آفاق‭ ‬الرواية

الاثنين 2016/08/01
لوحة: نهاد الترك

تُعدُّ‭ ‬الناقدة‭ ‬والقاصة‭ ‬العراقية‭ ‬لطفية‭ ‬الدليمي‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬الكاتبات‭ ‬العربيات‭ ‬المنشغلات‭ ‬بهاجس‭ ‬الكتابة‭ ‬السردية‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الإبداع‭ ‬حيث‭ ‬ألفت‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬القصصية‭ ‬والروائية‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬ممر‭ ‬إلى‭ ‬أحزان‭ ‬الرجال”‭ ‬‭(‬1970‭)‬،‭ ‬‮«‬البشارة”‭ ‬‭(‬1975‭)‬،‭ ‬‮«‬التمثال”‭ ‬‭(‬1977‭)‬،‭ ‬المجموعة‭ ‬القصصية‭ ‬‮«‬إذا‭ ‬كنت‭ ‬تحب”‭ ‬‭(‬1980‭)‬،‭ ‬‮«‬عالم‭ ‬النساء‭ ‬الوحيدات”‭ ‬‭(‬1986‭)‬،‭ ‬‮«‬مَن‭ ‬يرث‭ ‬الفردوس‮»‬‭ ‬‭(‬القاهرة‭ ‬1987‭)‬،‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬بذور‭ ‬النار”‭ ‬‭(‬1988‭)‬،‭ ‬ولها‭ ‬كذلك‭ ‬أعمال‭ ‬مترجمة‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬بلاد‭ ‬الثلوج”‭ ‬رواية‭ ‬ياسونارى‭ ‬كواباتا‭ ‬‭(‬1985‭)‬،‭ ‬‮«‬ضوء‭ ‬نهار‭ ‬مشرق”‭ ‬و”أنيتا‭ ‬ديساي”‭ ‬‭(‬1989‭)‬،‭ ‬‮«‬من‭ ‬يوميات‭ ‬أناييس‭ ‬نن”‭ ‬دار‭ ‬أزمنة‭ ‬–‭ ‬الأردن‭ ‬‭(‬1999‭)‬،‭ ‬‮«‬شجرة‭ ‬الكاميليا”‭ ‬‭(‬قصص‭ ‬عالمية‭)‬‭. ‬ولها‭ ‬كذلك‭ ‬نشاط‭ ‬بارز‭ ‬في‭ ‬التحرير‭ ‬حيث‭ ‬عملت‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬محررة‭ ‬للقصة‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬الطليعة‭ ‬الأدبية،‭ ‬ثم‭ ‬مديرة‭ ‬تحرير‭ ‬مجلة‭ ‬الثقافة‭ ‬الأجنبية‭. ‬ترجمت‭ ‬مؤخرًا‭ ‬كتابًا‭ ‬مهمًّا‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬تطور‭ ‬الرواية‭ ‬الحديثة”‭ ‬من‭ ‬تأليف‭ ‬جيسي‭ ‬ماتز‭ ‬رئيس‭ ‬قسم‭ ‬الأدب‭ ‬وأستاذ‭ ‬النظرية‭ ‬السرديّة‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬كينون‭ ‬الأميركية‭.‬

 

الرواية‭ ‬الآن

 

في‭ ‬عدد‭ ‬مايو‭ ‬2016‭ ‬من‭ ‬‮«‬الجديد‮»‬‭ ‬المعنون‭ ‬بتساؤل‭ ‬إشكالي‭ ‬ملحّ‭ ‬وفقًا‭ ‬للواقع‭ ‬الراهن‭ ‬الذي‭ ‬تمر‭ ‬به‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬‮«‬أهو‭ ‬حقًا‭ ‬صراع‭ ‬هويات؟‭!‬”‭ ‬قدمت‭ ‬الناقدة‭ ‬العراقية‭ ‬المقيمة‭ ‬في‭ ‬عمّان‭ ‬دراسة‭ ‬مستفيضة‭ ‬أبحرت‭ ‬فيها‭ ‬عن‭ ‬الرواية‭ ‬وإشكالياتها‭ ‬وإرهاصاتها‭ ‬الجديدة،‭ ‬وصراعها‭ ‬مع‭ ‬واقعها‭ ‬الذي‭ ‬خلق‭ ‬بنيات‭ ‬جديدة‭. ‬وسمت‭ ‬الدراسة‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬عالم‭ ‬الرواية”‭ ‬وعدّدت‭ ‬الأسباب‭ ‬التي‭ ‬جعلتها‭ ‬تتساءل‭ ‬عن‭ ‬الحاجة‭ ‬للرواية‭ ‬الآن،‭ ‬وبسؤالها‭: ‬لماذا‭ ‬الرواية؟‭ ‬ومن‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬الأسباب‭ ‬ما‭ ‬اعتبرته‭ ‬ميزة‭ ‬للرواية‭ ‬حيث‭ ‬هي‭ ‬بمثابة‭ ‬الذاكرة‭ ‬الجمعية‭ ‬المميزة‭ ‬لكل‭ ‬جغرافية‭ ‬بشرية‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أهّلها‭ ‬لأن‭ ‬تكون‭ ‬خزانة‭ ‬الحكايات‭ ‬التي‭ ‬تحفظ‭ ‬المزايا‭ ‬المجتمعية‭ ‬والأنثروبولوجيّة،‭ ‬وما‭ ‬يتيحه‭ ‬من‭ ‬كتالوج‭ ‬بالعادات‭ ‬والتقاليد‭ ‬وأنماط‭ ‬العيش‭ ‬وفنون‭ ‬الطبخ‭ ‬والأزياء‭ ‬والملابس‭ ‬السائدة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬عصر،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬كل‭ ‬التفاصيل‭ ‬الحياتية‭ ‬الأخرى‭ ‬الخاصة‭ ‬بالحب‭ ‬والزواج‭ ‬والصداقة‭.. ‬إلخ‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الرواية‭ ‬نظرًا‭ ‬لاعتمادها‭ ‬على‭ ‬الخيال‭ ‬كعنصر‭ ‬أساسي‭ ‬لتشكّلها‭ ‬تعدُّ‭ ‬وسيلة‭ ‬مهمّة‭ ‬ترتقي‭ ‬بالخيال‭ ‬البشري‭ ‬وتمنع‭ ‬انزلاقه‭ ‬في‭ ‬مهاوي‭ ‬الركود‭ ‬بعد‭ ‬طغيان‭ ‬الإنجازات‭ ‬العلميّة‭ ‬والتقنيّة‭ ‬التي‭ ‬حوّلت‭ ‬الحياة‭ ‬إلى‭ ‬سلة‭ ‬خوارزميّات‭.‬

وبما‭ ‬إن‭ ‬الرواية‭ ‬لُعبة‭ ‬ذهنية‭ ‬في‭ ‬المقام‭ ‬الأوّل‭ ‬فإنها‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬إشاعة‭ ‬نوعٍ‭ ‬مُنعش‭ ‬من‭ ‬الحيوية‭ ‬الذهنيّة‭ ‬والعبقرية‭ ‬الإنسانيّة،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬اعتبار‭ ‬الرواية‭ ‬أداة‭ ‬ناعمة‭ ‬من‭ ‬أدوات‭ ‬العولمة‭ ‬الثقافية،‭ ‬وما‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬قدرة‭ ‬فائقة‭ ‬على‭ ‬نزع‭ ‬فتيل‭ ‬التأزُّم‭ ‬الروحي‭ ‬والعقلي‭ ‬الناجم‭ ‬عن‭ ‬الشعور‭ ‬بالدونية‭ ‬الثقافية،‭ ‬فصارت‭ ‬الرواية‭ ‬بمثابة‭ ‬القاطرة‭ ‬الثقافية‭ ‬القادرة‭ ‬على‭ ‬جَرّ‭ ‬عربة‭ ‬الثقافة‭ ‬العالمية‭. ‬لكن‭ ‬من‭ ‬أغرب‭ ‬السّمات‭ ‬التي‭ ‬نسبتها‭ ‬للرواية‭ ‬أنها‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬علاجًا‭ ‬خاصة‭ ‬لبعض‭ ‬الاضطرابات‭ ‬الذهنية،‭ ‬وكذلك‭ ‬تعدُّ‭ ‬الرواية‭ ‬دافعًا‭ ‬يتقدَّم‭ ‬على‭ ‬كافة‭ ‬الدوافع‭ ‬البراغماتية‭ ‬في‭ ‬ضرورة‭ ‬الانكباب‭ ‬على‭ ‬تعلّم‭ ‬حزمة‭ ‬من‭ ‬اللغات‭ ‬الأجنبية‭. ‬وأخيرًا‭ ‬الرواية‭ ‬مَعلم‭ ‬حضاري‭ ‬وثقافي‭ ‬تنهض‭ ‬به‭ ‬العقول‭ ‬الراقية‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬الاشتغالات‭ ‬المعرفية،‭ ‬علاوة‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الرواية‭ ‬باتت‭ ‬مصنعًا‭ ‬يعجّ‭ ‬بالخبرات‭ ‬التي‭ ‬يتعامل‭ ‬معها‭ ‬الروائي‭ ‬ليخرج‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬بعمل‭ ‬يصبُّ‭ ‬في‭ ‬هدف‭ ‬فتح‭ ‬آفاق‭ ‬جديدة‭ ‬أمام‭ ‬الوعي‭ ‬البشريّ،‭ ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬ذهب‭ ‬إلى‭ ‬أنّ‭ ‬الرواية‭ ‬الجيدة‭ ‬المصنوعة‭ ‬بشغف‭ ‬يمكن‭ ‬عدّها‭ ‬فرعًا‭ ‬من‭ ‬الدراسات‭ ‬الخاصة‭ ‬بالتنبؤ‭ ‬بالمستقبل،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬انعكس‭ ‬على‭ ‬الروائي‭ ‬المتمكن‭ ‬حيث‭ ‬حفته‭ ‬نظرة‭ ‬فيها‭ ‬تقدير‭ ‬باعتباره‭ ‬فردا‭ ‬موسوعيّ‭ ‬المعرفة‭ ‬تمتلئ‭ ‬جعبته‭ ‬بالكثير‭ ‬من‭ ‬العناصر‭ ‬المعرفيّة‭.‬

 

الرواية‭ ‬والثورات

 

تشير‭ ‬الناقدة‭ ‬إلى‭ ‬العلاقة‭ ‬الوثيقة‭ ‬بين‭ ‬الرواية‭ ‬والثورات؛‭ ‬حيث‭ ‬ارتبطت‭ ‬الرواية‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬نشأتها‭ ‬مع‭ ‬بدايات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬بثورات‭ ‬كونية‭ ‬أسهمت‭ ‬بشكل‭ ‬عميق‭ ‬في‭ ‬إعادة‭ ‬رسم‭ ‬المشهد‭ ‬الروائي‭ ‬بالكامل‭ ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬مع‭ ‬الثورة‭ ‬التي‭ ‬أحدثتها‭ ‬نظرية‭ ‬النسبية‭ ‬وما‭ ‬أحدثته‭ ‬من‭ ‬تغييرات‭ ‬في‭ ‬التصوّرات‭ ‬والمفاهيم‭ ‬عن‭ ‬طبيعة‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان،‭ ‬ثم‭ ‬ما‭ ‬أحدثته‭ ‬النظرية‭ ‬الكمية‭ ‬من‭ ‬خلخلة‭ ‬للمفاهيم‭ ‬النمطية‭ ‬بخصوص‭ ‬التزامن‭ ‬والسببية،‭ ‬لكن‭ ‬الثورة‭ ‬بالغة‭ ‬التأثير‭ ‬في‭ ‬تحديث‭ ‬شكل‭ ‬الرواية‭ ‬هي‭ ‬الثورة‭ ‬التقنيّة،‭ ‬حيث‭ ‬أعادت‭ ‬هذه‭ ‬الثورة‭ ‬تشكيل‭ ‬صورة‭ ‬الإنسان‭ ‬عن‭ ‬المكان‭ ‬والزمان‭ ‬لا‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬المفاهيمي‭ ‬مثلما‭ ‬فعلت‭ ‬الثورة‭ ‬الفيزيائية‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الإحساس‭ ‬الفردي‭ ‬والتعامل‭ ‬اليومي‭. ‬وبفعل‭ ‬هذا‭ ‬تحوّل‭ ‬الزمن‭ ‬مِن‭ ‬مفهوم‭ ‬راكد‭ ‬إلى‭ ‬مفهوم‭ ‬ديناميكي‭ ‬يتسم‭ ‬بالتغيّر‭ ‬والنزعة‭ ‬الثورية‭ ‬الدافعة‭ ‬إلى‭ ‬التطوّر‭.‬

لوحة: محمد الوهيبي

 

ثم‭ ‬جاءت‭ ‬الثورة‭ ‬الثالثة‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬بالغ‭ ‬الأثر‭ ‬في‭ ‬تثوير‭ ‬المشروع‭ ‬الروائي‭ ‬وتحديثه‭ ‬وتمثلت‭ ‬في‭ ‬الثورة‭ ‬السايكولوجيّة‭ ‬التي‭ ‬سعت‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬تشكيل‭ ‬مفاهيم‭ ‬العقل‭ ‬والحتمية‭ ‬والإرادة‭ ‬الحرّة‭ ‬والدوافع‭ ‬والحاجات‭. ‬وكلّ‭ ‬هذه‭ ‬المفردات‭ ‬صارت‭ ‬موضوعات‭ ‬اشتغل‭ ‬عليها‭ ‬الروائي‭ ‬المنهمك‭ ‬بالحياة‭ ‬ومعضلاتها‭.‬

أما‭ ‬الثورة‭ ‬الرابعة‭ ‬فكانت‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الفلسفيّ،‭ ‬وقد‭ ‬طالت‭ ‬الاشتغالات‭ ‬الفسلفية‭ ‬التقليدية‭ ‬وقد‭ ‬أثمرت‭ ‬كشوفات‭ ‬فلسفية‭ ‬جديدة‭ ‬مثل‭ ‬التحليل‭ ‬اللغوي‭ ‬والنزعة‭ ‬التحليلية،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬انعكس‭ ‬على‭ ‬اللغة‭ ‬الروائية،‭ ‬فتخلت‭ ‬عن‭ ‬ثوبها‭ ‬القديم‭ ‬المحتشد‭ ‬بالرطانات‭ ‬اللغوية‭ ‬الفخمة‭ ‬والاستعارات‭ ‬البلاغية‭ ‬المحتشدة،‭ ‬وحلَّت‭ ‬محلها‭ ‬لغة‭ ‬مقتصدة‭ ‬تحتكم‭ ‬إلى‭ ‬معايير‭ ‬الانضباط‭ ‬ومقاربة‭ ‬الأهداف‭ ‬بلا‭ ‬وسائل‭ ‬التفافية‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬اللغة‭. ‬كما‭ ‬كان‭ ‬للثورة‭ ‬الليبرالية‭ ‬التي‭ ‬دعا‭ ‬إليها‭ ‬جون‭ ‬ستوارت‭ ‬مل،‭ ‬بما‭ ‬حملته‭ ‬أفكاره‭ ‬عن‭ ‬الفردانية‭ ‬من‭ ‬تأثير‭ ‬طاغٍ‭ ‬على‭ ‬جوانب‭ ‬الحياة‭ ‬المختلفة،‭ ‬فعلى‭ ‬الصعيد‭ ‬السياسي‭ ‬قادت‭ ‬الليبرالية‭ ‬لتوسيع‭ ‬المشاركة‭ ‬الفردية‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬السياسية‭ ‬وتحجيم‭ ‬الفكر‭ ‬الشمولي‭ ‬والطغياني‭ ‬والتأكيد‭ ‬على‭ ‬حقوق‭ ‬الطفل‭ ‬والتركيز‭ ‬على‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان،‭ ‬وعلى‭ ‬الصعيد‭ ‬الاقتصادي‭ ‬قادت‭ ‬الليبرالية‭ ‬إلى‭ ‬الارتقاء‭ ‬بنوعية‭ ‬الحياة،‭ ‬وتحديد‭ ‬ساعات‭ ‬العمل،‭ ‬والحد‭ ‬الأدنى‭ ‬للأجور‭ ‬وظهر‭ ‬إلى‭ ‬الحياة‭ ‬مفهوم‭ ‬دولة‭ ‬الوفرة،‭ ‬وطبَّقت‭ ‬برامج‭ ‬الحماية‭ ‬الاجتماعيّة‭ ‬وبرامج‭ ‬التأمين‭ ‬الصّحيّ‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬عزَّز‭ ‬من‭ ‬قدرة‭ ‬الفرد‭ ‬اقتصاديًّا‭ ‬وتعزيز‭ ‬شعوره‭ ‬بالأمان‭ ‬الذاتيّ‭ ‬تجاه‭ ‬الفاقة‭ ‬والمجاعة،‭ ‬أما‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الثقافة‭ ‬فقد‭ ‬فتحت‭ ‬الليبرالية‭ ‬آفاقًا‭ ‬واسعة‭ ‬أمام‭ ‬أنماط‭ ‬تجريبية‭ ‬مُستحدثة‭ ‬من‭ ‬الأفكار‭ ‬والفلسفات،‭ ‬والجدير‭ ‬بالذكر‭ ‬أن‭ ‬بدايات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬التي‭ ‬شهدت‭ ‬نشوء‭ ‬الرواية‭ ‬الحديثة‭ ‬هي‭ ‬ذاتها‭ ‬التي‭ ‬شهدت‭ ‬ولادة‭ ‬وانطلاق‭ ‬الحركات‭ ‬الثقافية‭ ‬ذات‭ ‬الطبيعة‭ ‬الثورية‭ ‬مثل‭ ‬السريالية‭. ‬كما‭ ‬ساهم‭ ‬الحس‭ ‬الفرداني‭ ‬إلى‭ ‬تهشيم‭ ‬القيود‭ ‬الثقيلة‭ ‬التي‭ ‬تكبّل‭ ‬الفرد‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬والتي‭ ‬عملت‭ ‬على‭ ‬تشظية‭ ‬فضائه‭ ‬العقلي‭ ‬والنفسي‭ ‬وأطاحت‭ ‬بحسّ‭ ‬الطمأنينة‭ ‬والسكينة‭ ‬والانتماء‭.‬

على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬التأثير‭ ‬البالغ‭ ‬لهذه‭ ‬الثورات‭ ‬الخمس‭ ‬في‭ ‬إعادة‭ ‬تشكيل‭ ‬المشهد‭ ‬الروائي‭ ‬فإن‭ ‬المساهمة‭ ‬المشتركة‭ ‬التي‭ ‬قدمتها‭ ‬هذه‭ ‬الثورات‭ ‬مجتمعة‭ ‬في‭ ‬الميدان‭ ‬الروائي‭ ‬هي‭ ‬التأكيد‭ ‬على‭ ‬التشظي‭ ‬الذي‭ ‬أصاب‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان‭ ‬والعقل‭ ‬البشري‭ ‬والروح‭ ‬الإنسانية‭ ‬والعلاقات‭ ‬بين‭ ‬البشر‭ ‬وعلاقات‭ ‬البشر‭ ‬مع‭ ‬البيئة‭ ‬المحيطة‭ ‬بهم‭.‬

 

السرديات‭ ‬الصغرى

 

تتساءل‭ ‬المترجمة‭ ‬في‭ ‬مقدمتها‭ ‬عمّا‭ ‬بعد‭ ‬الرواية‭ ‬الحديثة؟‭ ‬حيث‭ ‬ترى‭ ‬أن‭ ‬الرواية‭ ‬الحديثة‭ ‬ساهمت‭ ‬في‭ ‬تخليق‭ ‬أنماط‭ ‬روائية‭ ‬جديدة،‭ ‬يمكن‭ ‬عدّها‭ ‬امتدادات‭ ‬طبيعية‭ ‬لها‭ ‬وليست‭ ‬منقطعة‭ ‬الجذور،‭ ‬ومن‭ ‬هذه‭ ‬الأشكال‭ ‬ما‭ ‬حصرته‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثية‭ ‬وهي‭ ‬الرواية‭ ‬التي‭ ‬تخلت‭ ‬عن‭ ‬المركزيات‭ ‬والسرديات‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬سائدة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬لحساب‭ ‬الهامش‭ ‬والاقتصار‭ ‬على‭ ‬مقطع‭ ‬زمني‭ ‬ومكانيّ‭ ‬صغير‭ ‬ولمعضلة‭ ‬محددة،‭ ‬ومنها‭ ‬أيضًا‭ ‬رواية‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الكولونياليات،‭ ‬وهي‭ ‬الرواية‭ ‬التي‭ ‬نشأت‭ ‬في‭ ‬الجغرافيات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تعتبر‭ ‬تقليدًا‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬المستعمرات‭ ‬الكولونيالية‭ ‬المهيمنة،‭ ‬وقد‭ ‬غلب‭ ‬عليها‭ ‬الاشتعال‭ ‬بالسياسة‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬النزعة‭ ‬إلى‭ ‬التطهير،‭ ‬وبعضهم‭ ‬يرى‭ ‬إحداث‭ ‬قطيعة‭ ‬مع‭ ‬لغة‭ ‬المستعمر‭ ‬السابق‭ ‬وإحلال‭ ‬لغات‭ ‬محلية‭ ‬بدلا‭ ‬عنها‭.‬

وإن‭ ‬كانت‭ ‬هجرة‭ ‬بعض‭ ‬الأفراد‭ ‬من‭ ‬جغرافيات‭ ‬الهوامش‭ ‬إلى‭ ‬المراكز‭ ‬الكولونيالية‭ ‬سمحت‭ ‬بنشوء‭ ‬أطفال‭ ‬في‭ ‬بيئات‭ ‬ثقافية‭ ‬هجينة‭ ‬تحوز‭ ‬سمات‭ ‬كلّ‭ ‬من‭ ‬ثقافة‭ ‬المركز‭ ‬والهامش‭ ‬معًا،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬عُرف‭ ‬بالرواية‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثية،‭ ‬فإن‭ ‬رواية‭ ‬التعددية‭ ‬الثقافية‭ ‬شهدت‭ ‬إعلاء‭ ‬فكرة‭ ‬التسامح‭ ‬والتعددية‭ ‬الثقافية‭ ‬والحفاظ‭ ‬على‭ ‬موروثات‭ ‬الشعوب‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬البدائية‭ ‬وطقوسها‭ ‬الفلكلورية‭. ‬ويمكن‭ ‬تمييز‭ ‬أنواع‭ ‬ثلاثة‭ ‬لها؛‭ ‬الرواية‭ ‬التي‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬الموروثات‭ ‬الشفاهية‭ ‬البدائية،‭ ‬والرواية‭ ‬المهاجرة‭ ‬وهو‭ ‬النوع‭ ‬الذي‭ ‬يرمي‭ ‬إلى‭ ‬استكشاف‭ ‬المعضلات‭ ‬التي‭ ‬يُعانيها‭ ‬المهاجرون‭ ‬بين‭ ‬جغرافيات‭ ‬ثقافية‭ ‬مختلفة‭ ‬وقد‭ ‬نشأ‭ ‬هذا‭ ‬اللون‭ ‬بعد‭ ‬طغيان‭ ‬العولمة‭ ‬الثقافية‭ ‬وتزايد‭ ‬موجات‭ ‬الهجرة،‭ ‬وأخيرا‭ ‬رواية‭ ‬جماعات‭ ‬الأقلية،‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬تأتي‭ ‬تعبيرًا‭ ‬عن‭ ‬أصوات‭ ‬الأقلية‭ ‬التي‭ ‬اتخذت‭ ‬من‭ ‬الرواية‭ ‬فضاءً‭ ‬صوتيًّا‭ ‬كتأكيد‭ ‬على‭ ‬صوتها‭. ‬وآخر‭ ‬الأنماط‭ ‬الروائية‭ ‬حسب‭ ‬الدليمي‭ ‬هو‭ ‬الرواية‭ ‬الرقمية،‭ ‬فالنص‭ ‬الفائق‭ ‬من‭ ‬منظورها‭ ‬هو‭ ‬نص‭ ‬على‭ ‬شاشة‭ ‬الحاسوب‭ ‬عند‭ ‬النقر‭ ‬عليه‭ ‬يقود‭ ‬المستخدم‭ ‬إلى‭ ‬معلومات‭ ‬أخرى‭. ‬وتبرز‭ ‬أهمية‭ ‬هذه‭ ‬النصوص‭ ‬أنها‭ ‬تتغلّب‭ ‬على‭ ‬قيود‭ ‬النص‭ ‬المكتوب؛‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬تبقى‭ ‬ثابتة‭ ‬كالنّصوص‭ ‬التقليدية،‭ ‬بل‭ ‬يمكن‭ ‬للقارئ‭ ‬كما‭ ‬تقول‭ ‬الكاتبة‭ ‬‮«‬تنظيم‭ ‬المعلومات‭ ‬بواسطة‭ ‬روابط‭ ‬ووصلات‭ ‬تعرف‭ ‬بالروابط‭ ‬التشعّبية”‭.‬

تنبع‭ ‬أهمية‭ ‬الدراسة‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬وصفها‭ ‬بأنها‭ ‬موجزة‭ ‬ومركّزة،‭ ‬في‭ ‬أنها‭ ‬أبحرت‭ ‬في‭ ‬النظرية‭ ‬الروائية‭ ‬وأحاطت‭ ‬بكافة‭ ‬المستجدات‭ ‬التي‭ ‬أحدثت‭ ‬تغييرات‭ ‬في‭ ‬مفهوم‭ ‬الرواية،‭ ‬بتعدد‭ ‬أنواعها‭ ‬أو‭ ‬وظائفها‭ ‬التي‭ ‬تجاوزت‭ ‬التسلية‭ ‬والمتعة‭ ‬إلى‭ ‬أفاق‭ ‬جديدة‭ ‬وصلت‭ ‬بها‭ ‬لأن‭ ‬تكون‭ ‬بمثابة‭ ‬الذاكرة‭ ‬الجمعية‭ ‬للشعوب‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.