صبيّ‭ ‬في‭ ‬ملابس رياضية

الأحد 2015/03/01

يعتقد المؤرخ جيريمي باكسمان أن على الشعراء الهبوط من برجهم السامق والالتحام بعامة الشعب البريطاني، فالشعر “قد تواطأ على أن يكون معدوم الأهمية”، ولكن أيّ أنطولوجيا تدعي أنها تهبنا “وعياً حاداً بالتنوع والحيوية والذكاء الذي يتمتع به الشعر في بريطانيا اليوم” على حد قول باكسمان محرر أنطولوجيا “كتاب فوروارد في الشعر 2015″، ينبغي أن تبرهن بأكثر الحجج إقناعاً على هذا الطموح المبالغ فيه‭.‬

هل بمقدور لجنة من أربعة أفراد أن تتوصل فعلاً إلى باقة تحوي كل ما هو معاصر ومثير ومبتكر، وفي الوقت ذاته شعبيّ الوقع؟ هل بوسعها الركون إلى خلفيتها الأدبية وتجربتها الحياتية للاضطلاع بهذه المهمة الهائلة؟ وهل بإمكانها حقاً الوفاء بحاجات “القارئ العادي” مثلما يرغب باكسمان؟ في مقدمة الأنطولوجيا وضع باكسمان لجنة فوروارد في موقف عسير بعد أن عرَّف هذا القارئ بأنه “أيّ فرد في أيّ بقعة”‭.‬

أصدرت دار فوروارد للنشر أول كتاب من كتبها الشعرية عام 1992، وإلى هذا الحين تدعم جائزة تحمل الاسم نفسه‭.‬ وفي عامها الثالث والعشرين، وبغلاف أصفر متقد بالبهجة من تصميم الفنان البريطاني غاري هيوم، يطرح باكسمان في “كتاب فوروارد في الشعر 2015″ مجموعة منتقاة من أجمل القصائد المنشورة عام 2014‭.‬ توخى فيها قبل كل شيء عامل الأصالة.

فالمحرر يضمر كراهية للتكرار، لعدم الإتيان بجديد، ويؤمن بأن الشعر ما هو إلا نضارة الكلمة وتألق المجاز‭.‬

قد يبدو أن المعاصرة المتوغلة في ثوابت الحياة في بعض قصائد الأنطولوجيا هي ما شدَّت انتباه محررها مثلما نطالع في قصيدة “في مطعم” لستيفين سانتس التي نالت جائزة فوروارد لأجمل قصيدة عام 2014.

من قصيدة “في مطعم” لستيفين سانتس:

إيماءةٌ تبدرُ مني طالباً الفاتورة،

أكتبُ على الهواء

بقلم حبر جاف وهميّ،

تعلمتُها من كريستوفر

الذي تعلمها من أبيه

الذي علَّمها لنفسه في مكان ما‭.‬

غاب أبو كريستوفر عن الحياة منذ أمد بعيد:

يخفت صداه شيئاً فشيئاً

يا للغرابة، ما يلبث منا بعد الزوال

أمرٌ يستعصي علينا تخمينه‭.‬

محاكم تفتيش شعرية

وبالإضافة إلى ورطة الأصالة شبه المستحيلة، تناهى إلينا اقتراح باكسمان الذي تصدّر عناوين الجرائد‭.‬ يريد أن يحْضر الشعراء علانيةً جلسات “استجواب” شعرية، مستدعياً في الواقع محاكم التفتيش الأسبانية! فيها يبررون اختياراتهم للّغة وقراراتهم المتعلقة بالمنهج، يتعرضون للنقد والتحليل إزاء جمهور من القراء وعلى مشهد من كاميرات التلفاز‭.‬ ينزل بهم العقاب إن ارتبكوا أيّ بلاغة غير مقْنعة أو بدرت منهم سطور مهلهلة مبتذلة!

وهكذا يشارك باكسمان الشاعر الأسكتلندي جون بيرنسايد الاعتقاد بأن القراءة “فعل سياسي”، يخضع لقانون العموم في الذّوق والحاسة، وهم الدليل الأوحد على ازدهار المشهد الشعري أو انحطاطه، وهو ما يطرح أسئلة موغلة في القدم عن ماهية الشعر ووظيفته ذاتها‭.‬ ما هو الأصيل؟ ومَن الحَكَم عليه؟ وأي القصائد تحوز رضا الجماهير العريضة؟ يصر مع ذلك محرر “كتاب فوروارد في الشعر 2015 أن الأنطولوجيا منذ تأسيسها تؤطر بجماهيريتها مشاهد رصدت تاريخياً قفزات الشعر البريطاني من العام إلى التالي‭.‬


جيريمي باكسمان

تولى الحكام سيريز ماثيوز وداني آبس وفاني كابيلديو وهيلين مورت، ومعهم باكسمان، على مدار عام 2014 تقييم مئة وسبعين ديواناً ومائتين وأربع وخمسين قصيدة ليزين الكتابَ في النهاية صفوةُ شعراء الجيل، منهم الفائزون بجائزة فوروارد لعام 2014 الذين تسلموا الجائزة بمركز ساوث بانك في احتفال فخم وصفته جريدة “فاينانشال تايمز″ بأنه المعادل الشعري لجوائز الأوسكار، وكذلك كل المرشحين للجائزة، ستة عشر صوتاً شعرياً آسراً مفعماً بالابتكار، منهم محارب سابق وطبيبة في الخدمة الصحية القومية ومواطن يستخدم عقيدة دينية سوداء كي يفك ألغاز ماضي إمبريالي تحكَّم في وطنه‭.‬

الذاتية تتحدث

كرمت مؤسسة فوروارد ديوان الجاميكي كاي ميلر “واضع الخرائط يحاول رسمَ الطريق إلى صهيون” بجائزة قدرها 10000 جنيه إسترليني‭.‬ وعن الديوان الأول لشاعر ناشئ فازت ليز بيري عن كتاب “بلاك كانتري”، وفيه تعْقد الفتاة القادمة من منطقة بلاك كانتري العزم على رد الاعتبار للهجة محلّ سخرية الكثيرين‭.‬ إذ تصر في قصائدها على التأكيد على ذاتها من خلال التحدث بلهجة مسقط رأسها، وهي حرفياً لغة خاصة! استعصى عليّ فهم الكثير من كلماتها العامية غير أنها مثَّلت ولا شك لغة الشارع العادية مثلما روّج لها باكسمان‭.‬

تتضمن الأنطولوجيا كذلك ما يربو على ستين قصيدة أشادت بها لجنة التحكيم، ومن بين أصحابها دوغلاس دان حامل وسام الإمبراطورية البريطانية وأندور موشن شاعر البلاط الملكي من عام 1999 إلى عام 2009 وروث بادل الفائزة بجائزة ويتبريد والبرفيسور مايكل شميت صاحب مجلد “شعراء الحداثة العظماء”‭.‬ ولا ريب أن شيئاً من الذاتية الفردية تخلل اختيار القصائد، ولكن المحرر ينهي إلينا أن ما يُميّز هذه المجموعة بحق هو عامل التجديد الذي أطال نضارتها فسمح لنا بقراءتها مرّة بعد أخرى‭.‬

عزاء وتقمص عاطفي

تؤدي هذه القصائد مهمتها على خير وجه، يتفاعل معها القارئ فتنتابه أحاسيس العزاء والتقمص العاطفي‭.‬ كان مجتمع القرن السادس عشر قد اتّهم الشاعرة البريطانية آن أسكيو بالهرطقة، فعذبتها السلطة وحرقتها على خازوق‭.‬ رثاها الشاعر البريطاني ديفيد هارسينت الفائز بجائزة تي إس إليوت لهذا العام بقصيدة دموية، فيها يتبدى الشاعر مهووساً بالقتل، يراقب كعادته عملية الذبح والفناء:

آن، لا تعنين لي شيئاً‭.‬

ولكنك فطنتِ تماماً

كيف تخلعين عنك فستانك

أثناء انتظارهم عند آلة التعذيب‭.‬

ولكنها كانت على أهبة الاستعداد،

مشهد لا يسعني الآن أن أزيحه من عقلي‭.‬

ولكن لم يتدفق منكِ إلا ذلك السيلان الأسود،

جعلوك خاوية دامية‭.‬

موقف وتجربة وانطباع

وعلى ضرب باكسمان جاءت دعوة الشاعر البريطاني ستيف إيلي إلى كتابة قصائد “تتجاوز النزعة السلبية الرجعية الشخصية التي تسود الشعر حالياً، وكتابة شعر يتحلى بالطموح والثقة للتفاعل مع القضايا العامة”‭.‬ الحق أن التمييز بين هذين الاتجاهين الشعريين يبدو لصيقاً بهذه الأنطولوجيا التي تزعم القبض على “خلاصة الشعر المعاصر”‭.‬ تعج الأنطولوجيا بقصائد تلبّي هذه الدعوة، ومن المغري مقارنة قصيدة البريطانية المخضرمة بياتريس جارلاند والجندي السابق في حرب العراق الأميركي كيفين باورز‭.‬ تكتب جارلاند في قصيدة “إجازة الشاطئ”:

تجلس آكلاً برتقالة،

دون أن تمنحني منها

وتحملق إلى البحر‭.‬

تترامى الرمال أمامي

مُجَدَّرة بفُوهات براكين صغيرة


ديفيد هارسينت

كل واحدة منها دمعة وحشية مملحة‭.‬

ويستحضر باورز حرب العراق، موضوعه الأثير، في قصيدة “السهل العظيم”:

هنا يبدأ الإدراك،

صبيّ في ملابس رياضية مخملية

يكسوها الغبار

كاد ينضرب بالرصاص‭.‬

حين أقول الصبيّ، أعني الكلمة‭.‬

حين أقول كاد ينضرب بالرصاص،

ذلك ما أعنيه بالضبط‭.‬

لأن جلْب الهاون غير المتفجر إلينا

يتطلب نوعاً خاصاً من الشجاعة لا أَنْعمُ بها‭.‬

وعلى الرغم من الهوة الفاصلة بين موضوعيْ القصيدتين ونبرتيهما، فكلاهما شخصيتان تخوضان في موضوعين إنسانيين – الحب والحرب – تنهلان من “موقف وتجربة وانطباع″ بالضبط مثلما يود إيلي‭.‬ تُداخل القصيدتين لغةٌ غير مزخرفة تتجرد من الادعاء والغرور، ومع تواضعهما ترميان بوعي شديد بالذات نظرتهما الشاخصة إلى الأفق لتشددا على سلطتهما، “أعني الكلمة”، “ما أعنيه بالضبط”‭.‬

تبعية شعرية

يسري مستوى معيّن من الاتكال والتبعية في قصائد يناصرها باكسمان وإيلي، فالوعي الشعري بها يعتمد في الغالب على تلقي القارئ‭.‬ لو تحقق هذا الوعي بسلاسة، تَلوح القصيدة أقرب إلى عالم القارئ وحواسه‭.‬ وهكذا لا يطالبنا باكسمان بالكثير، فلنجلس ونتخيل ونستمتع دون تحديات نخبوية أو عقلية قد تنأي بنا عن المغزى‭.‬ إنها الديمقراطية الشعرية الجديدة‭.‬

رفَع الشاعر الإنجليزي بيرسي شيللي الشعراء في مقالته “دفاعٌ عن الشعر” إلى درجة “مُشَرِّعي العالم غير المعترَف بهم”، واصفاً الشعر بأنه “سجِلّ لأجمل لحظات العقول الجميلة السعيدة وأسعدها”‭.‬ وفي هذا المختارات من القصائد المجيدة تتجلى لنا سلطة كلمات شيللي ونبوغها الحسي والمادي المنعكس ظلاله على عالمنا المعاصر عندما تنهل من قفزة عاطفية إلى أخرى، تعزف على وتر الابتكار اللغوي من خلال عدسة فردية يغلفها الشعر بغلاف الانهماك اليومي‭.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.