أرق البارحة

ست قصائد
الثلاثاء 2022/11/01
لوحة: الفاتح اللعوتة

ما قاله لقمان سليم لحظة نهوضه

كنت على الطريق عائدا

من جنوب هذي البلاد

أوقفني ثلاثة ملثمين وأنزلوني

في هزيع ليل ينتشر في مآقيهم

سألوني هل أنت لقمان سليم

هم يعرفون جيدا من أنا

ولكن لا بد من سخرية القتل.

من شفاههم تفوح رائحة معدن

وفي أصواتهم بحة حمراء

ربما من شدة ما غرفوا من نجيع

كبلوا معصميّ وقادوني إلى سيارة أخرى

هذا ما أذكره جيدا.

رموني على المقعد الخلفي في السيارة

ثم انهالوا عليّ ضربا ورفسا

حنجرتي مخنوقة خوفا، ربما

ربما كآبة،

تألمت كثيرا ولمرة أولى اختبر

ألم المخطوفين المعذبين في السجون

في الأقبية المعتمة.

انقض أحدهم على أصابعي بمسدسه

تمزقت أصابعي وفهمت.

تتالت اللكمات على وجهي

حتى كادت عيناي تنفقئان

لما سقطت نظارتي داسها أحدهم بحذائه

فهمت أيضا رغم الدوار الذي اعتراني.

تذكرت المسيح على الصليب والرمح يطعن خاصرته

تذكرت الحلاج وأشلاءه المقطعة

تذكرت الحسين وكيف بتروا رأسه

تذكرت حسين مروة العجوز والرصاصات التي اخترقت احتضاره

تذكرت سمير قصير وكيف هوى رأسه فوق مقود السيارة

تذكرت لوركا الذي أعدم برصاص الدكتاتور

أذهلتني صور هؤلاء كيف تتوالى في عينيّ الجريحتين.

راح أحدهم يقرأ لي جملا كتبتها على الفيسبوك

باسم “صديقتي الشريرة”

كان يضحك كلما قرأ واحدة

لا أذكر أي جمل قرأ

كنت منهكا، خائرا كحمل لحظة الذبح

روحي كئيبة حتى الموت

من جبيني يسقط عرق بارد.

أدخلوني إلى السيارة

ثم شرع كل منهم يطلق رصاصة

الأولى اخترقت كتفي فنبتت وردة

الثانية اخترقت صدري فطار عصفور

الثالثة اخترقت وجهي فسال ماء

الرابعة اخترقت رأسي فهبّت فكرة.

رموني على الأرض

الدم ينزف من جروح لا أحسها

العشب تحت فمي كان آخر ما بلل شفتيّ اليابستين

لكنني لم أمت

لعلني مت ولكن بلا موت

مت بالحياة التي تملأ جوارحي.

لعلني الآن أمام جهازي أكتب جملا

بعدما خانتني “صديقتي الشريرة”

لعلني بين كتبي أنحني عليها بتؤدة

لعلني الآن أزور السيدة سلمى والدتي في نومها

لعلني أمسح وجه شقيقتي رشا بماء الورد

لعلني أحلق فوق دارتنا وحديقتها تحت المطر

أنظر إلى القبر الذي سيدفنون فيه جسدي

فقط جسدي.

///////////////

بيروت سركون بولص

علمني سركون بولص كيف أغري فتاة أوكرانية في بار، بنظرات حمقاء، فتصعد إلى غرفتي  في الفندق، من غير مقابل. كان صيادا عابرا في بارات شارع الحمراء حينذاك، في العام 1983 عندما جاء لينشر ديوانا سيكون الأول له بعد سنوات طويلة.

كان سركون يحدث الأوكرانيات في بار الفندق، بلهجة أميركية حادة، راشفاً كأسا بعد كأس، يخبرهن عن  صديقه البعيد جلجامش، ويغريهن بخيوط بيض في شعره. لم يفتح قنينة لهن فلا مال كثيرا في جيبه، لكنهن أحببنه، عرفن أنه أمير مخلوع للتو، يهوى التسكع على أرصفة لا مدن لها بالضرورة. وببساطة تامة كان يصحب إحداهن إلى غرفته الصغيرة، في آخر الليل، بعد أن يفرغ البار، فلا يبقى سوى فتيات لم يحالفهن صيد السكارى.

علّمني سركون بولص عندما التقيته في بيروت للمرة الأولى، كيف يمكن للحياة أن تكون حقيقية وحلم يقظة في آن، نعيشها كما لو أنها هنا وهناك، وربما هنالك. في عينيه كانت تعبر غيوم ثم تختفي. كان يرسلها بحركة من يده إلى سماء الحبانية. لعلها قد تمطر على مقبرة أبيه التي لا ورود على بوابتها.

كان سركون يحمل كيساً مملوءا بقصائد اختلطت تواريخها، ولم يهمه البتة أن ينشرها بنظام، فلا حسبان للزمن في روزنامة هذا الأسد الآشوري، والشعر غابة مفتوحة أبدا، لا تخوم لأشجارها ولا أعمار. ديوانه الذي سيكون الأول قد يكون الثالث أو الثاني، ولكن ليس الأخير. سركون يشهق شعرا ثم ينفخه مثل دخان سيكارة.

عندما أدار سركون ظهره لأرض الرافدين وغزاتها الجدد، البرابرة والهمجيين، في أواسط الستينات، قاصدا مدينة الغرباء حينذاك، بيروت، عرّج على مجلة “شعر” ومقهى الهورس شو، زرع فتنة “البيت جنريشين” في الشعر الحر وقصيدة النثر، ترجم، سكر، ثم غادر إلى سان فرانسيسكو. كانت إتيل عدنان الرائعة مثل جبل تومباليس، تنتظر قدومه، لتعد له مأدبة تدعو إليها ألن غينسبرغ ونيل كاسدي ووليم بوروز الذي أطلق النار على زوجته. وربما جاك كيرواك الذي لا يزال على الطريق.

أخبر سركون أنه قدم إلى بيروت مشياً عبر الصحراء، حاملا فانوس الشعر في “ليل الذئاب” وقوس كيوبيد وسهاما من حبر. ترك وراءه طفولة هائمة في الحبانية وأصدقاء في كركوك، يسامرون القمر بضوضائهم وقصائدهم.

كلما أعبر أمام فندق سركون بولص، في آخر الحمراء، أسمع صوته يقرأ قصائد، جالسا في المقهى، في يده كأس، عيناه تلمعان بماء الرغبة التي لم تفارق شعره مرة.

عندما غادر بيروت إلى اليونان كتب عن المدينة التي كانت تتهيأ لحرب أهلية جديدة، قصيدة تترنح بواقعية صلبة ونفحة رثائية: “تصعد بيروت كل ليلة/كصرخة  مفقودة/من عين القتيل الشاخصة”.

لو كنت أعلم حينذاك بما يحويه كيس الآشوري التائه، الذي حمله تحت إبطه، إلى بيروت عام 1983، لسرقته في غفلة منه، وكنت لأصبح شاعراً رائعا برتبة إله بوهيمي، لا يملك في هذا العالم، سوى إشراقات ترسم أمامه طريقا تفضي إلى مدينة “أين”، في أعلى قبة اللامكان.

///////////////

شطرنج

خسرنا أسماءنا نحن لاعبي شطرنج الحظ

عندما سقط حجر النرد

في علبة قدرنا

بتنا أرقاما في لوحة رسام تجريدي

وربما أزياحا يخطها قلم رصاص

على جبهة نجمة.

جئنا بلا أسماء

نرحل بلا أسماء

لكن عيوننا تحفظ ماءها السري

وعلى راحاتنا رسم الدهر

طريقا يفضي إلى غد

ليس لنا.

الطريق قد يطول أو يقصر

ولكن لاجدوى

تأخرنا أو أبكرنا

لم يبال أحد.

عالمنا الذي غادره قوس قزح المعجزة

تسيل دماؤه على العتبة

الرياح سامة ليس في الخارج فقط

على الأرض تحط نوارس خط الزوال.

إننا نرمي النرد خارج اللوحة

لا ننتظر علامة زمن

ولا موجة تطلع من هشيم.

كتاب قدرنا مغلق

لكنّ يدا ستفتحه

صفحاته لن يقرأها أحد.

///////////////

مفارقة

قال كازانتزاكيس في غيبوبته: قلت لشجرة اللوز: حدثيني عن الله يا أخت، فأزهرت شجرة اللوز.

///////////////

نبيذ

أسكبي صوتك في الكأس

الليلة سنحتفل بحلوله بيننا

ونردّد أغنيات لك محفورة في الصميم.

بعد قليل يطرق الزوار الباب

يدخلون ويجلسون إلى مائدتنا

ثم ما إن يحتسوا بضع جرعات

حتى تأخذهم يقظة.

جاؤوا ينصتون إلى صوتك

إلى النبيذ المعتق فيه

جاؤوا يهيمون في حديقة هذ الصوت

الذي يصل النجمة بصباحهم

ويرشدهم إلى مفترق اللاعودة.

أسكبي صوتك في الكأس

هو ما بقي لنا

من وهم حياة عشناها كالهاربين

يوقظ في سرائرنا شعاع ليل على حافة

يرسم لنا قبة في اللازورد

ويفتح أمامنا كتاب الممكن

وصحراء الاستحالة.

أسكبي صوتك في الكأس

الليلة سنحتفل بذكرى فردوس

وقفنا طويلاً على عتبته،

ومن عطفات أنفاسك

سيهب علينا نسيم

يحملنا إلى ما وراء التلة

فننعم بأكسير السر الغائب.

أسكبي صوتك في الكأس

الزائرون سيرحلون

مع أول نثرة ضوء

سيكون صوتك ملاكهم

هم العائدون إلى نسيانهم

سيكون يمامة صحونا

نحن الجالسون نستمع إليك

في أرق البارحة

في نوم يحل كالسارق

دون أن يطرق زجاج عيوننا.

///////////////

إكسير

هذا الغامض

الراسب في القعر

خواء أم

لحظة شاغرة

تنتظر برقاً يجرحها؟

هواء أم

يمامة ترف فوق هاوية

أم شعلة تطل

على حقل اللامرئي

أم كأس ينبثق منها

إكسير خلود؟

هذا الغامض

الذي بلا اسم

بلا لون

بلا عطر

كحجر الخليقة

راكداً في لا منتهى السماء.

هذا الغامض

الذي يفقه شعراء الأرض سره

الذي يشع في عتمة اللاليل

يطفو مثل زهرة لوتس

فوق ماء نهر الملكوت.

هذا الغامض

القاتم ما يكفي

المشع ما يكفي

مثل عين مطفأة

في أوج رؤيتها.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.