ولادة‭ ‬الكلمات

الثلاثاء 2015/08/18

ببداهة، استخدم محمد ذو السنوات العشر لفظ "حذف" للتعبير عن نيته في "مسح" ما كتبه على الورقة بقلمه الأزرق القابل للمسح، وعندما سألته للتأكد مما ينوي فعله، كرر لفظ "حذف" بكل بساطة‭.‬

بالعودة إلى الفرق بين كلمتي "حذف" و"مسح" في قواميس اللغة العربية، نجد أن الأولى تستخدم لإسقاط أو إزالة جزء من المكتوب، بينما الأخرى لإزالة ومحو المكتوب كاملاً، علاوة على بعض الفروق الأخرى الخارجة عن نطاق المقال، بينما محمد مع غيره من آلاف الأطفال العرب يتعاملون مع خيار الـ"حذف" وهي اللفظة المُعربة لـ "Delete" في عدة استخدامات، فجميع التطبيقات البرمجية تحتوي على هذه الإمكانية، من تطبيقات الهواتف الذكية، حتى مستقبل القنوات التلفزيونية والألعاب الكفية، وهي ذات معانٍ وظيفية متفاوتة، تتراوح بين الإسقاط الجزئي إلى الإزالة الكاملة، وبطبيعة الحال، هذا التفاوت مبرر في اللغة الإنكليزية، حيث كلمة “Delete” تحمل في تاريخها هذا الاتساع من الدلالة، متراوحة بين الشطب/الطمس الجزئي والمحو الكلي، وليس غريباً أنها تصل في جذور معانيها العميقة إلى معنى التدمير‭.‬

لا عجب أن تُزاح اللفظة عن دلالتها لتتموقع في دلالة أخرى، أو تتسع فتستعمر دلالات جديدة على حساب ألفاظ أخرى، كما هو في حالتنا هذه، الانزياح الدلالي للألفاظ حدث متكرر ومألوف جداً، وقد يصل إلى حد الحاجة والضرورة في بعض الحالات، وفي تاريخ اللغات –جميع اللغات- الانزياح ظاهرة حيوية جداً، والأمثلة لا تحصى‭.‬

ولكن، ما يُثير التأمل ليس الانزياح ذاته بل السرعة التي يتشبع فيها اللفظ في دلالته الجديدة، أي أن يتمركز تمركزاً يوحي بأصالة موقعه مقابل اللفظ الآخر، حيث يُستغنى عن المقيم القديم مقابل القادم الحديث!

هناك سببان لهذا التمركز السريع، الأول أن محمد وغيره يجدون هذا اللفظ منتشراً جداً بين قوائم ألعابهم الإلكترونية وكذلك تطبيقات التواصل والتطبيقات الخدمية، "حذف" تستخدم لحذف جزء من النص أو كامل النص، وتستخدم لإزالة الملفات والصور عن القرص الصلب أو سطح المكتب، أو ذاكرة الهاتف الذكي، أو للتراجع عن لاعب محترف تمت إضافته ضمن فريق معين، استخدام متعدد للفظ واحد لأمر يُعتبر من أسرع أوامر التطبيقات استجابة على الإطلاق‭.‬

السبب الثاني، وهو سبب يتعلق بآلية تعريب البرمجيات وترجمة كتيبات الاستخدام (مستبعداً الكتب والدوريات)، إذ أصبحت عملية التعريب عملية داخلية، وهي ضمن عمليات تطوير (إنتاج) البرمجيات، فالفريق القائم على البرمجة عليه أن يجد سبيلاً لتعريب قوائمه بنفسه، مستعيناً بالوسائل المتاحة دون الرجوع لمختص في اللغة المقابلة، الأمر الذي وفر خلال العقود الثلاثة الأخيرة تقابلاً آلياً بين الوظيفة واللفظ الذي يوافقها في عدة لغات، فما اللغة العربية إلا واحدة من عشرات اللغات المستهدفة في هذا السوق العالمي‭.‬

وبالاقتراب أكثر من لفظ Delete إتيمولوجياً (دراسة أصل الكلمة وتطور دلالتها تاريخياً)، نجد أن اللفظ رغم استحداثه في نهاية القرن الخامس عشر، إلا أنه ظل قليل الاستخدام حتى منتصف القرن العشرين، إذ تصاعد استخدامه بشكل شبه عمودي (خطياً)، التاريخ هذا يتوافق مع ظهور التقنية الحديثة ذات التطبيقات المباشرة لحاجات الإنسان التجارية والصناعية‭.‬ وهذا يؤكده تطابق المنحنى الإيتمولوجي للفظتنا مع لفظ "Monitor” التي تعني شاشة المستخدم الطرفي‭.‬

إذاً القصة ببساطة هي: مجموعة من المبرمجين وفق أهداف إدارية معينة مسبقاً، وفق تنظيمات محددة، تتطلب السرعة والدقة والإنجاز، يُقابلون آلياً ما يتاح لهم من ألفاظ للغات متعددة بوظائف تمت تسميتها بشكل تلقائي بألفاظ تنتمي إلى لغتهم الأم‭.‬ بكل بساطة، هم يرحّلون دلالاتهم إلى ألفاظنا!

هنا، من الواضح أنه ليست هناك مؤامرة كبرى ضد اللغة، ولا ضد الأمة، وبالتالي ضد الدين والإنسان وتاريخه، هنا آلية مُدارة بحزم للتعامل الواقعي مع معطيات الحياة الجديدة لا أكثر، الحياة بمعية التقنية، الحياة والعولمة، الواقع ومتطلبات العيش برفاه مستحق لأمة بذلت ما بذلت من أجل وجودها وحضورها وكرامة إنسانها‭.‬

بالتالي، اللغة كائن حضاري ينخرط في الحياة كلما تفاعلت حضارته مع الحياة، ينزوي عنها عندما تنزوي، ليس هناك فعل خاص باللغة، هناك فعل لحاملها، فعل تتحدد على أثره طبيعة كل مكوناته الحضارية من لغة وتراث ودين وقيم‭.‬

يبقى السؤال الأهم، وهو سؤال الحداثة، أين نحن من الحداثة؟ من التجديد؟ من العصرية؟ من الحرية ؟، هل لشاعر أن يُطلِقَ نصاً حراً بلغةٍ مقيدة؟ تابعة؟ مرهونة للآخر.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.