أدب الاعتراف بين الشفافية والتعتيم

القديس أوغستين وروسو أنموذجا
الجمعة 2019/02/01
غرافيك "الجديد"

ليس القصدُ بالاِعتراف إماطة اللثام عن بعض الأسرار، كما نقرأ في مذكّرات الزعماء وسير المشاهير، بقدر ما هو مُسارَّةٌ بالذنوب والأخطاء، وتفريج عن النفْس من عبء ثقيل. وإذا كان الناس في الغرب، حسبما تقتضيه التقاليد المسيحية، ينزعون إلى الإفضاء لسلطة دينية مؤتمنَة بما لا يَجرُؤون على قوله للخاصة والعامة، فإن آخرين اختاروا أن يعترفوا بخطاياهم وذنوبهم للناس كافّة، وأن ينشروها على رؤوس الملأ أجمعين. ولعل أشهر الاعترافات تلك التي تركها القديس أوغستين (354-430) أكبر ممثل للفكر المسيحي وأفضل ملهم للفكر الغربي المعاصر، بشهادة كارل ياسبرس، وجان جاك روسو (1712-1778) أهم رواد حركة التنوير في الغرب.

فأما “اعترافات” القديس أوغستين، فقد أجمع أهل الاختصاص من مؤرخين ونقاد وأدباء على كونها عملا أساسا من جهة عمق تحاليله وأسلوب صياغته. وكان ألف ذلك الكتاب ما بين عامي 397 و401 للحديث عن سعيه إلى الله، واضعا نصب عينيه غايتين هما الاعتراف بذنوبه وأخطائه أمام الله مباشرة (بالمعنى المسيحي) والإعلان عن تمجيد الذات الإلهية. والمعلوم أن العبارة في أصلها اللاتيني Confessio تدل على البوح والإقرار، مثلما تدل على رغبة جلية في الشكر والامتنان، وهي إلى ذلك أحد عناصر طقس التوبة، يعترف خلاله المؤمن بذنوبه كافة أمام الله وأمام الكنيسة الكاثوليكية بصفة دقيقة، تفصل القول في الخطيئة المرتكبة، ليحوز المعترِف الصفح وينصرف مرتاح البال. بيد أن المؤلف يعترف منذ البدء أن الذاكرة شابتها ثغرات ونقائص معللا ذلك بأنه إنما غفل عن عدة أشياء لاستعجاله بلوغ تلك الغاية التي تلح عليه كي يعترف بها، بدعوى أن “كل نقطة وقت غالية” بالنسبة إليه، فلا يذكر دخوله الأسقفية، والأسباب التي جعلت الله يقوده إلى نشر كلامه عز وجل، ولا الأعوام التي قضاها في طاغست بعد عودته من إيطاليا، أو إقامته في روما بعد وفاة أمه صيف 387.

وأما “اعترافات” جان جاك روسو، التي انتهى من وضعها عام 1767، فقد عُدّت هي أيضا عملا أدبيا جليلا ونصا فارقا في الأدب الفرنسي، سار عليه عدد من الكتاب من بعده. ولئن استمدت عنوانها من “اعترافات” القديس أوغستين فإنها لم تكن ذات مرجعية دينية، وإن أخذت منه رمزيتها، ونعني بها الإقرار بالذنوب والخطايا، بل هي أقرب إلى سيرة ذاتية اعترف فيها روسو بما جلل حياته من أحداث في لحظات انتصاره وانكساره، ليرسم صورة إيجابية عن نفسه، ويقنع قارئه بأنه إنما كان ضحية حياة لا ترحم، وأنه كان خير البشر. جاء في مقدمة كتابه: “ليَعلُ نفير القيامة متى شاء، سوف آتي، وبيدي هذا الكتاب، لأقدم نفسي أمام الملك القاضي. سأقول بصوت عال: “هذا ما فعلت، وما فكرت، وما كنت. لقد قلت الخير والشر بنفس الصراحة. لم أغفل عن أي شيء سيّئ، ولا أضفت شيئا جيدًا؛ ولو صادف أن استعملت بعض زخرف غير مبال، فإنما لملء فراغ سببه خيانة ذاكرتي. لقد افترضت حقيقةً ما كنت أعلم أنه كذلك، ولم أفترض قط ما أعرف أنه خطأ. أبديت نفسي كما كنت: مقيتا ودنيئا حين كنت كذلك؛ طيبا، كريما، ساميا حينما كنت على ذلك النحو: كشفت عن داخلي كما رأيتَه بنفسك. أيها الكائن الخالد، اجمع من حولي حشدا من أمثالي لا يحصيهم عد؛ وليسمعوا اعترافاتي، ويئنّوا من صَغاري، ويخجلوا من بؤسي. وليكشف كل واحد منهم بدوره عن قلبه عند قدم عرشك بالصدق نفسه، وليقل لك واحد منهم فقط، إن جرؤ: كنتُ خيرا من هذا الرجل”.

يلتقي الرجلان إذن في ادعائهما قول الحقيقة عارية، بمحاسنها ومساويها، وفي اعترافهما بأنهما غفلا عن بعض المسائل، لتعجّل الأول ملاقاةَ رحاب دين ربّه، وتعلل الثاني بخلل شاب ذاكرته، ولكن وقائع التاريخ تثبت أنهما غفلا قصدًا عن أحداث تسيء كثيرا إلى الصورة التي حرص كلاهما على تقديمها للقارئ، وتركها للأجيال اللاحقة، وأن ذاكرة كل منهما كانت انتقائية.

لم يأت أوغستين في اعترافاته على ذكر أعماله الخسيسة، كطرد ابنه ذي الاثني عشر ربيعا حينما كان مدرسا بميلانو، وتركه نهبا للخصاصة إلى أن وافته المنية، دون أن يحضر جنازته؛ أو معاشرته نساء كثيرات في قرطاج خلفن له عدة أبناء أنكرهم، وادعى أنه إنما فعل ذلك ليثبت فحولته؛ أو نكثه العهد الذي قطعه على أمه باصطحابها إلى روما، ثم تركها وحيدة في قرطاج بلا سقف يؤويها وسافر ليقابل أسياده الرومان، فقد كان هدفه الأول الحصول على منصب سياسي في روما بشهادة بعض تلاميذه في ميلانو. والأخطر من ذلك سكوته عن دوره في تحريض الرومان على الفتك بالدوناتيين، أتباع الأب دونا النقريني  Negrinus  Donatus (نسبة إلى مدينة نقرين بولاية تبسة الجزائرية) ذلك الذي رفع لواء المسيحية في بلاد البربر، وقال قولته الشهيرة “لا علاقة للمسيحية بالإمبراطور والإمبراطورية، والله أرسل المسيح لإنصاف المستضعفين”، فقاومه الرومان ثم نفوه إلى إسبانيا حيث سجن وتوفي عام 355، كما قمعوا أتباعه قمعا رهيبا، فقامت الكنيسة الرسمية المنتصرة بطرد الدوناتيين من الكنائس بقوة الجيش، ما أجج النقمة وساهم في انتشار واسع للدوناتية، كما روى المؤرخ الجزائري عثمان سعدي. وأمام صمود الدوناتيين ورفضهم سيطرة الإمبراطورية على الكنيسة الأفريقية، اعتبر الإمبراطور قسطنطين سنة 317 أن الدوناتيين خارجون على القانون، وأمر الجيش باقتحام المدن والقرى ومصادرة الكنائس الدوناتية وتسليمها للكاثوليك. وكان من جرائر ذلك أن استشرت الدوناتية في كل مكان وتحولت إلى مذهب شعبي. في تلك الأثناء ظهر أوغستين بهيبو ريجيوس (مدينة عنابة حاليا) وهو، بعكس ما هو شائع، ليس أمازيغيا ولا نوميديا لاتينيا، بل هو “من رومان أفريقيا، كما ورد في موسوعة يونيفرساليس، عاش في وفاء دائم للحضارة الرومانية…”، فكان لا يكف عن مطالبة السلطة بالتدخل المباشر في النزاع الديني بين أتباع الكنيسة الرومانية الرسمية والدوناتيين، ومطالبة مجمع الأساقفة الكاثوليك بقرطاج بمحاربة من أسماهم الهراطقة، وتحريض أتباعه لضرب الدوناتيين الوطنيين وسفك دمائهم psalmus contra partem donati وكان يلقبهم بالخونة، وناشد روما سنة 398 إخماد الثورة التحررية ببلاد البربر بالقوة  contra epistulam parmeniani، إلى أن لبّى الإمبراطور طلبه، إذ أصدر أمرا عام 405 يعتبر الدوناتية هرطقة وخارجة على القانون، وفتح بذلك الباب أمام القمع الرسمي.

لوحة محمد ظاظا
لوحة محمد ظاظا

ولعل ما قام به أوغستين لاحقا يدل على مدى تعصبه وضيق صدره بالآخر، فقد عقد اجتماعا بين الأساقفة الكاثوليك وزملائهم الدوناتيين بدعوى توحيد الكنيسة، فلما غلبت حجة الفريق الثاني حجج الداعين إلى الاجتماع، غادر القاعة وطلب من مارسيلينوس الوالي الروماني في قرطاج، وهو كاثوليكي متعصب، أن يضع حدّا للحوار، ويأمر باعتقال الأساقفة الدوناتيين، وهو ما حصل، فتم بعدها حل المذهب الدوناتي بأمر إمبراطوري وصودرت كنائسه وممتلكاته لصالح الكاثوليكيين. لقد كان أوغستين أول من نظر للقمع بعد الأسقف أوبتاتوس ملويتانوس (توفي عام 397)، ومهّد بنصوصه التي ترى، بصفة مطلقة، في كل الخارجين عن الكنيسة الكاثوليكية هراطقة لظهور محاكم التفتيش، بل إن المؤرخ ألبير جولي يذكر في مقالة بعنوان “سانت أوغستين وعدم التسامح الديني” أن الأسقف هارلاي كان قد اعتمد عند إلغاء “مرسوم نانت” ما كتبه القديس أوغستين (الرسالة 93، والرسالة 185) لتبرير قمع البروتستانت.

أي أن أوغستين أخطأ مرتين، الأولى عندما تصرف تصرفا لا يليق برجل دين، بل بمستوطن استعماري، حيث كان يدعو صراحة إلى تدخل السلطة لبث الرعب في نفوس الدوناتيين، والحال أنهم مسيحيون مثله، وإن كانوا من مذهب مغاير، ويعتبر أن قهرهم من قبل روما مشروع. والثانية عندما زعم في اعترافاته أنه سيبوح بكل خطاياه، ولم يفعل. ربما لأنه كان يرى أن سفك دماء من يخالفونه الملّة، والنسب، ليس من الخطايا التي يطلب عنها العفو من رب رحيم.

مقارنة بالقديس أوغستين، يبدو روسو أكثر جرأة، فقد اعترف بإحساس بالذنب رافقه طوال حياته بسبب حادثة وقعت له في شبابه الأول، بعد أن هجر عائلته في جنيف، مسقط رأسه، واضطُرّ للعمل خادما لدى إحدى العائلات الإيطالية الموسرة، وكان في ذلك البيت خادمة شابّة تدعى ماريون، أحبّها الفتى جان جاك، وسرق وشاحًا جميلاً ليُهديها إيّاه، ولما تفطّن أهل البيت، حوّل التهمة إلى الفتاة خوفًا من الفضيحة. وأصرّ على اتهامه إياها بالسرقة رغم توسّلاتها عند المواجهة، وكانت النتيجة أن طردا معًا، وقد روى روسو تفاصيلها بنفسه، في لهجة صادقة يغلب عليها الندم وتبكيت الضمير. مثلما اعترف بتخليه عن السيد لوميتر عندما غشيته نوبة صرع في الشارع أمام المارة؛ أما اعترافه بإهماله أطفاله الخمسة، فلم يعد سرّا حيث انتشر الخبر في حياته، وعيّره به زولا في إحدى رسائله. ثم إنه تذرع بضيق ذات اليد، والحال أنه ورث عن أمه بعض المال فضلا عما كان يكسبه من العمل عند السيدة فرانكوي. وهو في كل ذلك لا يقدم إلا الذرائع والتبريرات أكثر من الاعتراف بذنوب يرجو عنها المغرفة، وكأنه يقوم بدور المذنب والقس في الآن نفسه، ويغفر لنفسه ذنوبه، عن طريق الكتابة التي اتخذها مطهّرا.

ولكن الأهم من ذلك كله سكوته عن حلقات تناقض ما كان يدعو إليه، توقفت عندها الباحثة الإيطالية بربرا كرنفالي في كتاب بعنوان “الرومانسية وعرفان الجميل، أشكال الوعي لدى روسّو”. المعروف أن كتابات روسو وحياته وقع تأويلهما منذ العصر الرومانسي كمعيار لأخلاق جديدة تمجّد الانفراد والبحث عن “أنا طبيعية” مستقلة عن العلاقات القائمة بين الأشخاص. وما زالت الأنا الوحيدة تغذي جانبا كبيرا من النقد الذي يرى في كتابه “أحلام المتجول المنفرد” اكتمال المدار الروسوي المتمثل في الانطواء على الإحساس الخالص بالذات، والانسجام مع الطبيعة، إلى جانب سعادة بسيطة قانعة؛ وأن تلك الوحدة التي فرضها الاضطهاد، سواء أكان حقيقيا أم متوهما، قد تكون مهّدت لتخلي روسّو عن الصراع من أجل الشكران المجتمعي، الذي نظّر في كثير من الأحيان لعواقبه الوخيمة.

تلك الصورة المطمئنة للنبيّ الرومانسي تضعها الباحثة موضع مساءلة، وتذكّر أولا بالتعارض بين حب الذات، ذلك الإحساس الإيجابيّ الذي يدفع كل إنسان إلى المحافظة على حياته والبحث داخل ذاته عن استحقاقات رضا أصيلة، وهو إحساس طبيعي ينبغي تعهده؛ وبين عزة النفس، أي الشغف الاجتماعيّ المصطنع الذي يجعل سعادتنا مرهونة بحكم الآخرين، وهو محض غرور يجرّ صاحبه إلى البحث المضني عن رضا خادع واستلابٍ حقّ. فروسو يقلب الرؤية السلبية للطبع البشري ويقترح صورة إيجابية عن حب الذات، مؤسسا بذلك مثالية جديدة للأصالة، وهي أن المبدأ الأخلاقي لن يكون وفيا لذاته. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، يُدرِج نقده الأخلاقي لعزة النفس ضمن رؤية تاريخية لتطور المجتمعات غير المتكافئة، أي التي لا تسودها المساواة، حيث لا تنحل أخلاق البشر الطيبين بالطّبع بسبب امتلاك الأراضي فحسب، وإنما أيضا بسبب التنافس في كسب ودّ الناس.

والباحثة تتوقف عند ثلاث حلقات من “الاعترافات” تشترك في كونها نجاحات عاشها ورواها روسّو في نوع من المباهاة، وهي على التوالي: ردّ خلال عشاء بمدينة تورينو ينسب فيه لنفسه الدور الأفضل، ولم يكن وقتها سوى خادم لدى إحدى العائلات الإيطالية الموسرة. إلقاء قصيدة في أحد الصالونات فتحت أمامه عالم النخب الباريسية. عرض أوبرا من تأليفه هي “عرّاف القرية” في فونتانبلو بحضور الملك وبطانته وحاشيته عام 1752. تلك الحلقات تكشف عن وجه روسو الآخر، حيث يبدو مُحْدَثَ نعمة، متعطشا لاعتراف المجتمع بمكانته، وكاتبا طموحا منبهرا بالطبقة الأرستقراطية التي ينتقد مع ذلك سلوكياتها الخُلُقية، ومؤلفا نرجسيا يصطنع لنفسه شخصية ويستحلي نجاحاته الجماهيرية، ورجلا من عامة الشعب لا ينكر أصله ولكنه يستجيب لهوى كل بنات النبلاء اللاتي صادفهن. والباحثة لا تدين ما عدّه خصومه نفاقا في زمنه، أي خلال القرن الثامن عشر، بل تبيّن أن ثراء سردية سيرته الذاتية تسمح له أن يُحِلّ داخلها تلك المتناقضات التي تكشف الازدواجية الأساسية لرغبة الحصول على الاعتراف.

بعبارة أخرى، يتضح أن روسو، مثل القديس أوغستين من قبله، لم يلتزم الأمانة في كل الأحوال، بل جعل ذاكرته انتقائية، تتخير من سيرته ما تشاء لرسم صورة ترضيه لا محالة، ولكنها ليست صادقة تماما.

في كتابه “الشّفافية والحاجز″، الذي تناول فيه “اعترافات” روسّو، يخلص جان ستاروبنسكي إلى القول إنه يحدث ألا يتخير الكاتب من سيرته سوى الخصال والعيوب التي تناسب مشروعه الأدبيّ. فمهما ادّعى الصّدق، تبقى المسافة قائمة بين الشخص المتحدّث عنه (وإن كان على لسان المتكلّم) والشّخص الحقيقيّ.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.