سيلفي عسكري

الجمعة 2015/05/01

شرح كانتسمان وستاين في الكتاب كيف تداخلت السياسات العنيفة مع تطبيقات الشبكة العالمية وبروتوكولاتها، بل وجمالياتها البصرية. فالجنود يجلبون هواتفهم الذكية إلى الميدان خلال العمليات العسكرية، ويشاركون الصور ومقاطع الفيديو المنتقاة بعناية لحظةً بلحظة، وعلى الفور، فيكادون ينقلون لمحةً من العالم الواقعي. يعلن المتحدثون عن الجيش الإسرائيلي عن مجريات الحرب على تويتر، كما يشْهد المدنيون عنف الدولة للمرة الأولى على صفحات الفيسبوك وشاشات الموبايل.

استمالة المسرح العالمي

لا ريب أن أدوات الشبكات الاجتماعية، والتي طالما ظنناها لا حربية القصد منها الترفيه أو نقل المعلومة، باتت أدوات لا مفر منها من أدوات الحرب، فالاحتلال يختار المواد التكنولوجية التي قد تخدمه ثم يمطر بها الشبكات. والغرض هو استمالة المسرح العالمي الذي يتفاعل بدوره مع الوسيط التكنولوجي، داعماً الاحتلال تحت دعوى الأمن.

وفي هذا السياق العالمي المعقَّد يتتبع كتاب “العسكرة الرقمية” النزعة العسكرية الرقمية للجيش الإسرائيلي، حاسراً النقاب عن مدى توغّل الشبكات الاجتماعية على مسرح الحرب، وكذا أثر الاحتلال على ثقافة الشبكات الإسرائيلية اليومية. واليوم، يتضح لنا من هذا الكتاب أن الوسائل الرقمية تعمل كمنصّة حيوية تنطلق منها إسرائيل لتنال الاستحسان، وهكذا تفكك المؤلفتان نقاط التقاطع بين ثقافة الإنترنت ووسائل الإعلام الرقمية والاجتماعية في سياق مكافحة الكولونيالية.

العنف والتفاوض

تولي الكاتبتان كذلك عناية خاصة بفكرة العنف الرقمي في إطار القومية الإسرائيلية، آفاقه المفعمة بكراهيةٍ بما أنه موجَّه من القويّ إلى الضعيف، إيجازه العاطفي ومرئيات الثقافية، قوّته المغرية وقيمته التفاوضية على المسرح السياسي، مشددتان على الآثار السياسية للحياة في جوّ من العنف التكنولوجي باعتباره “مجرماً أو مراقِباً أو متفرجاً أو مستفيداً متواطئاً” كما تقول كانتسمان.

كانتسمان محاضِرة في المعلومات والاتصالات بجامعة مانشستر ميتروبوليتان، ومؤلفة كتاب “صور من العنف والانتماء: المثلية والهجرة والقومية في الفضاء الافتراضي وما بعده” (2009)، وقد كتبت مقالات مطولة عن الحرب والقومية الإسرائيلية ونقاط تقاطع العسكرة والوسائل الرقمية، كما تمتد أبحاثها إلى العنصرية ضد المثليين في إسرائيل وفلسطين، والعلاقة بين عنف معاداة السامية وعنف الإسلاموفوبيا. أمَّا ستاين، فهي أستاذة مشاركة في الأنثروبولوجيا بجامعة دوك، ومؤلفة كتاب “مسارات الصراع: الإسرائيليون والفلسطينيون والحيوات السياسية للسياحة” (2008).

سيلفي عسكري

في إبريل من العام الماضي انتشر أحد فيديوهات الهواة كالنار في الهشيم، مصوراً جريمة جندي إسرائيلي في الضفة الغربية. لم يكن المحتوى جديداً أو صادماً: جندي يدفع ويركل ويسدد بندقيته إلى مراهقين فلسطينيين عزّل في الخليل. أمَّا الجديد، فقد كان شكل ردود الأفعال ومداها من داخل المجتمع الإسرائيلي.

عندما تم إيقاف الجندي عن العمل، تكالب الجنود الإسرائيليون على وسائل الإعلام الاجتماعية بأعداد غير مسبوقة لدعم “أخيهم في الحرب”. أطلق المراقبون على الحملة “أول تمرد رقمي” بالجيش، إذ حمَّل آلاف الجنود صوراً التقطوها لأنفسهم بأجهزة الهاتف وهم يرفعون لافتات احتجاجية: “ندعم ديفيد النحالي” (كان الجندي ضمن لواء نحال).

وفي بعض صور “السيلفي” كتب الجنود الرسالة على أجسادهم شبه العارية؛ وفي صور أخرى كتبوا الحروف بالذخيرة. تسربت الفكرة بعد ذاك إلى المدنيين ممن حمَّلوا صورهم في المنزل أو العمل، برفقة الحيوانات الأليفة والأدوات المنزلية بدلاً من الأسلحة.

سعار حقيقي

أعلن الجيش بعد ذاك أنه أوقف الجندي بسبب حادثتي عنف سابقتين، لا المواجهة المسجلة صوتاً وصورةً في الفيديو. ومع ذلك تواصل الاحتجاج الرقمي بقوة الصاروخ، بل وصار احتجاجاً على جبهات وأهداف أعمّ، من بينها ما أسموه “الاستفزاز الفلسطيني” و”ضَعْف” – يا للوقاحة – الجنود الإسرائيليين داخل الأراضي المحتلة.

حث الناس الجيش على حماية “أطفال الأمّة” فيما هدد الآباء بإخراج أبنائهم من الخدمة العسكرية. اشتكى الجنود من سياسة الجيش في “ضبط النفس″! مدعين أنها خلفتهم بلا حيلة في مواجهة عدو مشحون بالعدوانية، فكان المشهد بأكمله سعاراً حقيقياً.

الكتاب دليل إلى استراتيجيات الإعلام المعاصر، وارتجاله الاجتماعي عند الحاجة. يتسم بنبرة أخلاقية لا لبس فيها، ولكنه سياسي بقدر ما هو أخلاقي

وهكذا عزَف ردّ فعل الجمهور النغمةَ المحفوظة، خطاباً سياسياً إسرائيلياً متكرراً عن الاحتلال. يعكس الوضع عكساً مخلاً، فبناءً عليه يصير الجندي المسلح، لا المدني الفلسطيني، هو الضحية الكبرى. وإبداء هذه النزعة العسكرية الوطنية شائعة كل الشيوع في إسرائيل، يُعرب عنها المواطنون بحماسة منقطعة النظير خلال العمليات العسكرية في الأراضي المحتلة أو بعد الهجمات الفلسطينية أو في مواجهة الانتقادات الداخلية أو الدولية للسياسة العسكرية الإسرائيلية.

اللافت في هذا الحادث إذن هو شكل الاستجابة ومداها. فقد أظهرت السهولة التي يمْكن بها تعبئة الشبكات الاجتماعية بغرض مناصرة أجندة عسكرية قومية. وقبل بضع سنوات ليس إلا، ما نطلق عليه الآن “العسكرة الرقمية” كان بدعة في إسرائيل، إمَّا تشِيد بها وسائل الإعلام باعتبارها قصة عن الابتكار التكنولوجي – عندما كان الجيش الإسرائيلي يجرب استخدام الشبكات الاجتماعية لتعزيز علاقاته العامة – وإمَّا تدان في سياق الفضائح عندما تنفضح على الفيسبوك صورُ الجنود الشخصية، كاشفة عن اعتداءاتهم على الفلسطينيين. أمَّا اليوم، فالعسكرة الرقمية أمرٌ طبيعي تماماً، مثلها مثل النشرات الدورية.

الحق أن “السيلفي العسكري” المتجلي في أحدث فضيحة رقمية مدوية ذو تاريخ قصير، وإنما ذو دلالة، في إسرائيل. والحادثة الأكثر شهرة هي حادثة إيدن أبيرجل، الجندية السابقة التي وقفت مبتسمة، ملتقطة صورتها أمام معتقلين فلسطينيين مقيدين ومعصوبي الأعين، وبعدها حمَّلت الصور على صفحتها على الفيسبوك.

تلت الفضيحة فضائح أخرى، صورٌ على موقع إنستغرام لجنود شبه عرايا، يسترون بالكاد عورتهم بالأسلحة؛ لقطات من هواتف ذكية لمجندين مبتسمين، وأذرعهم تلتف حول معتقلين فلسطينيين معصوبي الأعين؛ صور لجنديات لا يلبسن إلا الأسلحة والذخيرة! يقفن في استفزاز جنسي أمام الكاميرا (كانت وسائل الإعلام العالمية قد أشارت إلى أن الصور أضفت معنى آخر على “قطاع″ غزة، فكلمة “قطاع″ باللغة الإنكليزية تعني “تعرٍّ”!).

اللهو الخفي

لم يقتصر السيلفي الشائن على إسرائيل فحسب بعد أن توافدت علينا صورٌ مثلها من تايلاند. كثيراً ما ننتقد السيلفي باعتباره نرجسية لا سياسية وترويجاً فارغاً للذات إلا أنه يتشكل الآن بطرق مختلفة في جميع أنحاء العالم. وأحدث جولة من السيلفي العسكري الإسرائيلي تتقاسم بالطبع أيقونات ميَّزت سابقاتها: أسلحة وذخائر وعري.

ولكن مع فارق: ففي معظم الصور الأخيرة حرص الجنود على إخفاء وجوههم تجنباً لعقاب مرؤوسيهم غير أن حجْب الهوية كان أيضاً علامة على تفاعل معقد بين الكشف والتخفي في حقل العسكرة الرقمية. وبينما تتفشى في الكتاب صور الوحشية العسكرية كما المرض على الشبكات الاجتماعية الإسرائيلية، يصير الاحتلال جلياً ومستوراً في آن واحد.

والكتاب في المجمل دليل إلى استراتيجيات الإعلام المعاصر، وارتجاله الاجتماعي عند الحاجة. يتسم بنبرة أخلاقية لا لبس فيها، ولكنه سياسي بقدر ما هو أخلاقي، إذ يضع نصب عينيه كيف يفضي فعل التوثيق اليومي إلى اختلاط الأوراق، بل والنصب على العالم.

يقولون إنك لو كررتَ معلومةً زائفة مرات ومرات، قد يكفي هذا ليصدقها الآخرون. وبديل المقولة الشعبي هو “الزنّ على الأذن أمَرّ من السحر”. إن لقطات الجنود المهينة تجلب الضفة الغربية المحتلة إلى العاصمة ذاتها، تل أبيب، وبإمكانها أن تجعل العنف، في سياق اقتران الاحتلال بأعراف التواصل الاجتماعي، أمراً عادياً تافهاً، مدارياً إياه خلف غلاف رقيق من التكنولوجيا المبتذلة. الأدهى هو أن الصور محجوبة الوجوه تروج لوهم آخر أشد وطأة من أوهام الإسرائيليين: الوهم القائل بأن هناك مرتكباً غائباً للجريمة، وما هو بغائب، وإنما فاعلٌ، ومعروف.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.