إعلان محرر أدبي

الأحد 2018/04/01
لوحة: ياسر صافي

يمكن لرواية من أعظم الروايات إطلاقا مثل “مئة عام من العزلة” ألا تحقق حتى واحد بالمئة من العاصفة والنجاح والتأثير الذي أحدثته في مشهد الثقافة العالمية، لو لم تخضع لسلطة المحرر الأدبي.

باعتراف غابرييل غارسيا ماركيز فإن المحرر حذف ما يصل إلى مئة صفحة منها، إضافة إلى علاجات جراحية في صياغة الجمل والفقرات، لتتمكن في النهاية من الوصول إلى مئات الملايين من القرّاء بتلك الصيغة الساحرة دون مطبات أو حواجز.

هذه الحقيقة لا تقلل من أهمية ماركيز أو أي كاتب آخر، قد يغفل أو يستطرد في بعض التفاصيل البعيدة عن محور العمل، وقد تكون هناك فجوات في أدواته اللغوية والفنية، التي قد تعرقل تقديم العمل بأفضل صيغة ممكنة.

أشعر بالشفقة على معظم الكتاب العرب الذين يمكن لأعمالهم أن تحقق نجاحات كبيرة لو خضعت لسكين المحرر الأدبي، الذي يمكن أن يشدّ ترهل الجمل ويحذف الزوائد المرهقة ويعزز ترابط وانسياب العمل الأدبي.

صدمتني مرات كثيرة الفوارق الشاسعة بين بعض الروايات العربية والصيغة التي ظهرت بها عند ترجمتها إلى لغات أخرى، بعد أن تم شطب أجزاء كبيرة ونحت أسلوبها بصياغة حادة وجذابة.

صورة كواليس صناعة الكتاب اتضحت لي أكثر حين خضت تجربة التحكيم في جائزة سيف غباش بانيبال للأدب العربي المترجم إلى اللغة الإنكليزية، لأكتشف كيف يحرص المترجمون ودور النشر على تقديم الكتاب من أجل أن يصل إلى أكبر عدد من القرّاء.

كان علي أن أقرأ 18 كتابا باللغة العربية ومقارنتها بالترجمة الإنكليزية لأن الجائزة مخصصة للترجمة وليس للعمل الأصلي، ليتضح لي مأزق المترجم والناشر الإنكليزي مع العمل الأصلي.

صناعة المحرر الأدبي العريقة في معظم ثقافات العالم تستند إلى إرث طويل، وهناك محررون يطاردهم الكتاب ودور النشر لأن خبرتهم ولمستهم الساحرة يمكن أن تنقلا العمل إلى مدار آخر.

أولئك المحررون يتقاضون أجورا مرتفعة جدا ولا يقبلون على أي كتاب إلا إذا وجدوا أن فيه ما يمكن أن يستهوي أعدادا كبيرة من القرّاء. هم ليسوا كتابا بل خبراء في ذائقة القرّاء وسوق الكتاب ويعرفون العوامل الحاسمة في نجاح أو فشل الكتاب. لديهم أدوات صانع المجوهرات من مواد ثمينة لكنها خام.

المحرر الأدبي يختزل تاريخ صناعة الكتاب في تقديم تلك “السلعة” إلى المستهلك، والتي يمكن أن تصنع الفارق بين توزيع الملايين من النسخ أو أعداد ضئيلة.

جميع الصناعات تحتاج لخبرة في الاستجابة لحاجات المستهلك لتتمكن من الوصول إليهم، وإذا كان الكتاب والناشرون العرب لا يسعون إلى ذلك فالأجدر بهم ألا يكتبوا ولا ينشروا.

في الدول الغربية، حتى المحرر الأدبي الكبير حين ينجز كتابا فإنه يسلمه لمحرر آخر ينظر إليه بحياد وبعين القارئ والسوق والناشر ويعزل المسافة الملتبسة بين الكاتب وكتابه ويخضعها لمعايير الصناعة المجردة.

يعتقد معظم الكتاب العرب أن خضوع كتبهم لسكين المحرر الأدبي ينتقص من قدراتهم الإبداعية ويقاومون حذف أي كلمة من كتبهم، وهو وضع نكاد ننفرد به عن جميع ثقافات العالم.

تشعر أحيانا حين تقرأ بعض الكتب العربية وخاصة الروايات وكأنها غير معنية بتقديم نص لذيذ ممتع. وتضطر أحيانا لإعادة قراءة الفقرة عدة مرات لمعرفة ما الذي يريده الكاتب.

جمل طويلة تصل إلى مئة كلمة أو أكثر دون نقطة أو فاصلة وعدد كبير من الجمل الاعتراضية دون إدراك أن ذلك يرهق القارئ ويقطع أنفاسه، وهي بديهية بيولوجية علمية.

ترهل في الصياغة دون مبالاة بأن القارئ يمكن أن يضيع في التفاصيل ويصيبه الملل فيفقد التواصل مع الكتاب ويرميه في سلة المهملات.

تجرأت أحيانا وأخبرت عددا من أنجح الروائيين العرب بأن كتبهم بحاجة ماسة إلى محرر أدبي وجراحة عميقة لتتحول إلى أعمال ناجحة. وقد فجر ذلك غضبهم في جميع الحالات وأفسد صداقتنا.

كلنا حاول بحرص شديد قراءة بعض الكتب، لكنه عجز عن ذلك بسبب ركاكة الأسلوب وضعف البناء وتشتت فكرة الكتاب في تفاصيل لا تخدم محور الفكرة. ولو تم تحريره بقسوة لكان جديرا بالقراءة.

يمكنني بثقة أن أقول إن غياب صنعة المحرر الأدبي هو المسؤول عن واقع أننا أمة لا تقرأ. ينبغي ألا نلوم الشعوب على واقع أن أغلب الناشرين العرب لا يستطيعون طباعة وبيع أكثر من مئات النسخ من أي كتاب أدبي، إلا في حالات استثنائية نادرة.

علينا أن نقول إن دور النشر بلا بوصلة وهي تختار إصداراتها عشوائيا وفي أحسن الأحوال استنادا إلى علاقاتها بأشخاص الكتاب. وهي لا تعرف طريقا إلى نشر كتب يمكن أن تستقطب أعدادا كبيرة من القرّاء.

الحقيقة المرة هي أن الكتاب ودور النشر أمامهم سوق تضم مئات الملايين من القرّاء المحتملين لكنهم لا يعرفون كيف ينتزعون انتباههم. ولو كان لدينا محررون أدبيون يعرفون كيف يجعلون الكتب تجذب القرّاء لتغير واقع أننا أمة لا تقرأ.

بعض دور النشر بدأت تستكشف بحذر وظيفة المحرر الأدبي، لكن دوره لم يبتعد كثيرا عن وظيفة المصحح اللغوي الذي لا يحق له إجراء تغييرات حاسمة، بسبب مقاومة الكتاب لهذه الظاهرة الجديدة.

أخيرا سأتجرأ وأعلن أني مستعد لأن أكون محررا أدبيا للأعمال التي أجد فيها إمكانية الاستحواذ على اهتمام أعداد كبيرة من القرّاء وبصلاحيات كاملة لإجراء علاجات جراحية قد تكون قاسية.

أعلم أن ذلك سيثير الكثير من الاستغراب والانتقادات والتشكيك. ولا غرابة في ذلك!

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.