كوميكس فرنسي

الجمعة 2018/06/01
رسم في غلاف مجلة أديل

الأشرطة المرسومة في عيون عشاقها فنّ قائم بذاته، يطلقون عليه لقب "الفن التاسع"، بالرغم من عدم الإقرار بالتلفزيون فنّا ثامنا، واعتباره تابعا للسينما. ويزعمون أن جذوره تعود إلى العصور القديمة، ويضربون أمثلة على ذلك برسوم المعابد الفرعونية، ودساتير الأدوية لدى شعوب المايا المعروفة، وأفاريز البنتيون بأثينا، ومسلّة تراجان بروما، والنقوش السفلى لمعبد أنكور بكمبوديا... وكلها لوحات تقوم على تعاقب صور أو نقوش تروي حكاية.

بيد أن مؤرخي الفنون لا يجدون في البعد السردي لتلك الأعمال ما يفرد لها موقعا داخل الفنون البصرية، والأرجح في رأيهم أن البداية الفعلية كانت في أواخر القرن التاسع عشر، عام 1896 تحديدا، مع ظهور شريط "الطفل الأصفر" بـ"تروث مغازين" في الولايات المتحدة، وإن اختلفوا في تعريفه، فهو في نظر رودولف توبفر، مبتدع الأشرطة المرسومة، أدب في شكل لوحات مرسومة، وفي نظر ويل إيزنر فن تعاقبي أو سرد مرئي، وقد استقر الرأي اليوم على أنه مجموعة من رسوم متعاقبة مشفوعة بنص سردي حواري في أغلبه، يخدم أحدهما الآخر، حيث لا يفهم النص إلا بالرسم، ولا يفهم الرسم بغير النص.

استند هذا الفن في بداياته إلى الصحف والمجلات، التي كانت تحتضن محاولات محدودة اللوحات تروي طرفة أو حادثة مضحكة أو موقفا ساخرا من بعض مظاهر الحياة في ذلك الوقت. ولما استحسنها القراء صارت تجمع تلك اللوحات في كتيّبات دورية، قبل أن تظهر دور نشر متخصصة في هذا الفن الجديد الذي وجد جمهوره في أوساط الناشئة، عملت على ترسيخه وتطويره، لا سيما أن إنجازه لا يستوجب أكثر من فنان واحد يتولى في الوقت ذاته كتابة السيناريو والرسم حينما كانت الكتب لا تستعمل الألوان، قبل أن يتم المرور إلى ثلاثة متخصصين في التأليف والرسم والتلوين، فظهرت ألبومات متنوعة تحوي أكثر من حكاية، وسلاسل تحوم حول بطل ما في حلقات متتابعة. ومع تزايد اهتمام شريحة معينة من القراء تستهويها قراءة الكتب المرسومة، ظهرت روايات مرسومة في كتب مستقلة Graphic novel.

برزت في هذا الفن ثلاث مدارس بتسميات مختلفة: "بي دي" B. D. (الحرفان الأولان لعبارة الأشرطة المرسومة بالفرنسية) لدى المدرسة الأوربية خصوصا في بلجيكا وفرنسا، و"كوميك" و"ستريب كوميك" في المدرسة الأمريكية، و"مانغا" في المدرسة الآسيوية وخصوصا اليابان. انطلقت التجربة في أواخر القرن التاسع عشر كما أسلفنا من الولايات المتحدة في شكل لوحات محدودة، ثم تحولت إلى سلاسل ذات أبطال قارين ذوي سمات خاصة مثل بيتل بايلي، ودوني الماكر، وباباي، ومندراك، قبل أن تحتفي بأبطال لا يقهرون مثل سبيدرمان وسوبرمان وباطمان... وقد اجتاحت هذه الموجة أوروبا في أواسط العشرينات، فسارت على خطاها في الصحف والمجلات، قبل أن تنحرف عنها مع جورج ريمي الشهير بهرجي (1907-1983) الذي كان له تأثير كبير على سائر التجارب الأوروبية بفضل مقاربته الجديدة في الرسم والسرد على حدّ سواء، رغم أنه تأثر هو نفسه بالفرنسي ألان سانتوغان.

في فرنسا بدأت إرهاصات الأشرطة المرسومة منذ أواخر القرن التاسع عشر، ولكن البداية الحقيقية ظهرت عام 1908 مع "سام وساب" لإدمون تابيسييه، أول من استعمل بالونات الكلام والتعليقات والمحاكاة الصوتية والسرد وتجسيد الأصوات، وكان له دور حاسم في تطوير المشهد الأوروبي كله، ولو أن المؤرخين يؤكدون أن أول شريط مرسوم بحق ظهر عام 1923 وكان بعنوان "ريغوبير يصيد فراشة نوراك"، ثم تلته سلسلة "زيغ وبيس" التي اقتبستها جريدة "إكسلسيور" عن شيغاغو تريبيون قبل أن تخصص لها عام 1925 ملحقا أسمته "الأحد المصور"، تولى تأثيثه رسام مشهور في ذلك الوقت هو ألان سانتوغان، ونجح في نشره في كافة البلدان الأوروبية. وظلت الأشرطة المرسومة المتداولة منذ ذلك الوقت، في الكتب الموجهة إلى الشبيبة بخاصة، تحوم حول بطل يخوض مغامرات، وبلغت أوجها في الستينات بظهور جريدة "سبيرو" التي استقطبت نخبة من كبار الرسامين والمؤلفين. ثم بدأت تتخلى عن ذلك تدريجيا منذ التسعينات لتدخل عهدا جديدا.

يرى أنصار هذا الفن الذي انتشر في شتى بلدان العالم أنه، كالأدب الروائي، لا يتنكب عن أي موضوع، ذو أفق لا حدود له، فهو يتناول الظرف والمغامرة والتأمل والعلاقات العاطفية والرياضة والاكتشافات الجغرافية والحياة في العصور القديمة ووقائع التاريخ وحماية البيئة والأبحاث البوليسية والرعب والخيال العلمي بكل مكوناته، بل إن بعض المؤلفين والرسامين يقومون بعمل توثيقي دقيق ليقدموا للقراء مشاهد ألصق بالواقع الذي يصورونه، من حيث الحقائق التاريخية فضلا عن الملابس والديكور وملامح الشخصيات والوسائل المستعملة في حضارات سادت ثم بادت، كما فعل البلجيكي هرجي، وكان يزور المدن والقرى والمعالم والآثار في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية لإنجاز سلسلة "تنتان"؛ أو الفرنسي جاك مارتن مؤلف "رحلات أليكس" في العالم الروماني القديم، و"جهان" في العصور الوسطى بأوروبا، و"أوزيريس" في مصر الفرعونية، فقد كان هو أيضا يرتاد المواقع الأثرية لتوخي الدقة والأمانة في الرسم والصياغة، وبلوغ مصداقية تاريخية تضاهي أكثر المؤلفات الجامعية رصانة.

هذا الحرفية العالية والجرأة في تناول المواضيع بشكل جذاب حققت لمنشورات هذا الفن في فرنسا أرقاما مذهلة، فقد بيع في الأعوام الأخيرة من ألبوم "تيتوف" مثلا مليون وثمانمائة ألف نسخة، وحققت كتب الأشرطة المصورة عام 2008 أرباحا قدّرت بنحو 320 مليون يورو أي ما يعادل 8 % من سوق الكتاب، بزيادة 10% من حجم المبيعات في العام الذي سبقه، ما حدا بالساهرين على إبداعه ونشره وترويجه إلى إقامة مهرجانات سنوية أشهرها مهرجان مدينة أنغوليم، ودفع دور النشر الكبرى التي تُعنى عادة بالأدب والفكر مثل غاليمار، وغراسيه، وسويْ، ودونويل، وآكت سود إلى الالتحاق بالدور المختصة في هذا المجال كدوبوي، وغلينا، ودارغو، وخصوصا بيلوت التي أعطت فرنسا بطلا قوميا هو "أستيريكس" تداول على صياغة مغامراته العديدة ضد القوات الرومانية الغازية أشهر الرسامين من غوتليب، ودروييه إلى كابو، وتاردي، وأنكي بلال، وشكل بداية توجّه هذا الفن نحو الكبار.


يحتل الكوميكس في فرنسا مساحات عريضة من الاهتمام العام بالكتب المصورة والمجلات والمعارض الفنية

وإذا كانت "الأشرطة المرسومة" كما وصفها عام 2000 هنري فيليبيني، الذي خصها بمعجم، "هي قبل شيء فن شعبي يراد منه الترويح عن النفس، وليست إنتاجا موجها إلى النخبة من المثقفين"، فإن ذلك الأفق المعتاد قد وقع تجاوزه في الأعوام الأخيرة، وتفجير أسسه. ففي عالم ذي أطر صارمة تحتمها شروط تجارية (كالمانغا في اليابان والكوميكس في الولايات المتحدة)، تبدو السوق الفرنسية استثناء، فهي في حالة توسع وانتشار، وبرغم عدد العناوين التي فاقت الستة آلاف عام 2015، اتسم الإنتاج بالثراء والتنوع، وإلى جانب السلاسل القوية والأبطال المتواترين، ظهرت أشرطة مرسومة تتسم بالجدة والابتكار، في سَحب محدود لا محالة ولكنها استطاعت أن تكسب جمهورها، وأن تمعن في الابتكار، معززة بمدونات لتمتين العلاقة مع القارئ وإطلاعه على المستجدات، يؤازرهم في ذلك مكتبيون واعون بجودة المادة المقترحة وجدواها. نلمس ذلك جليا في العناوين التي ضمتها القائمة الرسمية لمهرجان أنغوليم في دورته الأخيرة، وفي مجلة "XXI" منذ عددها الأول التي اعتادت أن تنشر تقريرا وثائقيا مرسوما في ثلاثين صفحة، حتى جريدة لوموند ديبلوماتيك خصصت عددا خاصا مرسوما كله في إخراج فني بديع مع الحفاظ على جدية الطرح السياسي الذي درجت عليه.

لم تتنكب الموجة الجديدة عن تناول شتى المواضيع، حتى السياسية منها، سواء في الصحف المشاكسة مثل شارلي هبدو، وسيني هبدو، أو في مؤلفات ترسم في سخرية لاذعة صورة الزعماء السياسيين، مثل ساركوزي، وخاصة دومينك فيلبان الذي اختار كريستوف بلان وأبيل لنزاك أن يتوقفا عند تجربته على رأس وزارة الخارجية، فقد رسما في كتاب بعنوان "كي دورساي" بورتريه لشخصية مستبدة، قلقة، محيرة، تعتقد اعتقادا راسخا أنها منذورة لمصير تاريخي، فضلا عما يحاك في أروقة الوزارة من دسائس ومؤامرات، بعضها جدّي يكشف الخلفيات التي تتخذ فيها قرارات خطيرة، وبعضها الآخر أقرب إلى الهزل. وقد اعتبره النقاد شهادة عما يدور في الكواليس على طريقة مسرح موليير.

ومما يلفت الانتباه دخول المرأة عالم الأشرطة المرسومة، فبعد أن كان دورها مهمشا يكاد يقتصر على بعض المحاولات، ظهرت عدة أسماء سجلت حضورا بارزا مثل نين أنتيكو، وإيلودي دوران، وأولّي لوست، وبينيلوب باجيو. اللافت أيضا تناسل المدونات الخاصة بالفن التاسع بشكل مذهل، فقد بلغ عددها في آخر إحصائية لجمعية نقاد الأشرطة المرسومة وصحافييها نحو خمسة عشر ألف مدونة، بعضها واجهات يقدم فيها الرسامون أعمالهم، مثل مدونات جوان صفر، ولوران شابوزي الشهير بلويس تروندايم، وماتيو سابان، فيما بعضها الآخر فضاء لنكرات يقترحون محاولاتهم عسى أن يتلقفها هذا الناشر أو ذاك، على غرار "مانولوسانكتيس"، وهو ناشر على الشبكة، اكتشف عدة مواهب وساهم في نشر أعمالهم ورقيا. بل إن ثمة من حاز شهرته عن طريق النشر على الإنترنت دون وساطة، مثل بوليه الذي تستقطب حكاياته القصيرة "ملاحظات" كل أسبوع جمهورا يعد بالآلاف، وقد جمعها حتى الآن في خمسة مؤلفات.

كما أن انفتاح فرنسا على الثقافات الأخرى فتح المجال لبعض الوافدين طوعا أو كرها مثل الإيرانية مرجان ساترابي في "بيرسيبلوليس" والسوري رياض سطوف في سلسلة "عربي المستقبل" والجزائري منور مرابطين الشهير بسليم في سيناريواته ورسومه العديدة، كي يعبروا عن موقفهم من قضايا تخص شعوبهم أكثر مما تخص الشعب الفرنسي، ولكنها تفتح عينيه على حقائق لا يعرفها تمام المعرفة. إلى جانب ذلك نلاحظ ميلا من الجيل الجديد الذي نشأ على المانغا والكوميكس إلى الاستفادة من خصائصهما ومكوناتهما، ويتجلى ذلك في الأعمال التي يلتقي فيها فنانان من ثقافتين مختلفتين، كما هي الحال مع الفرنسي فيليب أوتييه والصيني لي كونوو في كتاب طريف بعنوان "حياة صينية" عن سيرة عضو سابق في الحزب الشيوعي الصيني. ولا يفوتنا أن نسجل ظهور جنس جديد من الأشرطة المرسومة على عين الحدث، وكان قد ابتكره شاب أمريكي يدعى جو ساكّو، خلال حروب يوغسلافيا، ثم خص به حياة اللاجئين في المخيمات الفلسطينية، وقد سار على هديه شاب فرنسي يدعى ماكسيمليان لوروا في كتاب بعنوان "الخروج بغير إذن" يصور فيه ما شاهده وما عاشه في فلسطين ولقاءه مع فلسطيني في سنه.

وأمام ازدهار هذا الفن، أقبلت السينما منذ مطلع الثمانينات تغرف من مادته الجاهزة لتعيد صياغتها بأساليب فريدة، مستغلة أحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا من خدع فنية، كما هو الشأن في شريط سلسلة "أستيريكس". فدعّم ذلك اهتمام القراء، وحفّز المبدعين قدامى وجددا على الخلق والابتكار. منهم من عاد إلى التاريخ يستقرئ أحداثه ويرسم شخصياته، مثل فرنسوا بورجون، وتيري نوري؛ ومنهم من غاص في سيرته يتلمس فرائدها الطريفة مثل بريخت إيفانس؛ ومنهم من التصق بالوسط العائلي والمدرسي ينوّع المواقف المسلية التي تتخللهما مثل فيليب شابوي الشهير بزيب؛ ومنهم أيضا من استبق هذا العصر في محاولة لتبين أفق لا يني يزداد غيوما، مثل أنكي بلال.

مقالات ذات صلة

التعليقات

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.