الشعريّ لباس المعرفيّ

الجمعة 2015/05/01
كتابة بحرف المسند على حجر قديم في ظفار- تصوير نوري الجرّاح

صحيح أن الصورة النمطية الكلية لتاريخ الشعرية العربية مؤطرة بالوجدانيات الخالصة، وفي المقابل طغى لون آخر من الشعر التعليمي أو النظم المدرسي، الذي يتخذ من شكل القصيدة التقليدية وعاء لسرد قواعد على شاكلة “نظم الأجرومية” لتبيان قواعد النحو العربي بقالب موزون، وكذلك المنظومات التي تبين أحكام تجويد وتلاوة القرآن. غير أن هذا النوع من الاستخدام التعليمي- المدرسي لقوالب القصيدة التقليدية لم ينحصر في شرح فنون تتصل باللغة والنحو والتجويد فحسب، بل امتد ليشمل جوانب إبيستيمولوجية وعلمية دقيقة جداً، إن لم نقل حديثة بالمعنى الحرفي للعلم الحديث، ومن ذلك اشتغال الملاح الإماراتي الشهير شهاب الدين أحمد بن ماجد، الذي صب معارفه وتجاربه في علم الملاحة نظماً تتأسس جمالياته الشعرية على المضمون المعرفي والعلمي الدقيق لمسائل الملاحة وتفاصيلها وكل ما يختص بالأنواء البحرية وعلامات النجوم، وإن كان التحدي داخل هذا اللون من النثر أو النظم الشعري صعباً للغاية، من جهة المواءمة بين الوظيفتين: المعرفية الصرفة والجمالية الوصفية لما تكتنزه قيعان السواحل والممرات البحرية.

وليس جديداً القول بأهمية تراث شهاب الدين أحمد بن ماجد في علم الملاحة، إنما غرضنا من هذه الإطلالة، ليس التذكير بما قدمه في هذا الحقل من باب الإحصاء والإحاطة، ومدى استفادة البرتغاليين والأسبان وقبلهم الأتراك من القواعد والأصول العلمية التي ثبّتها وعاينها واختبرها قبل أن يوثّقها نظماً في الغالب. بل القصد الإشارة إلى أن هذا الملاح الشاعر كان واحداً من أبرز الأسماء التي فتحت نافذة مضيئة في جدار القالب الشعري الكلاسيكي، ونقلت القصيد من التهويم الذاتي، ومن مركزية العقل الانفعالي، إلى توظيف الخطاب المعرفي البحت في صلب المتن الشعري، وحولت ذلك المتن وعاء للمعرفة وحاملاً لها، وغاية لتسجيل معطيات وحقائق علمية، فتحوّل معها منجز ابن ماجد إلى أيقونات متداولة في أوساط الملاحين والبحارة.

وتتحدد أهمية منظومات ابن ماجد في هذا المنحى على المستويين المعرفي والفني بأهمية استخلاصاته ومحوريّتها من المنظور العلمي لقواعد علم الملاحة ذاته. كما يمكن القول إن تراثه واستخلاصاته المنظومة شعراً تكسر إطار الصورة النمطية السائدة التي تنظر إلى التراث العربي في مجمله بوصفه تراثاً انفعالياً ترفياً لا يعالج حقائق وعلوم الطبيعة.

على المستوى العملي بات علم الملاحة في وقتنا الحاضر يدين لخبرات ابن ماجد وتجاربه في هذا المجال، على أساس القواعد التي أرساها واكتشفها، مستعيناً بذكاء فطري لامع وميل للتجريب واختبار الحقائق، يقول في قصيدة له:

فَيَا رَاكِبِي البَحْرِ اسْأَلُونِي وَاكْتُبُوا

فَمَرْقَاكُمُ بالكُتْبِ لاَ بِالكَتَايبِ

فَإِنْ مِتُّ قِيسُوا مَا اخْتَرَعْتُ وَعَوِّلُوا

عَلَيْهِ فَقَدْ هَذّبْتُهُ بِالتَّجَارِبِ.

دمج ابن ماجد بين علميْ الفلك والملاحة. فترسخت أصول علم الملاحة على يديه ويعود له الفضل في تأسيس هذا الفن الذي لا تستغني عنه البشرية في ترويض ومعرفة أسرار الأزرق اللجيّ، وتوظيف الملاحة لخدمة الإنسانية حتى اليوم:

نَوَادِرُ عِلْمِ البَحْرِ عَنِّي تَفَرَّعَتْ

وَخَيْرُ صِفَاتُ البَحْرِ تَصْدُرُ عَنْ فَمِي.

إطلالة على سيرته

من المعروف تاريخياً أن ابن ماجد ولد في جلفار، وهو الاسم التاريخي القديم لجزء من إمارة رأس الخيمة بدولة الإمارات العربية المتحدة. وكانت جلفار يومها مركزا تجاريا مزدهراً، كما عُرفت كميناء هام على ساحل الخليج العربي، واشتهرت كذلك بإنتاج الأواني الفخارية، التي كانت توزع على مناطق الخليج لأكثر من 500 عام. وقد خبت نار آخر فرن لصناعة الفخار في وادي حقيل منذ30 سنة فقط.

ذاعت شهرة جلفار وطبق صيتها الآفاق، منذ القرون الوسطى، وكانت شواطئ جلفار منارة مضيئة، ينطلق منها الرجال الأفذاذ لاستكشاف وترويض أمواج البحار، ومعرفة أسرار الطرق البحرية والاهتداء إلى المرافئ بخبرة علمية ثبتت دقتها وصحتها، بقدر ما أثبت العصر الحديث عظمة الملاح أحمد بن ماجد، سليل البحارة الكبار، بما فيهم والده وجده. لكنه أضاف الكثير من المعارف والخبرات إلى هذا الحقل وفقاً لتجارب ومعايشات خاضها بنفسه. إذ لم يبخل على الإنسانية عامة بعلمه في هذا الشأن، فترك آثارا ومخطوطات وأراجيز وقصائد توثّق لهذا الفرع العلمي الحيوي النادر.

ومن الآثار الباقية التي تشهد على عراقة تاريخ جلفار والمنطقة؛ وعلى سبيل المثال قصر ”الزباء” الذي يرجع تاريخه للقرون الوسطى. ويقع قصر “الزباء” على قمة جبل يطل على منطقة شمل الحديثة الواقعة شمال إمارة رأس الخيمة، ولتاريخ هذا القصر ارتباط وثيق بمدينة جلفار، التي تمثل موطن أحمد بن ماجد. ومن المعالم أيضاً قلعة ”ضاية” العسكرية الاستراتيجية المرتبطة بتاريخ رأس الخيمة، وتقع شمال مدينة الرمس، ويعود تاريخ هذه القلعة إلى القرن السادس عشر.

أسد جلفار

من هذه البيئة سطع نجم هذا الربان الاستثنائي المعروف بأسد البحر شهاب الدين أحمد بن ماجد. وتأكيداً على انتسابه لجلفار يذكرها بالاسم في إحدى أراجيزه بحنين وشوق واضحين قائلاً:

رَعَا اللَهُ جِلْفَارَ وَمَنْ قَدْ نَشَا بِهَا

وَأَسْقَى ثَرَاهَا وَاكِفٌ مُتَتَابِعٌ

بِهَا مِنْ أُسُودِ البَحْرِ كُلُّ مُجَرِّبٍ

وَفَارِسُ بَحْرٍ لِلشَّدَائِدِ بَارِعٌ.

ونجد إثبات انتماء ابن ماجد لمسقط رأسه جلفار أيضاً، في كتابات أمير البحر التركي علي بن الحسين، الذي عينه السلطان سليمان القانوني العام 1554 أميراً بحرياً على قاعدة جلفار، وكلفه بإعادة سفن الأسطول التركي من ميناء البصرة الى مرفأ السويس، فمر بجلفار وكتب عنها، ثم يعود المستشرق الفرنسي غبريال فيران ليؤيد رواية أمير البحر التركي علي بن الحسين باعتبار الملاح العربي جلفاري الأصل، ويستند في ذلك إلى المراجع البرتغالية. كما أن البيت 85 من الفصل الحادي عشر من أرجوزة ابن ماجد “حاوية الاختصار في أصول علم البحار” يثبت هذه الحقيقة تماماً:

تَمَّتْ بِشَهْرِ الحَجِّ فِي جُلَّفارِ

أَوْطَانِ أُسْدِ البَحْرِ فِي الأَقْطَارِ.

بل إن الاسم المتداول حالياً لجلفار وهو رأس الخيمة ورد في بيت بأرجوزة له عندما قال:

وَمَنْ جَرَى لِرَأْسِ الخَيْمَةِ

وَالصَّيْرِ فِي الأَكْلِيلِ بِالعَزِيمَةِ.

وعادة ما يختلف المؤرخون حول مولده. إلا أن هناك شبه إجماع على أنه عاش في القرن الخامس عشر للميلاد. وهناك من يحدّدون تاريخ مولده بسنة 1421 ميلادية في جلفار. وتستنتج بعض المصادر أنه اعتزل العمل في البحر سنة 1489م وتوفي سنة 1500م.

وبين تاريخ مولد البحّار العربي وتاريخ وفاته فترة زمنية لا تقاس بما قدمه في علم الملاحة بعمر رجل واحد. فقد استخلص من رحلاته البحرية قواعد الملاحة وقام بتوثيقها شعراً ونثراً. يقول:

أَنْفَقْتُ عُمْرِي عَلَى عِلْمٍ عُرِفْتُ بِهِ

فَازْدَدْتُ بِالعِلْمِ تَوْقِيرًا عَلَى الكِبَرِ.

عودة ابن ماجد

وحسب شتى الدراسات، يعتبر ابن ماجد من أشهر الملاّحين في تاريخ علم الملاحة الدولية، وأهم من وضع قواعدها، ويحسب له اكتشاف مجاهل المحيط الهندي، وتعليل هبوب رياحه الموسمية وكذا وصف الرياح المحلية والمدّ والجزر في الخليج العربي والبحر الأحمر وبحر العرب.

انبعث ابن ماجد مرة أخرى، وذاع صيته في عصرنا الحاضر، وعاد الباحثون لدراسة أعماله والتنقيب عنها منذ سنة 1912. وبحسب المؤرخ حسن شهاب، الذي أنجز كتاباً بعنوان “أحمد بن ماجد والملاحة في المحيط الهندي”، فقد شهدت سنة 1912 عثور المستشرق الفرنسي غبريال فيران في المكتبة القومية بباريس على مخطوطة “كتاب الفوائد في أصول علم البحر والقواعد” لابن ماجد. ولفتت الدراسات الحديثة لبعض أعماله انتباه المهتمين بدراسة تراث العرب العلمي، وتراث علم الملاحة بالتحديد. أمّا البحّارة العرب فلم ينسوا هذا الملاّح. وظل من وصلتهم وصيّته بالتزام الطهارة على متن سفنهم، يقرأون سورة الفاتحة ترحماً على روح ابن ماجد في العديد من الموانئ قبل أن تنطلق رحلاتهم.

كان والده ماجد أحد أساطين علم البحر وكذلك جده الأول محمد. وقد امتدح ابن ماجد والده وقال عنه في كتاب الفوائد: “كان الوالد عليه الرحمة والغفران يسمى ربان البرّين، ونظم الأرجوزة المشهورة الحجازية فوق ألف بيت. وكانت أرجوزة الوالد خيراً لي من جميع ميراثه في ذلك المكان”.

“الملاحة” في شعره

أمضى ابن ماجد حياته في القراءة وركوب البحر وتصنيف القواعد وتوثيق خبراته التي صاغ معظمها على شكل أراجيز شعرية. وقادته أسفاره البحرية إلى أفريقيا الشرقية وبلاد فارس والهند، كما تلمّح بعض نصوصه إلى أنه وصل إلى الصين. ويخبرنا أن جده محمد أول من قام بإجراء قياسات النجوم في بحر قلزم العرب، ثم جاء من بعده ماجد الذي نقل معارفه لولده أحمد، الذي يقول إنه أمضى أربعين عاماً وهو يعيد تصحيح أعمال جده ووالده ويحررها ويحققها ويصلح أخطاءها. ويتضح أن آل ماجد جلهم ربابنة امتهنوا الملاحة، وأن أحمد بن ماجد تدرب في البداية على يد والده، قبل أن يصير معلماً ماهراً ومشهوراً يصول ويجول في المحيط الهندي.

اشتهر هذا الملاح بثقافته الواسعة، بالقياس إلى ربابنة بحر الهند، الذين كانوا في ذلك الوقت أميّين ما عدا القليل منهم. فكان واحداً من النخبة التي تجيد القراءة والكتابة، وعززها بمعارفه اللغوية والفلكية وثقافته العامة وثمار رحلاته، والأرجح أنه كان يفهم بعض اللغات الأجنبية. يقول في واحدة من أراجيزه عن كفاحه المعرفي وبحثه وتوثيقه لما استقرت صحته في شؤون الملاحة:

قَدْ رَاحَ عُمْرِي فِي المُطَالَعَاتِ

وَكَثْرَةِ التَّسْآل فِي الجِهَاتِ

وَكَمْ رَأَيْتُ فِي خُطُوطِ الشّول

وَنَظْمْهِ وَالنَّثْرِ وَالفُصُولِ

وَكَمْ نَظَرْتُ فِي الحِسَابِ العَرِبِيِّ

وَحِسْبَةِ الهِنْدِ مُذْ كُنْتُ صَبِي

فَلَمْ أَرَ فِي اتِّفَاقِ أَصْلِي

فِي القَمَرِ وَالزِّنْجِ صَحِيحَ النَّقْلِ

وَفِي جَنُوبَيْ جَاوَةَ وَالصِّينِ

وَالفَالِ عَلْمًا صَادِقَ اليَقِينِ.

من سياق المقطع السابق نلاحظ لجوء ابن ماجد إلى اعتماده شكل الأرجوزة، رغم إجادته للقصيدة التقليدية بمعمارها المتعارف عليه والمنضبطة وزناً وقافية وروياً وعروضاً. لكنها حيلة المضطر إلى ركوب الصعب كما يبدو، لأن شكل الأرجوزة كان يتيح له التفلّت من القواعد الشكلية الصارمة للقصيدة العمودية، ويتيح له سرد قواعده واكتشافاته في الملاحة ضمن بحر الرجز السهل الممتنع. وبلا شك فإنه أول من دوّن فن الملاحة وعلمها باللغة العربية شعراً ونثراً، إلا أن غايته لم تكن اللعب على حبال اللغة ورصّ الكلمات، بل كان معنياً بتوصيل معرفة إمبريقية/تجريبية من وحي رحلاته البحرية، وتأكيداً لغايته من النظم يقول في بيتين له عن هذا الشأن:

فَلَوِ أُرِدْ تَطْوِيلَ كُلِّ فَنٍّ

لَمْ تُطِقِ النُّسَّاخِ تَنْسَخُ عَنِّي

قَصْدِي الأُصُولُ فِي عُلُومِ البَحْرِ

لاَ قَصْدِي الهَرَجُ وَكَثْرُ الشِّعْرِ.

الباحث إبراهيم خوري يقول “أمّا معارف ابن ماجد الفلكية فواسعة جداً. وتطبيقه علم الهيئة في الملاحة رائع ولم يتغير حتى الآن. وهو يعرف أسماء الكواكب العربية والمنقولة عن اليونانية وبعض أسماء الكواكب الفارسية. ويبدع في قياس ارتفاع نجوم الهداية بآلة اليد أو بالإسطرلاب بدقة أذهلت من قارن بين نتائجها وبين نتائج القياسات الحديثة من المستشرقين المعاصرين في فرنسا، مثل غروسيه غرانج. وما ذلك إلا لأن ابن ماجد اعتمد مبدأ التجريب وتكرار القياس إلى أن يحصل على نتيجة لا تتغير. وهو أوّل من وصف بدقة السحائب الكبرى والصغرى والجنوبية التي يسمّيها الأوروبيون سحائب ماجلان مع أن ابن ماجد أولى بهذه التسمية “السحائب السوداء والبيضاء”. وكانت حصيلته المتعلقة بالجغرافيا تفوق معلومات الجغرافيين العرب في البحر والسواحل والموسميات وتفسير هبوب الرياح والمدّ والجزر. كما يتحدث بطلاقة عن الدين والتاريخ والجغرافيا والأنواء والأدب والأنساب. ويعطي انطباعاً بسعة اطّلاعه.

ويجزم خوري أن ابن ماجد كان يتقن اللغة التاميلية، مع احتمال أنه كان يعرف إحدى اللغات الزنجية، وربما كان يلمّ بالفارسية أيضاً، بدليل أنه كان يشرح الألفاظ الفارسية التي ترد في نصوصه. ويبدو من الطبيعي أنه اكتسب معرفته ببعض اللغات بالممارسة وبتردده على البنادر والمدن المطلة على الشواطئ التي طاف بها.

رسمة لفاطمة برزنجي

ومن المهم القول إن في عناوين قصائده وأراجيزه مصطلحات وتسميات لا يعرف معناها إلا المختصون بالملاحة والفلك، مثل (الدّيرة) وتعني الخط البحري الموازي للبر، وقياس المسافات البحرية اعتماداً على النجوم، و(الأخنان) ويعني بها التقسيمات داخل دائرة بيت الإبرة (البوصلة) التي يسميها ابن ماجد (الحقة) ويفتخر بأنه قام بتركيب إبرة المغناطيس في الموضع الصحيح بالنسبة إلى دائرة الأخنان، وعددها 32، وسمّى كل خن أو جزء من الدائرة باسم النجم المقابل له الذي يدل أيضا على الجهة.

وثمة مصطلحات أخرى تتصل بعلم الملاحة أيضاً مثل: المنازل، ومواسم السفر، والإشارات والعلامات البحرية، وكان هذا الملاّح العربي بحسب أراجيزه يستدل حتى بالكائنات البحرية، ويعرف تماماً أن أنواعاً محددة من ثعابين البحر التي يسميها (الحيات) تختص بها شواطئ بعينها، وكذلك الشعب المرجانية وغيرها من العلامات بما فيها رائحة الطين في قعر البحر ولونه.

وتحفل أرجوزات ابن ماجد المنظومة بذكر الإشارات والعلامات بذات القدر من الأهمية التي يوليها للمسائل الملاحية الأخرى. ومعظم ما تركه لتوثيق خبرته وعلمه في مجال الملاحة، كان شعراً منظوماً بقصد حفظ القواعد والأصول في علم الملاحة وسردها في قالب شعري منظوم. ثم في وقت متأخر من حياته اتجه لكتابة النثر ووضع قواعد الملاحة بسياق نثري غير النظم الشعري والأراجيز. ويقتضي الفهم والغوص في إرثه أن تكون لدى القارئ خبرة ودراية ولو بالمبادئ الأساسية لعلمي الفلك والملاحة، لكننا لن نغوص عميقاً في المسائل العلمية الدقيقة المتصلة بالملاحة كما أسلفنا.

راح الباحثون ينقبون عن عناوين أرجوزات ابن ماجد وقصائده فتم رصد 47 عملاً من بينها 5 أعمال منثورة معظمها مفقود باستثناء كتاب “الفوائد في أصول علم البحر والقواعد”.

ومن أبرز عناوين أعماله:

- “حاوية الاختصار في أصول علم البحار”. وعدد أبياتها 1082 بيتاً، وتاريخ نظمها عام 866 هـ/ 1462 م.

- “الأرجوزة السفالية”: من بحر الرجز وعدد أبياتها 701 بيتاً، وتصف الطرق البحرية بين السفالة (موزمبيق) وبلدان جزيرة العرب والهند ومواعيد الرحلات منها وإليها.

- أرجوزة “قِبلة الإسلام”: وعدد أبياتها 295 بيتاً. وكان تاريخها في 893 هـ/ 1487 م. والغاية من نظمها كما يقول ابن ماجد: “لمّا رأيت الناس يميلون عن معرفة القبلة، ومساجدهم مائلة عن قصد القبلة، وليس لهم أصل علم، يعرفون به القبلة”، ولها تسمية أخرى باسم أرجوزة “تحفة القضاة”.

- “الأرجوزة المعلقة”: ويصف فيها الطرق البحرية من بر الهند إلى بر سيلان، وناك باري، وسومطرة، وبر السيام، ومعلقة، وجاوة، كذلك جزيرة دنج دنج، والغور، والصين، إلخ.

- أرجوزة “منازل القمر”.

- “القصيدة الذهبية”: من بحر الطويل، ويبلغ عدد أبياتها 193 بيتاً.

- “القصيدة التائية”: وصف للطريق البحري وقياساته ومجاريه ومواسمه من جدة إلى عدن.

- قصيدة “نادرة الأبدال في الواقع وذبان العيوق”.

- قصيدة “مواسم السفر”: وهي قصيدة مختصرة في مواسم السفر، من البحر الطويل، وعدد أبياتها 19 بيتاً.

- كتاب “الفوائد في أصول علم البحر والقواعد”، وتاريخ اختصار الكتاب عام 895 هـ/ 1489 م، عن كتاب له كبير بلغ عدد مجلداته عشرة. وأشار ابن ماجد إلى أنه قد صنفه عام 880 هـ/ 1475 م، أي قبل 15 سنة من تلخيصه.

ويتسم منهج ابن ماجد باختراع الأصول السليمة اعتماداً على رحلاته البحرية، وفي مواضع عديدة من شعره الملاحي يتباهى باختراعاته كما في هذا البيت من القصيدة الذهبية:

وَمَنْ عَرَّفَ المَوْجَ الصَّليبِي رِيحُهُ

وَرَكَّبَ مِغْنَاطِيسَكَةً بِالمَرَاكِبِ.

وتلك إشارة إلى البوصلة التي كان يسميها (الحقة).

وعن اكتشافه للإبدال وقياسات النجوم باستخدام الأصابع، يقول في بيت من قصيدة ضريبة الضرائب:

قَيَاسَاتُهَا كَالدُرِّ هِيَ قَلاَيِدٌ

سَمَحْنَ بِهَا كَفَّايَ فِي عُنُقِ البَحْرِ.

كما اتسم منهجه باختبار الأصيل المبتكر بعد التحقق من صحته بالتجريب، إذ يقول في كتاب الفوائد “وما صنفت هذه القياسات المنتخبات إلا بعد أن كررت عليها عشرين سنة”.

ويقول في بيت من أرجوزة قسمة الجمة على أنجم بنات نعش:

دُرْتُ الأَقَالِيمَ عَلَى تَهْذِيبِهَا

أَرْبَعَةَ أَعْوَامٍ فِي تَجْرِيبِهَا.

وتأكيداً على ثقة الربابنة بما توصل إليه بالتجربة يقول في بيت له من أرجوزة تحفة القضاة:

لَمْ يَعْتَرِضْ لِي أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ

فِي حِسْبَةِ الدِّيرَاتِ وَالقِيَاسِ.

ثم ينصح الربان بألاّ يعتمد إلا على تجريبه الشخصي ومشاهدته العيانية، كما يقول في حاوية الاختصار:

لاَ تَعْتَبِرْ إِلاَّ بِمَا جَرَّبْتَهُ

أَوْ أَنْ يَكُونَ الوَصْفُ قَدْ حَقَّقْتَهُ

وَكُلِّ مَا جَرَّبْتَهُ يَا رُبَّانُ

اِعْمِلْ بِهِ فِي كُلِّ مَا تَعْتَانُ

ثُمَّ صِفَاتُ البَرِّ وَالجِبَالِ

اِفْعَلْ بِتَجْرِيبِكَ لاَ تُبَالِ.

ولعل من علامات توظيف ابن ماجد للجانب المعرفي الخالص في أشعاره وأراجيزه انحيازه للتجريب، وأخذه في الاعتبار التعامل مع الطبيعة من قبل الربّان بإعطاء أولوية لمشاهداته وتجاربه العملية الشخصية، وهذا انحياز منهجي لمبدأ أساسي في العلوم الحديثة وهو التجريب.

كان ابن ماجد واعياً تماماً باشتغاله العلمي في حقل الملاحة حتى على المستوى الاصطلاحي، إذ كان يكرر وصف تصانيفه التي صبّها في قوالب شعرية باعتبارها تندرج في ما أسماه: (علم البحر أو البحار)، وكرر هذا التعبير في أراجيزه وقصائده، وقام ببحث هذا العلم وتفصيله في جميع أعماله الشعرية والنثرية المحدودة.

وجزم أنه أول من كتب في هذا العلم بقوله:

كَشَفْتُ لِعِلْمٍ مَا سُبِقْتُ لِمْثِلِهِ

وَكُلُّ فَتَى يَجْنِي الذِي هُوَ زَارِعُ.

وفي بيت آخر من قصيدة “ضريبة الضرائب” يعبر عن تلذذه بالمعرفة والاكتشاف ويصفها بلذة العمر حين يقول:

فَخُذْ مِنْ عُلُومٍ لاَ سَمِعْتَ وَلاَ تَرَى

لِذَا العِلْمِ مِنْ غَيْرِي وَذِي لَذَّةُ العُمْرِ.

وأوضح بما لا يدع مجالاً للخلط والتأويل أنه يقصد في اشتغاله علم البحر الفلكي عندما قال في بيتين من أرجوزة “حاوية الاختصار في أصول علم البحار”:

يَا أَيُّهَا الطَّالِبُ عِلْمَ اليَمِّ

إِلَيْكَ نَظْمًا يَا لَهُ مِنْ نَظْمِ

فِي العِلْمِ وَالهَيْئَةِ وَالحِسَابِ

وَمَا هُوَ اسْتُنْبِطَ لِلصَّوَابِ.

ومن البدهي أن مضمون اشتغاله على هذا العلم ووعيه بما يقوم به تحدد من خلال عنوان أرجوزته الشهيرة “حاوية الاختصار في أصول علم البحار”، وكذلك في كتابه “مختصر كتاب الفوائد في أصول علم البحر والقواعد”، فاختار وجهة تصانيفه حول علم البحر، أي الملاحة البحرية، وطبّق فيها أصول علم الفلك، فصارت ملاحته فلكية، مهتدياً بالنجوم وبأنواء بعضها المسماة منازل القمر، وبتواريخ طلوعها وغروبها محسوبة بالسنة الشمسية الملاحية، أي النيروز العربي، وبما يقابلها في السنة الرومية.

وأجمل ابن ماجد الملاحة الفلكية في أرجوزة “حاوية الاختصار في أصول علم البحار”، ثم قام بتفصيل هذا العلم في بقية أعماله الأخرى، وكانت بعض منظوماته تشتمل على ناحية واحدة أو ناحيتين من علم البحر. ثم تبين له وهو في الخمسين من عمره أن الربابنة والمستجدين يحتاجون إلى شرح بعض أبياته وأبحاثه، فقرر أن يسّهل عليهم إدراك معاني أشعاره وبدأ يكتب لهم فوائد جمعها في كتاب الفوائد “الشروح في أصول علم البحر والقواعد”، وقال عنه “ألّفته وصنفته لركاب البحر ورؤسائه وفيه ما اشتبه من الحاوية والأراجيز وغيرها للطالبين”. لكنه اختصر ذلك الكتاب فيما بعد كما أشرنا.

وبحسب المؤرخ حسن صالح شهاب، ضاعت دفاتر المرشدات الملاحية أو ما كانت تسمى بالرهمانيات العربية القديمة، ولم يبق منها في عصر أحمد بن ماجد غير عدد قليل، أشهرها كتاب (الرهماني) الذي ألّفه من أسماهم ابن ماجد بالليوث الثلاثة، وهم: محمد بن شادان، وسهل بن أبان، وليث بن كهلان. لكن ابن ماجد انتقد علم سابقيه وصحّح أخطاء كثيرة وقعوا فيها، كما أضاف الكثير والجديد. ويفخر بكونه مجددا ويصف نفسه برابع الثلاثة:

وَلمَّا رَأَيْتُ النَّاسَ فِي الوَهْمِ أَسْرَفُوا

وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الدَّنِيْ وَالمُقَدِّمِ

حَدَّدْتُ لَهُمْ حَدًّا فَلَمْ يَصِلُوا لَهُ

وَزَالَ بِهَذَا الحَدِّ كُلُّ التَّوَهُّمِ

وَأَلْقَوْا سِلاَحَ الجَهْلِ لَمَّا تَحَقَّقُوا

مَقَالِي فِي عُرْبٍ وَعُجْمٍ وَدَيْلَمِ

بِقَوْلِي إِنِّي رَابِعٌ لِثَلاَثَةٍ

فَحُقَّ لِحُسَّادِي تَمُوتُ وَتَعْتَمِي.

ويشير المؤرخ المغربي عبدالهادي التازي إلى أن اسم أحمد بن ماجد ظل على ألسنة البحّارة في خليج عُمان والبحر الأحمر والمحيط الهندي قروناً عديدة بعد وفاته، وينقل التازي عن السير ريتشارد بورتون قوله في كتاب “الخطوات الأولى في شرق أفريقيا” أنه لما أبحر من عدن سنة 1854م تلا البحارة سورة الفاتحة قبل الإقلاع ترحماً على روح الشيخ ابن ماجد. ويستطرد التازي بالقول: إن ابن ماجد بما يحمله من تاريخ حافل جدير بردّ الاعتبار إليه، وأن المؤهل في العالم كله ليقوم بهذا الواجب هم أبناء جلدته من أبناء المنطقة الذين يظلون مدينين لابن ماجد فيما كتب عن ديارهم وعن سواحلهم.

ويرى المؤرخ حسن صالح شهاب أن جهود ابن ماجد في تهذيب قواعد الملاحة وتطويرها قد تركزت في علم القياس، وهو أهم قواعد الملاحة. ويُعتبر ابن ماجد من الناحية العملية مخترع البوصلة والمطور البارز لفكرة استخدام المغناطيس لمعرفة الجهات. والأصح أنه جعل هذا الاستخدام أكثر دقة وعلمية. ويصرح ابن ماجد أن تثبيت المغناطيس بالحقة من اختراعاته قائلاً في كتاب الفوائد “ومن اختراعاتنا في علم البحر تركيب المغناطيس على الحقة”.

وقبل استخدام بيت الإبرة المغناطيسية (البوصلة) كان البحّارة العرب يستدلون بالنجوم على معرفة الجهة المقصودة. ويروي المؤرخ تقي الدين المقريزي (المتوفى عام 1442م) أن البحّارة العرب كانوا يحملون معهم في أسفارهم حديدة مجوفة على شكل سمكة غاية في الرقة. فإذا لم يروا ما يهديهم من الكواكب إلى معرفة الجهات، وضعوا على فم السمكة شيئاً من مغناطيس جيد، ويحكونه بالمغناطيس. ثم يضعون السمكة (أي الحديدة) على ماء في حقة فتستدير وتستقبل بفمها القطب الجنوبي وتستدبر القطب الشمالي”.

أي أن إبرة المغناطيس ظلت عند البحّارة العرب غير مركبة على الحُقة أو بيت الإبرة حتى عصر المقريزي. لكن ابن ماجد قام بتركيب إبرة المغناطيس وصنع لمن بعده ما تسمى اليوم بالبوصلة. وكان اجتهاده في تقسيم ما تعرف بالأخنان وجعل الخطوط في بيت الإبرة أو في الحقة ذات دلالة علمية وعملية مفيدة جدا، وبالطبع فقد استفاد ابن ماجد ممّن سبقوه كما أضاف ودقق وجرّب ووثّق وترك لمن بعده خلاصة علمه ورحلاته البحرية التي أثمرت معرفة غنية.

وبالعودة إلى شعر ابن ماجد وأراجيزه التي تعتبر بحق تجربة فريدة للمزاوجة بين المعرفي والشعري، أو على الأقل توظيف القالب الشعري لخدمة معطيات علمية، يقول ابن ماجد أيضاً معلناً انحيازه للعلم المجرد وفخوراً بتجاربه في الملاحة والإحاطة بما يفيد:

حَصَرْتُ نُجُومَ الأُفْقِ فِي البَحْرِ هَادِياً

بِهَا سَالِكُ البَحْرِ المُحِيطِ المُعَظَّمِ

بِخَيْرِ قِيَاسَاتٍ وَجَمِّ فَوَائِدَ

فَلَمْ يَعْتَرِضْ لِي غَيْرَ جَحْشٍ مُعَمَّمِ

إِذَا جِيتَهُ مِنْ بَابِ عِلْمٍ مُجَرَّدِ

تَعَامَى بِتَعْجِيلِ الصُّرَاخِ المُتَرْجَمِ.

ختاماً كان أحمد بن ماجد يعي تماماً أهمية ما يقوم به وأنه يؤسس علماً جديداً للبشرية، ولم يكن يقنع باستخدام معرفته بأحوال البحر ومواسم السفر والقياسات والإشارات ليهتدي بها لنفسه، فحرص كأيّ عالم جليل على ترك إرث علمي مهمّ في مجال الملاحة، استوعبته قصائده وأراجيزه، محققاً ريادة في استضافة المعرفي داخل متن القصيدة الكلاسيكية، إذن لا يمكن إسقاط اسمه من خانة الشعراء، رغم طغيان شهرته كملاح على شهرة الشاعر، وإن كان يميل إلى منجزه في حقل الملاحة الذي استغرق جل سنين حياته.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.