ثلاث قصص

الاثنين 2015/06/01
لوحة: حسين جمعان

انكسار

الطفلةُ الباكية مثل طيرٍ مذبوحٍ، شدّتها المرشدةُ من كتفِها بقسوةٍ وأدخلتها غرفةَ الإرشاد في المدرسة.. “أنتِ يا قليلة الترباية تضربين أمك في الشارع؟ و..”.

اصطنعتْ إحدى المعلمات بصقة وجهّتها لها، شرعتْ المرشدةُ بإلقاء خطبة حماسية عن برّ الوالدين وفضل الأم، شاركتها المعلمات الكلام بأصوات تتعالى كأنها صراعُ ديوكٍ محمومٍ، ظلتْ الكلمات المتداخلة تتطاير حول الطفلة وهي تدافع عن نفسها بصوتٍ ضعيفٍ مهزوزٍ، لم تستمع أيٌّ منهن لما تقول..

كلّفتها أمها بإرسال أخيها الأصغر للحلاق لأنّ دوامها في الفترةِ المسائيةِ، وجدتُه مقفلا َ، ذهبتْ –كي لا توبخها أمها- لآخر، تأخّر الوقت، كان ثمة منتظرون على الدّور ففضّلتْ الرجوع، وجدتْ أمَها تقف مثل لبؤةٍ جريحةٍ أمامَ باب الدّار، استقبلتْها بالشتائم، جذبتها من ذراعها كما يُحمل الأثاث المهترئ “أين كنتِ يا هاملة.. لماذا تأخرتِ؟ وأخوك لم يحلقْ شعره؟ أخوك مغفل صغير لا يفهم شيئا من ألاعيب البنات، بنات اليوم، الله يقصف عمرك!

ظلّتْ تشتم وتطعن، والطفلة تسمع، لكن حين أصرّت على مرافقتها حتى المدرسة وضربتها أمام الباب، أحست بعيون البنات يلعقنَ جرحَها، حتى سائق الباص المنشغل دائما وجدَ الوقت ليرقب الموقف، موقف انكسارها المعلن.

لم تزل الكلمات المتداخلة عن الأدب والتربية تتداخل حولها مثل شبكة، لكنها صرختْ من نافذة صمت متاحة: أبعدتُها عني!.. أردت فقط إبعادها عني!

زئير

الشبلُ الذي نسيته عائلته في الغابة يوم الحريق الكبير، نجا من الموت بأعجوبة، ظلَّ جسمه ضعيفاً يقتات على الأرانب الصغيرة، ويختبئ معظم الوقت خوفا من ذاك الشيء الأحمر الملتهب الذي التهم طفولته ويتّمه مبكرا.

تلصص على مجلس النمور وهم يحضرون فيلماً عن الأسد ملك الغابة، سمع الزئير الرهيب وعرف أنه ابن الملك ملك الغابة، انتفختْ أوداجه وارتفع زئيرُه، حرصَ أن يجعله مخيفاً.

في البداية هربوا مرتعدين لكن أحد النمور عرفه من أثر الحرق على فخذه الأيمن، وهتف بهم معلنا: إنّه هو.. هو ما غيره!

فرجعوا إلى أماكنهم مقهقهين، أحد النمور الأشقياء صوّر خيبته، وقرر إنزالها كلقطة كوميدية على اليوتيوب!

غـموض

لم يحدث أن سارت في الشارع إلا وتتأمل بعيون عطشى البيوت حديثة البناء تحديدا واجهات الحجر والقرميد الذي يظلّل البرندات الأمامية، ويعطي فخامة محببة، والأشجار والورد الذي يزين المدخل.

كم تتمنى بيتا مستقلا حديث البناء بلا درج تتحدر على درجاته عند المغادرة وتتسلّقه بأسى ومشقة عند العودة، بيت بمدخل مستقل لا تستشعر العيون تتلصص كل صعود ونزول ونوافذ مطلة على خضار، نوافذ لا تقدّ من جدار لتطل على آخر! تتمنى شجرة ليمون ونعنعا وياسمينة تتكئ بأذرعها الدقيقة على الجدار الأمامي وتتضوّع رائحة الأبيض المنعش مع كل هبّة هواء ناعمة، خواطر تطعنها أشبه بسكين إذ تتذكر الأوضاع المادية التي تعيشها أسرتها، فزوجها بالكاد يؤمّن لهم المعيشة الكريمة وإيجار الشقة التي يسكنونها وطيبته تلطف ألمها الصامت لكنّ الحسرة تتناهشها كلما دخلتْ باب العمارة ووقفت لحظة أمام الشاحط الأول من الدرج استعداداً لرحلة الصعود، وتذكرت أنّ ثمة بابا مقابل المد خل وعائلة تقطن فوق سقفها وأخرى تعيش تحت أرضية بيتها، وأنّ أيّ حركة سريعة لها مسموعة، تحريك الأثاث محسوب، خطواتها بالكعب العالي مسجلة في أدمغة الجيران، خصوصياتها منتهكة إن علا صوتها بضحكة أو بصرخة شاركها جيرانها الحدث بفضول أو بملل وربما بانزعاج، تحس نفسها مخنوقة مسجونة حتى الجدران مشتركة مع الآخرين، تتمنى جدارا صامتا لا يوصل لها الحركات والأصوات والأغاني التي يسمعونها حتى باتت تميز أذواقهم وشجاراتهم.. اللعنة.. حتّامَ ستبقى معلقة بين السماء والأرض؟ تتمنى أن تلمسَ التراب أن ترفع رأسها لترى لون السماء لا نوافذ تشبه عيونا مترصدة لامرأة تسترق النظر للأعلى! تتمنى أن يتاح لها أن تزرع شتلة، أن تجلس تحت عريشة دوالي.. عذّبتها هذه الأفكار كثيراً، نغّصت عيشها لكنها لم تستطع أن تتخلى عنها، حاولت التغلب عليها بالحلم، تجلس في غرفتها وتحلم بأنّ النافذة المغلقة هناك خلف الستارة إنما تطل على مدى مفتوح من الخضار، حين تزور إحدى صديقاتها ممن يسكنّ بيتا مستقلا تجلس في الحديقة وتسمح لنفسها للحظة أن تتخيل أن هذا بيتها، هي لا تحسد الآخرين لكنها تغبطهم، لحظات قليلة تمنحها بهجة كبيرة سرعان ما ينغّصها الواقع فتستشعر انكسارا لاحقا..

ذاك اليوم قُبيل مغادرة مركز عملها اكتشفتْ بأنها نسيت مفتاح البيت، اصطدمت أصابعها بالفراغ حين أرسلتها في حقيبة يدها، نفضتها.. قلّبتها ولم تجده، تذكرتْ بأنها غادرت قبل زوجها ولم تحتج لأن تغلق خلفها الباب، نظرتْ للساعة بقلق واكتشفت أنّ ثمة ساعة تقريبا قبل موعد عودة زوجها.

وقت الظهيرة لا يزور فيها أحد الآخرين، صوت خطوات على الدرج، موقف محرج! أحسّت بالدم يصعد إلى رأسها، تظهر”أم محمد” تطالع وقفتها بفضول: كيفك.. زمان ما شفناك!

تتظاهر بأنّها وصلت للتو وأنّها توشك على تناول المفتاح من الحقيبة والدخول: هاي ترويحتك؟.. اتفضلي!

تقول الكلمة الأخيرة بآلية باردة تمنعها من الاستجابة رغم أنها تودّ الدخول لتمضية الساعة المتبقية لعودة زوجها، لكنّ برودة الدعوة يصدها تجيب بترفّع: لا معلش مرة ثانية!

تتمنّى لو تسارع بالدخول وتتركها وشأنها، لكن الأخيرة ترمقها بنظرة فضولية متأنية فتحاول انتشال نفسها من حرج الموقف: آآ.. تذكرت! عليّ شراء بعض الحاجيات للغداء!

تبدأ بنزول الدرج وتتنفس الصعداء، حين تسمع صوت إغلاق الباب تقف في منتصف الدرج.. ماذا تفعل؟ ماذا؟ تنزل للشارع تخطو ببطء وحيرة، تتأمل العمارة من الخارج لم يخطر ببالها قط أن تنظر إليها، يبدو أنّ من يمتلك شيئاً لا يتذكر النظر إليه وتأمله، النوافذ الستائر.. له جدران ونوافذ وفيه مطبخ.. جميل ودافئ، بعيد عن ضوضاء الشارع وعيون المارة الفضولية التي بدأت تتناهشها باستطلاع.. غرقتْ بخيالاتها، أخذت تذكّر نفسها بمواقف مبهجة مرّت بها، لمحت زوجها آتٍ ناصية الشارع، فرحة تجتاح أعماقها وهي تتأمله، يقترب ببطء: ماذا تفعلين هنا؟ نبرة لهفة في صوته تردها بنبرة قرف جامدة: لا شيء! كنت فقط أتأمل البيوت الجديدة!

كمن تلقى طعنة مباغتة رد بعصبية مفاجئة: يكفي! لا أريد سماع تلك الأسطوانة!

تبتسم وهي تتبعه صاعدة الدرج مستشعرة لحظة رضى غامضة لا تريد أن تبوح بها لأحد.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.