أرض‭ ‬الشعر‭ ‬وأرض‭ ‬الآلام

السبت 2015/08/01
لوحة: حسين جمعان

أكتب هذه الكلمة في ميديجين – كولومبيا، المدينة التي انتزعت من مدن العالم بامتياز لقب عاصمة محبي الشعر. ليس أمرا يمكن تصديقه بسهولة، لو قال لك واحد إن 5 آلاف شخص سوف يتوجهون الليلة إلى ساحة عامة أو فضاء مفتوح ليكونوا جمهورا لشعراء كتبوا قصائدهم بأقلام عزْلاء في غرف بعيدة عن صخب الشارع.

ليس أمرا عاديا، ولا يسيرا أن يؤمّ الشعراء مدينة في الأقاصي البعيدة، قادمين من القارات الخمس، ومعهم أصواتهم ولغاتهم، المألوفة والغريبة، لينشدوا بأصوات ولغات بعضها يسمع للمرة الأول في جنبات مدينة لا تخطئ العين جمالها ولا مفارقاتها، حيث السعادة والألم يسيران كتفا إلى كتف في شوارعها الضاجة.

هنا الثريّ والفقير خطوة في السعادة وأخرى في الشقاء. لكن فاكهة المدينة على عربات الباعة بقبعاتهم وابتساماتهم وألوانها المبهجة تشجعك على اعتبار كل ما هو كولومبي حميم ولطيف. حتى أولئك الذي يقفون عل المنعطفات في الشوارع الخلفية ويسألونك إن كنت ترغب بالماريوانا، أو بشيء أقوى أو أبعد.

وفي الوقت الذي لا يطبع فيه من ديوان الشاعر في غير عاصمة عربية وأوروبية أكثر من ألف نسخة، ولا يحضر أماسي الشعراء في المدن العريقة أكثر من 70 كرسيا، بعضه يشغله حضور أسف ويتيم، ميدجين صنعت هذه المعجزة، وانتزعت لقب عاصمة شعراء العالم. كل من مرّ بهذه المدينة المحاطة بالجبال كما تحيط الأسورة بالمعصم سحر بعلاقة أبنائها بالشعر.

أيام خرافية، هنا في ميدجين، وبينما تهب عليك ألوان الغرب اللاتيني، حارة، مموسقة، ومموقعة، بطرب خاص ودلال مبهج، يبعث الحزن اللاتيني اللامع في عيون فقراء المدينة موجة أسى تذكرك بما تركت وراءك في الشرق الحزين، فإذا بالشرق غرب بعيد وبالغرب شرق قريب، وجوه تظن أنك رأيتها في مخيم فلسطيني بلبنان، أو مخيم سوري بالأردن، أو على ضفاف الشقاء الذي لا نهاية له في ما بين العدوتين الشامية والتركية، وبينهما بحر التراجيديا تمخر عبابه الأسماء والحكايات والأقدار البشرية وقد ضاهت ملاحم الميثولوجيا وأسفار التاريخ.

إنها وجوه الموريسكيين والقرطاجيين والدماشقة قبل التغريبة الشامية الكبرى، تستدعيها وجوه الكولومبيين الذين عمر أجدادهم جنوب القارة الأميركية، بين الجبال، وكذا على الساحل الكاريبي، دم شرقي وغربي يخالط دم أهل القارة المحتفين بالحيوان بوصفه شقيقا، وله في أدعيتهم وفنونهم وعلى ملابسهم صور مدهشة، الكولومبيين الذين أخرجهم غابرييل غارسيا ماركيز إلى فضاء العالم بوصفهم سحر الأرض، وجعل من يومياتهم وتواريخهم وقصصهم الإنسانية سردا لا يضاهى. وكما ساق ماركيز قدر الشاب العربي سانتياغو نصار من شوارع البلدة الكاثوليكية المنسية في جحيم العالم الأرضي إلى روايته المدهشة “حكاية موت معلن”، مكرما بالدم المختلط للكولومبيين الأدب والحياة. كذلك أخرجتني الألفة في وجوه أهل الـ”مئة عام من العزلة” إلى شمس الجمال الإنساني الخليط.

كلنا خلاسيون، بطريقة ما.

ليس ما تقدم سوى التحية لما تبقى من مدن الشغف بالشعر، وقد أخذت المدينة المعاصرة بموقف أفلاطون من الشعراء لكن هذه المدن لم تعوّض فكرة الشعر بفكرة الفضيلة، فلا هذا ولا ذاك. لكن الشغف بالحب والجمال والحرية سيبقى ديدن البشر، وما الشعراء إلا صوت هذا الشغف مهما خفت وتوارى في الظل.

II

في هذا العدد من “الجديد” توسع المجلة من بحثها النقدي ومن أفق السؤال حول القضايا الشائكة المطروحة على الثقافة العربية من خلال موضوعات تتراوح بين القصة والقصيدة والمسرحية والمقالة والدراسة، وكذا الحوار ونقد الحوار، وهو ما يتيح للقراء العرب في المشرق والمغرب الاطلاع على نماذج جديدة ومتألقة من نصوص المغامرة الإبداعية، والجدل الفكري في القضايا والأحوال الحاضرة للعرب إبداعا وفكرا واجتماعا.

جريا على ما بدأناه من حوارات فكرية عربية وأوروبية، في هذا العدد حوار متعمق مع المفكر طيب تيزيني الذي عرف بإسهاماته الفكرية الجريئة على مدى نصف قرن، وبرز اسمه في العالم العربي منذ ستينات وسبعينات القرن الماضي، لا سيما في الطروحات والسجالات التي حاولت قراءة الواقع العربي، بجموده وتحولاته، في ضوء علاقة الشخصية العربية بالتراث، وأثر التراث العربي في تشكيل المنظومات الفكرية والاجتماعية والسياسية، وفي توجهات الثقافة العربية المعاصرة.

سوف يلاحظ قارئ طيب تيزيني في حواره مع “الجديد” أثر الوقائع التراجيدية وانتكاسات الانتفاضة السلمية في سوريا على تفكير الرجل، ونقرأ هذا في ما سماه بـ”اللحظة المناسبة” للتغيير، حيث تتحقق شروط انتقال سلمي للمجتمعات العربية من الاستبداد إلى الحرية، وهذا المصطلح متحدّر، على الأرجح، من مقولة زعيم الثورة الروسية فلاديمير إيليتش لينين “أمس باكر وغدا متأخر”، في وصفه للوقت المناسب للثورة على الطغيان القيصري. وكانت اللحظة المناسبة للثورة في روسيا قد حلت في أكتوبر عام 1917 مع ما اعتبره الزعيم الروسي نضجا للشروط.

استعادة تيزيني لهذا المصطلح تريد أن توحي بأن الواقع العربي لم تنضج فيه شروط الانتقال الديمقراطي، لا سيما في الجغرافيا السورية حيث قاد العنف الرهيب للنظام البلاد إلى حمامات دم وإبادة جماعية، ونقل الحراك الاجتماعي من حيزه السلمي إلى أرض العنف، وجعل من القضية السورية قضية إقليمية ودولية تورطت فيها عشرات الدول والمليشيات الإرهابية ذات الطابع الإسلامي الشيعي والسني، وهو ما شوّش الصورة الأولى الباهرة للحراك السلمي، وجعل الثقافة العربية ومعها الفكر في حالة عجز جلي عن أن تقيم قراءة للوقائع والمجريات تستجيب لطموحات الأجيال الجديدة وتطلعاتها، وهو ما يستوجب، اليوم، من الفكر العربي إعادة النظر بمصطلحاته وأولوياته وطروحاته بالضرورة، وتقديم قراءات، لا قراءة واحدة لما عصف بالحياة العربية وفتح أبواب المجتمعات على مصاريعها للإرهابيين والغزاة دولا ومليشيات ملحقة بها، وفاعلة في ظلها، في محاولة للتشويش وقطع الطريق على قوى التغيير، شاركت فيها النظم الدكتاتورية ومعها دول في الإقليم وأخرى في العالم البعيد

ميدجين-كولومبيا 20 يوليو2015

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.