أبوالليل

السبت 2022/10/01

بدت الصورة على غير عادة الصور القديمة زاهية الألوان، تموج بحياة تشعر بها دون أن تلمسها، أو ربما لمستها بعينيك وأنت تحدق في عيني الوجه الماثل أمامك بنظرته الثاقبة المحدقة بك، المحاصرة لك، المتغلغلة في أعماقك وهو يتفضل عليك بنصف ابتسامة يؤطرها عبوس، أو هو نصف عبوس مغلف بنصف ابتسامة، وتكاد ثنايا وجهه تقول لك أنا أتفضل عليك بنصف ابتسامتي وعليك أن تشكرني فوراً لهذا.  سارعت بالهرب من حدة النظرات، قلبت الصورة على ظهرها، طالعتني كتابة بدا على خطوطها وهن التقدم في العمر وآثار لطمات السنين على لون الحبر الذي بهت ولم يعد يبدو منه إلا خطوط تكافح لتظل تحت مرمى البصر (.. إلى صديقي الأعز..).

يااااااااااااااااه

كم هي متقلبة تلك الحياة كامرأة لعوب لا تثبت على حال، تقسو يوما فتريك من بأسها ما تريك، ثم تعود فتحنو كأنما لم تعرف القسوة من قبل، يقصدني أنا بالطبع، رآني صديقه الأعز، هو الذي لم يكن له في يوم صديق، وأنّى له أن يصادق أحداً وهو يسير كالقطار على خطى طباعه الحادة بلا توقف حتى لالتقاط الأنفاس، يبسط لك رداء المحبة والود لحظة، والأخرى يركلك بكل قوته، وهو في الحالين مندفع في مشاعره وأفعاله، لا يعرف الوسطية ولا ينتبه إلى كلمات التحذير أو نظرات العتاب، تحادثه بما يوافق هواه فينتشي ويستفيض في توجيه الدفة نحوك وهو يحصرك في زاوية اهتمام لاتملك معها إلا الإيماء برأسك فقط كلما سألك:

  – أليس كذلك؟

 دون أن تملك المقدرة على سحب بساط الحديث من بين أسنانه، فهو حين يتكلم تصمت الأصوات إلا في حالات نادرة، فصوته العريض الحاد الذي يعلو وينفرد يمكنه من كسح أي صوت يزاحمه المجال، إلا في حالات معدودة تمكّن أصحابها ببعض النفوذ وقوة الحجة من إبطاء سرعة كلماته، وفي أحيان أخرى من إسكاته تماماً وإجباره على الاستماع أيضا، ورغم تحاشى السوق كله للاحتكاك به وتعاملهم معه بحرص إلا أنك قلما ترى إنسانا يكرهه، بل تكاد الآراء تجمع على طيبة قلبه وعفة لسانه وأنه رغم كل شيء يكره الأذى، وإن كان يتخذه عنواناً له، اذ يقف على باب السوق رامياً العربات الرائحة والغادية بنصف ابتسامة، واثقاً أن أيا منها إذا تجرأ على العبور دون أن يرمى في الطبق الصغير على الأرض بالإتاوة المتفق عليها فهناك نصف العبوس جاهز لكي يتحرك، يفور ويتأجج، ومعه صوته الذي ينفرد بمساحة السوق كله، متهماً إياه بعدم مراعاة الأصول والتعنت والظلم أيضا فمن لا يعطي وبنفس راضية هو في الحقيقة ظالم، لا يهمه إلا نفسه ولا يدري أن السوق عالم كبير يموج بفوضى تحتاج إلى رابط، والرابط يحتاج إلى قوة تسانده، والقوة تحتاج عقلاً حتى تكون محكومة فلا تمتد لإيذاء ولا تتجه إلا لمن يستحق أن تتجه إليه.. ويتكلم المذنب معتذراً أو معترضاً أو أي شيء فلا يسمع أحد له، بل تتجه العيون والكلمات والأيدي إلى (محمود أبوالليل) فقط لتهدئته ومحاولة إسكاته بقدر ما تستطيع، وإسكاته معناه بالطبع أن ترضيه وهذا هو المراد، فيعود المعترض إلى الطبق الصغير الموضوع في منتصف بوابة السوق ظاهراً للعربات الرائحة أو الغادية فيضع فيه المعلوم قرش صاغ واحد وينظر إلى أبوالليل من جديد، يحدّق في وجهه باحثاً عن نصف الابتسامة الذي غاب، فيجده قد عاد مجدداً، ويعود الود فوراً.

وللحقيقة فإن أبوالليل رغم كل معاركه كان قريباً من الكثيرين فهو الشهم الذي يرمى بنفسه في أتون أيّ معركة إلى الجانب الذى يرى أنه ظُلم أو تجنّى عليه جبار من جبابرة السوق مهما كانت قوته، يدافع عنه بشراسة، ويهاجم ظالمه بقسوة، غير مبال بما قد يتعرض له هو ذاته من أذى أو ضر بسبب هذا الاندفاع، وربما لجأ إليه أحدهم سائلاً قرضا يعيده إليه بعد حين، لحظتها لم يكن له شرط أبداً إلا تحديد الموعد كما يشاء المقترض وينفذ وعده وإلا فإنه سيطلق عليه لسانه سوطاً يلسعه بجرأته المعتادة غير مبال بالآذان المتحلقة والأعين المسلطة هنا وهناك.

وقد بدت جلية مشاعر الناس نحوه حينما التمسوه ذات صباح في مدخل السوق فلم يجدوه، أرسلوا من يسأل عنه وكان هذا غلاماً يافعاً جاء حديثاً إلى السوق يتحسس طريقه في مدارج الكبار باحثاً عن لقمة عيش ومبلغاً من المال يدخره مكتفياً في غربته التي ارتضاها لنفسه بأقل القليل من أجل أن يعود رافعاً رأسه إلى بلدته في الجنوب كما فعل من سبقوه، ولم يكن هذا الغلام إلا أنا.. قال حينما رآني بين يديه:

 – من أنت؟

شغلني تأمله عن الجواب فقد كان بالنسبة إليّ جبلاً شاهقاً لا يحق لي إلا مطالعته عن بعد، أما الاقتراب هكذا فرغم خطورته يفيض بروعة الاكتشاف وبهاه.. قلت وأنا أحدق في اتساع عينيه بملء روحي:

محمود سالم عوضين بخيت

تبسمت شفتاه بوهن ابتسامة كاملة وليس نصف ابتسامة كما أشيع عنه وأكمل:

 – البيومى سلامة.

 تهللت نظراتي وقلت والفرحة تتقافز من عيني:

Thumbnail

– تمام.

وذكر بلدتي الصغيرة على حافة الكون هناك أقصى الجنوب، حدقت في وجهه والدهشة تطلق أسراب طيورها من أحداقي إلى عينيه، عيناه فيهما مغناطيس حاد القوة يجذبك نحوه فترى عينيك بين يديه خاشعتين تنتظران أقل بادرة منه.

ذكر لي أسماء بعض كبار عائلتنا، تهللت فرحا وأنا أرد بالإيجاب، مد إلى يده معانقاً:

تعال يا ابن أخي.

ارتميت مزهواً بهذه الصلة التي لم تكن على البال. أزاحني وقد تغيرت سحنته إلى جد صارم وهو يصرخ في وجهي:

هل أنت رجل؟

لم أفهم ما يرمى إليه، حدقت ببلاهة ظاهرة في وجهه، شد أذني بيده اليمنى فانسحبت معه كحمل صغير لا يملك من أمره شيئا، شد ياقة جلبابي بيده اليسرى وهو يغرز سهام نظراته النارية في عيني:

تذهب إلى السوق، تضع الطبق في المنتصف كعادته، تقف على البوابة نائباً عني.

اضطربت أفكاري، قلت متوجساً:

 -وهل يقتنعون بي؟

 احتدت نظراته فارتجفت، بدا غضب كامل على محياه:

اسمي يقنعهم.

 لم أقل لنفسي لحظتها إنه مريض لا يملك القدرة على القيام من مرقده فكيف يستطيع مواجهة صدهم لي، خاصة أنني صغير مازلت وهم طوال عراض كهضاب وتلال تملأ السوق لديهم أصوات خشنة وأيد قوية ونبابيت تعرف جيداً كيف تواجه من تسوّل له نفسه مواجهتهم أو الوقوف في طريقهم؟

أخذت أعيد النظر لحظتها إلى جسدي، أتخيلني واقفاً أمام البوابة وهم يمطرونني بكلماتهم الهازلة، وأنا لا أملك إلا إحناء هامتي تضاؤلاً وحيرة وعجزاً عن الرد، وكأنه شعر بما يجول بصدري لحظتها أشار إلى إطار يحمل صورته على الجدار يبدو فيه فتياً يحمل نصف ابتسامته ونصف غضبه وقال لي:

ضعه على البوابة، والطبق إلى جواره.. وأنت معهم

أذعنت لرأيه ومضيت.

 جئت مع الفجر بعمود خشبي كبير، ثبته في منتصف البوابة واضعاً الصورة أعلاه، والطبق تحته، ووقفت واجف القلب أتصور اعتراض السوق وأهله، ومدى هذا الاعتراض، وماذا سأفعل إذا امتد إلى أكثر من الكلمات، وأسائل نفسى كيف سأتصرف إذا تجرأ أحدهم وضربني.

بدأت الظلمة تتلاشى رويداً والحركة تتزايد والوجوه تهل، ترى الصورة والطبق، تطلق ابتسامة معجونة بالدهشة، تسأل عن محمود أقول ما لديّ، يهشون لي، يحملونني السلام إليه، وتطوع بعض الشيوخ منهم لمساعدتي.. وللحقيقة فإن العربات المارة لم تتذمر، ولم يبد على وجه منها اعتراض ما. قلت له هذا حينما حملت القروش التي جمعتها إليه، ناولني بعضها باسماً، فأبيت، اعتلاه غضب وصرخ في وجهي وروحي، أخذتها فوراً قائلاً له:

أريد صورة لي.

لم يفهم مقصدي، قلت:

 -صورة صغيره لك أحتفظ بها.

 احتدت نظراته:

 – لماذا؟

 – يرونها في البلد.

أدرك مقصدي، تهللت نظراته، مد يده إلى حافظته الجلدية بنية اللون الطويلة المطوية عدة طيات، فتحها بعناية، أخرج صورة منها، قلبها على ظهرها وكتب..(إلى صديقي الأعز..) بدا الخط رائعاً، بل شديد الروعة، قرأ في عيني تعجبي فقال باسماً:

خرجت من الابتدائية.

صمت قليلاً ثم أكمل:

 – هل تعرف أنني أحفظ أجزاء من القرآن؟

بدأت أقلد حركاته في السوق، أضع العمامة كما يضعها وألصق على صفحة وجهي نصف ابتسامة ونصف غضب، وأصوغ كلماتي بذات طريقته على قدر ما أستطيع، وقد أخذني الطموح أن أصير امتداداً له، خاصة أن أهل السوق كانوا يعاملونني بتقدير ظاهر وود كبير، ولم أفهم حقيقة وضعي بينهم إلا حينما مات أبوالليل. يومها امتدت أعداد المشيعين له من أول السوق إلى أبواب المقابر، واكتظت بهم الشوارع والحارات، وعند المساء أقيم صيوان العزاء أمام بيته، وكان من الطول والاتساع بما لم تره المدينة كلها من قبل، توافدت وجوه وأتت عربات من كل شكل ولون. بعدها انتبهت لامتناعهم عن الدفع، ولم أستطع فعل شيء، فانسحبت في صمت مؤثراً السلامة.

أدرت الصورة لأرى وجهه من جديد، قلت له بحب كبير ودمعة ساخنة تهبط بطيئة على خدي: رحمك الله.

اتسع الوجه لابتسامة كاملة وارتفع صوته سائلا: هل أنت رجل؟

هززت رأسي لأعلى وأسفل.

احتدت نظراته: الرجل لا يبكي.

ابتسمت.

كاتب من مصر

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.