التواريخ السريانية وتأسيس الوعي النقدي

الأربعاء 2015/07/01

إشكالية هذه الرؤية أنها غير حقيقية، ومبنية على معطيات تاريخية مضللة، مشكوك في انحيازها وقراءتها للتحقيب العلمي المفترض لتاريخ العرب وبلاد الشام قبل الإسلام وبعده، ومن ضمنها مرحلة ما تسمى “الفتنة الكبرى” التي بولغ في حجمها وتداعياتها وأسبابها ودوافعها الحقيقية.

فالشخصية التي حاول القوميون العرب بناءها لإنسان هذه المنطقة، لا بد وأن تقود إلى أنموذج يشبه إلى حد كبير الأنموذج الداعشي. فالعصر الذهبي المفترض لا بد وأن يوصل إلى عصر الفاتحين، وفي أحسن الأحوال إلى عصر الحروب الصليبية وما تمخض عنها من فقه قتالي أسس لمدرسة الجهاد العالمي المعاصر.

هكذا، خلق القوميون العرب سواء شاؤوا ذلك أم لم يشاؤوا، البنية الأساسية للشخصية الجهادية عبر تبني شكل محدد من أنماط المثل الأعلى هو على الأغلب مقاتل فاتح.

الإشكالية الأساسية في هذا الوعي هي ضحالة الوعي التاريخي، فالمصادر التي اعتمدها القوميون العرب هي مصادر أحادية، وفي أحسن الأحوال نظريات ساذجة لبعض المستشرقين تنسجم بشكل أو بآخر مع رؤية الاستشراق التقليدي للعرب والمسلمين، تلك النظرة الاختزالية العنصرية.

ولذلك، وللخروج من هذا النفق لا بد من البحث عن مصادر أخرى لتاريخ منطقتنا، علها تشكل موازنة للرواية الفارسية المكتوبة بالعربية، والمتمثلة بعلم التاريخ الإسلامي العباسي، وخير المصادر هي التواريخ السريانية، والتي تشكل وجهة نظر أخرى مختلفة للكثير من الوقائع المفصلية التي مرت بها منطقتنا.

ومن شأن تعميق هذه الدراسات أن تعدّل من الغلو في فكرة العصر الذهبي التي أنتجت هذه الأجيال المخدرة بالأيديولوجيا، وكذلك يمكن أن تساهم في خلق وعي نقدي ضروري لبناء منظومة فكرية واقعية بعيدة عن التعصب لأيّ فكرة أو شخصية في التاريخ.

لقد عُرف السريان بولعهم في تدوين الوقائع التاريخية، وقد درج المؤرخون السريان على استيعاب ما كتبه السابقون والتذييل عليه من قبل المؤرخ الذي يتصدى للتدوين، ولذلك فإننا نجد أن المؤرخ مار ميخائيل السرياني الكبير [1166- 1199م] الذي عاصر صلاح الدين الأيوبي اعتمد في تدوين الوقائع التاريخية للفترة البيزنطية السابقة لظهور الإسلام على المصادر التالية، مستوعباً إياها في كتابه، حافظاً لها من الضياع:

1- تاريخ زكريا الفصيح، الذي وضع مصنفه من عهد ثاودوسيوس حتى عهد جستنيان.

2- تاريخ قورا البطناني، الذي كتب عن عهد جستنيان حتى عهد طيباريوس في 14 مقالة.

3- تاريخ يوحنا الآمدي المسمى الآسيوي أو الأفسسي [505- 586م]، وهو تاريخ بدأ من عهد قسطنطين حتى عهد موريقي في ثلاثة مجلدات، فقد معظمها وحفظ لنا ميخائيل الكبير الكثير من وقائعها.

4- تاريخ التلمحري، وهو كتاب وضعه ديونيسيوس التلمحري البطريرك [818- 845م] المعاصر لبدايات الخلافة العباسية، غير أنه قرر أن يضع ذيلاً على تاريخ قورا البطناني، كما يؤكد ذلك في مقدمة كتابه الذي استوعبه بالكامل ميخائيل الكبير بما فيه مقدمته، وقد اعتمد على مجموعة كبيرة من الوثائق الكنسية واستوعب كتاب التاريخ الذي وضعه المؤرخ سرجي ابن القائد السرياني إيوانيس رصفيا [يوحنا الرصافي] المعاصر لزمن الفتوحات. والمؤرخ المذكور لم يكن بعيداً من الناحية الزمنية عن التلمحري نفسه وربما فصل بينهما جيلان أو ثلاثة.

أما كتب التاريخ السرياني الأخرى التي تمكن الإشارة إليها فهي:

1- تاريخ الرهاوي المجهول [؟- 1234م]، وهو يضم المعلومات نفسها تقريباً التي يذكرها المؤرخ ميخائيل الكبير، ولكن مشكلة كتاب الرهاوي المجهول، الذي اطلعنا عليه باللغة السريانية بالتعاون مع الصديق المترجم جوزيف أسمر ملكي، تعاني من مشكلة تدخل الرواية العربية الإسلامية، والتي يبدو أن الرهاوي المجهول كان مطلاً عليها، فحاول سد بعض الثغرات في الروايات السريانية عبر كتب التاريخ العربي، وهذه هي المشكلة التي نراها في كتابات الرهاوي المجهول بالنسبة إلى فترة الفتوحات الإسلامية، فهو لم يحافظ على نقاء الرواية السريانية كما حافظ عليها ميخائيل الكبير إلى حد كبير، بل طعّمها بروايات إسلامية.

2- تاريخ ابن العبري [1226- 1286م] المسمى تاريخ الزمان، والجزء المتعلق بالفتوحات الإسلامية غير مترجم للعربية وما زال بلغته السريانية، والأمر نفسه يمكن أن يقال عنه فيما يتعلق بتأثره بالمصادر العربية الإسلامية.

3- تاريخ الزوقنيني [؟- 774] المنحول لديونيسيوس التلمحري، فهذا الكتاب بالإضافة إلى اختصار فقراته المتعلقة بفترة الفتوح الإسلامية، فإنه يعاني من اضطراب كبير في التواريخ لا يمكن الركون إليه بأيّ شكل من الأشكال، وخصوصاً في الفترة التي جعلناها هدفاً لبحثنا، غير أن أهميته تزداد عند تناوله للفترتين الأموية والعباسية نظراً لأنه ينقل الأحداث بصفته شاهد عيان.

4- وعليه فإن كتاب مار ميخائيل الكبير هو المصدر الأكثر أماناً واطمئناناً بالنسبة إلينا فيما يتعلق بالرواية المتعلقة بالفتوح الإسلامية مثلاً، نظراً لعدم وجود أيّ تأثير من تأثيرات المراجع العربية الإسلامية وغيرها عليه، ولأنه أشار في معرض اقتباساته إلى المصادر التي نقل عنها، وإلى المصادر التي حفظها كما هي، وعلى الخصوص تاريخ التلمحري، الذي نجزم بأنه حفظ معظمه من الضياع.

وحتى عندما تسللت الرواية العربية الإسلامية بخصوص جبلة بن الأيهم إلى كتاب ميخائيل الكبير، فإنه وضعها في سياقها الزمني ولم يقحمها في أخبار الفتوحات. فعند حديثه عن تسلم الإمبراطور البيزنطي نقفور لوجيديط الحكم عام 803م معاصراً للخليفة هارون الرشيد، ذكر نقلاً عن تاريخ التلمحري، بأن نقفور هذا هو من أحفاد جبلة بن الأيهم الذي كان يحكم اليمنيين المسيحيين [يقصد الغساسنة] وروى قصة إسلامه في عهد عمر ثم حجه وواقعة ضربه للعربي الفزاري، واحتكام الرجل لعمر، ثم فرار جبلة إلى قبادوقيا ومعاملته معاملة خاصة كسليل أسرة ملكية، حيث استقر هناك وخلف سلالة منها الإمبراطور نقفور.

وعلى العموم يمتلك كتاب تاريخ ميخائيل الكبير الكثير من المصداقية، التي يحتاجها أيّ باحث في التاريخ، خصوصاً أننا قارنا بين اقتباسات مار ميخائيل من تاريخ يوحنا الأفسسي وبين ما وصلنا من النص الأصلي لهذا التاريخ، فوجدناها منقولة بنصها تقريباً، وكذلك يمكن أن يقال عن النقولات عن كتاب التلمحري والشذرات المنشورة من النص الأصلي في المكتبة الشرقية (2: 72-77).

كل ذلك يجعلنا نطلق هذه الدعوة لدراسة التواريخ السريانية بشكل علمي ومنهجي ونقدي وإدراجها في المناهج الدراسية، علها تساهم في بناء هوية حقيقية، ونهضة واقعية قائمة على الوعي النقدي الضروري لتجاوز عثرات القرن الماضي.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.