أسفـار استوائية

رحلات في قارة أفريقيا
الجمعة 2022/07/01

بحـــر دار

كلمتان بالعربية الفصحى تمثلان اسما لأجمل مدن إثيوبيا على إطلاقها، مدينة ترقد عند مخرج النيل الأزرق ويسمونه أباي وهو يتجه جنوبا، من هنا ينبع النيل الأزرق، المدينة جيدة التخطيط شوارعها واسعة ونظيفة تتخللها جزر مشجرة بالنخيليات، على حوافها زهور وورود ذات ألوان بهيجة تسر الناظرين وأريج فواح يزري بمنتجات فلير دامور.

خطط الإثيوبيون بعناية ليرفعوا شأن بحر دار، مطار صغير لكنه يفي بالغرض أكثر من رحلة إلى العاصمة يوميا، فنادق الخمس نجوم تتناثر كالثريات عند حواف البحيرة، حين تتمازج معطيات التخطيط مع الدربة وسخاء الطبيعة تحدث النهضة.

تانا، البحيرة التي أنجبت بحر دار تبلغ مساحتها 832 ميلا مربعا، أقصى طولها 52 ميلا، أقصى عرضها 41 ميلا وأقصى عمقها 16 مترا، تقع على ارتفاع 5866 قدم فوق سطح البحر ماؤها عذب فرات رائق كالبلور تغذيها عدة روافد أشهرها ريب وجومارا.

رغم أن المدينة في حضن البحيرة إلا أن المطر يغسلها كل يوم على مدى تسعة أشهر مما يكسبها كساء أخضر طوال العام، الشجر فيها كثيف ظلاله متراكبة ورغم الارتفاع الذي يطوي المسافة تجاه الشمس إلا أن الظلام تحسه قريبا منك، تتفيأ ظل شجرة فتجد الظل قطعة من الظلام.

بحر دار مدينة تتجلى فيها ثقافة الأمهرا حرّاس الكنيسة الأرثوذكسية في نسختها غير المنقحة، الرهبان وطلاب علوم اللاهوت في زيهم القطني والقفطان والصليب الذي يمنحون به البركة لطالبيها يجوسون خلال الطرقات، للنساء زيّ لافت للنظر الفستان ذي اللون البنفسجي، في المدينة بحيرتان، تانا منبع النيل الأزرق وبحيرة البنفسج زي النساء، في المناسبات يرتدون رجالا ونساء زيا قطنيا من النسيج المحلي، يشبه الزي الباكستاني مكون من سروال طويل وجلباب ينتهي تحت الركبتين مع غطاء الرأس وكلها من نسيج واحد يضفي عليهم مهابة، أما النساء فيبالغن في تزيين حواشيه وأطرافه بألوان العلم الإثيوبي ويتوسط الصدر الصليب عند النصارى، يلبسونه في الأعياد وما أكثرها وفي الأفراح والمآتم قرينا للعلم الذي يحرصون عليه وعلى إعلاء شأنه وتبجيله.

في زي النساء سواء كان قطرة من بحر البنفسج أو القطني الذي يسمونه زوريا تتخفى دفقة من الجمال الذي أغدقه الخالق بلا حساب، السمرة العسلية بدرجاتها المتفاوتة، من لون عسل السنط إلى ألوان عسل زهرة الشمس والسدر تلك بشرتهن، أما العيون الدعجاء الحوراء الكحيلة الواسعة فهي مهالك، يغني محمد وردي من كلمات التجاني سعيد:

عيونك زي سحابة صيف تجافي بلاد وتسقي بلاد

 وزيّ فرحا غشاني وفات وعاد عم البلد أعياد

وزي فرح الغريب العاد

بدون عينيك بصبح زول بدون ذكرى وبدون ميلاد.

من لم تسكره عيونهن فهو دون ذكرى ودون ميلاد. لفت نظري تنوع تصفيفات الشعر، سألت صديقي أزازو، أجابني ضاحكا: تلك شفرة نساء الأمهرا، من ترغب في الزواج تصفف شعرها بطريقة معينة فتهوي إليها أفئدة الرجال كما يهوي الفراش على ورد الحديقة، الأرملة تصفف شعرها بطريقة تجعل من يتتبعها يبطئ خطاه ريثما تغير تصفيفتها، المتزوجة تصفف شعرها بطريقة تبعد عنها طمع الطامعين، أخريات يصففن شعرهن بحيث يقضين كل ليلة في حضن رجل. ضحكنا ضحكة طفلين معا.

الخدمة في الفنادق تبالغ في الاحتفاء بالزائر، بعض العاملين سبق لهم العمل في دبي أو بيروت، يتفننون في تقديم الوجبات اللبنانية والخليجية، بحكم وفرة السمك فإن المائدة عامرة بأطباق السمك توصي النادل بالطريقة التي تريده بها فيأتيك به كما جاء صاحب سليمان بعرش بلقيس، لئن ساقنا الحنين إلى الخرطوم وموائدها، سنجد مطعما يقدم الفول والفلافل، نغادر البلاد هربا وحين نتخطى الحدود نشتهيها ونشتهي فولها وفلافلها وعدسها وبصلها.

رتبنا رحلة في قارب فوق مياه البحيرة، قاربت حمولته فوق الأربعين من البشر، ماكينته ياماها تهدر في مكان يعمه الهدوء، عشرات القوارب الصغيرة محملة بالخضر والحطب تتجه صوب المدينة، ركابها يحيوننا: دانانا جو، اندمنا جو، كان الرد بلغات عديدة منها العربية والعبرية، الإنجليزية، الفرنسية والسواحيلية، تتناثر في عمق البحيرة بعض الجزر، فيها كنائس وأديرة، قسس رهبان، يقصدهم البعض تبركا، بعض الملوك السابقين تم الاحتفاظ برفاتهم ونعوشهم في بعض الجزر، سمعت من قبل أن تابوت موسى مخفيّ في مكان ما في إحدى الجزر وأن بعض الطوائف اليهودية تزوره تمتح من بركاته.

جلسنا نتناول إفطارنا، سمك وإنجيرا وحساء العدس، خمنت أن الذين بجواري يتحدثون العبرية، أرخيت سمعي، سألوني بالإنجليزية عن وطني لمَ أجبت السودان ضحكوا ضحكا هستيريا، حادثوني بعربية فصيحة لم أسمعها من بني يعرب وقحطان، تحدثوا بلغتهم فقل حديثهم معي، أحدهم قال إنهم أسرة جامعية في كلية الآداب جامعة تل أبيب تدرس تاريخ وجغرافيا إثيوبيا وأن زيارتهم تكتمل بزيارة السودان ولكن لا يجدون لذلك سبيلا بسبب العداء بين البلدين.

طفا على السطح قطيع من أفراس النهر، يبدو أن بعضها حديث السن قليل التجربة حاول الاقتراب من القوارب التي تحمل الحطب تعامل معه ركابها فابتعد، عيونه تابعت القوارب وهي تمخر عباب الماء مخلفة دوائر تتسع وتتسع وتتسع حتى تتلاشى وشيء من الضجيج يكسر الصمت المريب.

عدنا إلى الفندق.

 وجبة السمك النيلي الطازج مع الماء القراح وجمال يحيط بك يسير على سوق وقدمين يجعلك تتمنى قضاء بقية العمر في هذي الديار.

 

الزهرة الجديدة 1

رحلة

حين أعلن الكابتن ألمايو أننا على مشارف الهبوط في مطار بولي، مارست هوايتي، ألصقت وجهي بزجاج النافذة، لم يكن ثمة شيء أراه، فالسحاب المتراكم تحالف مع ظلمة الليل البهيم، عدت وأسندت رأسي للمقعد انتظارا للهبوط، السفر بالإثيوبية يريحني ويكسبني سكينة، فهي شركة طيران بلا حوادث.

هبطت الطائرة والمطر والبرد يتحالفان نكاية بي، طاقم الإثيوبية ذوات الجمال الطاغي والبسمة التي تشع في ظلمات الغربة والنوى، يودّعننا متمنيات لنا رحلة أخرى مع الإثيوبية، أتمتم في سري ليت وليت ثم ليت، مربط الطائرة قريب جدا لمدخل صالات المطار، أكملت إجراءاتي الهجرية وخرجت، أصدقائي ميرغني والريح كانوا في انتظارنا، تهادت بنا السيارة إلي حي بولي، دقائق وكنا في السكن، الحي الذي يشارك المطار في الاسم، حي فخيم بيوته من طابقين أو ثلاثة تحيطها الحدائق الغناء ذات الشذى العبير، الوقت قبل شروق الشمس حسب التوقيت، الحي في حالة سكون كامل، لا شيء يتحرك سوانا، عند وصولنا تناولت كمية من اللبن الساخن بالجنزبيل والعسل وأحكمت الغطاء ونمت.

صحوت عند الظهيرة، تناولت وجبة خفيفة وشربت الكثير من الشاي، فالبرد ينخر في العظام، أنا والبرد بيننا عداوة لا تنقضي، جلست وحيدا أستمع للمغني ذائع الصيت تلهون قسسا ومنليك بأصواته التي تدغدغ أوتار الفؤاد.

 في المساء خرجنا الى مطعم سانغام، الطعام الهندي ذي الطعم الحراق والنكهة المميزة، أطباق الدجاج بالكاري وخبز التميس برياني، الأرز واللاسي بالملح مرة وبالسكر مرة، مع أكواب الأمبو وها والمالتينا خرجنا، شارع بولي هادئ، يخلو من المارة، فقط بضع سيارات تحمل دوريات العساكر، بضع رجال بينهم بعض النساء المجندات تسير سيارتهم متمهلة، عيونهم تجوس خلال الطرقات وأيديهم على الزناد، نساء في المنعطفات يعرضن الرفقة في الليل القارس، يتسابقن لأيّ عربة تتوقف أو تبطئ سيرها، ربما اتخذت إحداهن مقعدها جوار السائق الذي ينطلق كأنما يسعى إلى حتفه.

الصباح الذي تشرق شمسه يغريني بالتسكع، أخرج إلى ميدان مسكل، أجالس الناس وأخالطهم، تلك أسرع وسيلة لاكتساب اللغة، فـي أسبوع تعلمت حوالي مائة كلمة كفلـت لي معرفـة التحية والسؤال عن الطريق والوقت وطلب الطعام والشراب والشكر مع الانحناءة الشهيرة.

ميدان مسكل يسوقني إلى استاد أديس أبابا، مواقف الحافلات، الوراقين، باعة التحف والتذكارات، اللصوص، القوادين، الباحثات عن الرفقة، وآخرين لا أدري في أيّ فئة أضعهم، أجلس أحتسي الشاي كوبا بعد كوب، أنعطف يمينا للمسرح القومي، تحيطه التماثيل، تماثيل الأسود والملوك العظماء، تمثال أسد ترتفع قاعدته أربعة أمتار وهو فوقها لأربعة أمتار أخرى، الإثيوبيون يحتفون بالأسد ويمجدونه، إذا وصفك أحدهم بقوله أمبسا ويعني الأسد فقد جمع لك المجد من أطرافه.

أسير نحو أديس القديمة، النقطة التي نشأت عندها المدينة، أتملى الموقع الذي يناسب عاصمة، القصور الملكية، قصر الإمبراطور منليك الثاني الذي باذخ المعمار، بضع أفدنة يحيط بها سور تحرسه أبراج وتحرس الأبراج تماثيل الأسود. قصر هيلا سيلاسي ذو البوابات الأسطورية، الكل يرفل في خضرة زاهية وعبير فواح، مع الطقس المعتدل فتلك قطعة من الجنان.

أواصل سيري إلى أرات كيلو، حيث كنيسة الثالوث المقدس، هنا مركز المسيحية الأرثوذوكسية في أفريقيا، وصلت المسيحية إثيوبيا في القرن الرابع الميلادي ومن وقتها أصبحت حامية حمى المسيحية في نسختها الشرقية، لم تبدل ولم تنقح، أعرج على نصب الشهداء الباذخ. سدس كيلو، حي الفنانين والمثقفين والشعراء، جامعة أديس أبابا، طلابها وطالباتها يملأون الشارع، المقاصف بالمرح والحبور، فالقوم مبتهجون لا يلقون للحياة بالا.

أغشى المتحف القومي، يحوي إرثا عمره آلاف السنين، رفاة الجدة لوسى، أقدم رفاة بشرية في شرق أفريقيا، يقولون عمرها يتجاوز 120 ألف عام، رغم قصرها البائن إلا أن قلبي خفق حين رأيتها، قد أكون من ورثة جيناتها. في العصاري نصعد الى جبل أنطوطو، الطقس البديع والقهوة الحبشية مع الوجوه المليحة الباسمة، حين تكون السماء صافية، من ههنا أقرأ المدينة من عل كما يقرأ الغجر الكف.

تزدحم المدينة بالنصب والتماثيل، أسود وملوك ومحاربون على ظهور الخيل، نصب شهداء الحرب مع الإيطاليين، نصب يمجد الثورة الكورية، نصب يمجد الثورة الكوبية، نصب يمجد أفريقيا، أنصاب بلا حساب.

يقال إن إثيوبيا هي متحف العالم من حيث تعدد إثنياتها وبالتالي لغاتها وأزيائها وسحنات أهلها، كل ذلك أراه في لوحة واحدة متحركة تموج بالاختلاف والتنوع. كل الإثنيات تتحرك داخل المدينة تحمل خصائصها في الزي والزينة وبالطبع في الألوان والسحنات والقوام الذي يتباين بين التقراي، ذوي القامة القصيرة والحجم الضئيل والأورومو ذوي الأحجام المتوسطة والنوير النيليون ذوي القوام الفارع والبشرة الداكنة.

 رغم أن أديس أبابا تقع في عمق إقليم الأورومو إلا أن سنوات حكم الأمهرا قد طبعت لغتها بطابع اللغة الأمهرية، لغة الحكم والسلطة والصولجان.

حين أحس الإعياء يتسلل إلى مفاصلي، أجلس لمقصف أتناول المالتينا والشاي ثم أقفل عائدا.

 

الزهرة الجديدة 2

رحلة

الزهرة الجديدة، زرتها مرات ومرات، مرة سائحا يجوس يبحث ما يسترعي نظره، ومرة ديبلوماسيا يحرس مصالح بلده ومرة موظفا في الاتحاد الأفريقي يتخير الكلمات والحروف ما يلائم منها وما ينبو لتخرج كلمات مداولات وقرارات الرؤساء متسقة بغير نشاز. في كل زيارة تبدو لك أديس أبابا (ومعناها الزهرة الجديدة) وجهاً تتملاه فتعجب من قدرتها على مواءمة حالك وهي هي. في صباي رأيتها طفلة ضائعة وسط الزحام، ربما كان الجو المكفهر بسبب السياسة والهواجس المتبادلة والظنون، يكون الحذر. متعتي كانت في الزيارة الأخيرة، بضعة أشهر وبضعة أيام. البسمة بصمة لكل الناس يرحبون بالغريب فلا يحس غربة لذلك فإن كثيرا من الناس قد تركوا الأهل والوطن واستقروا مقيمين بين ظهراني أهلها، المودة طبع في الناس، في مرة جلست وحيدا أحاول تناول وجبة والشوق والشجون تعصف بي، فتوقفت عن الأكل برهة، جاءت حسناء من العاملات في المطعم وحاولت الجلوس في حجري وقالت: الناس تأتي إلى الزهرة الجديدة لتنسى الهموم والأحزان فلماذا الحزن والهم؟ افرح وابتسم تر الدنيا حولك باسمة وما دريت أيّ الشجون أكابد.

الزهرة الجديدة ليلها يضج بالموسيقى والرقص الذي يجتذب الأنظار وبحكم الجوار وقرابة الدم فللغناء السوداني مكان وأيّ مكان، ما أن يروا سودانيا بين الحضور حتى يدوزنون أوتارهم وطبولهم وتصدح الحناجر التي تحاكي مزامير داوود غناء وتهتز صدروهن وأعطافهن طربا بغناء أهل السودان من لدن عثمان حسين إلى ندى القلعة مرورا بسيد خليفة ومحمد وردي، وإذا أردت أن تملك جنان إثيوبي فامدح تلهون قسسا أو ترنم بلحن لفنان المرحلة، تيدي آفرو. متفردون في كل شيء وكأن ليس بينهم وبقية شعوب الدنيا آصرة. فأبجديتهم لا يعرف التعامل بها سواهم وبحكم قراباتهم بالأسرة السامية فلغتهم قريبة من اللغة العربية ولكن حروفها أقرب إلى العبرية، يؤرخون بالسنة الإثيوبية وتبدأ في شهر سبتمبر من كل عام، وسنتهم ثلاثة عشر شهرا، كل شهر ثلاثون يوما، ثم خمسة أيام يسمونها النسيء، وهي ذات السنة القبطية والتي تخلى أهلها عنها في وادي النيل وبقيت حية في حياة الشعب الإثيوبي، لذلك لا تعجب حين تقرأ عن إثيوبيا التي يدللونها بقولهم: ثلاثة عشر شهرا من الشمس المشرقة، وصدقوا. توقيت يومهم يبدأ مع شروق الشمس، فالسابعة صباحا تعني عندهم الواحدة وتغيب الشمس حوالي الثانية عشرة منتصف اليوم، القوم شديدو الإيمان عميقو التدين فهم متمسكون بالمسيحية الأرثوذكسية في نسختها غير المنقحة، وتنتشر الكنائس في قراهم ونجوعهم وعند مرورهم حذاء الكنيسة يرسمون الصليب فوق صدورهم ويرتلون من إنجيلهم سطورا بينات، فلا غرو إن كانت أولى هجرات المسلمين لأرض الحبشة، ولاسم الحبشة آصرة بنا، فدولتنا القديمة كوش واسمنا القديم إثيوبيا الذي اتخذه الإمبراطور هيلا سيلاسي اسما لبلده والحبشة الاسم القديم معنى واحد، وذوو الوجوه السمراء، والسودان كذلك، وقد حفظوا لنا ودا مقيما يتجلى في احتفائهم بالسودانيين، فلكل سلعة ثلاثة أسعار، فلأهل البلاد سعر وللغريب سعر سواه وللسوداني متى تعرفوا عليه سعر ينبئ عن مودة أصيلة وحنين للقرابة وأواصر الدم والرحم القديمة.

ذاكرة المدينة تحدثك عن الإمبراطور العظيم منليك الثاني وزوجته طايطو التي اقترحت المكان واختارت الاسم، وأنه هو الذي قرر نقل العاصمة من قندار إلى هذا الموقع الفريد باقتراح من زوجته، تجيل بصرك في أنحاء المدينة فيعظم في عينيك هذا الاختيار العبقري.

في أديس أبابا، الطقس معتدل أقرب للبرودة نهارا، وبارد بارد في الليل، مما يجعل نهاراتها قبلة للسياح القادمين من بلاد الصقيع والجليد، أما نحن حيث تبلغ درجات الحرارة نصف درجة الغليان أو تزيد فإن الزهرة الجديدة باب على الفردوس، لذلك يؤمّها العرسان لحفر ذكرياتها ضمن أيام شهر العسل.

صديقي هايلي، دعاني لمائدة عامرة، أبديت إعجابي بالطعام وتنوعه، قال ضاحكا: في أي مكان في الدنيا إذا التقى ثلاثة من الإثيوبيين، سيعلن أحدهم نفسه قسيسا، ويفتح الثاني مطعما، ويذهب الثالث يبحث عن السودانيين. ضحكت وضحكوا، فحديثه عن تجربة.

وللطعام عند القوم تنوع وطعم ونكهة، وكغيره من مفردات الحياة لا يشبه طعام أيّ بلد آخر، تعقب الطعام القهوة، البن الحبشي ذاع صيته منذ أيام الإمبراطورية العثمانية. للقهوة طقوس وأيّ طقوس، تتولى ربة الدار صناعتها بإتقان وحب كبيرين، يتناولونها بفناجين الخزف ذات الرسوم البديعة ويولون الضيف أولوية لحضور تحميص البن على الجمر واستنشاق الدخان المتصاعد وهو أول الكيف، ربما ناولوك قطعة من الخبز(حمباشا) يصنعونه في البيوت مشبعا بالسمن والسكر.

الفقر يجعل الحياة عابسة متجهمة ولكن القوم يخترعون من الأعياد ما يهزم قسوة الحياة، فلهم من الأعياد ما يزيد على أيّ قوم سواهم إذ يحتفلون بما يقرب من خمسين مناسبة في العام الواحد، وللقوم احتفاء وأيّ احتفاء بعلم بلادهم، يوقّرونه حد التقديس، في سالف الأيام كانت الحياة تتجمد عند مطلع الشمس وعند الغروب، إذ يقترن ذلك برفع العلم صباحا وطيه مساء، ويرفع العلم في باحة الكنائس وإلى جوار مقاعد الزوجين في حفلات الزفاف، وقد تفننوا في تسويقه، إذ صنعوا من ألوانه أغطية رأس وأحزمة وأسورة يرتديها الشباب من الجنسين وقد تجاوز ذلك الحدود إلى أماكن نائية في طول القارة الأفريقية وعرضها.

خلال تجوالي يسترعي انتباهي قوم فارعو القوام داكنو السمرة، يغطون رؤوسهم بقبعات من الصوف في ألوان العلم، تتدلى شعورهم مضفورة إلى الكتفين أو أدنى، أعرف أنهم الراس تافيريانز، قوم جاؤوا من جمايكا، يؤلهون الإمبراطور هيلا سيلاسي، ويتبعون خطى مغني الريقي العظيم بوب مارلي، هم أحفاد عبيد من أفريقيا، تحرروا وبدأوا رحلة بحث عن جذورهم، وجدوا إثيوبيا تحمل صفة الأرض التي بها يحلمون وهيلاسيلاسي الأب الذي يضمهم لصدره الحاني، إختاروا إثيوبيا أرضا لميعادهم فعادوا إليها، سكنوا بعيدا في مدينة أنشأوها وأسموها شاشمني، يربون الأغنام والدجاج يبيعون نتاجهما ويغزلون صوف الغنم في ألوان العلم الإثيوبي، يدخنون نوعا من المريجوانا عرف باسم مدينتهم الفاضلة، شاشمندي، تجهد سلطات الدول المجاورة في مكافحة انتقاله لبلادها ولكنه يجد طريقه ويعبر الحدود. أخذوا اسمهم من اسم الإمبراطور حين كان أميراً يحمل اسم راس تفرا، راس عندهم تعني الأمير وانتسبوا إليه بالإنجليزية، لغة أهل جمايكا، لهيلا سيلاسي وجمايكا قصة.

ضربت موجة من الجفاف ربوع جمايكا، الدولة الكاريبية التي يقطنها أحفاد الرقيق الأفريقي لعدة أعوام، زار الإمبراطور جمايكا بعد زيارة الأمم المتحدة وألقى خطابا دعا فيه لتحرير القارة السمراء، مع بداية زيارته هطل المطر، واستمر يهطل ويهطل ويهطل فخرج الناس من بيوتهم مرحبين بالضيف الذي رفعوه فوق مرتبة الأب، أب الشعوب الأفريقية في الشتات.

ماركاتو، أكبر سوق شعبي في أفريقيا، متاجر ضيقة تحوي أكداسا من البضائع، فيه ما لا يخطر على البال من البضائع التي تجد طريقها للبلاد عبر تجارة الشنطة التي يبرعون فيها وهو مزار مهم لكل من يرتاد الزهرة الجديدة، ويبرعون كذلك في المساومة وفي عرض ما لديهم من سلع ويلحون ويلححن عليك أن تشتري شيئا يكون تذكاراً للزهرة الجديدة، وهل تحاج الزهرة إلى تذكار؟

 

إلى مويالي

رحلة

الطريق بين إثيوبيا وكينيا يغري بالسفر. أكملنا التجهيزات وانطلقنا مع شروق الشمس.

فقراء المدينة ينامون مبكّرا ويصحون مبكّرا، يسيرون متلاصقين وربما متعانقين بين أحياء الصفيح البائسة ووسط المدينة حيث السعي لكسب العيش العصي، البرد القارس يفرض الثياب الثقيلة والمطر الذي يهمي بلا ميعاد يتطلب الاحتياط بالشمسية. الطريق خالية من السيارات الخاصة، فقط الحافلات الصغيرة وشاحنات نصف النقل التي صنعوا لها صندوقا يتكدّس في جوفه البشر، تحمل فوق الصندوق أحمالا من الخضار والفاكهة.

صبية المدارس يحملون كراريسهم وكتبهم، يلبسون كيفما اتفق، بعضهم حليقو الرؤوس كعساكر المارينز، أجسادهم ضئيلة تنبئ عن خلل في التغذية.

ولجنا الريف.

مزارع البن والفاكهة والقات تحف الطريق فلا يبقى سوى الأسفلت الأسود يخترق الخضرة البديعة، قطعان الماشية يرعاها أطفال ربما في السادسة أو السابعة، يتقون المطر بجلد مفرود على عصا. الأبقار حجمها صغير، ضرعها كذلك.

انكشفت السماء عن شمس وضياء، حين تشمس إثيوبيا فهي من أبدع بلاد الله طقسا وهواء، الحرارة معتدلة في حدود العشرين والهواء مغسول بالمطر، لافتة كبيرة باللغتين الأمهرية والإنجليزية: شاشمني، آه شاشمني، المدينة التي أسسها أتباع المغني الجمايكي الراحل بوب مارلي. هم من أصول أفريقية مختلفة، قضوا فترة رقيقا في أميركا وجزر الكاريبي، انتابتهم صحوة الهوية فوجدوا أمامهم هيلا سيلاسي، الزعيم والأب والرمز، ووجدوا بوب مارلي يغني لأفريقيا فقرّروا العودة للجذور بآمال وطموحات كبيرة تسوقها تصورات شائهة.

اختاروا العودة لإثيوبيا لإيمانهم أن إثيوبيا هي مهد الرجل الأسود وهي أرض ميعادهم، يدخّنون نوعا من الحشيش لاعتقادات وتصورات مبعثرة، انتشر الحشيش في كل دول الجوار ويعرف محليا بالشاشمندي، أقاموا لهم مدينة فاضلة، لا يساكنون الناس ولا يختلطون بالآخرين إلا للضرورة، يربون الأنعام ويغزلون أصوافها في شالات وأغطية رأس وأشياء أخرى تدر عليهم دخلا، يبيعونها في العاصمة ويحصلون على احتياجاتهم. تجاوزنا شاشمني وفي النفس رغبة في العودة.

دخلنا منطقة بحيرات الأخدود الأفريقي العظيم. مدينة اسمها أربا منش، فيها عدد من البحيرات الصغيرة، وسط الأدغال والأحراش الكثيفة، توقفنا عند إحداها، ماؤها رائق صاف، عدد هائل من التماسيح ترقد بعضها فوق بعض، الكبار، بعضها يزيد طوله على الأمتار الثلاثة، الصغار طولها متر أو أقل ترقد فوق ظهور الكبار، الكبار عيونها مغمضة والصغار عيونها مفتوحة تدور في محاجرها ربما يكون درسا في الحراسة والمراقبة، لم تتح لي فرصة معرفة لغة التماسيح لأفهم ما يدور.

اقتربت منها شيئا قليلا، تفغر أفواهها فتظهر منها أنياب كالخناجر، طيور تدخل أفواه التماسيح وتتناول ما بين أسنانها من بقايا الطعام، ذلك اتفاق جنتلمان بين الطرفين، كل طرف يستفيد ولا ضرر ولا ضرار، ليتنا تعلمنا منها.

اقتربت خطوات، الطيور طارت وهي تصدر ضجيجا، لعلها تحتج على تطفلي وإزعاجها، بعض التماسيح فتحت عيونها تنظر، لم أتبين أهي خائفة أم متحدية، بعض الصغار تركوا ظهور الكبار وأسرعوا نحو الماء وغاصوا، الماء الرائق مكنني من متابعتها بضعة أمتار ثم اختفت.

بعـد بضع كيلومترات توقفنا عند بحيرة أخرى، أفراس النهر بأجسادها الضخمة الرجراجة وعيونها الناعسة أزعجها هدير محرك السيارة، غاصت في الماء وتركت أعلى جماجمها، العيون والآذان وفتحات الأنف فقط تظهر من كل القطيع، ربما المئات منها تتزاحم، غادرنا.

توقفنا عند مطعم يشوي السمك على الجمر في الهواء الطلق، في بلاد الحبش الطعام أطيب ما يكون، الشطة والطج (نبيذ العسل) وتلك واحدة من عبقريات أخوالنا أهل الهضبة.

الناس ههنا سمرتهم داكنة، أقرب للسواد، وأكثر طولا، عيونهم شديدة البياض شديدة السواد، أقل اتساعا من عيون الأورومو والأمهرا، تحس فيهم الطيبة والبراءة، سكناهم على الطريق أكسبتهم مرونة التعامل مع الآخرين وحب التفاوض عند البيع والشراء، إن دفعت الثمن المعروض دون تفاوض، فقد دفعت أضعاف السعر الحقيقي.

غادرنا.

ونحن نقترب من بحيرة أخرى، طارت أسراب من طيور، توقفت أتملى الجمال البديع، طيور تفرد جناحيها، يبلغان مترين أو يزيد، الطيور سوداء من ظهورها وبيضاء من بطونها، سيقانها ومخالبها صفراء وحمراء، بينها أسراب أخرى أقل حجما وبألوان مغايرة، طارت منها آلاف وآلاف، أصبحت السماء محجوبة بسماء من الطيور، طيور طيور طيور كما قال السياب مطر مطر مطر. طيور متعددة الأحجام والألوان.

سرنا في الطريق تحفنا خضرة زاهية وسماء صافية وشمس تتبسم في خفر.

حول الطريق مزارع البن والحبوب والخضر. الصبيان والصبايا يرعون قطعان الماشية يشيرون إلى السيارات في مرح، رؤوسهم الحليقة في أطرافها وأواسطها خصل تركوها تنوس عند حواف الرؤوس، حول أعناقهم عقود من الخرز، ألوانها زاهية تتدلّى حتى الصدور، بعض الفتيات صدورهن تنبئ عن تخطي الطفولة ربما بأعوام، تواجهك عارية متحدية مستفزة، ألوذ بغض البصر وأمضي.

لافتة كبيرة بعرض الطريق. مويالي. باللغتين الأمهرية والإنجليزية. توقفنا لكمال إجراءات عبور الحدود إلى كينيا.

 

لالبيلا

غادرنا مغلي، عاصمة إقليم التيغراي، المدينة الحديثة ذات الجمال الآسر، وجهتنا لالبيلا، إحدى العواصم القديمة للإمبراطورية الإثيوبية، تعمدنا ذلك ليكون في عيد الفصح لنشهد حدثا فريدا في مكان فريد.

لالبيلا.. نحن على ارتفاع 2500 متر فوق سطح البحر فيما يعرف بهضبة سيمين ليس بعيدا عن رأس داشان أعلى القمم في إثيوبيا. البرد الرطب يتجاوز الجلد واللحم والعظام وينخر عميقا في القلب الذي تزداد ضرباته ليستعيض عن نقص الأكسجين بزيادة سرعة ضخ الدم في الشرايين.

المدينة كانت عاصمة للإمبراطورية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. كل سكانها من أتباع الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية.

آلاف الناس يسيرون راجلين في طريق صخري مغطى بالطين والوحل، بين كل عشرة من المشاة ترى قسيسا أو راهبا في لباسه الكهنوتي وغطاء رأسه الأسود والعصا التي تنتهي عند رأسها بالصليب، صليب يجول فوق صدره وآخر يحمله بيده يمنح به البركات واليد الأخرى تتناول النذور والصدقات والقرابين! نساء يحملن حزما من الحطب تنحني ظهورهن تحت وطأة الحمل الثقيل، يمشطن شعر الرأس في ضفائر تتجه للوراء، حين تحاذي حلمة الأذن يتركن الشعر حرا فينتفش كلبدة الأسد.

تخطتنا شاحنة فيات من موديلات الخمسينات مكتظة بالركاب تراهم متراكبين كخلية النحل، الجميع يلبسون الزي التقليدي، النسيج القطني موشّى الأطراف والطرحة التي تغطي الرأس، هذا للنساء، الرجال ثلث البنطلون ينتهي فوق الركبة مع قميص إفرنجي وقطعة تشبه الطرحة فوق الكتفين، الحذاء بلاستيكي للجميع.

دخلنا المدينة، الزحام شديد جدا فعدد الزوار فوق طاقة الطرقات الضيقة المتعرجة. الطريق مرصوف بالحجر، أظنه من مخلفات العهد الإيطالي. الحوانيت الصغيرة تفتح نوافذها من كل البيوت، تبيع التبغ والخمر والخبز واحتياجات ولعب الأطفال، فاليوم عيد والعيد يعني البهجة للأطفال.

تزايد الزحام والكل يتجه نحو الكنائس، وجهتنا التي نبتغي. أحد عشرة كنيسة، منحوتة في صخر الجبال، نعم منحوتة نحتا في صخر أصم صلد. على هيئة الصليب لمن ينظر إليها من عل.

قالو إن تاريخها يعود إلى القرن الثاني عشر الميلادي، عندما فتح المسلمون مدينة القدس برمزيتها الباذخة للدين المسيحي، في العام 1187م، نحت الملك كنيسة لتصبح مدينته القدس الثانية عوضا عن تلك الأولى ثم توالى نحت الكنائس حتى بلغت أحد عشر كنيسة. تبع ذلك تمثيل القدس في المخيلة الشعبية، نهر صغير يجري في الجوار أسموه نهر الأردن. على بعد عشرة كيلومترات من الموقع كنيسة منفردة تسمى الكعبة. أصبحت لالبيلا المدينة المقدسة الثانية بعد أكسوم.

زيارة الكنائس ومعرفة تفاصيلها تقول إنها لم تكن كنائس، فقد بنيت لشتى الأغراض الحياتية للإمبراطور في ذلك الوقت، للسكن، مكاتب لإدارة شأن الدولة، للعبادة، إحداها كانت سجنا وأخرى مزودة بفرن.

مع انحدار الشمس إلى المغيب دارت ماكينات السيارات للأوبة.

 

قبر النجاشي

رحلة

العربة تسير ببطء وحذر وسط القمم الصخرية التي تذكرك بالغيلان والسعالي، البرد ينخر في العظام، نستعين عليه بجرعات من العسل وقناديل الذرة الشامية المشوية على الجمر، مسيرة نهار من أديس أبابا قطعنا فيها حوالي 820 كيلومترا.

السحب المتراكمة المتراكبة تحجب الشمس والشمس تحاول اختراق السحب في عناد دؤوب يشبه دأب النمل. من بين القمم والسحاب أطل شعاع ملأ الكون ضياء، لمعت كرة ذهبية في الأفق البعيد، مرافقنا الدكتور نقا أشار إليها وقال نصب الشهداء، سرنا قرابة العشرين كيلومترا لنصل مدينة مغلي عاصمة الإقليم. مدينة حديثة تم تجديدها تماما، تحتشد فيها مؤسسات الدولة في مبان ذوات معمار جميل، الكوندومينيوم يعطيها شخصية وفرادة، عمائر تبنيها الحكومة وتملكها للمواطنين يسدّدون قيمتها على مدى ربع قرن.

الطرقات مسفلتة ونظيفة والناس وجوههم صارمة ويجدون في أعمالهم، النساء، في الزوريا، الزي القطني الأبيض ذي الحواشي التي ترسم العلم أو الصليب الموشى، الجمال أقل مما في قوندر وبحر دار، ربما كانت الظروف الحياتية والحربية التي عاشها الإقليم قد خصمت من رصيد الجمال شيئا، تحس الناس قصر قامة وأقل وزنا مما تعرف. التعب والبرد لم يتركا لي فرصة لأستطلع المدينة.

عملت بنصيحة الدكتور نقا، شربت الجنزبيل باللبن والعسل وعانيت من البرد وشح الأكسجين، نومي متقطع، صحوت مبكرا، مع شروق الشمس انطلقنا.

من مغلي عاصمة إقليم التيغراي خرجنا نبتغي قرية غورو. الزمان العاشر من محرم. المناسبة حولية النجاشي. المسافة ثلاثون كيلومترا.

الطريق الصخري مزدحم للغاية بالرجال، معظمهم في الزي التقليدي المصنوع من النسيج القطني والذي يشبه الزي الباكستاني. شاحنات كبيرة وسيارات نصف نقل محشوة بالناس، ينشدون يحملون أعلاما خضراء وحمراء وأخرى متداخلة الألوان،،عرفت أنهم ينشدون المدائح النبوية، مجموعة من السيارات مكتظة بالركاب، تخطينا سيارتين تحملان أعلام الطريقة الختمية المعروفة في شرق السودان، لم أتبين هل هم وافدون أم أنهم من أهل البلد.

وسط الجمع المتلاطم لاح المزار.

تلة يعلوها مبنى مستطيل لونه بيج قدرت مساحته في حدود المائتي متر، ارتفاعه لا يزيد على الخمسة أمتار تعلوه قبة خضراء.

خارج المبنى تتجاور ستة عشر قبرا، عشرة من مقابر الصحابة الذين هاجروا من جور أهل مكة وانقضت آجالهم في الغربة، شاهد حجري فوق قبر يحمل اسم الصحابي عبدالرحمن بن فضلة، خمس مقابر لصحابيات هاجرن فرارا بدينهن من ظلم ذوي القربى في مكة ثم قبر النجاشي.

نعم النجاشي.

الملك العادل الذي آوى إليه أهل الإيمان من الصحابة وقد ضاقت عليهم شعاب مكة.

بدأ حكم النجاشي سنة 610 م. كانت الهجرة سنة 615 م. مات النجاشي سنة 630 م. قبره يعلوه غطاء من الحرير الأخضر.

أمر النبي محمد في المدينة بأداء صلاة الغائب على الفقيد الغالي. تضم المقبرة كذلك قبر المؤرخ العظيم عبدالرحمن الجبرتي. في الجوار بئر نضاحة بالماء يسمونها زمزم ويعتقدون أن المهاجرين هم من حفرها. إلى جانب الضريح مسجد. في جانب المسجد مدرسة لتعليم القرآن يرتادها الصبيان إلى جانب التحاقهم بالمدارس الرسمية.

عشرات الآلاف من البشر توافدوا على المزار، فهذا اليوم تخصصه الطرق الصوفية في إثيوبيا كلها لزيارة قبر النجاشي، يقيمون احتفالا، تلاوة القرآن الكريم والدعاء وتوزيع الصدقات وإنشاد المدائح النبوية. تقوم على الاحتفال أسرة الشيخ أبرار. هناك احتفال آخر في رمضان من كل عام. علمت أن ممثلين للطرق الصوفية في السودان ومصر واليمن وسوريا يحضرون الاحتفال.

من بين المنشدين يعلو صوت الشيخ حسين والشيخ محمد أول. أصوات ندية ريانة تتغنى بالمديح.

تلفتّ حولي، الكل في حالة صفاء لم أشهدها من قبل، تفيض عيونهم بالدمع يرفعون أكفهم بالدعاء والبعض انخرط في مناجاة عاشق مدنف وله، مكبرات الصوت تنقل المدائح ليس من الأفواه إلى الآذان.. كلا، كلا، بل من القلوب للقلوب. سرى الصفاء منهم إليّ، تخلل الجلد واللحم والعظام والخلايا، انتابتني رعشة فعدت بخيالي 1450 سنة إلى الوراء، حين فتح النجاشي قلبه وأرضه لبعثة الهجرة الأولى.

غسلت أوزاري بالدمع وقفلت راجعا.

 

الطريق إلى جما

صباحات أديس أبابا الندية تغري بالبكور، النسيم البارد ينعشني ويملأ رئتي بالأكسجين الطازج، أنا الآن على ارتفاع 7726 قدما فوق سطح البحر، السحب التي تتهيأ للهطول تجعل السماء قريبة، قريبة جدا، فوق هامتي تماما.

تحركنا، العم خدر وأنا، المدينة تفرك وجنتيها النديتين علها تقاوم النعاس، تنشط حركة أناس راجلين يغذون السير، غادروا بيوتهم ليلحقوا بأعمالهم، إنهم ملح الأرض، بعضهم يمشي خمس كيلومترات ذهابا ومثلها إيابا ليوفر لنفسه قيمة الانتقال من أجل عمل لا يفي بشيء من احتياجاته.

مع الشروق تجاوزنا حدود المدينة. المزارع وقطعان الماشية والأغنام توشي حواف الأسفلت بالخضرة مرة واللونين الأسمر والأبيض، لون الماشية، الأبقار ألوانها متشابهة وأحجامها ضئيلة، الضروع تنبئ عن شح في اللبن، لا لشح الطبيعة بل فقر الجينات. الصبيان والصبايا على جانبي الطريق يحيّون العابرين مبتسمين، الرؤوس حليقة إلا من قنابير (خصلات من الشعر تترك عند نواصي الرؤوس بينما تحلق البقية) كان أهلونا يتركون مثلها درءا للعين إذا تكررت وفيات الأطفال للأم الواحدة، علاج الخرافة بخرافة مثلها، الأمر يتعلق بأمراض الطفولة وصحة الحوامل والوالدات.

الريف في إقليم الأورومو هو الأغنى والأثرى، فالمطر المدرار والطقس المعتدل والأيدي العاملة المدربة الوفيرة حاضنة للزراعة وتربية المواشي والمناحل.

القرى على جانبي الطريق عقد انفرط ناظمه، البيوت حوائطها من الخشب والطين وأسقفها من الحديد المقوى، في كل قرية مسجد وكنيسة، المسجد قد لا تراه، قد يكون منزويا في أحد منعطفات الطرق الداخلية في مساراتها الثعبانية أو محشورا بين البيوت، لا تعرفه إلا حين يرتفع الأذان، أما الكنيسة فهي من الحجر، شامخة فوقها قبة يعلوها صليب يرنو إلى الجميع في كبرياء. الترانيم الأرثوذكسية تغمرك بالرهبة في الصباحات الباكرة.

يشهد الريف اهتماما كبيرا بمؤسسات التعليم والصحة، الآليات التي تحمل مواد البناء ومعدات التشغيل تزحم الطريق، الطريق يعاني الاهتراء، أصابته الشيخوخة وتكسرت أطرافه بفعل حركة الآليات الثقيلة من مدينة جما وإليها، مقر الفرقة العسكرية التي تولت عبء الحرب في جنوب السودان منذ العام 1983م حتى العام 1991م ثم انتقل عبء الحرب بعد انتصار الثوار الإثيوبيين إلى جهات أخرى.

سرنا أربعمئة كيلو متر بلا توقف، تعودت قطع أربعمئة كيلومتر بين الخرطوم العاصمة مسقط رأسي ( قلع النحل) في خمس ساعات، الآن وبسبب رداءة الطريق المتعرج والذي يرتفع لحافة السماء ثم يهبط كأنما يسقط من حالق، قطعناها في ثماني ساعات، قضيتها أتلفت أتملى الخضرة اليانعة والوجوه التي تطل من فجوات السحاب يطبعها جمال غرير لا يدري قدره، زخات المطر التي تداعب زجاج السيارة وصوت فيروز الملائكي:

أعطني الناي وغني فالغنا سر الخلود

وأنين الناي يبقى بعد أن يفني الوجود.

 أسمو فوق السماوات لمدار المطلق، الأماكن والناس متشابهون في كل شيء فقط الفقر يعلن عن نفسه في الأقدام الحافية والملابس المهترئة. جما، آخر عهدنا بالإسفلت، وقفنا نتزود بالوقود ونتناول وجبة نتبادل القيادة مع عم خدر.

وجبة التبس، كباب لحم الغنم مطبوخا في السمن مع رقائق الأنجيرا هي وجبتي المفضلة في ديار خؤولتي الأحباش، قنينة أمبوها ومالتينا تجعلني أستعيد نشاطي وحيويتي، عقب الصلاة وقف أمامنا صبي يبرطم بلغة الأورومو، لم أفهم من قوله شيئا فلغة الأورومو واللغة اليابانية سيان عندي، عم خدر بادله الحديث، بعد بضع جمل أفادني عم خدر أن هناك من يدعونا لزيارته في البنك التجاري الإثيوبي المقابل لمجلسنا. ذهبنا. تقدمنا الصبي الى البنك، دخلنا مكتب المدير، مدير البنك السيدة زهراء رحبت بنا ترحيبا حارا، قالت إن أباها من قوة دفاع السودان التي رافقت الإمبراطور هيلا سيلاسي حين عودته عقب لجوئه إلى السودان إبان الاحتلال الإيطالي، أبي أيضا كان في ذات القوة، قالت إن الإمبراطور وهكذا يسميه محبوه، كان معجبا بأبيها فأقطعه مساحات شاسعة من الأرض، استصلحها وزرعها بالبن مما جعله من الأثرياء فعلّمها أبوها وإخوتها الثلاثة تعليما لم يتح لغيرهم، فهي حاصلة على الماجستير في البنوك واثنان من أشقائها طياران يعمل أحدهم في طيران دلتا الأميركي وأحد إخوتها يحاضر في الهندسة في جامعة يابانية. في عهد الرئيس منقستو وتسميه الرعب الأحمر صودرت أرضهم ولم يبق منها سوى خمسمئة فدان.. تمتمت في سري ما أكرم هيلا سيلاسي. زهراء أصبحت محطة لا يمكن تجاوزها، في مرة سابقت الزمن للحاق بأمر ما ولم أتوقف في جما، حين وصلت أديس أبابا أبلغني حسين جمعة موظف العلاقات العامة في القنصلية أن زهراء قد اتصلت هاتفيا تسأل بعد أن علمت أن السيارة الخاصة بالقنصلية قد عبرت جما في طريقها إلى أديس أبابا ولم تتوقف عندها، تسأل ما دهانا، الجينات السودانية تقفز من ثنايا الخلايا.

 

جما

رحلة

في الطريق إلى المدينة، كانت مجموعة من القرود تأكل ثمار التوت البري، أوقفت السيارة، جمعت حفنة من الثمار، أكلت بعضها، السائق خدر أبدى دهشته، قال إن ثمار الغابة للحيوان في الغابة، قلت نحن نأكل الحيوان وما يأكل الحيوان، عجبت لقوله إنهم لا يأكلون حيوانات البراري، رغم ثراء البراري بالطيب من اللحوم.

جما مدينة قديمة، لا أحد يعرف بالضبط تفاصيل نشأتها، الكل متفقون أنها كانت عاصمة من عواصم الممالك الأورومية القديمة حتى نهاية القرن التاسع عشر. أصبحت عاصمة لمحافظة كفا حتى العقد الأخير من القرن الماضي وأنها إحدى حواضر المسلمين الذين يشكلون أغلبية قومية الأورومو.

في ثلاثينات القرن الماضي، إبان الاحتلال الإيطالي، تم إنشاء مركز إسلامي يتولى تدريس التعاليم الإسلامية للشعب الذي يتعطش لذلك.

تقع جما على ارتفاع 5480 قدما، وبذلك فنهارها معتدل وليلها شديد البرودة، مطرها يستمر تسعة أشهر، هي سوق عامرة لمنتجات الزراعة والحيوان والعسل والمنتجات الغابية، حولها مزارع البن مما يجعلها واحدا من أكبر أسواق البن في العالم.

الصباح المشمس والطقس المعتدل يغرياني بالسير والتعرف على المدينة.

البيوت بسيطة، حوائطها من الطين والخشب وأسقفها من الحديد المقوّى، تنتشر في أحيائها المساجد والكنائس، المساجد لا تكاد تتبينها فهي من بناء متواضع تشبه البيوت السكنية، الكنائس ترتفع قبابها التي يعلوها الصليب فوق المباني الحجرية تنطلق منها التراتيل والصلوات الخاشعة.

في طرقات المدينة، القساوسة وطلاب اللاهوت في أزيائهم المميزة، يحملون عصيهم بيد والصليب بيد، يمنحون البركة ويحصلون على القرابين والنذور. يلبس الرجال الزي الأوروبي في هيئته البسيطة ويضيفون السويتر اتقاء البرد، النساء في فساتين ملونة، البعض يرتدي الزوريا، الزي التقليدي من النسيج القطني، الوشم يزين جباه النساء، الصليب والدوائر في الجبهة، السلاسل والخطوط المستقيمة والمتقاطعة في النحر، إحدى الراقصات تكشف عن وشم حول سرتها.

المصالح الحكومية مبانيها من الحجر، تنم عن مهارة ودربة في البناء والتشييد، انتقلت التجربة لبناء قصر با جعفرن أحد ملوكها والذي لا يزال تحفة في البناء، دخلته، أحسست بالرهبة وارتعشت أطرافي، فالبناء فخيم ينبئ عن ذوق وسلطان آفل.

بالمدينة متحف يحوى مآثرها وآثار ملوكها ومن مر عليها من المبشرين والمستكشفين والغزاة والجواسيس.

جامعة جما، بدأت مسيرتها قبل نصف قرن مركزا بحثيا في الموارد الطبيعية، قبل عقد من الزمان تمت ترقيتها إلى جامعة تدرس كل العلوم النظرية والتطبيقية لمجتمع متعطش للنهضة والنماء.

لا تكتمل جولتي دون التحديق في الوجوه، اللون البرونزي يكتسب لمعانا مبهرا باستخدام السمن كريما لحماية البشرة، السمن يكسب البشرة لونها وقوامها وفتنتها، الوجوه النضرة الباسمة، أسنان كالبرد تضفي على نضارة الوجوه سحرا، رغم رهق الحياة وكسب العيش العصي، إلا أن القوم بارعون في اختراع الأفراح، فكل يوم هناك عيد لا يكتمل إلا بالشراب والغناء والرقص، في الأسواق تطوف فرق شعبية للموسيقى والغناء، الرجال يعزفون آلة ذات وتر واحد يصدر لحنا يتموسق مع لحن الفلوت المصنوع من الخشب المحلي، النساء يقرعن الطبول المصمتة من الجانبين والكل يرقص، أمنحهم شيئا يسيرا فيلحقون اسمي بأغنية، قبل أن يغادروا يتكرر نفس الشيء من آخرين.

وداعا جما.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.