضخيمها على مرّ السنين.

طوال العشرية الأولى، كان الحزب نهبا للخلافات، لا يضم في صفوفه أكثر من خمسمائة منخرط، قادمين في معظمهم من تيارات متنافرة، كالأصوليين الكاثوليك والثوريين، من داخل فرنسا وخارجها، أو المنسلخين عن اليمين التقليدي. وكان الحزب يعتبر نفسه منذ انبعاثه الممثل الوحيد ليمين «اجتماعي شعبي وطني»، وبلد ينبغي أن تكون الأولوية فيه لمواطنيه في شتى المجالات، وقد عبّر عن ذلك من خلال شعار رمزي «الفرنسيون أولا»، كان بمثابة الخط الواجب اتباعه، على غرار شعار ترامب «أمريكا أولا.» ومنذ 1977 توخى جان ماري لوبان استراتيجيا اجتماعية وسياسية ذات صبغة عنصرية عملا بتوصية أمين مال الحزب بيير بوسكيه (1919-1991) الضابط الأسبق في فرق الحماية النازية إس إس، مع التنديد بالهجرة كعامل بطالة وانخرام أمن. فمضى لوبان وأعوانه في كل منبر يصفون المهاجر بكونه انتهازيا يسرق عمل الفرنسي، ويعيش عالة على المجتمع، ويهدد أمن الفرنسيين مستغلا تراخي اليسار، دون أن يقع الربط بين صورة المهاجر والمسلم، رغم محاولة يائسة في أواسط الثمانينات. وقد أتت تلك الاستراتيجيا أُكلها منذ عام 1983 حيث حقق الحزب أول انتصاراته خلال الانتخابات البلدية بمدينة درو، ثم في الانتخابات الأوروبية عام 1984 بدخول عشرة نواب إلى البرلمان الأوروبي. ولولا تصريحات لوبان عام 1987 التي أدين عليها بتهمة «معاداة السامية وإنكار المحرقة» حين وصف غرف الغاز بـ»جزئية من جزئيات التاريخ»، لمضى الحزب في تحقيق أرقام أكبر مما حققه في الأعوام الموالية.

استغل هذا الحزب إذن تدهور الأوضاع الاقتصادية وتآكل القيم واعتماد قطاعات كثيرة على العمالة الأجنبية ليبث خطابا شعبويا عنصريا ما انفك يستقطب شرائح المجتمع الضعيفة، تلك التي تراجعت قدرتها الشرائية بتراجع موقع فرنسا كقوة اقتصادية كبرى، ما دفع تشكيلات حزبية أخرى إلى تبني خطاب الجبهة الوطنية ولغتها وأفكارها، طمعا في تجفيف منابعها. ولئن كان تسرب العدوى قد بدأ منذ أواخر السبعينات، من خلال تحالف اليمين مع الجبهة الوطنية لسد الطريق أمام الاشتراكيين في الانتخابات البلدية، فإن التسعينات شهدت تشدد خطابِ حزبَي اليمين (التجمع من أجل الجمهورية) والوسط (الاتحاد من أجل الديمقراطية الفرنسية) تجاه الهجرة، تشدُّدًا بلغ ذروته عام 1998 في الانتخابات الجهوية، حيث تحالف اليمين في جهات عديدة مع الجبهة الوطنية لتحقيق الفوز، ما جعل اليمين المتطرف في عيون الفرنسيين بديلا جديرا بالحكم هو أيضا. ولكن العدوى استفحلت مع نيكولا ساركوزي، حيث لعب دورا حاسما في تحرير الخطاب العنصري، بتبنيه سياسة الجبهة الوطنية ومعجمها لانتزاع ناخبيها وجلبهم إلى حضيرة حزبه (الذي صار يسمى في الأثناء الاتحاد من أجل الشعب)، عملا بتوجيهات مستشاره الخاص باتريك بويسون المثقف اليميني المتطرف. انتصر ساركوزي عام 2007 ولكنه أخرج المارد من قمقمه، لا سيما بعد بعث وزارة الهجرة والاندماج والهوية الوطنية والتنمية التضامنية، فقد باتت الثيمات الجبهوية تحتل صدارة الجدل الساسي العام، وتثار كنوع من القضايا الجديرة بالطرح والمعالجة، دون اعتبار لجوانبها العنصرية. ذلك أن ساركوزي، بربطه «الهوية» بـ «الوطنية» ألغى «الآخر، الأجنبي»، وقدّم الضمير «نحن» على الضمير «هم» الذي يعود على المهاجرين. وبالجمع «الشفاف» بين الهوية الوطنية والهجرة، تبنى اليمين مؤشرا أيديولوجيا خاصا بالجبهة الوطنية. ومن الدلائل العميقة على استشراء عدوى الخطاب الجبهوي ذاك في صفوف اليمين التقليدي أن «فرنسا أولا» هي التسمية التي تصدرت اختيارات مناضليه بعد أن قرر ساركوزي تغيير اسم الحزب، مرة أخرى، في محاولة للتهرب من تتبعات قضائية طالت حزبه وبعض قادته، وطالته هو شخصيا بعد إزاحته عن السلطة.


لوحة: سلافة حجازي

احتلت مارين لوبان المركز الثالث في انتخابات 2012، ولكنها وجدت الطريق ممهدة كي تمضي في نشر خطابها الشعبوي، ولو أن الخط السياسي تغير، إذ تم ربط الخطاب عن الهجرة هذه المرة بالتنديد الشديد بالإسلاموية، مع تأويل مخصوص للعلمانية. فالجبهة الوطنية لم تعد تتذرع بالدوافع الاجتماعية وحدها في محاربة الهجرة، بل صارت تضيف إليها التهديد الذي تشكله الجاليات الإسلامية على القيم الجمهورية، والتي تزعم الجبهة أنها الأقدر على مواجهته. إذ إن مارين لوبان نصبت نفسها، بدعوى مقاومة «التوتاليتارية الإسلامية»، مناضلة تدافع عن حقوق المرأة والمثليين والخدمات العامة واللائكيةة وهو ما لم يكن متخيلا في عهد لوبان الأب. فهي تختلف عنه في هذه النقطة مثلما تختلف عنه في نظرية «التعويض الأكبر» التي جاء بها رونو كامو، إذ لا تتصور أن الهجرة تلبي خطة مرسومة، بل هي ف ينظرها وسيلة تستعملها الأطراف المالية الكبرى لتكريس انخفاض الأجور، وجزء من تبعات العولمة المدمرة كما تقول. والتغير باد أيضا على المستوى الدلالي، حيث ناب التنديد بالإسلاميين و»المهاجرين العابرين القادمين من بؤر التوتر» عن التهجم على العرب والمهاجرين المقيمين، في إطار خطة تهدف إلى استقطاب ناخبين جدد حتى من بين الجاليات العربية الناقمة على اليسار واليمين ووعودهما الكاذبة. ولكن إذا تغير الأسلوب فالأصل ثابت، فالخطاب المعادي للأجانب، كما يقول المؤرخ غريغوار كوفمان، لا يزال محفورا في دي.إن.إيه حزب مارين لوبان، وإن غدا العداء في الأعوام الأخيرة موجها أساسا للإسلاميين والمهاجرين الهاربين من ويلات الحروب، تجنبا لإثارة ناخبين محتملين من الفرنسيين ذوي الأصول الأجنبية.

كل ذلك لا يفسر وحده هذا المدّ الذي يكاد يكون اليوم كاسحا حسب وكالات استطلاع الرأي. وإنما مردّه أيضا إلى طبيعة عمل هذا الحزب منذ نشأته، فهو يسيّر كحزب فاشي، مناضلوه ليسوا محترفين بل هم جنودٌ ملتزمون، عادة ما يكرر على مسامعهم أن حركتهم جيش، كما ورد في إحدى مذكرات فرع الحزب بمقاطعة الواز: «المناضل جندي سياسي، وكأي جندي ينبغي أن يخضع لأجل المصلحة العامة إلى جملة من القواعد سوف يضمن احترامُها انتصارَ مَثلِنا الوطنيّ الأعلى.» وككل حزب فاشي تعتمد الجبهة أساسا على البروباغندا.

في كتاب لها بعنوان «الفرنسيون أولا» مع عنوان فرعي «شعارات وعدوى الجبهة الوطنية (1972-2017)، تؤكد المؤرخة فاليري إيغونيه أنه لا يمكن الحديث عن الجبهة الوطنية وتاريخها وصعودها القوي دون ذكر شعاراتها ومعلقاتها ومناشيرها. فقد ساهمت عناصر الاتصال تلك في جعل الأفكار الجبهوية تتسرب في نسيج المجتمع، وفي الجدل العام، وفي أوساط تشكيلات سياسية معينة. فشعارات مثل «كفى بطالة! العمل للفرنسيين!» و»مليون عاطل عن العمل، معناه مليون مهاجر زائد!» أو «لا يمين لا يسار: فرنسيون!» أثرت بشكل ملحوظ في التاريخ السياسي للعشريات الأخيرة، ما يدل دلالة قاطعة على نجاعتها.

لقد اعتنى برونو ميغريه، أهم مساعدي جان ماري لوبان قبل أن ينفصل عنه، بهذه الركيزة كي يخفف شيطنة حزبه، ولا تزال المعلقات وسيلة الجبهة في إصابة المرمى بأقصر السبل. فاللافت ليس تطور البروباغندا فحسب، بل استمرارها على مر الأعوام. وإذا كان قد حصل تغير في الشكل منذ قدوم مارين لوبان، حيث تضاءل شعار الجبهة أو اختفى ليترك مكانه للصورة، لا سيما صورة مارين بعد أن طبّعت معها الطبقة السياسية وباتت لا ترى حرجا في محاورتها ومجادلاتها، فإن الجوهر، أي معاداة الأجانب، لم يتغير، وإن طرأ عليه بعض التغليف. وتعتبر إيغونيه أن معلقة «كفى بطالة! العمل للفرنسيين!» التي ظهرت عام 1973، أي بعد بضعة أشهر فقط من تأسيس الجبهة الوطنية، هي المعلقة المؤسِّسة، فهي، بأحرفها الحمراء المطبوعة على ورق أبيض بسيط، النموذج النمطي الذي سار عليه الحزب في بداياته. وهي ذات رمزية عالية لأنها تعلن عن استراتيجية الجبهة وتشهد عن براعة تكتيكية لا غبار عليها، فالصراع ضد الهجرة وقع تناوله لأول مرة من زاوية اقتصادية وليس من زاوية عنصرية. والغاية، كما تقول، هي رغبة الجبهة في التميّز عن جماعات اليمين المتطرف لإغراء الطبقات الشعبية، وتقديم نفسها كتشكيلة حزبية محترمة تنافس اليسار. ومنذ ذلك التاريخ، ما انفكت الجبهة تقف من الهجرة والأولوية الوطنية موقفا يلبي أفق انتظار الطبقات الشعبية كلما احتدت الأزمة الاقتصادية.

أما الإسلام، فلم يكن من الثيمات التي تشغل الجبهة، باستثناء معلقة مجهولة المصدر يعود عهدها إلى عام 1987، لاعتقاد لوبان الأب، وحتى ابنته، بأن الإسلام ليس موضوعا سياسيا، ولكن الأمر تغير بداية من 2010، إذ ناب عداء الإسلام عن معاداة اليهود، وصار من المؤشرات الرمزية الدالة في خطاب الجبهة إلى جانب مقاومة العولمة الاقتصادية.

واليوم، ها أن هذا الحزب العنصري الذي نشأ على الهامش، يستفيد من تبعات أزمة قيم واقتصاد مترنح، ورياح شعوبية عاصفة تجتاح أوروبا وأمريكا، ليدعي أنه الممثل الوحيد ليمينٍ حقّ، ويجمّل زعيمة عنصرية في جوهرها، ليضعها على مشارف سلطة لم تعد تفصلها عنها سوى بضع درجات.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.