حب الحياة

الاثنين 2015/06/01
تخطيط: فيصل لعيبي

ولدت سوزان ديفيس في السابع عشر من نيسان/أبريل. أعرف هذا، وأعرف تاريخها الصحي بالتفصيل وعنوان إقامتها، وأعرف طولها ووزنها، ورقم هاتفها واسم طبيب العائلة الذي حوّلها إليّ. كل ذلك في سجلها الذي بين يديّ.

بعد السلام والكلام، والفحص السريري المدعّم بالصور الشعاعية، وضحت شكوى مريضتي وأسبابها وتولدت خطة العلاج. أما “متى تسلم الأمانة وتمضي؟” كما في تعبير غير محليّ، فسؤال جوابه ليس في الأوراق التي معي، وجهلي بقراءة الكف، لا يسعفني بمعلومة مفيدة في هذا الخصوص! غير أن مريضتي التي فتحت الموضوع بطريقة أو أخرى، تطوعت في المحاولة. جاء ذلك تداعياً لعزائها بوفاة والد زوجتي في الأسبوع الفائت.

في ومضة مؤلمة، عبر صفحة ذهني وجه أسمر لطيف لم أعتد غيابه بعد. أمضى حماي في المستشفى ثلاثة أسابيع تدهورت فيها صحته من يوم إلى يوم، ومن ساعة إلى ساعة. إلى أن، تحت سمعنا وبصرنا العاجزين عن رد القضاء، غامت عيناه تحدقان إلى لا شيء، ووقف الشهيق والزفير في حنجرته وجهاً إلى وجه. وكثمرة منهكة، سقط رأسه على الوسادة بلا حراك. بعد ذلك غطيناه بشرشف أبيض اللون، ونقش أحدنا كلمات حب ووداع بما تيسر من ورود حزينة كانت تراقبه من مزهرية قرب السرير، نثرها بحرص، فوق الجسم الضعيف. أوشكت ألتقط صورة بهاتفي النقال، لكن دموعاً غشيت عيني وضغطت على رقبتي كف قوية. من غرفة الانتظار، وصلت أصوات بكاء وعويل، ما زلت أسمعها.

تعيدني سوزان إلى الزمان والمكان الصحيحين، تعلن بثقة “عندما تسوء الأمور، لن أتردد في محاولة الخلاص من نفسي!”، تفاجئني فيما كانت تنتصب واقفة. شجعتها على الإيضاح رغم ضيق الوقت. كانت الستارة الرقيقة جداراً سميكاً بيننا نحن الاثنين، وبين من ازدحمت بهم الغرفة الكبيرة في المستشفى الجديد الذي قام على أنقاض مستشفى “القديس إستيفانوس″ حيث بدأت عملي منذ سنوات. ولقد خطف “القديس″ لون الخرنوب من خصلات شعري، وتكفلت الأيام بما بقي منه، لكن ذلك “موّال” آخر!

استندت السيدة ديفيس إلى كرسي قريب وتابعت “لم يعد عندي ما أسعى لإتمامه. لقد قمت بما عليّ. كبرت بنتاي وتزوجتا، وولدت كل منهما أكثر من حفيد، ومنهم من تزوج أيضاً. ماتت البنت الكبيرة بالسرطان منذ سنين، لكن زوجها وابنتيه لا يزالون جزءاً متيناً من الأسرة. الفتاة الثالثة التي تبنيناها، زوجي وأنا، ممتازة وبارّة ولا ينقصها شيء. تركنا زوجي إلى العالم الآخر، إن كنت تؤمن بهذه الازدواجية الشائكة، بعد مرض قصير! لم يتعذب بفضل الأدوية المسكّنة وعناية الطبيب. أخي المصاب بمرض عصبي يمنعه تقريباً عن الكلام، لا يملك حريتي. إنه مأخوذ بعلم الحساب والرياضيات وله فيها أبحاثه ومؤلفاته، ولا بد له من تجرع كؤوس حياته المرّة، إلى أن يُتم كتابه الأخير ويراه مطبوعاً ويتأكد من انتشاره. أما أنا فطائر خفيف ظريف، جاهزة للسفر في أيّ يوم مشمس أو ماطر، قبل يوبيل الملكة الماسي، أو بعد انتهاء الألعاب الأولمبية، وتقاسم الميداليات في ملاعب لندن، أو في أيّ وقت مناسب آخر!”.

أختلس لحظة أحدق في عينيها، لا أرى أثراً لحزن توقعته، أو دموع حسبتها جزءاً مكملاً للمشهد الدرامي. كان فيهما احمرار طفيف يخبر عن تعب وشيء من إجهاد لا علاقة له بحديث القلب إلى القلب الذي كنا نخوض فيه! كذلك فشلت في تبين ذكرى جمال مضى، إلى حيث يمضي الجمال، لا دليل على إقامته يوماً في وجهها، أو على تسكعه قريباً منه! كانت ودوداً أقرب للنحل، ولا شيء غير ذلك.

” لم وكيف تتخلصين من نفسك أيتها الأحجية، هذا ما قلته أليس كذلك؟” أستفهم مستوضحاً. تمسك يدي مؤكدة على بساطة الأمر، وعلى استعدادها لشرح مطول سأعلم لاحقاً أن لا خيار لي فيه. وبدأت تحل خيوط خطتها. “المبدأ الأساسي ينص على ضرورة تحضير كل شيء وأنت في حالة صحية معقولة، لأنك لن تستطيع القيام بالكثير عندما تصاب بالوهن. لا بد من الدقة والإتقان. لا سريّة في هذا، ولا تبعات قانونية بشرط أن لا يساعدك أحد في الإعداد والتنفيذ”.

“أيّ مبدأ وأيّ تحضير وتنفيذ؟ ممّاذا تشيلين وتشلحين وماذا تتقنين، أيتها الشيطانة الشمطاء بحق الإله!؟ أوشكت على الصراخ مستزيداً، غير أن صمتي كان أعلى صوتاً من أسئلة مباشرة بتلك المعاني الحائرة!

“لقد درست الأمر وقارنت الممكن من بين الخيارات الموجودة لإنهاء حياتي العزيزة. كان الاحتمال الأول هو اللجوء إلى شراب محضّر بنسب دقيقة، يشبه النوع الذي يعُد للقطط والكلاب الغالية عندما يحين وقت الخلاص منها، وهو شبيه بالأدوية المستعملة في المراكز السويسرية التي يرتادها الموسرون من أنحاء العالم، للحصول على تذكرة عبور تأخذهم إلى حيث لا عودة. علمت أن المادة الأساسية في ذلك المحلول تباع بسهولة في كندا وأميركا. المحزن في الأمر أني طلبتها أكثر من مرة من أكثر من مصدر، ولقد وعدت خيراً كل مرة، لكنّ أحداً لم يف بوعده. على أيّ حال لعله اختيار غير عملي، فلعلي لا أنجح في شرب ما يكفي من السائل الفعّال بالسرعة اللازمة، فأجد نفسي لست هنا ولست هناك. ثم بعد أيام أو شهور يتعين عليّ إعادة المحاولة، وبذل مزيد من الجهد والمال، وحرق مزيد من أعصاب قد لا أملكها عندئذ. لقد وجدت الحل الأفضل في الاحتمال الثاني. إنه الهيدروجين العظيم، بحرف الإيتش الكبير الساخن، المتوفر في المحلات التي تبيع لوازم الأفراح والحفلات، يا للمفارقة! لقد اشتريت منه أسطوانة متوسطة الحجم. إنه يستخدم في العادة لنفخ أعداد كبيرة من بوالين الزينة دفعة واحدة. أليس هذا مثيراً بحد ذاته؟ سأكون بالوناً خفيفاً في ساعتي الأخيرة، أو عدداً من البوالين الملوّنة السعيدة، تطير بروحي العزيزة إلى حيث تطير الأرواح! أما جسمي المسكين، فليحرقوه ولينثروا ما بقي منه في أيّ مكان فسيح. هذا هو شرطي الوحيد. أنا لا أطيق حبساً في حفرة في التراب، ولا إقامة في زجاجة منسية مهما كان شكلها ولونها بعد تجميع الرماد. ليت زوجي الغالي، بعدما انطلقت روحه مع دخان سيجارته الأخيرة، من بين أضلاعه أو من خلال أسنانه السوداء، اختار الانعتاق والهواء الطلق. إن رأيي ليس مطابقاً لرأيه، بل كما ترى على النقيض منه. يختلف الأزواج يا صديقي حتى في الموت، ولم لا؟ أستطيع التعايش مع ذلك بكل سهولة، كل شيء عادة!”.

ظننتها ستتبسّم، ولو بمرارة، لكنها تصفعني من دون إبطاء. “كاد غاز النيتروجين يكون اختياري الأول من بين الغازات بسبب فعاليته المجربة كما قرأت في صفحات النت، لكن صعوبة الحصول عليه ألغته من حسابي في وقت مبكر. طبعاً في كل الأحوال لا بد من تأمين خرطوم طويل وتحضير كمامة مناسبة تغطي الأنف والفم، وسلك مناسب لربطها بإحكام على الوجه. بعد ذلك، بحركة أخيرة ناجحة، يتسرب الغاز الخانق بيسر وأمان إلى الصدر القديم، ولا يضيع منه شيء في الهواء. يسعدني أن كل هذه اللوازم الأساسية موجودة عندي. أطمئنك أني أتفقدها وأنظفها بانتظام. لحسن الحظ ما زلت أحتفظ بلياقتي الميكانيكية التي اكتسبتها من قيادة سيارة الإسعاف زمن الحرب الأخيرة”.

أخذت نفساً عميقاً بدا لي أنها تأخرت طويلاً في التقاطه، ثم أعلنت بصوت مختنق “أعرف بماذا تفكر، بالطبع أدخلت في حسابي الغاز العادي، البريتش غاز، غاز الطبخ وتسخين الماء، لكني أقول لك، إني غير مرتاحة له أبداً، رغم امتلاكي عدداً من أسهم الشركة التي تبيعه وتجني لي بعض الأرباح. لقد تلاعبوا في تركيبته أكثر من اللازم وأكثر مما يعنيهم، وأزالوا معظم خصائصه السامة التي أبحث عنها، الضرورية لي إلى أبعد الحدود. لم يعد عندنا للأسف الشديد، في هذا المضمار العلمي ما نعوّل عليه أو نفتخر به. كم يحزنني ذلك!”.

مرة أخرى لم تبدل في سحنتها الجادة. كانت مأخوذة تماماً بما تقول، بل ربما بصور من عالم المستقبل الباهر تراها بكل وضوح. وكأنما تحرك لساني متسائلاً عن بعض الجوانب التكميلية، وكنت على وشك أن أفعل، فاستأنفت من دون انقطاع “نعم أولادي وأحفادي أيضاً يعرفون بخطتي ونواياي، ولم يعترض أحد منهم، وما كنت لأسمع أيّ اعتراض على أيّ حال. قالت ابنتي سارة، عندما تقررين أن الوقت قد حان وتنوين التحرك الفعلي باتجاه الرحيل الأكيد، أعطيني إشارة بذلك لأضمن لك أني لن أطلبك بالهاتف، أو أفاجئك بزيارة تلهيك عمّا أنت فيه. سأتركك يوماً كاملاً تنفذين فيه برنامجك الهام على راحتك، ثم أطرق الباب في اليوم الذي يليه. وعندما لا يجيبني أحد، أفهم أن كل شيء تمّ كما ترغبين، فأخرج من حقيبتي المفتاح الذي لم أستعمله منذ مدة طويلة، أديره في القفل وأدخل بهدوء. سأكون مسلحة بمنديل صغير قد تكون بانتظاره دمعة أو دمعتان. أكملت ابنتي المُرضية، أعرف أنك لا تحبين الضجيج أو المغالاة ولا تشجعين التعبير بالدموع! ثم ذكرتني أن لا أصعّب الأمر على أحد وأن لا أوصد الباب من الداخل.. لا تلهي رجال البوليس أو الإطفاء بأمر عائلي صرف بعد فوات الأوان. كانت تلك وصية سارة، هل أنت شديد الإعجاب بها، إنها متزوجة كما قلت لك؟!”.

كانت السيدة ديفيس تتحدث بمنتهى اليسر وبرودة الأعصاب، مع تركيز تام وانطلاق مثير، وأخيراً مع شيء من المزاح الجاف. هل كانت تحاورني من طرف واحد، أم تراها كانت تفحص خطتها أمامي بصوت مرتفع؟ المؤكد أنها لم تكن تبحث عن أتباع وتلاميذ يسيرون على خطاها ويتعلّمون منها، أقنعت نفسي بذلك وأرحتها بصعوبة! غير أن سوزان لسبب أو آخر سرقت اهتمامي من دون اعتراض أو مقاومة. بل إنها قصّت وأسهبت، بتعاون وتحريض من طرفي لا مجال لنكرانه! على أنّي لم أعلن رأياً في مشروعها، للحق والأمانة لم تطلبه. بدأت وأفاضت وانتهت ولم تسمع مني موافقة مشجعة أو اعتراضاً مخالفاً. وحول هذه النقطة الأخيرة بالذات بدأت أشعر بقلق خاص..

كنت أصغي بحذر فيما كنت أملأ الاستمارات اللازمة تحضيراً لعملية تبديل مفصل ركبتها المتآكلة. اليسرى أم اليمنى؟ كدت أسجل الجانب الخطأ، ثم تداركت الأمر. استأذنتها مقاطعاً مغيّراً مجرى الحديث، لأشرح مضاعفات الجراحة واحتمال نجاحها، كما ينتظر مني ويتوجب عليّ أن أفعل. فجأة أخذت تصغي باهتمام لكل التفاصيل، واستفهمت عدة مرات كمن يدخل في عقد بيع أو يقدم على شراء حاجة ثمينة، والأمر شديد الشبه بهذا وذاك. غير أن الدفع والكلفة لا يدخلان في الحسبان، من طرفها أو طرفنا لا من قريب ولا من بعيد. البركة في هيئة التأمين الصحي “أُم المريض وأباه” التي لا تتقاضى أجراً مقابل أيّ علاج مهما غلا ثمنه وثقل حمله. وبالتالي لن تبيع سوزانتنا المغامرة، لغريب أو قريب، حق البناء المستحيل فوق سطوح منزلها القرميدي المائل، ولن تقايض على عدة الخلاص التي جمعتها قطعة قطعة لليوم الأخير. كذلك لن يكون عليها أن تلمس قرشاً واحداً من حصيلة العمر!

وافقت “الزبونة” على كل شيء آملة أن لا يطول انتظارها فعندها الكثير من المناسبات التي لا تطيق أن تضيع منها، بسبب الألم وصعوبة الحركة. ثم أشعرتني بإيماءة واضحة عن استعدادها لتقفز من جديد في بحيرة الكلام التي كانت تسبح فيها براحة كاملة إن رغبت. ولقد رغبت بالفعل وشجعتها مستوضحاً. “هل تصنفين نفسك مع المصابات بالكآبة بدرجة أو أخرى، مما يدفعك لترك هذه الدنيا كما سبق الكلام؟” كان لا بد من محاصرة “البطة” في البحيرة الجافة لتتبّع شيء مهم في ذلك الاتجاه، أقله تقدير جدوى العملية الجراحية التي وقّعنا عليها بالأحرف الأولى. ولقد فعلنا ذلك بين اختيار غاز سام على حساب غاز آخر، وبين تفقد أجهزة الاختناق وإغلاق وفتح باب الدار، بعد فوات الأوان.

“لا تُسئ فهمي أرجوك. إني لا أعاني من أيّ مشكلة نفسية على الإطلاق. إني سعيدة بما أنا عليه. أحب الحياة وأخالها تحبني أيضاً. أشرب السيدر، عصير التفاح المخمر باعتدال، أحرص على تناول الخضار والفاكهة، أقلل من اللحم الأحمر، أفضل الدجاج والسمك. أتعاطف مع النباتيين وأفهم دوافعهم الحيوانية، أعني الإنسانية، غير أني لست منهم. أمشي كل يوم، ما لم تقعدني ركبتي اللعينة، على ضفة النهر وقت الغروب وفي الصباح المبكر. أمسك يد زوجي سيدني ونتبادل الحديث من دون صوت، لم نعد نختلف أو نتشاجر. أعتني بالحديقة أقلّم أشجار الورد وأقتلع الحشائش الضارة. أتابع النشاط المسرحي، وأدخل السينما بقدر ما تسمح الظروف. أزور قبر سيدني مرتين في الشهر، وأحمل له وردة حمراء ووردة بيضاء، لكل منهما معنى خاص نعرفه نحن الإثنان. لقد امتد زواجنا لأكثر من أربعين سنة”.

“ما الذي سيحرك فيك الهمة لتنفيذ هذا العمل الفدائي الغريب؟” أطلقت سؤالي من دون تأخر خشية تبديد التركيز، مصدقاً في لحظة نشوة أدبية، أني ملكت المجد من طرفيه، وأضفت بنجاح منقطع النظير هواية القص والكتابة التي سترفدها قصة مريضتي ويغنيها حديثنا وراء الستارة، إلى المهنة التي أعتاش منها والتي تكسبني ثقة الغرباء.

أجابتني بسرعة من حضّر الجواب قبل سماع السؤال. “إذا وجدت نفسي في حالة مخزية لا تسمح لي بالتمتع بالحياة الجميلة، كما أحبها وكما أرغبها، فلن أطيق الاستمرار حبيسة الجدران التعيسة، أراوح بين المطبخ والتواليت وبين السرير. عندي كل لوازم الرحيل كما شرحت لك، وسأرحل غير آسفة أو مترددة. أرجوك لا تربط بين ما أقول وبين إجراء العملية وحاجتي إليها. إني من ناحية أخرى لا أطيق الضغط على أحد ولا أرضاه لإنسان. بالمناسبة، أنا لست ثرية، لكني أملك شيئاً من المال. سيكون هذا مفيدا للبنات، سيساعد في تخفيف دين بيت، أو دفع قسط سيارة، على أن ذلك لا يحتل المركز الأول في اهتمامي”.

كان ضرورياً ومفيداً سماع ما سمعت، لمحاولة الاستجابة الصعبة لرجائها بعدم الربط بين أمرين مرتبطين بالتعريف، إلى أن يثبت العكس. بعد ذلك كان من السهولة بمكان العبور إلى ما يليه. ولقد تسلقت عدة أسئلة ظهر لساني استعداداً للقفز في أيّ لحظة، غير أن تلك الاستفهامات المتحفزة أصيبت فجأة بالشلل وتبخرت في هواء خيبة غير متوقعة. فقد أعلنت سوزان “الخائنة” ما لم يكن منتظراً أبداً في تلك المرحلة المتقدمة، وما لم يكن منسجماً مع الجو العام الذي كنا فيه، وإن وجدته مخلصاً ومريحاً. قالت بصوت يشوبه حزن وانكسار “على أيّ حال يبقى التنفيذ الفعلي هو الاختبار الحقيقي وما عداه كلام في كلام، فربما في نهاية اليوم لا أقوم بأيّ شيء من كل ما ذكرت!”.

انزاح حمل ثقيل عن ظهر الطبيب الذي يحكمني، وصدر الإنسان الضعيف الذي أدّعي التنصل من سطوته. أدركت أني تورطت بسرعة مخجلة وصدقت الزهرة الرقيقة، في لغتي الأصلية على الأقل، في ما لا يصح أخذه على محمل الجد. وها هي “سوسن” ديفس القهرمانة “بعظمة لسانها”، من دون أن يرفّ لها جفن فوق أيّ من عينيها الضيقتين، تحنث بوعدها وتقلب ظهر المجن لكل ما التزمت به. ها هي النيسانية العاثرة تترك الخريف والشتاء وتقفز من جديد إلى معسكر الربيع! لقد ضحكت عليّ، هذا هو كل شيء، فليكن!

لكني بسرعة غريبة وجدتني أختلق لها الأعذار.. لعلها لا تملك جرأة الإقدام على ما أسهبت في وصفه، أو لعلها خيالية مخادعة بالطبع، ولم أجدها مذنبة في هذا أو ذاك، فقد ملكت على الأقل جرأة التراجع والإعلان عنه!

نفضت يداً محتارة أسقط في يدها، ومددت أخرى سحبت بها طرف الستارة. فتحت باباً أخرج منه، أو نافذة أقفز منها. غير أن مريضتي العزيزة تابعت مهملة كل ما كان ينهش رأسي، وما كنت أخوض فيه “أعني بعد كل العناء والتحضير، قد أسقط مدهوسة تحت عجلات باص أو قطار!” ومشت مبتعدة.

تجري وراءها فكرة متأخرة، تناديها بحزن وألم… لماذا تعقّدين الأمور يا أم فلان؟ الموت أبسط من ذلك بكثير. أستدرك شارحاً، على الأقل في بلدي العزيز، الذي يحتفل بعيد الجلاء عنه، يوم تحتفلين بعيد ميلادك في السابع عشر من نيسان. بلدي الذي يموت بنجاح “رائع″ كل يوم ألف ميتة!

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.