الأمة المرجأة والروح الحائرة

الاثنين 2017/05/01
لوحة: سهير سباعي

أسئلة كثيرة جارحة تنتفض في أذهان العرب، اليوم، تحتل مخيلاتهم وتشغل مجتمعات باتت هي وثقافتها في طور عاصف من التحول، وقد بدا هذا التحول للكثرة منا داهماً، على رغم كونه استحقاقا مجتمعياً أرجأته بحيلها وألاعيبها قوى انقلابية احتلت بالعنف إرادة المجتمع، إلى أن انفجرت المجتمعات وتفجّرت أسئلتها عنفاً، ليفتح حاضرُ العرب الأبواب على دنيا الخرابَ والمآسي، بدل أن يفتح للأجيال الجديدة أبواب المستقبل، ولنكتشف ذهنية عربية موروثة تجمّدت لعصور وبات إنسانها ضحية أجوبة غيبية عن كل سؤال أرضي، مورّثاً الحاضر استسلاماً كاملاً للماضي بدل أن يخوض مغامرة البحث عن أجوبة أرضية لأسئلته المرجأة. فهو ضحية وصانع معاً لحاضر عصيب لم يبق أمامه من خيار في رحلته الانتحارية سوى أن يفتح للمجتمعات أبواب الجحيم، وفي ظنه أنه يفتح لها نوافذ النور.

فوضى مرعبة تسببت بها القوى الظلامية حاكمة ومعارضة لمجتمعات المشرق العربي، وقد أدخلت خطاباتها المتطرفة المنطقة بشبابها الغاضب وجموعها الحائرة دائرة الجنون.

على الطرف الآخر من المعمعة الدموية روح شابة تنادي باستبدال “النظام القروسطي” الشمولي الفاسد بنظام ينتمي إلى العصر الحديث ويأخذ بأسبابه في ظل علاقات جديدة تزن الحق بميزان الحق، وتمنح الأفراد والجماعات فرصا متكافئة، في ظلال دول تقوم على نظم حديثة لا مكان فيها للهيمنة الأبوية ولا للعشائرية أو الطوائفية أو الحزبية الشمولية أو صور العسكر الذين حكموا بالانقلابات والدبابات الشطر الأكبر من مجتمعات المشرق العربي فعسكروا مدنه وأسروا الجموع في كهوف الاستبداد وصاروا جلادين يعتقلون الأفراد المطالبين بالحرية والمدافعين عن الكرامات، مدمّرين بأفعالهم المنكرة كل مقوّم من مقوّمات الروح الفردية بعدما مزّقوا العلاقات بين الجماعات الاجتماعية المختلفة في القرية والمدينة وبين القرى والمدن، فأقاموا حواجز المصادرة في كل بقعة وسلبوا الناس مقوّمات وجودهم الحر. وكادوا يحيلون الإنسان قردا.

***

هل يمكن القول إن الثقافة العربية، اليوم، يمكن أن تكون في طور إعادة نظر في مكوّناتها، وفي علاقة هذه المكونات ببعضها، أم أن ذلك ما يزال عصياً مادامت الكثرة الغالبة من منتجي ثقافتها في حالة خلل واضطراب وتشتت، تتناهبها أرض الحرائق وجغرافيات المنفى ويعوزها شيء كثير من أسباب القوة ووضوح الرؤية؟

بل هل يمكن الحديث، باطمئنان، عن شيء اسمه ثقافة عربية متصلة ومتفاعلة في ما بينها في ظل تشققات وشروخ وانهدامات أصابت الاجتماع العربي، وحريق أتى على عواصم ومدن عربية وتركها قاعا صفصفا خلّف الشيء الكثير من أسباب الفرقة؟

وفي ظل وضع كارثي كهذا، هل يمكن، بعد اليوم، الحديث عن قدر عربي أم عن أقدار عربية تتباين وتختلف؟ وبالتالي هل نحن، نسبة إلى كتب القوميين العرب، أمةً امتلكت شروط الأمة؟ أم ترانا مللا ونحلا وجماعات اختلفت، وستظل تختلف بينها السّبل؟ وما ثقافة العربية التي دلّت علينا بالفتوحات والدول والاكتشافات والأشعار والتواريخ والملاحم سوى بعض من أساطير الأقدمين تكرّسنا أمة مرجأة الحضور.

***

أسئلة حارقة، وأخرى جارحة، في حاضر عربي ملتهب، ونزوع لدى الأفراد والجماعات قلق ومشوش وفاقد للبوصلة. وما أظن العثور على الطريق ممكنا قبل العثور على العلامة فهي النجمة الهادية في ليل العرب الطويل. فهل يمكن للعقل أن يهتدي بغير أسباب العقل؟ وهل يمكن لهذا أن يكون بعيدا عن الثقافة وأسئلتها وعن المغامرة الفكرية ونبل التطلّع لأجل ألاّ يكون الغد صورة من الأمس، ولا الابن نسخة من أب لم يحسن من تربية الأبناء سوى أن يجعلهم صورة موهومة عن صورته الشاحبة.

أسئلة كثيرة يطرحها الشباب العربي اليوم على نفسه، ويحار بأجوبته، ولا يجد المرايا التي يرى فيها وجهه، في حاضر شائخ معاد لتطلعاته الشابة، خائف من طموحه الفتيّ، وغريب على أسئلته. ولا خلاص، حقا، للمجتمعات العربية من دون أن تحرر نفسها من العقل الشمولي، والتطلعات البطرياركية، وتقلع عن الاستسلام إلى الأفكار الغيبية التي يهيمن فيها وهمنا عن الوجود على حقيقتنا الأرضية

لندن في أبريل/ نيسان 2017

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.