يشماغ

الاثنين 2015/06/01
لوحة: حسين جمعان

في صباح بلا طعم ولا رائحة، استوقفتني مقدمة برامج منوعة في فضائية غير معروفة وباغتتني بسؤالها:

- ما هو أول شيء أحببته في حياتك؟

السؤال والمباغتة والموقف كله كان بالنسبة إليّ أشبه بالمزحة!، لذلك لم أفكر لحظتئذ في التخلص من هذا الموقف، فقد كنت منشغلا بتفقد صباحات المدينة التي مازالت تتمطى بتوجس وسط بقايا دخان، ورائحة دماء خلفتها سيارات مفخخة عبثت بها مثل حيوانات ضالة.

ثمة شخص كان يراقبنا من أمام أحد محلات بيع العصائر المطلة على رصيف الشارع، جردني من أيّ فرصة للتفكير بالإجابة- ربما كان المخرج- صاح بي:

• أستاذ من فضلك أجب بسرعة.. لأن طبيعة البرنامج تعتمد على المباغتة والإيقاع السريع!

أربكني صوته الذي طغت عليه نبرة الأمر الموجه لي، وللمقدمة، وللمصور الذي لم ينفك من تدوير عدسة كاميرته على وجهي، فأجبت من فوري:

• اليشماغ.

صاحت المقدمة بصوت يشبه صوت مقدمي السيرك أضفت عليه حيوية مفتعلة:

• برافووو.. حلو.. حلو..

لكن فجأة تجهم وجهها وهي تميل رأسها على كتفها لكي تتمكن من سماع تعليق المخرج عبر (الأربيز) المختفي خلف طيات شعرها النازل على أذنيها. أشاحت بوجهها عنّي من دون أن تكلمني، أو في الأقل تشكرني على مساهمتي في البرنامج!

عبرت الشارع باتجاه ناصية محل العصائر، وقبل أن يلحق بها المصور، أنزل كاميرته المحمولة من كتفه وسألني:

• أستاذ أنت إرهابي؟

واستدار من دون أن ينتظر إجابتي.

* * *

أحب اليشماغ لأن جدي كان يلبسه. هذا أول شيء تبادر إلى ذهني وأنا أدخل في دوامة البحث عن تبريرٍ لإجابتي. كنت أدرك تماماً أن هذا لا يقنع الذين استشاطوا غضباً من إجابتي، وإذا ما أبلغ هؤلاء الشرطة عني بالتهمة التي رماني بها المصور، أو أيّ تهمة توحيها إجابتي، حتماً سأموت تحت التعذيب لأنني لا أملك غير هذه الإجابة التي لا تقنع أحد! ولكن لماذا أموت تحت التعذيب.. وهل في قولي ما يستدعي ذلك؟

سؤال المصور كان مزحة!.. ربما.. أنا أعرف جيداً أن مصوري البرامج الخارجية يتمتعون بخفة دم أكثر من غيرهم بسبب احتكاكهم الدائم في الشارع الذي لا يستقيم مع التجهم والجدية، ما يجعل تعاملهم مع الآخرين أقرب إلى تعامل موظفي العلاقات العامة.

أقول الحقيقة إنني لم أكن خائفاً!.. فبحثي عن دوافع إجابتي هو لي وليس تحضيرا لرد تهمة لا أعرفها.. الغريب أني وجدت نفسي وجوارحي كلها تؤيد إجابتي لمقدمة البرامج.. أنا أحب اليشماغ، وقد لا يصدقني أحد إذا ما قلت إنه الحب الأول في حياتي الذي لم يسبقه حب سوى حب الأم!

* * *

حتى سنوات متأخرة كنت أتملى اليشماغ بانبهار طفل يتملى القمر في ليلة صافية! لا أعرف كم هو عدد أشهر عمري عندما كان جدي يلاعبني برميي إلى الأعلى ويتلقفني بيديه المفتوحتين، كانت ضحكاته النشوى تختلط بيشماغه الذي يهفهف على كتفيه مثل موجات فرحه، فتتيه عيناي ولهى بحراك البقع الدائرية السوداء المربوطة إلى بعضها بخطوط سوداء متعرجة، تشبه شبكة لاصطياد سعادات طائرة. كنت عند هبوطي على كفيه - وسط ضحكات أبي وأمي وجدتي- أحاول أن أمد يديّ لكي أسحب شبكة اصطياد السعادات من كونها الأبيض، لكنْ ذراعا جدي الطويلتان كانتا تبعداني عن ذلك بحركة بارعة وخفيفة، حتى تمكنت ذات مرة من سحب الشباك والبياض معاً ليسقط عقال جدي ويشتعل غضبه، فألقاني على الأرض بقوة، لأنني بإسقاطي عقاله قد أهنت شرفه!

أمي التي وصفت لي الحادث قالت: هكذا كان يعتقد جدك كما يعتقد غيره من الناس.. وإنها شهقت بقوة وتصورت أنني ربما متّ، أو تعرضت لكسور شديدة من قوة رميي على الأرض، فلم تستطع منع نفسها من البكاء!.. وقد فسرت لها لاحقاً أن الشباك الأسود الذي ينسج يشماغ جدي هو الذي تلقفني وخفف صدمة الأرض على جسدي. ضحكت واعتبرت ذلك مزحة من طفل، لكنني في حقيقة الأمر كنت أتحدث بجد، فقد بدأت ذاكرة طفولتي تتدفق في أعماقي بصفاء غريب!

هذا الحادث لم يمنع ولعي بيشماغ جدي، فقد كنت أرقبه عندما يطبق أطرافه على بعضها، فيتحول شكله المربع إلى مثلث قبل أن يضعه على رأسه، فوق طاقيته البيضاء المطرزة بالكلبدون الأصفر، ويشد أطرافه عند محزمه أمام المرآة.. أتذكر جيدا غبطته وهو يُميل رأسه يميناً وشمالاً ليدقق في حافاته التي تطبق على أذنيه.. غبطته تتسرب لي وأنا أرى خيوط الشبكة تنسحب على الدوائر السوداء، وكأنها تدوفها بالبياض المخملي، فتتحول إلى أشكال بيضوية بالتناسق مع تحول مربعات الخيوط إلى أشكال متعددة لمتوازي الأضلاع. ذات مرة طلب مني أن أساعده بأن أشد أطرافه المثلثة من خلف ظهره إلى الأسفل، لأن العقال الفراتي الذي كان يجرب لبسه ذلك اليوم لأول مرة لم يثبت على رأسه بسهولة.. الله كم كنت سعيداً بملمسه، وملمس خيوطه ودوائره السوداء، لأول مرة أكتشف أنها تطريز بارز وليس تخريما كما كنت أعتقد، ولم أستطع كتمان انبهاري عندما قلت:

• الله ما أجمل نعومته؟

فرد جدي وهو يطابق حافة اليشماغ فوق جبهته:

• هذا يشماغ لندني لا يلبسه إلا الشيوخ!

• ماذا يعني لندني؟

تناول عقاله المعلق على يمين المرآة وثبته على رأسه واستدار ليأخذ عباءته بعد أن طلب مني ترك طرف اليشماغ وقال:

• الآن مدعو إلى عرس بعد رجوعي نسولف.

وقبلني فرحاً وخرج. في تلك اللحظة شممت رائحة أليفة ربما كانت رائحة اليشماغ – هل لليشاميغ رائحة؟ لست أدري لكن ثمة رائحة تشبه رائحة الأشجار الكثيفة المختلطة برائحة مياه وأسماك وريح شرقية ترطب المنخرين.. حينها فقط تيقنت من أن اليشماغ ما كان ليكون على هذا الشكل إلا تشبهاً بشباك صيد الأسماك في الجنوب، وركضت إلى أمي الجالسة تحت سدرة الحوش ترتق ثوبا قديما لأستفسر منها عن هذا (الاكتشاف)، فصاحت بي باستنكار:

• من أين تأتي بهذا الكلام يصيدون الأسماك باليشاميغ؟.. أهبل!

أُحبطت واستمرّيت في خطواتي لأخرج إلى الزقاق، وفجأة صاحت بي:

• تعال!

استدرت واقتربت منها:

• المعلم قال لك هذا؟..

• لا..ليس لدينا درس عن اليشماغ، درسنا اليوم اسمه الدجاجة السوداء والكلب الصغير.

تبسمت وكأنها تستلطف إجابتي، لكنها واصلت الكلام بما يشبه السرحان وكأنها تكلم غيري:

• والله صحيح.. أنت جني.. لماذا في الجنوب يلبسون اليشاميغ المرقطة بينما في المدن الأخرى تكون بيضاء ناصعة..

ومن ثمة طلبت مني عدم الخروج ومراجعة دروسي. كنت سعيداً بداخلي وأنا استعيد انبهار أمي بقولي، وعندما فتحت كتاب القراء لمراجعة دروسي كانت عيوني فقط تتحرك على الصور الملونة للدجاجة السوداء والكلب والقرد والدب المربوط إلى يد رجل يعزف بالدف وخروف أبيض وأولاد وبنات سعيدين بالعيد، أما رأسي فكان يمور بصور صيادي الأسماك في أهوار الجنوب واليشاميغ التي تغطي الرؤوس بشباك الصيد المفروش على أغطية الرأس البيضاء.. لم تكن يشاميغ.. إنها شباك صيد أسماك حقيقية، وما تلك الدوائر السوداء إلا أصداف أسماك الكطان والبني.. أسماك حرة كما تسميها أمي وجدتي وكذلك يسميها جدي وهو يسرد لي حكاياته في أعماق الأهوار ومواجهاته مع الخنازير المتوحشة..

انتظرت عودة جدي بفارغ الصبر لكي أحدثه عن اكتشافي الجديد! انبهار أمي بسؤالي جعلني أتخيل حكاية ظهور اليشماغ المرقط لكي يكون أكثر إقناعاً لجدي، فقد كانت اليشاميغ عبارة عن قطع قماش بيضاء خالصة مثل تلك التي يلبسونها في المدن الصحراوية، لكن في يوم ما وعندما كانت الحيتان تجوب الأهوار المفتوحة على البحار اتفقت الحيتان الكبيرة وأسماك الأهوار على سرقة شباك الصيادين ورميها عليهم واصطيادهم في يوم أرادت فيه الأسماك أن تنتقم من الصيادين لكل ضحاياهم الذين سقطوا في شِباك صيد كل سلالات أهالي الأهوار، ومنذ ذلك اليوم تركت الشِباك طبعات سوداء على اليشاميغ البيضاء التي صارت رقطاء كما هي عليه اليوم. وربما الحكاية غير ذلك؛ في لحظة استرخاء واستراحة من مشقة الصيد جلس أحد الصيادين يتسلى بانتظار ظهور الأسماك، فراح يربط أصداف السمك السوداء مع بعضها بخيوط سحبها من قصب البردي، فصارت على شكل شبكة غريبة، وفي لحظة ضجر وضعها على رأسه متسليا بها مع جماعته فاستلطفوها وطرزوا أغطية رؤوسهم البيضاء بالخيوط السوداء على شاكلتها حتى أخذت شكل اليشماغ..


لوحة: حسين جمعان

جدي أيضا وكأنه يردد ما قالته أمي قبل قليل قال:

• أنت لست طفلاً.. أنت جني!

وهو يستمع إلى تفسيري لظهور اليشاميغ بعد عودته، غير أنه قال وهو يجلسني وسط العائلة المستأنسة بخيالاتي:

• أنا لا أوافقك يا شيخ لأن اليشماغ شرف نضعه على رؤوسنا ولا يمكن مقارنته مع الشِباك التي عند الصيادين..

ومن ثمة أمسكني من كتفي وأجلسني على مخدته الإسطوانية التي اعتاد الجلوس عليها وواصل حديثه بنبرة تجمع بين المزاح والوعظ:

• .. كان أجدادك في الهور يعتقدون أنه ليس من الفروسية اصطياد الأسماك بالشباك وإنما بالفالة.. لذلك كنا نذهب ليلا حاملين الفوانيس النفطية والمشاعل بحثاً عن الأسماك التي نواجهها وجهاً لوجه.. نحن بفالاتنا وهي بقدرتها على الزوغان، لا بل كانت الرجولة تظهر عندما يتمكن أحدنا من شك الفالة عند رأس السمكة وليس في جسمها ليحافظ على سلامتها، ألم تسمع المثل الجنوبي الشهير “يشك الفالة عند رأس الكطان” ويقال لدقة كلام الرجل وبلاغة معناه.. ذاك زمن قديم.. أما الآن فإنهم يهاجمون الأسماك بالمتفجرات وكأنهم يخوضون حروبا معها.. فعلا إنها حروب الإنسان مع نفسه…

ران الصمت على أفراد العائلة وهم يستمعون إلى الجد الذي بدا صوته منكسراً أو حانقاً على شيء ما، فتناول لفافة من علبته المعدنية الصدئة وراح يدخنها، ومن ثمة مسح على رأسي وكأنه يغير الجو:

• الآن اقتنعت يا شيخ؟

• لكنك لم تجبني عن سؤالي لك قبل أن تذهب إلى العرس!

• وما هو؟

• لماذا سميَّ لندني؟

• لأنه صنع في لندن!

• ما معنى لندن؟

• أسم مدينة إنكليزية معروفة.. منها جاء الإنكليز والكركة ليطردوا السلاطين الأتراك ويحتلوا العراق..

• لماذا الإنكليز هم الذين يصنعون لنا الشرف الذي نغطي به رؤوسنا؟

• لأنهم أفضل من يصنعون الأشياء!

• ونحن؟

• أفضل من يصنع العباءات!

يبدو أنني كنت مزعجاً للعائلة لأنني أستدرجتهم إلى حديث لم يفكروا به يوما، لذلك عندما طلبت من جدي أن يعطيني يشماغه القديم بسبب عدم وجود يشاميغ للأطفال، غضبت جدتي وهي تستفرد بي مع أمي:

• لا تسمع كلام جدك.. لا شرف ولا بطيخ.. أنا أكره اليشماغ لأنه لثام اللصوص عندما يسرقون يستر ويخفي ملامحهم.. كرهته منذ تلك الليلة التي دخل فيها علينا أنا وأمي رجل ملثم بيشماغ مرقط واستل خنجره ورفع عصاه مهددا أمّي لتدله على مكان إخفاء أقراطها.. كانت عيناه تلمعان بحقارة وهو يجاهد لدفع صوته من تحت اليشماغ الذي أحكم لفه على وجه، لم يكن بوسعنا أن نصرخ فقد كان أبي ينام مع ضيوفه في المضيف.. أنا وأمي نكاد نتذكر صوته، وكنا نتمنى لو أن اليشماغ تحرك قليلا لكشف وجه هذا اللص الذي يعرف كل ما لدينا.. لو كان اليشماغ شرفاً لانفلّ وكشف وجه اللص الذي سرق أقراط أمي التي لم تتمكن بعدها من شراء أيّ قرط حيث هاجرنا إلى بغداد…

وفجأة أخذت أمي الحديث من جدتي للتحدث بالنبرة الحانقة نفسها:

• أنا أيضا أكره اليشماغ.. عندما يتنقب به الرجال تعبيراً عن أحزانهم حين يفقدون عزيزاً.. لا أدري لماذا يتنقب الرجال عندما يحملون جنازة إلى القبر أو عند يشّيعون موتاهم.. والدك يقول إنه عندما يذهب إلى فاتحة غريبة سيعرف ذوي الميت من نقابهم..هل سمعت بنقاب الموت؟ إنه نقاب الأحياء الحزانى باليشاميغ.. اليشاميغ علامة الاندحار أمام الموت..

منذ ذلك الحديث كرهت اليشماغ لأنه غطاء اللصوص وعلامة الموت على وجه الحياة، وهل هناك أشياء أكثر كراهية للإنسان من الموت والسرقة؟

* * *

استمرت كراهيتي لليشماغ حتى اللحظة التي وقف فيها معاون مدرستنا وسط اصطفاف الطلاب واضعاً اليشماغ المرقط على رقبته، حاثاً إيانا في خطبة حماسية على مساعدة أخوتنا الفدائيين الفلسطينيين،لأنهم يقاتلون اليهود الذين استباحوا القدس وحرمات المسلمين ويمنعونهم من الوصول إلينا وإخراجنا من بيوتنا.. إنهم يغسلون عارنا الذي لحق بنا إثر هزيمة كل جيوشنا العربية في العام الماضي، لذلك علينا التبرع لهم بالمال والمواد الغذائية… في حينها وزعوا علينا مربعات بيضاء صغيرة رسم في وسطها قبة القدس على خارطة فلسطين مفروشة على يشماغ مرقط، قالوا إنها طوابع (دعم العمل الفدائي)، علينا شراؤها بعشرة فلوس بالنسبة إلى ذات اللون الأزرق، وخمسين فلسا لذات اللون الأحمر. وحقيقة لم أجد في نفسي الرغبة لشراء هذه الطوابع، ليس بسبب كرهي لليشماغ المفروش تحت الخارطة، وإنما لأنني لا أملك غير عشرة فلوس واحدة هي مصروفي اليومي الذي أتقاضاه من أبي، لكنني مع ذلك، ولكي لا أُتهم بالبخل خرجت أمام زملائي واشتريت الطابع الأزرق وبقيت جائعا ذلك اليوم الذي لم يبارح ذاكرتي.

عندما عدت إلى البيت تهيأت لمواجهة غضب أمي التي تكره اليشماغ الذي يذكرها بالموت، لكني فوجئت بسكوتها ونزول دموعها الصامتة، كانت دموعاً متواطئة معي، فقد أدركت أنها في سريرتها تشجعني وذلك لاعتقادها أن الفدائيين سيأخذون بثأر شقيقها الذي قُتل في غارة إسرائيلية بمنطقة (أيج ثري) أثناء ذهاب الجيش العراقي لاسترجاع القدس من أيدي اليهود!

صرنا نشاهد صور الرجال الملثمين معلقة في الشوارع ومن شاشة التلفزيون مع الأغاني والخطب الحماسية والموسيقى، صور لرجال منقبين خلف بنادق مصوبة تجاه الناظر لصورهم، أو يزحفون تحت أسلاك شائكة، هؤلاء المنقبون باليشاميغ قد لا يشبهون اللصوص الذين حدثتني عنهم جدتي، أو حاملي الجنائز وأصحاب المصائب الذين حدثتني عنهم أمي.. إنهم نمط آخر من الرجال صار يتشبه بهم الساسة وزعماء البلدان عندما يلفون رقابهم باليشاميغ أو يضعونها على أكتافهم لتطهير أنفسهم من ذنب ضياع القدس. لقد تغيرت فكرتي تماما عن اليشماغ، وعن المنقبين وقربتني من جدي الذي كان يقضي الليالي يدوّر مؤشر الراديو بحثا عن أخبار الفدائيين، وكان يتحفز كثيراً عندما يسمع صوت المذيع الذي يشبه الرعد (هنا صوت الثورة الفلسطينية).. وبعد أن شاهدت أطفالا يتنقبون باليشاميغ يطلقون عليهم الأشبال، ويعملون حركات بهلوانية، أو قتالية تحرقت شوقاً لكي أكون مثلهم، وعندما طلبت من جدي التطوع معهم، قرصتني جدتي من خاصرتي، وهمست محذرةً: “أسكت سأخبر والدك..”.

وعندما عاد والدي قرصني من أذني وقال:

- إياك التفكير بهذه التجارة الفاسدة..

صحيح أنني لم أتطوع مع الأشبال، لكني حصلت على يشماغ مرقط كنت ألفه على رقبتي لسنوات امتدت حتى بعد أن اختفت صور الملثمين باليشاميغ المرقطة من الشوارع ومن شاشات التلفزيون ولم يعد يتحدث عنهم أحد، لكنه صار مثل الزيّ المعتاد بالنسبة إليّ، فقد معناه وما عاد يعني لي شيئاً.

في مرحلة الدراسة الإعدادية حدثت لي مشكلة عندما أصرّيت على لبسه برغم منعي من قبل إدارة المدرسة، وكدت أُفصل لإصراري على ذلك، حتى كلمني مدرس أحترمه وأحبه بضرورة التخلص من اليشماغ المرقط، وقد حدثني طويلا بنبرة دافئة: “إن هذا يوحي بالتخلف”.. ولم أقتنع بوصفه هذا برغم دفء صوته وأبويته في الحديث، لكن عندما قال لي: “أنت شاب وبأمثالك نبني مستقبل البلاد ونؤسس المجتمع المدني ونحترم خصوصيات شرائحه،، فإذا كنت أنت في المدرسة تلبس يشماغ فماذا يلبس الفلاح؟… ومن هو الجميل برأيك العامل الذي يلبس خوذة أم الذي يلف اليشماغ على رأسه؟.. صورة المجتمع تتغير يا ابني.. أزياء المجتمع هي نتاج قرون من التجارب التي بنت شخصيته، فلا يجوز للعسكري أن يضع اليشماغ على رأسه، هل تتخيل رتب الضابط لو علاها اليشماغ بطريقة عمال الخدمات، الضابط أكثر هيبة وقدرة على إخافة العدو وهو يقاتل ببيرية أو خوذة، وأنت يجب أن تكون في المدرسة بكامل أناقتك وتسريحة شعرك الجميلة التي تذكرنا بالمستقبل الجميل لأن المدرسة ساحة قتال من أجل صنع المستقبل…”.

كلام هذا المدرس أعاد صياغتي، وبقي يرن في ذاكرتي حتى بعد أن علمت أنه هرب خارج العراق من ملاحقة الأمن له لأسباب لا أعرفها، ولم أندم على ذلك إلا بعد أن ربط عيوني رجال الاستخبارات العسكرية بقطعة قماش سوداء وقادوني من وحدتي العسكرية التي تقع في خلفيات جبهة البصرة إلى دهاليز مظلمة، قيدوني إلى كرسي وسط غرفة مظلمة إلا من ضوء يسقط عليّ بكثافة من السقف، وقبل أن أفتح عيني، صفعتني كفان خشنتان من الخلف على خديَ، وجاءني الصوت من الظلمة التي تقابلني:

• هل قلت إن لبس الضابط لليشماغ مع رتبهم يقلل من هيبتهم؟

• نعم.

• أين؟

• كنت أتحدث مع أصدقائي الجنود في الأسبوع الماضي بعد عودتنا من البصرة.

• هل كنت تقصد اليشماغ الأحمر أم الأسود؟

• أيّ يشماغ مهما كان لونه.

• هل كنت تقصد السيد الرئيس حفظه الله ورعاه لأنه يلبس اليشماغ مع رتبته العسكرية؟

صرخت باستنكار مثل المفجوع:

• مستحيل ماذا تقول سيدي.. مستحيل؟

أتتني عدة صفعات متتالية من الخلف على أنفي وفمي… ملأ الدم فمي ولم أعد قادرا على الحديث بينما ضاق تنفسي من أنفي الذي شعرت به ساخناً.

• أي خائن دفعك لقول هذا؟

• لم أسمعه من خائن.. سمعته من المدرس في الإعدادية قبل ست سنوات حتى قبل أن يضع السيد الرئيس حفظه الله ورعاه اليشماغ الأحمر على رأسه.. وقبل أن يصبح رئيساً…

تتالت الصفعات على كل مناطق وجهي وأسقطتني أرضا أنا والكرسي..عدّلوا الكرسي ومعه جسدي المربوط إليه، انطفات عيناي وثمة وشيش ملأ أذنيّ.. ورحت أسمع الصوت مثل السعير:

• عميل وجبان السيد الرئيس في ضمائرنا منذ أن خلقنا.. كيف تقول قبل أن يصبح رئيساً..الله خلقه للعراق رئيسا منذ أن خلق الكون.. خونة عملاء يشماغ الرئيس هيبة الأمة كيف يقلل اليشماغ هيبة الضباط؟

ومن ثمة اقترب مني وضربني بسوط لافح:

• من الذي جندك؟

أردت الإجابة لكنّ لساني تعثر بأسناني التي ملأت فمي، توالت الأسواط عليّ والصفعات، لكني كنت قد فقدت الإحساس بكل شيء حتى حكموني بالسجن خمس سنوات، بتهمة شتم يشماغ الرئيس.

هذا اليشماغ دمر حياتي وحياة عائلتي، فقد وصمني بالعميل المعفو عنه بعد خروجي من السجن ولم أوظف بسببه، ووضع جميع إخوتي تحت المراقبة، كما منعوا أحد الضباط من الزواج من أختي، وصرت أنفذ كل ما تطلبه مني المنظمة الحزبية في منطقتي، لكي لا أعاد إلى السجن بهذه التهمة التي مازال البعض يستغرب كيف أنني لم أُحكم بالإعدام بسببها؟ لكن الآن وبعد أن ذهب الرئيس يبدو أن ضمير يشماغه صحا، فقد عوضني عن تلك السنوات.. حيث منحني هوية السجناء السياسيين، وراتب ودرجة وظيفية لم تخطر على بالي حتى في الأحلام، وشقة جيدة من أموال الدولة وعدوني بتمليكها لي إذا لم يمنحوني قطعة أرض سكنية، ولو كنت طموحاً لكنت حصلت على منصب حكومي كبير لأنني ناضلت ضد يشماغ الرئيس.

في هذه اللحظة فقط فسرت لنفسي لماذا أحب اليشماغ، لكن هذا لا يمكن قوله في التلفزيون، غير أنه يعيش في ضميري وكل جوارحي. وبهذا سأتخلص من تهمة الإرهاب لأنني امتلكت سببا لحبي اليشماغ.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.