قنطرة عربية

الأربعاء 2015/07/01
لوحة: حسيم جمعان

بهذا العدد تطوي “الجديد” نصف عام من الإصدار الشهري، في مغامرة شيقة مع الأدب والفكر والأسئلة المتفجرة المطروحة على العقل والوجدان في حاضر عربي عصيب. مغامرة مع الكاتب والقارئ وفي المسافة بينهما، فـ”الجديد” ولدت، كما برهنت حتى الآن، لتكون قنطرة عربية بين القرّاء والكتاب، وبين الجغرافيات المشتتة للثقافة العربية في لحظة تاريخية اختفت معها المجلة القائمة على جدل العلاقة بين الفكرة الجامعة والأفكار المختلفة.

ليس أمراً يسيرا ولا آمناً أن تخرج على الناس معاكسا التيار، وهو ما انتهجته “الجديد”، ولم يكن سهلا أن تلتزم المجلة بروح بيانها التأسيسي وتعمل على ترجمته في زمن عربي لاهب ومتفجر، تحولت معه الكتابة إلى مغامرة خطرة، وأصبح للكلمات وزن دهري، وباتت تزان بموازين مرهفة أين منها تلك التي يزان بها الذهب.

انطلاقا من بيانها التأسيسي فتحت المجلة صفحاتها للأقلام العربية مشرقا ومغرباً، وتجاورت على صفحاتها نصوص أبدعتها أقلام مجهولين ومعلومين ومشهورين، فلم يكن الاسم هو المعيار، ولكن وزن الكتابة كان أسبق وأرجح. وعندما هتف شاب في القاهرة على إثر ندوة احتفت بالمجلة بحضور حشد كبير من ألمع الأدباء والشعراء في مصر “كيف تتحدث عن الجديد وعن يمينك أحمد عبدالمعطي حجازي وعن يسارك يوسف القعيد”. كان الجواب “(الجديد) ليست منبرا لصراع الأجيال، ولكنها منبر للقاء التجارب وحوار الأفكار، على أرض التلاقي والاختلاف، انطلاقا من نزعة أصيلة في التطلع إلى المستقبل، معبراً عنه من خلال إبداع مغامر ومبتكر، وفكر نقدي جريء ومضيء.

ومن حق السابقين علينا أن نؤمن معهم بأن “من ليس له قديم ليس له جديد”.

***

لعل الاحتفاء الذي قوبلت به المجلة من أوساط ثقافية عربية مختلفة، والشغف الذي لمع في عيون الشباب العرب وهو يتصفح المجلة ويقبل على ملفاتها وموضوعاتها، والتقدير الذي عبّرت عنه أقلام شتى، والدعوات التي تلقتها المجلة من مكتبات ومؤسسات ثقافية أهلية احتفت بها في لندن والدار البيضاء والقاهرة، وأخرى ستحتفي بها في عمان وبيروت وعواصم أخرى، لعل في هذا علامة على وقوع “الجديد” موقعا مؤثرا من توقعات القارئ والكاتب معا، وهو ما يضاعف من خطورة المهمة، وينذرنا بأن جهودا أكبر ينبغي علينا بذلها، ونقداً أقسى للذات من واجبنا أن نكون جاهزين لممارسته، فضلا عن استقبال النقد من المنفعلين بالمجلة ومشروعها المتفائلين بها منبراً حرا للثقافة العربية.

لكن هذا كله هو، أيضاً، بعض من زاد الرحلة، ومما يضاعف من توق المغامرة.

***

في هذا العدد تتضح أكثر فأكثر الإمكانات التي يمكن لمنبر عربي منفتح على الآخر في الثقافة أن يوفّرها في معركة اللقاء والجدل والسجال بين الذات والآخر. وبدهي أننا نتحدث عن الآخر بوصفه شريكا في حوار حضاري، ولا نتحدث عن عدو في خندق مواجه وليس بيننا وبينه سوى بحر من الأوهام والبغضاء. في عدد سابق أجرت “الجديد” حوارا مع الفكر الفرنسي ميشال أونفري أثار جدلا ونقاشا على مواقع التواصل الاجتماعي في الشبكة العنكبوتية. وعلى رغم ما ميز جزءا أساسيا من تلقي الحوار من عصبية خصوصا بإزاء بعض جوانب الطرح الفكري لأونفري كمسألة الهجرة إلى فرنسا وأوروبا، ومسألة الإسلام الفرنسي، والإسلام العنيف، وطبيعة الإسلام في المرحلة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر، إلا أن النصوص التي ساجلت أونفري في العدد نفسه الذي نشر فيه الحوار، وجاءت من مفكرين وكتاب عرب مشارقة ومغاربة، عمل بعضها على جبه خطاب المفكر الفرنسي بصورة عامة، وبعضها الآخر على تفكيك جزئي لبعض ما اعتبره التباسات في خطابه. وأيّا يكن الأمر، بين المفكر الأوروبي ومنتقديه العرب، فإن “الجديد” تبقى على مسافة موضوعية من الطرفين، فهي لا تصنع الثقافة، ولكنها منبر لاحتضان النص ونقد النص معاً.

من هذا الموقع، وعلى هذه الخلفية تستقبل “الجديد” في عددها هذا نصاً كتبه أونفري يرد فيه على منتقديه العرب، انطلاقا من اعتبارين: حق الرد، وتشجيع فكرة حوار الأفكار. وتنشر المجلة أيضا مقالا لكاتب جزائري يتطرق فيه إلى جوانب من تفكير أونفري وعمله كفيلسوف فاعل في الحياة الفكرية الفرنسية.

الخلاصة التي نرغب في الإشارة إليها، أخيراً، أن الحوار المذكور، والنصوص النقدية على الحوار، وردّ أونفري عليها، إضافة إلى غيرها من المقالات والردود التي أثارها الحوار ستنشر مجتمعة في كتاب يصدر قريبا في أعداد منشورات “الجديد”.

والشيء نفسه سيحدث بصدد الحوار الذي أجرته “الجديد” مع المفكر السوري جادالكريم الجباعي في عدد سابق، والذي ذهب بدوره إلى الرد على منتقديه ومساجليه في عددنا الحالي. ولعل حوار “الجديد” مع الجباعي والمقالات النقدية التي ساجلت المفكر ورده عليها يكون مطلع سجال أوسع يدور من حول القضايا العديدة التي تطرق إليها الحوار وهي تتصل بمسألة التغيير الاجتماعي ودور المثقف في التاريخ، وتنعقد من حول محددات شتى ينتظم بعضها في سلسلة من الأفكار والمصطلحات والقضايا التي تعتبر شائكة وإشكالية ولم ينجز نقاش فكري عربي سابق أيّ مسالة من مسائلها، حيث بقيت مفتوحة تنتظر من يهز شجرة الأسئلة ويغامر في محاولات الإجابة عن تلك الأسئلة، كقضية المعرفة والسلطة والفرد والجماعة والدولة، واللغة والحرية، والحداثة والمرأة والآخر في الفكر وفي الاجتماع وكذا الآخر الغريم في الإقليم وأبعد منه. كل هذا في إطار الصراع المشتعل اليوم بين قوى التجديد والحداثة والحرية والدولة المدنية وحقوق الأفراد في المجتمع، وقوى التقليد والنكوص والتخلف والاستبداد.

***

أريد أن أذكّر مجدداً بأن “الجديد” كما اقترحت نفسها في بيانها التأسيسي، هي منبر ثقافي عابر للتقاطعات الفكرية والسياسية، لا يخضع لأيديولوجيا، بل هو براء منها وحرّ من قيودها وعلى هذا الأساس تنادي حملة الأقلام العرب، أياً تكن مواقعهم السياسية إلى تجاوز الاستقطابات الصغيرة والمساهمة في مغامرتها الأدبية والفكرية الحرة. فـ”الجديد” منبر عربي تأسس ليحيي الممكنات الباهرة في الذات الثقافية العربية، عقلا ووجدانا، ويكون موئلا لأجمل ما في تلك العروة التي جمعت العرب برباط ثقافي مكين جعلته قدرهم المشترك عبر العصور، اهتز كل شيء في حياتهم إلا هذا الرباط الأصيل.

إنما في “الجديد” نتطلع إلى أن تكون العلاقة بين جغرافيات الثقافة العربية مؤسسة (ومنفتحة) على ما تزخر به مجتمعاتها من مكونات غير عربية تعتبر رافدا من روافدها وملمحا في هويتها، إنما دائما انطلاقا من رؤيات ورؤى نقدية تحتفي بالجمال المبتكر والفكر الحر المنفتح على كل ما هو إنساني خلاق، أيّا كان لونه أو جنسه أو لسانه، مادام يتمتع بتلك المواصفات التي تبهج الإنسان وتحيي فيه دوافع الخير وقيم الحق والجمال.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.