أسوأ‭ ‬انحراف في‭ ‬التاريخ

الأربعاء 2015/04/01

يحرض الروائي السوري الأرمنيّ آرام كرابيت في روايته “في الأرض المسرّة” القارئ للبحث عن المسرّة المفقودة بغية تسييدها وتعميمها في الأرض، والتذكير بحصاد الحروب الكارثيّ، عسى أن يساهم بذلك في لفت الانتباه إلى البحث عن مخارج ومعابر من مستنقعات الحروب التاريخيّة إلى واحات أمل‭.‬

يصف كرابيت على لسان بطله أحوال إسطنبول وكيف كانت غاصة بالحشود الهائلة من المهاجرين القادمين من كل اتجاهات السلطنة، ومن جهات أخرى‭.‬ تراه يقول “لم أتخيل هذا العدد من الناس بأشكال وألوان ولغات متعدد في حيز ضيق من المكان‭.‬ تكاد الأرض تبتلع الشوارع والبيوت بمن عليها‭.‬ تحولت البلاد إلى ملعب للإقياء والحزن والقهر”‭.‬ ثمّ ينتقل إلى القول بأنّ إسطنبول تغلي تحت وطأة الهزيمة والجوع‭.‬ وإنّها كانت تستقبل مليون مهاجر من بلغاريا يتجهون نحو الباب العالي‭.‬

يؤنسن كرابيت المدينة وتفاصيلها، يسترسل في ذلك، يحكي كيف أنه لم يعد للشوارع القدرة على هضم صوت الوجع الخارج من أعماق صدور الناس الموجوعة‭.‬ حالة الغليان، الحسرة والقلق، ينتشران بينهم كسكرة الموت‭.‬ الصراخ والعويل، الانكسار النفسي والإرهاق العصبي والإحساس بالخواء والخوف من المستقبل يملأ المدينة‭.‬

يستذكر كرابيت حقباً تاريخية قديمة، يتحدث عن واقع تعاقب الحضارات في المنطقة، من ذلك مثلاً حديثه عن أنّ هناك مدينة جديدة مختبئة تحت الرماد بالقرب من ديار بكر‭.‬ وكيف أنّ بطله يؤكّد تخيّله وظنّه ذلك “وجدتها‭.‬ إنه تاريخ الإنسان‭.‬ الحرية تحت الأنقاض ويجب التنقيب بحثاً عن كنوز التاريخ الدفينة، وعن الحرية البعيدة”‭.‬

حروب ومجازر

يجد بطله عبدالله نفسه جريحاً غريباً في إسطنبول، لا مكاناً يلجأ إليه، ولا قريباً يستعين به‭.‬ وهو الجندي الجريح القادم من بلغاريا ضمن جيش يجرّ أذيال الهزيمة‭.‬ الفوضى تجتاح كلّ مكان‭.‬ الجيش ينهار والحكومة تتضعضع‭.‬ السلطنة على شفير الهاوية‭.‬ يسكنه حلم العودة إلى قريته الوادعة أم مدفع؛ القريبة من نهر الخابور، والمرتمية في أحضان جبل عبدالعزيز‭.‬

الممرضة نازلي تداوي جراح جسد عبدالله وروحه، تساعده على التماسك، تقترب منه، تتعلّق به، تؤويه، تبوح له بأسرارها وأسرار أسرتها‭.‬ تحدثه عن مخطوط يحوي ثلاثة آلاف أغنية أرمنية، يمثل تاريخاً ثقافياً غنائياً وشعبياً للأناضول بكلّ مكوناتها من كرد وعرب وترك وأرمن وشركس وغيرهم‭..‬

تكون نازلي صورة مركّبة من نصفين، من ناحية هي ابنة جلّاد ومن جهة أخرى ابنة ضحية مغتصبة، تحذّر نفسها وحبيبها بقولها‭:‬ سنتحول إلى لاجئين ومشردين وضحايا‭.‬ مثلنا مثل الموجودين في الطرق والمعابر‭.‬ أنا عشت حياة التشرد وكسبت مناعة من ذلك‭.‬ ولن أخاف من المستقبل‭.‬ سنتحول من رعايا السلطنة إلى رعايا القيصر‭.‬ لن يتغير شيء‭.‬ فترة الانتقال من تاج إلى تاج، هذه المرحلة القلقة هي المخيفة والمرعبة‭.‬

يحاول أبطال الرواية تناسي أجواء الحرب الجاثمة على الصدور والمالئة للمكان‭.‬ الدعوة للعيش بعيداً عن تلك الضغوط ولو لساعات محدودة، والتكلم عن السلام، والحض على مقاومة الحرب بالسلام، وعدم السماح للمتحاربين أن يأخذوا الأبرياء إلى مواقعهم وساحاتهم‭.‬ يقول بطله‭:‬ الزمن يمضي بنا، سواء بكينا أو ضحكنا‭.‬ علينا أن نوفر الحزن والألم والخوف ونبعده عن أنفسنا‭.‬ نؤجلهم نهرب من التفكير بهم‭.‬

يثير كرابيت السجال بين شخصيات روايته؛ “نازلي، سيلفا، مراد، عبدالله، سالم‭..‬”، تجدها منسجمة في موقف، ثمّ مشحونة بالأسى والقهر في مواقف أخرى، ويظلّ بطله مستعرضاً حالات الوعج المتناثرة جراء الحرب‭.‬ يقول إنّه لا يمكن استيعاب المأساة‭.‬ إنها الحرب، ما إن تخمد في مكان أو تموت حتى تخرج‭.‬ إنها كالعنقاء المتجددة، أو الحرباء الملونة، أو قل إنها لعبة الحياة والموت‭.‬ خروجها من تحت الرماد يزيدها شراسة‭.‬ تقتل جميع الذين يولدون تحت عينيها‭.‬ لهذا ليس غريباً أن أغلب شعوب العالم صنعت صنماً لها أسمته إله الحرب‭.‬

كما تراه يدين الحرب ويلعنها أيّما لعنة، واصفاً إياها بأنها من صنع أولئك المجرمين الذين يعيشون في القصور، والأماكن الفارهة، تحت ظلّ التدفئة وكؤوس الراح، وفناجين القهوة والمرح، يرسمون خطط الموت للناس، ويحتفظون بالمال والمكانة لأبنائهم وأسرهم‭.‬

يصف الحرب بأنها وكر دعارة‭.‬ لفة دوار‭.‬ إنها أسوأ انحراف في التاريخ، وأقسى ما فيها أن جميع المقاتلين يموتون بضمير مرتاح‭.‬ إنها ممثل الفحول والفجار والزنادقة‭.‬ ويصفها بأنها تعني شد العصب والفوضى والأخبار الرهيبة‭.‬ الحرب تحيل الحياة إلى رماد‭.‬ والهزيمة هي زيادة على ذلك، توتر وتعذيب للذات وجلد للذاكرة‭.‬

ثمّ يتحدث عن الحرب من منظور التاجر متعدد الوجوه يصف الحياة بالتجارة‭.‬ في الحياة لا حلول وسط‭.‬ والتجارة لعبة الحياة الحقيقية، تستطيع أن تكتشف المخبأ، أسرار المال، آلية حركته، العلاقات الخفية‭.‬ إنه الماخور أو البناء الخلفي للعالم‭.‬ اعتبره اللذة المحرمة‭.‬ من خلاله تكتشف قاع الإنسان، دونيته، جشعه، لذة النصر في الربح، في الصفقة الرابحة‭.‬ تشعر بالقوة عندما تكسر إرادة خصمك، عندما تهزمه والمال السائل بين يدي المنتصر مثل المرأة في لحظة موائها وفحيحها‭.‬

يرى التاجر أن المهم أن تستمر الحروب ويتقاتل الناس، ليشتروا الثياب والمعدات والأسلحة والطعام والحطب والفحم‭.‬ الحرب هي روح الحياة، المدينة والمدنية‭.‬ إنها تحرك السوق تشعله، ترمي في أتونه الوقود اللازم ليبدل الناس من ثقافتهم وأمزجتهم ونظرتهم إلى أنفسهم وغيرهم، وتغير الكيانات وتفكك العلاقات وتستبدلها بغيرها، وتخلق رغبات وتفني أخرى، ينتعش السوق والمال‭.‬

إضاءات تاريخيّة

يصور كرابيت الذاكرة بأنها جبال عالية، وديان سحيقة، انحدارات قاسية‭.‬ قوة وضعف‭.‬ إنها بيت المرء، شقوق متجذرة في أعماقه تشده نحو الأسفل أو ترفعه نحو الأعلى‭.‬ هي موج، رياح وبرد نحتت في جوف جمجمته لتكون مرجعاً للشيطان أو السعدان‭.‬

يلقي كرابيت إضاءات روائية على مجازر تاريخية وقعت على هامش الحرب العالمية الأولى، سواء تلك التي راح ضحيتها أبرياء من البلغار والأرمن والمسلمين وغيرهم‭.‬ وواقع فتك الضحايا تالياً ببعضهم بعضاً، وكأنّه لا يكفيهم خروجهم من حرب طاحنة ضارية حتّى يكملوا تدمير بعضهم بعضا‭.‬

يبرز كرابيت نزوع بعض القادة العثمانيين المدمّر نحو الشرّ، وكيف أنّ شهوة القتل كانت تستبدّ بهم، وتدفعهم إلى الفتك بجميع من يصادفونهم في طريقهم، وكأنّهم يحمّلونهم أوزار هزائمهم ويتلذّذون بمعاقبتهم والتنكيل بهم‭.‬ ويعرف القاتل بأنه كائن قلق‭.‬ في داخله عبوة ناسفة‭.‬ عقله مملوء بالتوتر والاضطراب والسوداوية‭.‬ يساوره هوس غريب يوقظه من غفوته‭.‬ يصرخ، يزجر، ويريد أن يخرج من أعماقه، يحدّثه، يحثّه، يدفعه للذهاب إلى رقبة ضحيّته ليجزّها‭.‬ شيء ما في داخله يهدر ويصرخ ويجعله مزعزع الانتماء للكون والحياة‭.‬

ينقل الكاتب تساؤل أبطال الرواية والخشية من المستقبل، عبر التساؤل عن أحوال السلطان والسلطنة‭.‬ ألم يمت بعد؟ ألن تفتك به الأمراض بعد؟ أما زال على قيد الحياة؟ ما الذي جاء به إلى هنا؟ ولأيّ غاية؟ ما هذا الكم الهائل من الجيش والشرطة برفقته يحمونه؟ من هو هذا الرجل بالضبط وماذا يحدث في هذه البلاد؟ ما هو دوره فيما يحدث؟ إلى أين تتجه السلطنة؟ شرقاً أكثر أم غرباً؟ ما هو مصير العرب والأتراك والأرمن واليونانيين والأكراد وبقايا الناس من مخلفات السلطنة؟ هل هناك حرب جديدة؟ مذبحة جديدة؟ هزيمة جديدة؟

يعترف بطل الرواية الذي يتبدى بائحاً بهواجس الروائي وتصوراته بأنّ الإنسان ينتمي إلى الحطام‭.‬ إنّه صنم‭.‬ يبدو أن الوحش الكامن فيه لا يمكن أن تقلّمه حضارة أو عقل مدني أو تطور‭.‬ من السهل تحريضه ودفعه إلى البغي‭.‬ ثمّ يسأل نفسه بحزن‭:‬ أيّ روح تسكنني؟ كيف سأتصالح مع نفسي وزمني القادم؟ ماذا يحدث؟ ولماذا يجمع الزمن القاتل والقتيل في الحين ذاته والمكان ذاته؟ هل ذلك الاستمرار المأساة وتكرارها؟ هل الزمن بريء؟ هل المكان بريء؟ أم أن كليهما تواطآ لاستمرار ما لا يستمرّ‭..‬؟

يصور كرابيت مجازر وفظائع ارتكبت في مستهل القرن العشرين، حيث جثث مقطوعة الرؤوس تبوح بمأساتها، تدين قتلها، تكشف عري العالم الذي تركها فريسة للقتل والتمثيل‭.‬ يستنطق أرواحاً تعود إلى ضحايا المجزرة التي تمّ ارتكابها بحقّ الأرمن في البادية السورية في بداية القرن العشرين‭.‬ وبالتحديد في منطقة مركدة في محافظة الحسكة‭.‬ يتساءل‭:‬ أيّ دين يقبل هذا؟ كيف يستطيع الإنسان أن يفعل هذا؟ لماذا يقتل؟ وهل هناك شيء يستحق أن يفعلوا هذا من أجله؟ أي جنون يركب عقل البشر عندما يهمّون في غرز السيف في جسد طفل أو امرأة حامل؟

يلفت كرابيت الانتباه إلى دور الموسيقى في حماية البشر من شرور أنفسهم، وترويض وحوشهم المستنفرة على الدوام‭.‬ ثمّ يحكي عن خيبة أمل بطله، انكساره وصدمته لرؤية الفظائع حين عودته، وإقراره أن من السهل تحويل الإنسان إلى مجرم أو أداة طيّعة بيد موجهين يدركون ماذا يفعلون‭.‬ يتمنّى لو لم يعد إلى أم مدفع‭.‬ ويسأل‭:‬ مَن نُحاكم؟ هل نحاكم الماضي أم المستقبل؟ ومن يضمن ألا تتكرر هذه المأساة في مكان ما من العالم‭..‬؟

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.