أسئلة المسرحي في الخلاص من المسرح

السبت 2022/01/01
لوحة: شيماء جلال

لا يمكن تحسس وتلمس علاقة الفن بالفلسفة دون العودة إلى الأطروحات الجمالية والفلسفية التي صاغها فلاسفة الإغريق وخاصة أفلاطون الذي قدم أطروحته الفلسفية حول الشعر معتبرا إياه مجرد نسخ من نسخ، فالشاعر المسرحي يقدم لنا محاكاة للواقع وبالتالي فهو يقوم بعملية استنساخ له حتى يقدمه في ثوب المركب والشكلي والمشوه، فالواقع والصورة فيه يخضعان بفعل الإنشاء والنسج إلى عملية تحويل وتغيير، أي أن هذه المحاكاة لا تنقل الحقيقة كما هي وإنما تنزاح عنها بفعل التزيين والتزويق والتركيب الجمالي الذي يسكن العمل الفني، وهي لا تقدر إلا على جعلنا في عملية جدال بين ثنائية الواقع والخيال أي بين ما يوجد في الواقع (الحقيقة) وبين ما يتم عبر المحاكاة (العمل الفني) وهذا الموقف الأفلاطوني ينتصر في الحقيقة لمنطق اللوغوس (Logos) بما هو مبضع أساسي في تشريح كينونة العالم وعلى هذا الأساس قام أفلاطون بطرد الشعراء من المدينة الفاضلة.

في “فن الشعر” كتاب أرسطو الذي يعتبر نصا تنظيريا مؤسسا للمسرح في أبعاده الفكرية والفلسفية والجمالية قدم أطروحة حول الشعر المسرحي معتبرا إياه شكلا من أشكال الابتكار والإبداع والخلق وفي هذا النص (فن الشعر) يقدم أرسطو تصورا حول تمثل الإغريق للمسرح وكيفيات حضوره عندهم شكلا ومضمونا مبينا أن الشعر المسرحي ينقسم إلى ثلاثة أنواع: شعر الملحمة والملهاة والمأساة، وحتى تكون المأساة بوصفها فعلا نبيلا تاما مأساة عليها أن تحقق بعض الشروط الجمالية وأهمها تقنية الوحدات الثلاث وهي وحدة المكان، وحدة الزمان، وحدة الفعل، وقد ظل هذا المنظور الأرسطي مسيطرا على المسرح الغربي طيلة قرون من الزمن حيث لا وجود إلا لظل أرسطو وشبحه وهما يطاردان المسرحيين الغربيين أينما حلوا إلى أن جاءت بعض التجارب المسرحية الجديدة التي حاولت بشكل ما تخطي العقبة الجمالية لأرسطو بتقديم تصورات تتعاطى مع العرض المسرحي من زاوية أخرى.

ظل المسرح لقرون طويلة مبنيا على السردية الأرسطية وظل الفلاسفة يقدمون دعوات مختلفة لضرورة الإنهاء مع هذا الشكل المسرحي وتعبيد الطريق نحو ممارسة مسرحية جديدة ومن بين الأطروحات الفلسفية المثيرة للانتباه والتي لا تترك المجال لتجاوزها والمرور عليها هي الموقف الذي قدمه جون جاك روسو الذي يعتبر أن المسرح لا يوفر للجمهور إلا اللذة والمتعة فقط وعليه لا يمكن أن يكون جزءا أساسيا من حياة الناس طالما أننا نستطيع بطرق ما تحقيق سعادتنا، فهل يمكن اعتبار المسرح مجرد تعبيرة فنية لا تعطينا غير اللذة والمتعة؟ ألا يمكن اعتبار المسرح وعدا بالسعادة؟ وهل يمكن لمجتمع ما أن يتقدم صوب الأفق دون فن مسرحي؟ بأي معنى يمكن فهم أطروحة روسو عندما نقرأه ونحلله بلساننا العربي؟

أولا: روسو في مواجهة المسرح علاقة صدام أم وئام

يبدو أن فكرة صدام الفلاسفة مع المسرح ضاربة في القدم وهنا علينا أن ننبه القارئ أننا لا نعني الصدام بما يحمله من عنف وقسوة بقدر ما هو مفهوم متحرك عندنا نستدعيه لنستدل به عن حركية الأفكار والمعرفة وكيفيات تشكلها، وبالتالي فنحن أمام جدال/صراع/مواجهة وهذا يتطلب نوعا من التضاد/التنافر/التباعد، فعلى ماذا تقوم أطروحة روسو؟ وما الفكرة العميقة التي حاول تقديمها؟

خلال القرن الثامن عشر وقع صدام فكري وفلسفي سمّي بخصومة المسرح وهذا الصراع تم بين شقين من الفلاسفة جون جاك روسو من جهة وجان لرون دالمبير من جهة ثانية وهو عبارة عن جدال ونقاش نشأ مع كتابة دالمبير لنص في الموسوعة الفرنسية طالب فيه بضرورة إقامة وتدشين مسرح بمدينة جنيف (مدينة سويسرية منع فيها إقامة مسرح منذ سنة 1617) معتبرا إياه أداة أساسية في تهذيب ذوق الجمهور وتربيتهم على الفضيلة أي أن له غايات تربوية وتثقيفية وتوعوية وأخلاقية، وهذا ما عارضه روسو حيث رد عليه بنص نشر في كتاب تحت عنوان “lettre à D’Alembert” اعتبر فيه أن دور المسرح يقتصر على تقديم نوع من المتعة واللذة الحسية فقط ولا يمكن له أن يكون جزءا من حركية مجتمع ما حيث يقول روسو “أما بالنسبة إلى أنواع العروض فإن ما يحددها بالضرورة هو المتعة التي تقدمها” [1] . فهي الشرط الأساسي والنقطة المفصلية التي على المسرح تحقيقها وعدم تجاوزها، فهو غير قادر أن يربّي الناس على الفضيلة بقدر ما هو فعل يدفع نحو الرذيلة وبالتالي عليه أن يقدم بعض المتعة للجمهور دون الدخول في أي أهداف وغايات أخرى، معتبرا في نفس السياق أن الممثل لا يمكن له أن يرتقي إلا إلى مرتبة “المومس” التي تبيع جسدها، وهذا الموقف يتناقض مع ما قاله دالمبير الذي يرى أن موقع الممثل ومنزلته داخل المجتمع عليها أن تكون مساوية لطبقة القضاة وهذا رفع من قيمة التمثيل وإعلاء من شأنه بوصفه فنا قادرا على أسمدة العقول وزرع الأراضي الجرداء وتهذيب النفس والرقي بها نحو ما به يكون الكائن كائنا، في المقابل يذهب روسو  إلى اعتبار المسرح فعلا لا يمكن له تقديم المواعظ والحكم والأخلاق للناس لذلك يدعونا أن “لا ننسب للمسرح القدرة على تغيير المشاعر أو العادات التي لا يمكنه إلا أن يتبعها أو يُجَملَهَا” [2]. فهو غير قادر على فعل “البناء” بقدر ما هو محترف في فعل “الهدم” فالمدن والحضارات التي سيطرت على العالم طيلة قرون قد سقطت عندما أدخلت الفنون في قالبها الاجتماعي حيث يقول في هذا الصدد “أنظروا إلى يونان، إذ كان يسكنها في القديم أبطال انتصروا على آسيا مرتين، الأولى أمام طروادة والثانية في عقر ديارهم. فالآداب الناشئة لم تُدخل الفساد بعدُ في قلوب أهاليها، غير أنه سرعان ما تتابع فيها عن قرب تقدم الفنون، وانحلال الأخلاق، والخضوع لنير ‘المقدوني’. تواصل العلم فيها، واستمرت شهواتها، وطالت عبوديتها، فلم تُعدَ ثوراتها أكثر من تغيير لأسيادها. ولم تفلح أبدا فصاحة ‘ديمستين’ في إنعاش جسم أوهنته الفنون وأضعفه الترف” [3]. وبالتالي فهو يدعو ضمنيا لضرورة الهجرة من المسارح والبحث عن أشكال تعبيرية جديدة قادرة على التغيير ويقترح روسو في هذا الإطار إقامة “الحفل” بدل تشييد وبناء خشبات المسارح التي لا تنتج غير ثقافة السطوح والتزييف والوهم، معتبرا أن الاحتفال هو فرصة لإقامة لقاء حر وحي، مباشر وملموس بين الممثلين والجمهور حيث لا وجود لأي فرق بينهما فهما على قدر تام من المساواة، فالطرفان يشاركان في تقديم الحفل وتشكيله ومن ثمة القيام بعملية تبادل للطاقات والخبرات فيما بينهم عكس المسرح الذي لا تتساوى فيه الأدوار بين طرفي العملية الإبداعية (ممثل يؤدي الدور وهو في غاية النشوة ومتفرج يشاهد العرض دون الدخول والمشاركة فيه).

لوحة: شيماء جلال
لوحة: شيماء جلال

يعتبر موقف روسو موقفا عقلانيا ولا يمكن النظر إليه من باب التشكيك في المسرح وغاياته العميقة وإنما من زاوية أنه فيلسوف من فلاسفة التنوير، هذه الفلسفة التي جعلت من النقد أداتها الأولى في تشريح لحم العالم ولا يمكن لأيّ مجال أن يفلت من النقد والتفكيك، في هذا الإطار تمت مساءلة المسرح من طرف روسو الذي لم يكن رافضا له وإنما كان معارضا للشكل والطريقة والكيفية التي بها يتم تقديمه وبالتالي فقد كان هذا الفيلسوف مبدئيا مع أفكاره التنويرية القائمة على العقل وملكاته النقدية.

لا يمكن للطرح الذي قدمه روسو أن يكون مربكا وخطيرا بقدر ما هو موقف يوحي بعمق التفكير في مسألة المسرح وهو ما نقبض عليه في فكرة “الهجرة من المسرح وإقامة الاحتفال” التي بدورها تتشكل من مفهوم أساسي وهو “الهجرة” التي سنقوم باستدعائها وتشغيلها في قالبنا المسرحي في تونس بوصفها مفهوما متحركا لا يأخذنا في معناه الأولي إلا نحو مفردات الترحال والترحل والذهاب “من … نحو” وهذا سيتم دون أيّ تلمس أو احتكاك مع موقف روسو الذي قدمناه هنا.

ثانيا: خيانة ديونيزوس

هل علينا بالهجرة نحو ما يساعدنا على تأثيث بيتنا المسرحي من جديد؟ ما الذي يدعونا إلى الهجرة؟ هل فقدنا العبارة وأضعناها حتى نهاجر بحثا عنها؟ ما الفضاء وما المكان القصي الذي علينا السكن فيه؟ هل هو المنفى؟ هل علينا أن نهجر هذا الفضاء الفارغ لنترك الأشباح تسكنه مثلما استوطنت في أحذية فان كوخ على حد تعبير أم الزين بن شيخة المسكيني؟ أي تعبيرات جمالية علينا اجتراحها حتى نظفر بموطئ قدم داخل هذا الفضاء؟ هل علينا أن نستوطن ونقطن عمق الكارثة والأزمة التي تعيش داخلنا؟ هل مازال المسرح فعلا قادرا على حراسة الهشاشة التي تسكننا؟ ما شكل الأزمة التي تدفعنا نحو خطوط الهروب؟ هل نهاجر بفعل الأزمة التي ضربت كيان مسرحنا أم عبر الكارثة التي ضربت عمقنا وقامت بقطع أوصال المسرحي فينا؟ هل علينا الهروب من هذه الأزمة أم مجابهتها؟ ما الشكل المسرحي الذي علينا الانخراط فيه الآن وهنا في الوقت الذي صار فيه كل شيء بضاعة؟

تدفعنا هذه الأسئلة حقيقة إلى موقف ينزل علينا في ثوب الخديعة يتمثل في تلك القناعة الراسخة عند أغلب المسرحيين في تونس والتي مفادها أن مسرحنا هو صاحب الطليعة والريادة وهو من يملك القول والفصل من بين المسارح العربية، فالمسرحيون عندنا سباقون دائما لتشكيل أطروحات جمالية ترنو إلى التغيير وتهدف إلى صياغة ممارسة مسرحية وطنية/كونية وهذا الموقف الذي يتبناه أحفاد ديونيزوس يتناقض جذريا وفي العمق مع العروض المسرحية التي قدمت في الساحة في السنوات الأخيرة والتي تنزل علينا لا بوصفها المدافع الشرس عن الأفكار والمقولات الجمالية الجديدة التي يمكن أن تبني لنا مسرحا له صرح عظيم وإنما بوصفها جملة من التراكيب والأشكال التي لا تطرح في عمقها أيّ نفس تجديدي بقدر ما تدفع نحو تكريس منطق الأفكار القديمة حيث تقذف كل التجارب نفسها في بحر وفلسفة التجريب، فالمسرحي أصبح عبدا في يد الأطروحات التي تنادي بهذا المفهوم (التجريب) حتى تم تقطيع أوصاله والانزياح به عن مغزاه وروحه العميقة التي لا يسكن خلاياها إلا الشعر، فأن تجرب هو أن تغزو المجهول وتتنقل في الأماكن المظلمة والداكنة لترى البياض في العتمة ولتكشف عن المفقود والضائع، ولتترحل داخل أرض مفخخة لتفتح النتوءات والدوائر التي بها يمكن المرور نحو أفق مختلف للممارسة المسرحية.

يبدو أن الوضع المسرحي في تونس بلا شك يعاني من أزمة ضربت كيانه بدءا بالإيمان المتكلس والجامد للمسرحيين بالأفكار التي كنا نشرحها أعلاه وصولا إلى سقوطهم في فخ رأس المال حيث تحول المسرح معهم إلى بضاعة تباع وتشترى ودخل هذا الفن معهم في سوق الخردة الفنية الكبير التي لا يوجد بها غير العرض والطلب الخاضع لمنطق الربح والكم وليس النوع والجودة وبعبارة أخرى “لا شيء تبقّى من الطبيعة حيث صار كل شيء صناعة وبضاعة” [4]، على حد تعبير أم الزين بن شيخة المسكيني ليتحول النقاش بدوره من الفكري والجمالي والشعري نحو الغايات المادية والربحية للعروض بحيث “أصبح الفن جزءا من عالم السلع الذي نحن فيه غارقون” [5]، وهو ما أوقع المسرحيين في تونس في نوع من السقطة والسخافة الفنية التي سكنت عمق كينونتهم واستوطنت في روحهم العميقة حتى أصبح المدهش والمربك والخطير في العرض آخر مفردة يمكن التفكير فيها والاشتغال عليها وبالتالي فنحن لدينا مسرحيون دون أن يكون لدينا مسرح ولدينا مسرحيات دون أن يكون لدينا مشاريع مسرحية وهو ما جعل هذا الفن النبيل في تونس وخاصة في السنوات الأخيرة غير قادر على تحسس وملامسة الخطر الذي يسكن المشهد الذي نعيش فيه لا من جهة استدعاء المفاهيم السياسية والاجتماعية والثقافية والاشتغال عليها ومن ثمة تحويلها إلى مفاهيم جمالية يمكن للممارسة المسرحية الاستفادة منها على نحو ما ولا من جهة قراءة المشهد وما يحتويه من كوارث وأزمات بشكل صحيح وهذا ما يجعل من المسرح فعلا هشا داخل مجتمعنا حيث لم نشاهد منعطفات فرجوية تسير بالفن المسرحي نحو الجديد وتأخذ بيد الممارسة نحو المختلف بقدر ما أصبحنا نعيش على وقع الجامد وغير المتحرك والساكن الذي لا يقبل الحركة، فقد أصبحنا نشاهد أعمالا شبيهة بالأصنام التي من المفروض هدمها وتحريكها من مواقعها.

وبالرغم من هذا الموقف إلا أن الإنتاج المسرحي في تونس خاصة في السنوات الأخيرة قد عرف تطورا من حيث عدد العروض وعملية التوزيع، ولكن إميل سيوران ينبهنا في شذرة من كتابه “مثالب الولادة” بأنه “كلما أوغل الفن في طريق مسدود تكاثر الفنانون. تكف هذه المفارقة عن أن تكون كذلك ما أن نفكر في أن الفن، الآيل إلى الإنهاك، أصبح مستحيلا وسهلا في الوقت نفسه” [6]. وهو أمر يشدد على أن الطريق كلما كان ضيقا كلما ازدادت الحشود والجموع هذا ما يوحي حقيقة أننا أمام أزمة سدت فيها جميع المنافذ، وهو ما يدفعنا إلى استدعاء أطروحة أنطونيو نيغري الذي يعتبر في كتابة الفن والجموع أنه علينا الانخراط في لعبة فن الرائع هذا الفن الذي يقطع مع ثقافة السوق ويعطي للجموع الأهمية القصوى حيث يشكل من خلالها قوة اقتدار قادرة على تجاوز فن التبضيع والتشييء، فهذه الجموع لا تفكر إلا في خلق وابتكار المشترك بيننا وفي هذا الإطار يميز نيغري “بين الرجعيين والثوريين، بين دعاة البهرج الإستطيقي الذين يجملون الواقع بفن متواطئ مع النظام بتواصله معه أو بتأويله له أو بتمتعه بما يحدث، وبين من يتألمون من الفراغ أو من الكثافة الأنطولوجية للفراغ” [7]. يمكننا من خلال هذا القول اعتبار المسرحيين عندنا من دعاة البهرج الإستطيقي فنحن لا نراهم يتجادلون حول ضرورة التغيير بقدر ما أصبحوا يشكلون طوابير أمام لجان الدعم ومكاتب صرف الأموال وفي المقابل ترى الثوريين يصارعون الفراغ أملا في ملئه والسكن فيه وفي هذا الصدد يقول نيغري “إن الثوريين بمفردهم من يستطيعون ممارسة نقد العالم، ذاك أن لهم رباطا حقيقيا بالكينونة” [8]، وبالتالي فنحن في قاع البئر وفي قلب الأزمة، فهل علينا الدخول في هذه الأزمة أم علينا التراجع قليلا؟ هل علينا إقامة مسرح كارثي مثلما صرح بذلك الناقد حاتم التليلي محمودي؟ هل علينا طرق أبواب النقد المسرحي؟ ألم يضرب الطاعون أيضا جسد النقاد؟ ألا يمكن اعتبار النقد المسرحي جزءا من الأزمة التي تسكن قالبنا المسرحي؟ وبالتالي هل علينا العودة نحو “الذات” التي هجرناها منذ زمن بعيد والبحث فيها عن مصادر تمكننا من العودة نحو المسرح بنفس جديد؟ هل فقدنا شيئا ما يتعلق بذواتنا؟ ألا يمكن اعتبار المسرح تحريرا للذات حيثما وقع اعتقالها مثلما صرح بذلك جيل دولوز حول الأدب بوصفه تحريرا للحياة؟ هل يمكن للذات أن تتحرر خارج الأطر المسرحية؟

ثالثا: في ضرورة الهجرة نحو الذات

لوحة: شيماء جلال
لوحة: شيماء جلال

من الواضح إذن أن هناك أزمة ما قد حلت وسكنت داخل قالبنا المسرحي وهذه الأزمة وجدت اشتغالها وحضورها في نوعية وشكل العروض المسرحية التي كانت بعيدة عن البحث الحقيقي الذي عليها الانخراط فيه وعن المسارات والثنايا التي بها يمكن القبض على السحري والعجيب والغريب في العمل الفني، فالشعر مبثوث في باطن الأرض وعمقها وعلى المسرحي أن يكون عارفا بتقنيات وأساليب الحفير والتنقيب حتى يحصل على ما يجعل من عمله الفني قابلا للإقامة فوق سطوح الفن ومعادلاته الصعبة.

يدفعنا هذا القول إلى طرح مسألة “الهجرة” ولكن من أي فضاء نحو أي فضاء؟ وما معنى الهجرة؟ هل هي انتقال من وضع ما نحو وضع أخر؟ ما معنى أن نهاجر شيئا ما نحو شيء أخر؟ هل هي عملية هروب من واقع قاس نحو واقع أقل قسوة؟ أم أنها ترحال في العالم الشعري والسحري الذي يسكن بواطننا؟ هل يمكن اعتبار الهجرة هي هذا “الخارج” الذي يوجد فينا وفي تفاصيلنا؟ أم هي هذا “الداخل” الذي يتجاوز التفاصيل ليسكن الأعماق؟

يبدو أن المسرحيين في تونس يهاجرون في كل مرة بنفس الطريقة والأسلوب، وهو ما يوحي بأن فهم الهجرة عندهم لا يتجاوز السطحي من المفهوم وهو السفر نحو المهرجانات وخشبات المسارح خارج البلاد لتقديم عروضهم المسرحية، ولكن هذا المفهوم ينزل عندنا بوصفه تلك اللحظة الحسية والوجدانية والروحية التي يسافر فيها الإنسان نحو دواخله العميقة وبواطنه التي يسكنها الغريب والمدهش وبالتالي فهي عملية ترحال داخل ثنايا النفس حتى يستطيع الإنسان الكشف عمّا يوجد عنده من طاقات ومن سحر وشعر متكلس وجامد بفعل الاجتماعي والثقافي الذي حوّله إلى كتلة من الطبقات.

علينا إذن أن نهاجر هذه المرة بشكل مختلف نحو ذواتنا حتى نكتشف منها “المصادر” التي بها يمكن أن ننجو من هذه الأزمة والتي لا يعطيها المسرحيون أي اهتمام، ولكن ما معنى مصادر النفس أو منابع الذات؟ ماذا يسكن عمق الذات المسرحية؟ هل هي أشباح أيضا مثلها مثل الخشبات الفارغة؟ إن الحديث عن مصادر النفس يأخذنا مباشرة إلى مشكل كيفية التعاطي مع الذات في شكلها المسرحي والذي ظل خارجيا دون المجازفة بالدخول إلى الأعماق الباطنية أي نحو دواخل “الداخل” الذي يسكننا، علينا زيارة الأماكن المظلمة والذهاب إلى الأراضي الخشنة والجرداء والميتة حتى نستطيع إيقاظها وتحسس الشعري والجميل فيها، علينا بالهروب من هذه الخشبة والتوجه مباشرة نحو أنفسنا ومحاولة إزالة الطيات التي تشكلها، وعلى المسرح أن يقذف بكل الأشكال التي لم تستطع تثويره وتغييره في عرض البحر حتى يوفر فرصة نقوم فيها بتنقيته وتخليصه من الشوائب والأدران التي سكنت أعماقه. لقد تمت خيانة المسرح منذ أن تم تقنينه وتنظيمه وربطه ووضعه في إطار معين، فالعرض محكوم بضوابط صارمة لا يمكن تجاوزها وهذه المنظومة ترتبط بكل ما هو أخلاقي، سياسي، ثقافي، اجتماعي وفي هذه العملية يتم خنق مساحة الحرية التي تمثل لب الفعل المسرحي وجوهره وبالتالي على المسرحيين تجاوز هذه القوالب الجامدة والإفلات من قبضتها والهجرة منها نحو ما يجعل من الفن لعبا حرا للمخيلة مثله مثل الأدب كما صرح بذلك إيمانويل كانط وفي ذات السياق تؤكد أم الزين ين شيخة المسكيني على “أن الجميل والرائع جميعا يولدان من حرية المخيلة“[9]، وهو أمر ينبهنا إلى الارتباط الوثيق الذي يجمع بين الخيال والحرية وبين إبداع الجميل والرائع وحرية المخيلة. فكيف تتم عملية التجاوز والهجرة نحو المثير والرائع في علاقة بالمسرح؟

تتم عملية الهجرة هنا عبر بعدين أساسيين: بعد أول يتعلق بالهجرة نحو ذات الفنان وهنا علينا الإشارة إلى أن هذه العملية تتم في مرحلتين، مرحلة أولى يتم فيها الترحال من الداخل نحو الخارج أي من تلك الفضاءات الفارغة (المسارح، الخشبات، الشوارع…) نحو ذواتنا ومرحلة ثانية نهاجر فيها من الخارج نحو الداخل أي من ذواتنا (بوصفها خارجا) نحو البواطن التي تسكننا (بوصفها داخلا)، وهو ما يُمَكّنُ الفنان المسرحي من قراءة المشهد بشكل مختلف عبر عملية الإصغاء اللامتناهي لتفاصيل الوجود وأصوات الواقع التي صارت عالية أكثر من أيّ وقت مضى وهذا ما يسمح بإقامة نوع من التجربة الذاتية والمشتركة في آن بين الذات وعينها كأخر على حد تعبير بول ريكور، فالترحال داخل عوالمنا ينبهنا دائما إلى ما يوجد في المجتمع من ظواهر وتفاصيل يمكن استدعاؤها لحقلنا المسرحي وتشغليها بشكل جديد ومختلف، فإذا كنا نعيش في الكارثة فعلينا إقامة مسرح كارثي لا يلتزم بأيّ ترتيب أو هيكلة تنظيمية، مسرح على شاكلة الأعاصير التي تنسف كل ما يوجد أمامها لتقوم بعملية تجزئة وتفتيت لكل الموجودات على نحو “ذرى” ليصبح الانطلاق من الجزء في ترميم الكل أمرا طبيعيا وبالتالي فإذا أردنا ترميم بيتنا المسرحي علينا بالهجرة نحو ذواتنا وترميمها بوصفها جزءا من الكل (المسرح).

والبعد الثاني يتعلق بالهجرة نحو ذات المسرح عينه، والقيام بعملية تثويره وتغييره وترتيب بيته من جديد، فتغيير واقع الممارسة المسرحية لا يتم إلى عبر البحث عن أشكال جمالية جديدة تنسف الموجود وتفتح الطريق نحو ممارسة إبداعية نابعة من ذواتنا ومن عمقنا ومن تلك الطاقات التي تسكننا، فما يحتويه الواقع من كوارث وأزمات ضربت كل المفاصل الحيوية للمجتمع يمكن للمسرحي تشغيلها من جديد وإقامة شكل فرجوي وجمالي يتماشى مع الدم والرعب الذي نعيش فيه أي إقامة قالب جمالي فيه من الموت ما يسمح له بالحياة فوق الخشبات بوصفها المكان القصي الذي يقطنه المسرحي ويسكن تضاريسه، فالتاريخ يعلمنا دوما “أن الإنسانية كلما انحدرت نحو الهاوية تمكنت من التحديق جيدا بالظلام، وأن الشعوب تتقن دوما اختراع أشكال جديدة من الكينونة كلما استولى على وجودها الخراب” [10]. علينا إذن أن نهاجر نحو الكارثة التي استوطنت في أرضنا وذلك بالتحديق جيدا في الفراغ الذي يسكن واقعنا حتى نستطيع تطبيب الجراح التي ضربت كينونتنا المسرحية وحتى نبتعد عن القراءة السطحية للواقع الذي أصبح على شاكلة الشذرات لنقدمه بعيدا عن  صورة الخطاب المنمق الذي لا يوجد فيه غير البهرج الإستطيقي الممتلئ بالفراغ.

لا يمكن تشغيل الواقع واستنطاقه دون القطع مع سردياته الصغرى التي يشكلها مجموعة من الأفراد لغاية وهدف ما، وهو ما يجب على المسرحيين عندنا الانخراط فيه وبلا هوادة فقد بات من الضروري تجاوز القوانين والتشريعات البالية التي لم تأت إلا لتقيد من فعل المسرح القائم على الحرية المطلقة ومفهوم الحرية هنا يجب أن نفهمه بوصفه تلك اللحظة التي نقطع فيها مع جميع السلط والتنظيمات التي كبلت عقولنا وأجسادنا وجعلت من المسرح فعلا غير قادر على حراسة الهشاشة التي تسكن كينونتنا، وبالتالي لا يجب الدخول في السلام مع أي سلطة (سياسية، اجتماعية، ثقافية، أخلاقية) حتى يستطيع المسرح التحليق في أفق الإبداع خارج أطر التنظيمات التقليدية ليعود إلى بيته الأصلي الذي لا تسكنه غير الحرية والإبداع والخلق، وبالتالي علينا بهجرة هذه المسطحات والقوالب الجامدة نحو ما به يكون المسرح فعلا نبيلا، حرا، منفتحا…

هذا الترحال نحو الذات في بعديها الإنساني والمسرحي (ذات المسرحي بوصفه إنسانا وذات المسرح نفسه) في عمقه لا يكون منفصلا عن الممارسة بقدر ما هو مرتبط بها وساكن فيها، علينا إذن أن نسكن المسرح ونحن نهاجر منه في نفس الوقت وبالتالي على المسرحيين أن يهاجروا من هذا الفضاء نحو ذواتهم الحرة والمنفتحة والمتبصرة التي لا تسكن الخارج بل تستوطن بواطنهم الداخلية العميقة حتى يتم من خلالها تجاوز الموجود مسرحيا للقبض والإمساك على ما هو منشود وجديد ومختلف وبالتالي فالهجرة نحو الذات مسرحيا في عمقها هي عملية ترحال من المسرح نحو المسرح ولكن الاختلاف هنا هو الطريق الذي نسلكه والثنايا التي نمشي فيها والأسلحة التي نأخذها معنا لحظة الهروب لأنفسنا، وفي هذا السياق نطرح السؤال التالي كيف تمكن مقاربة هذه الهجرة في علاقة بفن التمثيل؟ هل علينا الهجرة نحو الشخصية المسرحية أم الهجرة نحو ذواتنا؟

يرغب الممثل دائما في إخراج هذا السحري الذي يسكنه، ولكن هناك دائما مشكل أساسي يعترضه وهو الأداء الخارجي/النفسي/النمطي/المركب… الذي يتسم ببعض الحركات والأصوات التي يكون فيها المعنى سطحيا وغير قابل لأن يتشكل بدوره أثرا مفتوحا وهذا نابع من تصورات إخراجية تكشف عن تسطيح في التعامل مع جسد الممثل، كما أنه عائد أيضا إلى الممثل الذي يهاجر مباشرة نحو الشخصية دون أيّ إدراك أو وعي بذاته فهو يسلم نفسه لها منذ البداية لتسكنه ويسكنها في تجاوز صارخ لذاك الإنسان الذي بداخله وهو القادر على خلخلة معارف الممثل السابقة وهدمها ومن ثمة إعادة القيام بعملية البناء، فالفن التمثيلي قائم على عملية تشكيك ومساءلة مستمرة لما هو ثابت وراسخ من قناعات، وبالتالي وحتى لا يتحول الممثل في تونس إلى “ممثل – مومس” يبيع جسده بثمن زهيد عليه بالدخول في عوالمه الذاتية والهجرة هناك حتى يتحول إلى كائن يهب ذاته وجسده للجمهور دون أن يدخل في عملية التبضيع والبيع والشراء ليستطيع بذلك أن يستبدل القبيح بالجميل ويحول المريع إلى رائع، وكل هذا راجع إلى الجسد الذي لا تسكنه إلا الطاقات الحية والحيوية التي تحرر الأداء وتسافر به نحو أماكن مجهولة وغير معروفة، وهذه الفضاءات لا يمكن معرفتها إلا عبر التعامل مع الجسد بوصفه أيضا فضاء ومكانا يحتوي ذاكرتنا، فالجسد يمثل لنا الذاكرة المادية والحية وعليه فإنه من المهم للممثل العودة إلى الذات والذاكرة المحفورة في الجسد قبل مواجهة الشخصية المسرحية، حتى تكون كل الأصوات والحركات التي ينتجها هذا الممثل نابعة من عمق أعماق ذاته وخارجة من صلبه، وهذه العملية في الحقيقة إنما تبحث عن “الآخر الذي فينا، في ضميرنا الإنساني والذي له وجود في طيات كينونتنا البشرية، أي قبول النفس والمحاورة معها من دون التستر وراء الأقنعة الثقافية أو الاجتماعية” [11]، أي إقامة لقاء حر ومفتوح مع “الجسد – الآخر” الذي يقيم فينا ويسكن ذاتنا العميقة وهذا يتطلب جهدا كبيرا من الممثل حتى يستطيع ترويض هذا الآخر من خلال إطلاق العنان لجسده للتعبير حتى يستطيع تحرير أدائه ومن ثمة الإطلالة به على مدرات الرعب.

 

__________________

 قائمة المراجع

• J.Rousseau, lettre à d’Alembert, Présentation par Marc Buffat, Édition Flammarion, paris, 2003, p66

• Ibid, p67.

• جان جاك روسو، مقالات في العلوم والفنون في الاقتصاد السياسي في أصل اللغات، ترجمة جلال الدين سعيد، محمد محجوب، المركز الوطني للترجمة بتونس، دار سيناترا للنشر، الطبعة الأولى 2010، ص23.

• أم الزين بن شيخة المسكيني، مقال الفن والسياسة طوني نيغري نموذجا، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، نشر هذا المقال بتاريخ 17 أفريل 2017، ص8.

• المرجع نفسه.

• إميل سيوران، مثالب الولادة، ترجمة أدم فتحي، منشورات دار الجمل، الطبعة الأولى 2015، ص65.

• أم الزين بن شيخة المسكيني، الفن والسياسة طوني نيغري نموذجا، مرجع مذكور، ص 9.

• Antonio Negri, Art et multitude, neuf lettres sur l’art suivies de Métamorphoses, traduit de l’Italien par Judith Revel, Nicolas Guilhot, Xavier Leconte et Nicole Sels, Paris, Édition mille et une nuit, 2009, p42.

• أم الزين بن شيخة المسكيني، الفن يخرج عن طوره أو جماليات الرائع من كانط إلى جاك دريدا، دار المعرفة للنشر، الطبعة الأولى 2010، ص53.

• أم الزين بن شيخة المسكيني، الفن والمقدس نحو انتماء جمالي إلى العالم، مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع، لبنان بيروت، الطبعة الأولى 2020، ص 83.

• قاسم بياتلي، غروتوفسكي بين الفعل العضوي والطقوسية، منشورات الهيئة العامة المصرية للكتاب، الطبعة الأولى 2012، ص27.

الهوامش:

[1] J. J. Rousseau, lettre à d’Alembert, Présentation par Marc Buffat, Édition Flammarion, paris, 2003, p66.

[2] Ibid, p67.

[3] جان جاك روسو، مقالات في العلوم والفنون في الاقتصاد السياسي في أصل اللغات، ترجمة جلال الدين سعيد، محمد محجوب، المركز الوطني للترجمة بتونس، دار سيناترا للنشر، الطبعة الأولى 2010، ص23.

[4] أم الزين بن شيخة المسكيني، مقال الفن والسياسة طوني نيغري نموذجا، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، نشر بتاريخ 17 أفريل 2017، ص 8. (نشر هذا المقال أيضا في مجلة “يتفكرون” في العدد السادس).

[5] المرجع نفسه، ص 8.

[6] إميل سيوران، مثالب الولادة، ترجمة أدم فتحي، منشورات دار الجمل، الطبعة الأولى 2015، ص 65.

[7] أم الزين بن شيخة المسكيني، الفن والسياسة طوني نيغري نموذجا، مرجع مذكور، ص 9.

[8] Antonio Negri, Art et multitude, neuf lettres sur l’art suivies de Métamorphoses, traduit de l’Italien par Judith Revel,

Nicolas Guilhot, Xavier Leconte et Nicole Sels, Paris, édition mille et une nuit, 2009, p42. [9] أم الزين بن شيخة المسكيني، الفن يخرج عن طوره أو جماليات الرائع من كانط إلى جاك دريدا، دار المعرفة للنشر، الطبعة الأولى 2010، ص53.

[10] أم الزين بن شيخة المسكيني، الفن والمقدس نحو انتماء جمالي إلى العالم، مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع، لبنان بيروت، الطبعة الأولى 2020، ص 83

[11]  قاسم بياتلي، غروتوفسكي بين الفعل العضوي والطقوسية، منشورات الهيئة العامة المصرية للكتاب، الطبعة الأولى 2012، ص27.

 

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.