الحياة قصيرة لكن التعذيب أبدي

الجمعة 2015/05/01

تقرير لجنة الكونغرس عن التعذيب الذي مارسته وكالة الاستخبارات الأميركية مرّ من دون استحضار مشاعر حارة. هذا التعذيب ليس مصورا أصلا، ولو أتيح لأيّ كان أن يشهد عمليات الإيهام بالغرق التي تعرض لها ناشطو القاعدة في مراكز الاستخبارات الأميركية لما أدرك حجم قساوة التعذيب وشدته، إلا حين يتسنى لأحد الذين تعرضوا للتعذيب وصف ما تعرض له.

وعلى أيّ حال، سيظل الوصف قاصرا عن إيصال الألم إلى المستمع أو القارئ مهما بلغت فصاحة الواصف وبلاغته. مع ذلك يمكننا أن نجري عملية حسابية بسيطة، خالد شيخ محمد تعرض للإيهام بالغرق أكثر من 180 مرة. هذا يعني أنه تم تمويته أكثر من 180 مرة، وفي كل مرة يعاد إحياؤه ليتم تمويته من جديد. قد يكون الموت تحريقا أشد إيلاما، لكن التمويت تحريقا لا يمكن تكراره عشرات المرات. النار تأكل الجسم من الخارج وتمتد نحو الداخل أما الماء فتأكله من الداخل وأحيانا لا تترك آثارها على الجلد. حتى في الحالات التي وصفها ميشال فوكو لتحريق الهراطقة في أوروبا القرون الوسطى، حين يموت المحرَّق لعجزه عن التنفس بسبب تكاثف الدخان حوله قبل أن تمسسه النار، إلا أن النار لا تكتفي بالتمويت بل تمثل في الجسم وتشوه الجثة. التمويت بالماء يختلف تماما إذ غالبا ما تأخذ المياه كفايتها من تعذيب الجسم عند إعلان عجزه عن التنفس.

والحال، فإن الخلاصة الأولى التي يمكننا أن نلامس ضفافها في هذا المجال تتعلق بمشهدية النار وقدرتها على محو الجسم وتحويله كومة من رماد، في حين أن المياه تلفظ الجسم كاملا وتبقيه متماسكا. هكذا في وسعنا أن ندرك معنى الهول الذي شعر به العالم أجمع حين بث تنظيم داعش فيديو “شفاء الصدور” الذي يظهر تحريق الطيار الأردني معاذ الكساسبة حيا. العمدة في قدرة داعش على إرهاب العالم تتمثل في نجاحه بتوثيق مشهد موت الكساسبة وذوبانه في النار أمام أعين العالم المتسعة دهشة وغضبا وخوفا، في حين أن عمليات التعذيب التي مارستها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية جرت في السر والعتم ولم يتسن للعالم معاينة تفاصيلها، رغم أن بعض الذين تعرضوا للتعذيب ماتوا في الأثناء.

مشهدية التمويت ليست جديدة كل الجدّة. محاكم التفتيش الأوروبية كانت تحرق الساحرات والهراطقة في الساحات العامة. وفي تاريخ العالم الإسلامي، قام أبو بكر الخليفة الأول بعد النبي محمد بتحريق المرتدين، وعمد الخليفة الرابع علي إلى إصدار أحكام بتحريق اللوطيين.

هذا فضلا عن عمليات تعذيب أخرى عرفتها تلك المنطقة لا تقل عنفا وقسوة عن التحريق، فثمة ابن المقفع الذي كان الجلادون يقطعون من لحمه ويأكلونه بعد شيه وهو حي وثمة آخرون سُملت أعينهم بالحديد المحمّى، هذا فضلا عن الذبح وقطع الرؤوس وتعليقها على أسنة الرماح. وفي السنوات الأخيرة أيضا ثمة كثيرون عذبوا حتى الموت تحريقا وتقطيعا وطعنا وضربا في سوريا والعراق ولبنان. ومعظم هذه الجرائم موثقة بالصور والفيديو. لكن إنجاز داعش المرعب بإحراق الكساسبة تمثل في خيال الجلادين وليس في طبيعة آلة القتل والتعذيب وقسوة الجلادين.

نهاية السينما ومحنة التلفزيون

يحفل تاريخ السينما بمشاهد أكثر رعبا وقسوة من مشهد إحراق الكساسبة. وبعض الأفلام تناولت حوادث معاصرة، كمثل فيلم “رجم ثريا” (stoning of Surayia) الذي يظهر تمويت امرأة إيرانية اتهمت بالزنا رجما بالحجارة. فظاعة المشهد تتضاعف بسبب أن رجم ثريا حديث العهد، ولو لم يتم رجمها حتى الموت لكانت الآن ما تزال حيّة ترزق. وفي هذا التزمين ما يجعل المشهد أكثر فظاعة من مشهد تحريق الساحرة في فيلم اسم الوردة، لأن المحال إليه في اسم الوردة مات منذ زمن بعيد وقتلته ماتوا أيضا، ما يعفينا جميعا من الشعور بمسؤوليتنا عن إنقاذه أو التضامن معه.

لم تجرؤ شاشات التلفزيون على بث فيلم إحراق الكساسبة كاملا، اكتفت بمشاهد ما قبل التمويت وما بعده. لحظات التمويت هي الغائبة، وقنوات التلفزيون تريدنا أن نتخيلها، أو تريد لنا أن نشاهدها على مسؤوليتنا
ثريا كانت تستحق تضامننا وتعاطفنا، وكانت تستحق منا أن نتحول ولو لفترة وجيزة إلى غاضبين وثائرين. لأن الرد الوحيد الذي يجيده الجنس البشري على مثل هذه الفظاعات يتمثل بالغضب والثورة، وهو رد من طبيعة الفظاعات ويقترب منه كثيرا. لكن ما يجعل رجم ثريا أو تحريق الساحرات في اسم الوردة متحملا يعود تحديدا إلى أن القتل الذي شاهدناه وتأثرنا بغلظته هو تمثيل للقتل والتمويت وليس قتلا وتمويتا.
والحال، فإننا نغضب ونثور لكننا، نعلم يقينا أن خيال المخرج والمؤلف أضافا قليلا من الأحداث المتخيلة على الواقعة، وهذه الإضافة في حدّ ذاتها هي ما يسمح لنا نحن المشاهدين الغاضبين الثائرين أن نمد أثرها على مجمل القصة فلا نعود نعرف ما الذي حصل حقا وما الذي أضيف إلى القصة والمشهد وهو من صنع الخيال. مشاهد الفيلم يدرك جيدا أن ثريا التي رجمت في الواقع لم تند عنها ردود الأفعال نفسها على الألم التي ندت عن الممثلة. وأن ثريا ربما ماتت صامتة، وربما غابت عن الوعي عند اصطدام أول حجر برأسها، لكن ثريا في الفيلم تمثل ألمها في مشهد طويل نكاد نحن المشاهدين نصدق حصوله فعلا، لكننا لا نتحرك من مقاعدنا لإنقاذها لأننا ندرك أنّ ما يجري أمامنا هو تمثيل للتمويت وليس تمويتا.

مشهد إحراق الكساسبة يجعل مشهد رجم ثريا مجردا من كل تأثير، ويكاد يمحوه تماما، كما لو أن داعش استطاع أن يميت السينما برمتها ويجعلها محض تلفيق.

من جهة ثانية، لم تجرؤ شاشات التلفزيون على بث فيلم إحراق الكساسبة كاملا، اكتفت بمشاهد ما قبل التمويت وما بعده. لحظات التمويت هي الغائبة، وقنوات التلفزيون تريدنا أن نتخيلها، أو تريد لنا أن نشاهدها على مسؤوليتنا. قوة مشاهد التلفزيون التي بثت عن إحراق الكساسبة تكمن في المحذوف وليس في المبثوث. قنوات التلفزيون تفترض أن المشاهد رأى أو تخيل أو تسنى له مشاهدة ما بثه داعش، وهي لا تفعل سوى تذكيره بما شاهد. لكن البث التلفزيوني في حد ذاته يبدو والحال هذه مجانبا للحدث والواقعة ومتنحيا عن دوره الذي تنطح له منذ نشأته، أي بث الحدث مباشرة.

ومع بث داعش فيديو إحراق الكساسبة بدا البث المباشر التلفزيوني كما لو أنه لعبة أطفال. ذلك أن تحضير المشهد والمسرح والجمهور لمشاهدة هدف ميسي في مباراة كرة قدم، يشبه في جوهره زيف مشهد القتل في السينما وتواطؤ المشاهدين على تقبله وانتظاره لا أكثر ولا أقل. هل بات في وسعنا القول إن السينما ماتت والتلفزيون يحتضر؟

لقد بات كل قتل في السينما وكل خبر تلفزيوني محض ترفيه. ذلك أن مصدر الخبر الحقيقي أصبح خارج الأستوديوهات تماما، ولم يعد ثمة ما يفعله جمهور الصحافيين والمخرجين والممثلين غير الترفيه عن المشاهد المصاب بالذهول.

يوتيوب المصاب بالحمى القاتلة

المقاطع المصورة التي تلقى استحسانا ومتابعة على يوتيوب تبدو في جانب كبير منها هي تلك التي تستحضر العنف والتخويف. أكثر المقاطع مشاهدة في العام الماضي كان مقطعا يمثل كلبا يتحول إلى عنكبوت. معد المقطع يلبس كلبه الأليف ثوبا لعنكبوت عملاق ويطلقه في أماكن عامة بعد استكمال مسرحة تلك الأماكن، من خلال تعليق تماثيل أطراف وأعضاء بشرية في أماكن محددة ومشرفة ملفوفة بما يشبه سلة من خيوط العنكبوت. الذين يعبرون مصادفة في ذلك المكان المعد بعناية يفاجأون بهذه الأعضاء معلقة قبل أن يتم إطلاق الكلب الأليف مرتديا ثوب العنكبوت العملاق على المسرح ليبعث الرعب والخوف في نفس العابر.

لا شك أن هذا المقطع ومئات آلاف المقاطع الأخرى المنشورة في يوتيوب اضطلعت بوظيفة تفريغ السينما من قدرتها على صناعة المشاعر. الخلاصة التي تريد هذه المقاطع تثبيتها تتعلق بصناعة الضحك. الضحك على السينما والمؤثرات السينمائية والضحك على المتأثرين بهذه المؤثرات والقصص التي تحاك في الأفلام السينمائية.

يوتيوب يريد على ما يبدو تكرار تاريخ السينما التراجيدي، إنّما على شكل ملهاة. لكن هذا المسعى في حد ذاته فتح الباب واسعا لفيروس داعش. والأرجح أن هذا الفيروس بات متحكما في كل ما يبث عبر يوتيوب ولا سبيل إلى النجاة منه.

عمدت إدارة يوتيوب إلى حذف مقطع “شفاء الصدور” الذي بثه داعش عن إحراق الكساسبة مرات عدة. لكن داعش كان كل مرة يعيد تحميله على شبكة الإنترنت، إلى أن تيقن أنه وصل تماما إلى مقصده. ومقطع إعدام الكساسبة يختلف عن مقاطع القتل والتعذيب التي حملت على شبكة الإنترنت وتم حذفها مرارا اختلافا جليا وحاسما. في مقاطع القتل والتعذيب التي سبق بثها، كان ثمة فعل ورد فعل. ثمة مقاتل أو جلاد حانق حتى الثمالة ويعمد إلى تعذيب ضحيته حتى الموت.

بهذا التأله الذي ادعاه داعش وجدنا أنفسنا نحن المشاهدين الفانين في مواجهة نار الجحيم. الحياة قصيرة، لكن التعذيب أبديّ. لقد جعلنا داعش نخشاه كما يخشى المؤمن نار الجحيم
لكن مسار التعذيب نفسه، في هذه المقاطع، يبدو مرتجلا وغير مخطط له مسبقا. بمعنى أن القاتل يضرب ضحيته، ثم يتعب من الضرب، فيلجأ إلى طعنه، أو رفسه، وإذ لا يشفي غليله يعمد إلى جلده، وتستمر عملية التعذيب المرتجلة هذه إلى أن يموت الضحية ويجد القاتل نفسه في حيرة من أمره لأن جسم الضحية لم يحتمل ما يكفي لإرواء غله، ومات قبل أن يشفي غليل القاتل. في هذه المقاطع، دائما ينتصر الضحية على القاتل، لأنه يثبت له لا جدوى ما قام به، وعجزه عن تحقيق أهدافه. هذه المقاطع التي تم تحميلها على الشبكة تشبه في المآل الأخير ارتجالا يعتمد على تضافر مصادفات متعددة. وهي أشبه ما يكون بحوادث السير أو الكوارث الطبيعية، بمعنى أن طرفي المعادلة في هذه المقاطع لا يستطيعان تخيل خاتمة الحدث منذ لحظة انطلاقه.

مشهد إعدام الكساسبة كان مختلفا هذه المرة. منذ اللحظة الأولى كان المشاهد يعرف أن الطيار الأردني سيموت في النهاية. أما صانع المشهد فكان قد أعد احتفالا لهذا التمويت، وتخيل مرارا دقائقه وتفاصيله. القتل هنا يشبه تعذيب الآلهة للخاطئين في جحيم دانتي، ولا يشبه أبدا حادثا عملت على تشكيله مصادفات متعددة. وتكرار تحميل الشريط مرة بعد مرة، يراد له أن يعيد إحياء الكساسبة كل مرة لإعادة تمويته مرة أخرى في عملية تكرار للقسوة لا تنتهي ولن تنتهي.

بهذا التأله الذي ادعاه داعش وجدنا أنفسنا نحن المشاهدين الفانين في مواجهة نار الجحيم. الحياة قصيرة، لكن التعذيب أبديّ. لقد جعلنا داعش نخشاه كما يخشى المؤمن نار الجحيم. وهذه خشية لا تحيل إلى الكره أو الحقد بل تؤدي مباشرة إلى التسليم بقدرة المخشو منه الكلية، كما لو أنه الله. الرد الوحيد عليه يكون إلحادا، لكننا هذه المرة أمام قوة مرئية ومعاينة، وليست مجردة كما هي الحال مع الآلهة وجحيمها.

شريط إحراق الكساسبة نجح في مد داعش بقوة غير بشرية، ووجدنا أنفسنا مدفوعين جميعا إلى مشاهدته بحماسة مروعة. ومع انتشار هذا الشريط بدا كل ما يبث على يوتيوب غير ذي مصداقية ولا مستقبل له، فيما بدا حذف مشهد التمويت على الشاشات كما لو أنه اعتراف ضمني بأن ما فعله داعش يفوق قدرة البشر على مشاهدته، ناهيك عن التنكب لمثله أو إتيانه.

لقد انتصر داعش على التقنية التي ولدته. لكنه انتصار باهظ سندفع ثمنه نحن البشر طويلا ومريرا، دما وألما وحرقة وشعورا بالعجز.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.