إرهاصات نهج ثقافي عربي تفاعلي ونهضوي

الجمعة 2015/05/01
رسمة لفيصل لعيبي

بعد أربع سنوات من مخاض يستمر فصولاً، أتى أوان استخلاص الدروس وتحديد العوامل التي تتيح مقاربة البيئة الفكرية ونقاش أسس مشروع بديل وقادر على حمل أفكار جيل الثورات والقطع مع الاستبداد واستنساخاته، ويتأقلم مع الحداثة والمعاصرة من دون مجابهة عبثية مع الأصالة التي يتوجب فصلها عن سطوة الاسطورة الدينية، مما يمهد لقيام مجتمعات مدنية حقيقية من دونها لا يمكن إعادة بناء الدولة الوطنية العربية بشكلها الجديد.

اليقظة العربية المنتظرة وصراع الأجيال

بعد القرن العشرين وخيباته، بدأ العقد الثاني من القرن الحالي ليدشن زمن الحالات الثورية التي ترمز عند البعض إلى اليقظة، وعند البعض الآخر إلى حركة انعتاق وتحرر للخروج من حالة الجمود والانحطاط، وصنع واقع جديد.

تبدو الدروب شائكة لأن المسارات متنوعة ومعقدة تتجاذبها العوامل الداخلية والتأثيرات الخارجية: الجغرافيا السياسية والتنافس الاقتصادي في أكثر من مكان. لا يمكن إغفال أدوار قوى الحفاظ على الأمر الواقع Statu Quo والثورة المضادة وكذلك سعي قوى الماضي والغيبية إلى السيطرة على مجريات الحاضر ومنع بناء نموذج حضاري ديمقراطي عربي طال انتظاره.

ساد الاعتقاد طويلاً أن العرب ظاهرة صوتية نتيجة تفكك نظامهم الإقليمي والضعف البنيوي المتراكم والتأخر في السباق التكنولوجي والعلمي. وكان المشهد السياسي العربي مستعصياً على التغيير وأتت ثورات “الربيع العربي” كي تكسر الحلقة المفرغة.

في عودة إلى بداية التسعينات تأكد المأزقان السياسي والأيديولوجي في عالم عربي محشور بين أنظمته المركزة على الطابع الأمني غالباً وبين حركات إسلامية لم تعد تجسد آمال التغيير الإيجابي ولو أنها حافظت على مواقعها كقوى معارضة أساسية. وقد سهل سعي الأنظمة إلى اكتساب شرعية تنقصها عبر الأسلمة الاجتماعية نشوء هذا الواقع وانحسار دور القوى الليبرالية والديمقراطية.

وفي ظل هذا المعطى تكرس خلق الفراغ حول الحاكم والتهويل من مخاطر الفوضى، بالإضافة إلى قصور التيار القومي العربي عن حمل لواء الديمقراطية وعن طرح معادلات جديدة بعدما بقي لفترة طويلة سيد الساحة الفكرية تحت حجة الدفاع عن القضية الفلسطينية. ومما لا شك فيه أن عقد التسعينات العنيف في الجزائر بعد إيقاف المسار الانتخابي، وحدث 11 سبتمبر الإرهابي وتتماته أعطى فرصة إضافية لأنظمة الاستقرار الخادع في الاستمرار بالسيطرة على المجتمعات وحبس التغيير في سجن كبير.

من النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية، كانت الأرض العربية حافلة بعوامل التفجير وكانت تنتظر الشرارة أو اللحظة التاريخية الملائمة التي أطلقتها تونس في ديسمبر 2010.

وفق إحصاءات 2010، كان الشباب يشكل أكثر من ثلثي عدد السكان في العالم العربي، فيما يبلغ المعدل الوسطي للحكام 60 سنة. وهؤلاء الشباب الغائبون عن مراكز القرار وسوق العمل كانوا يبحثون عن حلم ومثالات وهوية، بعضهم مأخوذ بأهمية العودة إلى الدين وبعضهم يتأثر بكل ما هو غربي.

مع فشل معظم تجارب دول الاستقلال، أصبح التغيير حاجة ملحّة عبر إعطاء تعريف جديد للعروبة كي تكون بوتقة حضارية ديمقراطية تستوعب الخصوصيات الإثنية والثقافية والدينية
ومنذ انهيار بقية مقومات النظام الإقليمي العربي بعد السيطرة على العراق، أصبح العالم العربي أكثر من أيّ وقت مضى في عين العاصفة ومسرحاً لفصل جديد من لعبة الأمم، لكن التذرع بالقضية القومية والضغط الدولي لم يكن ليبرر أبدا عدم سلوك درب الإصلاح والتغيير. وجاءت الأزمة المالية العالمية في سبتمبر 2008 ، لتزيد من حدة تفاقم الأوضاع الاجتماعية في دول مضروبة بالفساد ونهب المال العام وارتفاع معدلات البطالة. وكانت الأنظمة السلطوية تتعامل وكأن البلدان ملكها وما الشعوب إلا أدواتها أو عبيدها.

إزاء هذا الوضع بدأ الحراك في سيدي بوزيد مع مشهد اختلطت فيه القداسة البطولية مع الفقر المدقع عند تضحية البوعزيزي بنفسه ليصبح المشعل لشباب أمّة مسحوقة ومهمشة على الصعيد الدولي. وهكذا سقط جدار الخوف في تونس أبي القاسم الشابي، وتصدع السد السلطوي في مصر نجيب محفوظ، وتذكرت سوريا قول ابنها عبدالرحمن الكواكبي “المستبد عدو الحق، عدو الحرية وقاتلها، والحق أبو البشر والحرية أمهم”.

يختلف البعض على توصيف الحالات الثورية (لأن الثورة يخطط لها حزب أو جماعة مثل حال الثورتين البولشيفية أو الايرانية) ولكن العناصر المشتركة هي الآتية:

- إنها انتفاضات غير أيديولوجية ومطالبها في الكرامة والحرية والعدالة تقرّبها من أطروحات الثورة الفرنسية، أي أن لها علاقة بالقيم العالمية وحقوق الإنسان، وتتصل بترقية الفرد وتركيب عقد اجتماعي جديد.

ـ إنها صناعة محلية وغير مستوردة، ولا يعني تأثير الإنترنت ووسائل الاتصال الحديثة ومواكبة الغرب أنها محض نتاج غربي وأميركي.

- إنها ثورات غير حزبية وغير دينية، ولو أن أبرز القوى المنظمة أي القوى الإسلامية التحقت بها وسعت للسيطرة عليها.

ـ إنها ثورة الجيل الشاب (18 – 35 سنة) الذي يأبى أن يرضى بالذل الذي عاناه الجيل الذي سبقه.

ـ إنها حركات مناقبية وأخلاقية ضد الفساد ونهب المال العام، وضد فشل دول الاستقلال.

- إنها أيضا حركة تحرر وطني بمعنى سعيها لنزع الاستعمار الثقافي. (التحدي المباشر يكمن في تحرير الذهنيات وبناء نموذج حداثي ملائم، والتحدي الأكبر يبقى في بناء تكامل اقتصادي عربي لا بد منه لتحصين الوضع العربي الجديد).

ـ إنها في نهاية المطاف تصبّ كحركات ضد أعداء الخارج وأولهم إسرائيل مع السعي لإعادة العالم العربي إلى خريطة القوى الفاعلة. بيد أن البعض يراهن عليها كصحوة إسلامية من أجل بلورة ميزان قوى جديد مع الغرب. وفي هذه النظرة الاختزالية ما يردّ على تبسيط آخر يتصور أن هذه الحركات ليس لها بعد قومي أو أنها غير معنية بالسياسة الخارجية.

تكمن أهمية مقاربة جادالكريم الجباعي في مقابلته مع “الجديد” عندما اعتبر أن الثورة السورية هي ثورة ضد أبناء جيله وأنه ليس من حقه ومن حق أمثاله أن يركبوا موجها. وفي ممارسته لدور الناقد المثقف يتقن الجباعي الفكر النقدي عندما يتطرق إلى نظرة المثقفين إلى المستبدين والمتسلطين من دون التجرؤ على تسمية الأشياء بأسمائها والتطرق إلى قمة هرم الاستبداد. يتجرأ المفكر وينتقد الأحزاب الأيديولوجية من موالية ومعارضة. وهنا نصل إلى بيت القصيد لأن الأيديولوجيا المغلقة حولت الأحزاب السياسية الى كيانات جامدة تعبد الفرد أو تروّج للطبقة أو للأمة. وفي ثورات جيل القرن الحادي والعشرين نزعة للانعتاق من قيود الدوغمائية الأيديولوجية، بالرغم من سعي جماعة أجيال الفشل (أعمارهم تتجاوز الستين كمعدل وسطي ولا زالوا يتزعمون أحزاب هرمة من دون شعبية ولا دور فيها للشباب والنساء) اختطاف التحولات وتجييرها تحت غطاء التعبئة الدينية أو القومية من دون استخلاص الدروس من الفشل المتتالي.

إن الخروج من الأيديولوجيا ومن سطوة الفكر الديني هما ممران إجباريان للوصول إلى بناء عقد اجتماعي محوره الفرد وبلورة مشروع حداثي يمكن أن ينهل من الفردوس المفقود حسب تعبير إبراهيم الجبين، وهنا تصلح العودة لابن رشد كما لغيره من أعلام الحضارة الإسلامية – العربية في عصرها الذهبي التي أدخلت علم المنطق إلى الغرب ولولاها لما كانت حضارتنا الحالية التي لم تتأسس على فصل الدين عن السياسة من دون تلقيح الترجمات العربية ونقلها الفكر الإغريقي ليلقح المسيحية ويخرجها من انحطاط القرون الوسطى.

المفهوم الجديد للدولة والقومية

الخروج من الجمود الفكري والاستلاب يعجل الخروج من الانحطاط وهنا لم يكن الجباعي متسامحا مع عجز النخب والطروحات الأصولية على أنواعها. في التقاطه للحظة الانفجار في صناعة التاريخ، لم يته مفكرنا في التنظير المزايد، بل سعى للإحاطة بأخطاء أبناء جيله ممهدا لطرح مفاهيم متطورة عن المسألة الوطنية الكردية في سوريا ضمن دعوته للتوافق على دولة وطنية فيديرالية ديمقراطية. بيد أن الجباعي لم يكن عنده المجال لتوسيع الفكرة نحو الإقليم المتأزم أو لصياغة تصور واضح للخروج من تشادّ القوميات والهويات (انشغلت نخب ما بعد الاستقلال في سوريا ولبنان في التفتيش عن نفسها في بوتقة هويتها الحزبية أو الفئوية الضيقة أو قوميّتها في سوريا الكبرى أو الوطن العربي الكبير).

سهل سعي الأنظمة إلى اكتساب شرعية تنقصها عبر الأسلمة الاجتماعية نشوء هذا الواقع وانحسار دور القوى الليبرالية والديمقراطية. وفي ظل هذا المعطى تكرس خلق الفراغ حول الحاكم والتهويل من مخاطر الفوضى

يجدر التذكير بتعمق البعد التاريخي للانحطاط مع تسلسل الفشل: ‌أ‌زمة ما بعد فشل أول محاولة نهضوية عربية في أواخر القرن التاسع عشر والتي أتت كردة فعل على الاستبداد العثماني. المحاولة الثانية كانت مع التيار القومي العربي الذي بلور مشروعاً نهضوياً كردّ على النكبة في فلسطين، لكن نكسة حزيران ـ يونيو 1967 وانعدام الحريات الأساسية قوضا هذا المسعى وتأكد مأزق عدم وجود ديناميكيات قادرة على التغيير نتيجة عدم بلورة مشروع ديمقراطي عربي ينهل من التراث العريق ويتأقلم مع متطلبات الشمولية والعولمة في عالم تسوده التجمعات الكبرى، خاصة أن الحلول للأزمات ضمن إطار الكيانات لم تكن ناجعة.

مع فشل معظم تجارب دول الاستقلال، أصبح التغيير حاجة ملحّة عبر إعطاء تعريف جديد للعروبة كي تكون بوتقة حضارية ديمقراطية تستوعب الخصوصيات الإثنية والثقافية والدينية. إن الدولة الأمنية العربية هي ثمرة نكبة 1948 في المشرق وصعوبات نزع الاستعمار من المغرب، ولا بدّ لدولة القانون (أو لدولة الحق) من أن تكون الدولة البديلة التي تعكس تمثيلاً حقيقياً لمجتمعاتها وتكون الأولوية فيها لمفهوم المواطنة (على حساب الرابط الديني أو الفئوي) وليس بالضرورة من خلال نموذج ديمقراطي جاهز غير متلائم مع الخصائص الثقافية لبعض المجتمعات العربية. أي أن التوفيق بين الإسلام والديمقراطية والعلمنة والمواطنة والدولة المدنية ليس ضرباً من الخيال.

خريطة طريق لنقاش مشروع بديل

للخروج من ثقافة العبيد إلى ثقافة الحرية، يرسم جادالكريم الجباعي في مقولات خريطة طريق أن العصف الفكري تعوزه النخب العربية لعدم البقاء في برجها العاجي والاكتفاء باحتساب النقاط والشخصنة إزاء معركة متروكة لقوى الماضي أو للمنفعيين أو لممارسي السياسة بالأجرة والانتفاع.

بعد أربع سنوات من المعاناة والمخاض، لا يزال العالم العربي مسرحا لانتفاضات لم تكتمل ولمراحل انتقالية وانتخابات، وتدمير دول مركزية وفوضى ثورية وفوضى غير خلاقة وإدخال صناعة الإرهاب واستخدامه كمادة هامة على جدول الأعمال لوقف مد التغيير لكن الأهم هو أن تكون المرحلة الحرجة خلاقة بتنوعها وحيويتها واحترام قواعد اللعبة، وهذا لن يأتي بين يوم وآخر، ولن يمر دون معاناة وتضحيات حسب تعبير كمال جنبلاط ” في ثورة الأحرار يرتوي الباشق من دم العصفور”.

من أجل تلبية طموحات الشباب العربي واحترام التضحيات الكبيرة، يشكل التجديد النهضوي فكراً وممارسة المخرج المطلوب من أزمة النظام السياسي العربي. وتكمن ألف باء التغيير في الديمقراطية الحقيقية داخل المجتمع المدني وخصوصاً داخل الأحزاب والتيارات السياسية وقبول هذه القوى لمبدأ التداول السياسي والاعتراف بالآخر. إن محور التنوير هو قيام الفرد ـ المواطن وترابط الديمقراطية بالمواطنية وليس بالعصبيات أو بالأكثرية العددية تلقائياً. ضمن هكذا تصور تصبح الخصوصيات مصدر غنى وإبداع في إطار تنوع مثمر.

ويبدو ملحّا قيام أنظمة تمثيلية ديمقراطية وحرة متصالحة مع مجتمعاتها ومحترمة لحقوق الإنسان في المرحلة الأولى، والانتقال بعد ذلك لبناء الاتحاد العربي الفيدرالي اللامركزي الديمقراطي الذي يستند إلى سوق اقتصادية عربية مشتركة وإلى التدرج والتفاهم الطوعي بين الدول المعنية. والأهم من كل ذلك عودة مناخات الحوار والحيوية الديمقراطية إلى الساحات العربية لكي يعود الإنسان العربي سيد مصيره بعيداً عن سيف التسلط أيّا كان مصدره.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.