أطفال الأنقاض

الجمعة 2016/04/01

لم يكد “بوعزيزي” يضرم النّار في جسده، حتى تعملقت تلك النار وانزلقت، كالأفعى المُسرعة، في هشيم الجغرافيا العربية الكثيف اليابس. وعلى نحو مُخيفٍ ومقلق، سقطت الأنظمة الدكتاتورية المُعربدة، وهي التي ما كان متوقّعا لها أبدًا أن تسقط بهذه السرعة والكيفية، تجرّ أعناق بعضها البعض نحو الهاوية، كما لو كانت سلاسل خفيّة هي من تربطها.

فخلال فترة قصيرة جدًا من عمر الشعوب، ولأيّ سببٍ كان، أصبحت بعض البلاد العربية كالعصف المأكول، وكما بوسع البعوض أن يفقس في المياه الآسنة، فإن كثيرًا من الحشرات قد وجدت بيئة خصبة مختمرة لفقس بيوضها في ذلك العصف، وغدا بوسع الكثير من الضفادع المُنقنقة أن تضع حبالًا من آلافِ أبي ذنيبة في تلك البيئات، وبدلًا من انتشار حدائق الورود والياسمين والرّيحان في الأرجاء، خلفًا لأدغال الهشيم تلك، تكوّنت المستنقعات والسّبخات المُنتنة، وعشّش البؤس وفرّخ في العقول قبل الزوايا، حتى إن بعضًا من تلك الدكتاتوريات، وإمعانًا في القهر والتّجبر، قد وظّفت ما سرقته من مليارات أثناء تواجدها كأداةٍ خانقة لرقاب الشعوب، للمحافظة على مؤخراتها ملتصقة فوق الكراسي، أطول فترة ممكنة.

وعلى وجه التحديد، أصبح بوسع القيامة أن تقوم الآن في بلدٍ عريقٍ كسوريا، فبدلًا من أن نرى شجاعًا أقرعً واحدًا، أصبح هناك بضعة آلاف منه، وزاد سعار الكلاب التي كانت على درجة متوسطة من سُعارها، فأصبحت دائمة الهياج والزمجرة والعض، فماذا بعد أن تذهل المرضعة عمّا أرضعت؟ وماذا بعد تلك الأساليب المبتكرة في تعذيب الآخر؟ لقد نصّب الكثير من الناس أنفسهم كالآلهة، كالأرباب المُتسلطين، وباسم الله وعلى بركته أومأوا بالضوء الأخضر لزبانيتهم المرتزقة أن يشرعوا بسحق الناس تحت أقدامهم، وجلدهم بسياطهم المتشعّبة ذات السّبعين ذراعا.

كلّنا أقزام، تكاد جباهنا تلمس الأرض، خجلًا وذُلاّ وقلة حيلة، إزاء ما يحدث من ويلات رهيبة في سوريا، إن كان فن الرّواية يقوم على التّخيل في الأساس، فإنّ ما حدث فيها قد فاق الخيال بالآلاف من الكيلومترات، فلست أنا من يكتب عن ذلك الألم الرهيب، إنما أولئك الذين بُقرت بطون أبنائهم ودُسّ فيها الملح، وشُوّه تاريخهم وسرق، واغتصبت نساؤهم أمام أعينهم، أولئك الذي رأوا آخر شهقات أحبابهم وغرغراتهم في الماء المالح، مدّوا لهم يدًا مرتجفة، كانت من القصر بمكان أن تصل إليهم، تهدّلت أكتافهم، ثم أكملوا تجديفهم كالذبول والخنوع، فوق أطواق الموت والهلاك في صخب المحيطات المهول.

وتسألني؛ ماذا أكتب في لحظة الدّم؟ سأقول لك ما أنوي فعله؛ سأجلس بضع ساعات أفكّر ماذا سأكتب؟ ثم أجلس في مكتبي الوثير في عمّان، أرشف من فنجان القهوة الذي صنعته الخادمة للتو، أشعل سيجارة ثم واحدة أخرى منها، سأفتح الحاسوب أمامي لكي أشرع بالكتابة، لكنّ شيئًا ما حتما سيباغتني، يحطّ على رأسي مثل كومة من النفايات الرطبة، الكثير من الأطفال يخرجون دفعة واحدة من تحت الأنقاض والركام، في طريقهم إليّ بتلك العيون المُتسائلة والممتلئة بالدّموع، طفلة مُعفّرة ومدماة، ستخرج كطائر الفينيق، كالمارد العملاق فوق رأسي، وأنا ذبابة، ستقترب مني، تصفعني على وجهي، وتبصق عليّ أيضًا.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.